مجلة حكمة
ما هي الأنوار في عصر التكنولوجيا الرقمية

“ما هي الأنوار؟” في عصر التكنولوجيات الرقميّة – آن ألمبار / ترجمة: عبد الوهاب البراهيمي


مدخل: ما هي الأنوار في عصر التكنولوجيا؟

    ضمّن جان فرانسوا ليوتار  كتابه “الوضع ما بعد الحداثي“( 1979) ” تقريرا عن مشكلات المعرفة في المجتمعات الصناعية الأكثر تطوّرا”، فميّز مرحلة مابعد الحداثة بحالة ريبيّة تجاه الميتا- سرديات. إذ هي تشير إلى الأنساق الفلسفية التي مهمّتها إضفاء المشروعية légitimation على العلم الحديث وتبرير مؤسسات المعرفة. يوجد،حسب ليوتار، صيغتان غالبتان من سرديات الشرعنة légitimation، يستخدمان نمطين مختلفين من إضفاء المشروعية. النمط الأول ممثلا بالفلسفة الهيجيلية، حيث تستمدّ المعرفة مشروعيتها من ذاتها: مشروعية المعارف العلمية تضمنها المعرفة التأملية التي” تعيد توحيد المعارف المشتّتة في علوم خاصّة، بربطها بعضها بعضا بوصفها لحظات لتاريخ الروح”. وتستمدّ المعرفة في فلسفة الأنوار مشروعيتها من وظيفتها التحرّرية للإنسانية: على المعرفة أن تخدم غايات عملية تبتغيها جماعة مستقلّة، عليها هي بذاتها أن تظفر من جديد بحقّها في العلم، في مواجهة السلطات الدينيّة والاستبدادية. يميّز ليوتار إذن، تحت مسمّى “سرد تأملي ” و”سرد تحرّري”، بين نمط فلسفي ونمط سياسي لشرعنة المعرفة، مجسّدا خاصّة في الفلسفة التأملية لهيجل وفي الفلسفة النقدية لكانط. ويؤكّد ليوتار، مع ذلك، أنّه في مجتمع وثقافة سنوات 1980(والتي يصفها بالمابعد صناعية ومابعد حداثية)، فَقَدَ هذان النمطن من الشرعنة  كلّ مصداقية. وكان هذا الانحطاط للقدرة التوحيديّة والمشرعنة للسّرديات الكبرى، ناتجا عن التقدّم المحيّر للتقنيات والتكنولوجيات بعد الحرب العالميّة الثانية ( والتي انزاحت إلى التشديد على وسائل الفعل بدل التشديد على غاياته)،  كما هو ناتج عن إعادة انتشار الرأسمالية الليبيرالية المتقدّمة ( التي ” أزاحت الخيار الشيوعي وثمّنت التمتّع الفردي بالخيرات والخدمات”). غير أن بذور هذه الشرعنة حسب ليوتار، كانت كامنة في الميتا- سرديات ذاتها: بينما لا يساءل السرد التأملي مشروعية الخطاب المشرعِن، ويؤدّي السرد التحرّري إلى علاقة بين قول دلالي énoncé dénotatif ذي قيمة عرفانية وقول إلزامي ذي قيمة عملية – مسلّمتان تبدوان إشكالية انطلاقا من اللحظة التي نعتبر فيها أنّ ” العلم يلعب دوره الخاص، (وأنه) لا يستطيع الإقرار بمشروعية ألعاب اللغة الأخرى”، وأنّ “لعبة الإلزام تفلت منه”، وأنّه ” لا يستطيع أكثر، إضفاء المشروعية على نفسه كما يفترضه التأمل”. تنضاف إذن إلى الظروف التكنولو- اقتصادية الخارجية، حدود ضمنية تفسّر انجراف السرديات الكبرى، وتخلّي الفلسفة عن وظيفيّتها التقليديّة، وضرورة قيام مفكّري بداية القرن العشرين بمأتم للشرعنة”. مأتم فَسَحَ المجال حسب ليوتار، إلى منظور جديد : هو البحث عن ألعاب اللغة التي خبرها فيجنشتاين، والتي تستخدم طريقة أخرى في الشرعنة، انطلاقا من “ممارسات لغويّة” وتفاعلات تواصليّة”. وسيكون ” للعالم المابعد حداثي شأن ” مع هذه المنظوريّة، بمجرّد قبوله بأنّ الشرعنة لا يمكن أن تتأتّى من ميتا- لغة فلسفية، بل فحسب من اتفاقات صريحة نوعا ما، حول قواعد تتحكّم في مختلف ” لعب” و” نميمة” اللغة التي تشكّل الرابط الاجتماعي. سيكون إذن “الحنين إلى سردية مفقودة”، في “المجتمعات الصناعية المتطوّرة “، هو “ذاته مفقودا لدى أغلب الناس”، الذين كانوا قد تعلّموا ” مشقّة زهد الواقعية ” دون أن يكونوا، مع ذلك، “محكومين بالبربريّة”.

  يرى أدرنو وهوركهايمر مع ذلك، أنّ ما يحدث في “الحضارات المستنيرة” للمجتمعات الصناعية في 1944، هو “شكل جديد من البربريّة “. ويبدو أن مشروع الأنوار (Auflarung) هو الذي ما يزال فعلا يلاحقهما في جدلية العقل، كلّما جُوبها “بصعوبة ” ” التحطيم الذاتي للعقل” .autodestruction de la raison وبالفعل فقد وصف المؤلفان عصرهما، استنادا إلى ملاحظة اقتران تحسّن مستوى العيش والتقدّم العلمي بتصفية الصناعات الثقافية للفكر وتحوّله إلى مادّة استهلالية، بأنّه “لحظة تقهقر” للعقل. و يؤكّدان، بعيدا عن النظر إلى التفاعلات اللغوية بوصفها منبعا جديدا لشرعنة المعارف، على أنّ، ” النشاط العلمي لم يعد وحده إشكاليّا، بل معنى العلم ذاته”، في مرحلة يرى فيها الفكر نفسه قد تحوّل إلى سلعة وتحوّلت اللغة إلى مجرّد أداة لتسويقها. وقد لاحظا أن عقلنة المجتمعات، خلافا لمشروع “السرد الكبير”، وبعيدا عن كونها عامل تحرّر اجتماعي، قد ولّدت على نحو مفارق، انحطاطا للتكوين النظري وهيمنة كتل بواسطة جماعات اجتماعية تتصرّف في  الجهاز التقني و القوّة الاقتصادية. يبدو إذن أنّ قصّة الأنوار قد عادت من خلال نصّ أدرنو وهوركهايمر هذه المرّة بجانب مظلم.

    وبالفعل، فإنّ أدرنو وهوركهايمر، الوفياّن” لسردية التحرّر”، لا يكفّان عن التأكيد بأنّ ” الحريّة في المجتمع كانت غير منفصلة عن الفكر المستنير”، غير أنّهما يقترحان، مع ذلك، بأنّه لا يمكن أن يحلّل هذا “ّ الفكر” خارج أشكاله التاريخيّة العينيّة وخارج المؤسّسات الاجتماعيةّ التي يتشابك معها، وانّه يحتوي في ذاته على مبادئ اندماجه. وتنحصر وظيفة جدلية العقل في التفكير في ” أصل” التقهقر في العقل ذاته، والذي لا يمكن له منذ الآن أن يرى نفسه محدّدا بوصفه ” عقلا مجرّدا”. ولا يقصد أدرنو وهوركهايمر إذن معارضة الفلسفة الكانطية بل نقدها، في المعنى الذي نقد به كانط ذاته العقل في نقد العقل المحض، أي لا بغرض التخلّي عنه ، بل لرسم حدوده، بغية حسن استخدامه تجاه الرهانات الحالية. يبدو إذن أن مفكّري مدرسة فرانكفورت قد تبنّوا، تجاه فلسفة الأنوار ما وصفه فوكو بـالإيتوس الفلسفي (التقليد الفلسفي)  éthos philosophique للأنوار ذاتها: موقفا نقديّا يتمثّل في تحليل الحدود والتفكير فيها ، وهو ما لا يمكن مماثله “بسلوك الرفض”.

    وبالفعل، فإنّ فلسفة الأنوار حسب فوكو، تتحدّد بوصفها نظرية منشأة يجب قبولها أو رفضها، أقلّ من كونها ” طريقة في التفكير والإحساس، والفعل والتصرّف”، وكموقف فلسفي، يجب دائما إعادة إحياءه. ويؤكّد فوكو إذن في إحدى الحوارات حول الأنوار نشر سنة 1984 ، بأنه وراثة الأنوار L’Auflarung لا تتمثّل في تكرار عناصر مذهب، بل في إعادة إحياء حركة فكر. يتعلّق الأمر إذن بالنسبة إليه بتجاوز” الخيار التبسيطي” المتمثّل في أن نقيم في التقليد العقلاني أو في التخلّي جذريّا عن مبادئ المعقولية : يرفض فوكو إذن التأكّد من “مع أو ضدّ” الأنوار، التي تمثّل قبل كلّ شيء كلا جامعا لسيرورات تاريخيّة، لكنّه يلحّ  مع ذلك، على ضرورة ،أن نعيد إضفاء المعنى على هذا الحدث في سياق راهن، وذلك بإعادة الاضطلاع بالمهمّة التي بدأها مفكّرو العصر، والتي يحدّدها بوصفها ” نقدا متواصلا لكينونتنا التاريخي”.

  ما هو إذن هذا “النقد الدائم لكينونتنا التاريخية” والذي يجدر إعادة إحياءه حتّى نرث حركة الأنوار؟ إنّ كانط هو الذي، في نظر فوكو يوفّر نموذجا لمثل هذا الموقف تجاه الراهن، وتحديدا في نصّه المتعلّق بالأنوار والمنشور قبل سبع سنوات: يلحّ فوكو بالفعل، على كون كانط، وخلافا لما ينتج في نصوصه  الأخرى عن التاريخ، لم يَسْع، في نصّه عن الأنوار، إلى فهم الراهن انطلاقا من شمول أو من نهاية مستقبل، بل على العكس، إلى التساؤل عن الحاضر ” بوصفه اختلافا داخل التاريخ”. فليس السؤال الذي طرحه كانط، سؤالا عن الأصل أو الغائية، بل هو فعلا سؤالا عن الراهن، يتمثّل في التساؤل:” أي فرق يقدّمه اليوم بالنسبة إلى الأمس؟” . إنّ هذه العلاقة الانعكاسية بالحاضر حسب فوكو، هي خاصيّة الحداثة، التي تتمثّل إذن في فترة من التاريخ نؤطّرها “بمراحل  ما قبل- أو مابعد حداثية”، أقل من كونها موقفا، هو دوما في “مواجهة المواقف الضد- حداثية”، والتي تعرّف بـ”نمط علاقة بالراهن”، يلخّصه فوكو بواسطة المبدأ التالي:” ليس من حقّكم احتقار الحاضر”. ولا يتمثّل هذا الاستفهام النقدي عن الحاضر لا في تقديس اللحظة الراهنة بغرض محاولة الإبقاء عليها كما هي، ولا في أن ننساق ببساطة إلى التياّر المدوّخ للأحداث: تتميّز الحداثة بحقّ عن الموضة، من حيث أنّها تفترض ” أن نعيد الإمساك بشيء من الأبديّ ليس ما بعد اللحظة الراهنة، ولا قبلها ولكن فيها”، بغاية تأبيدها مع تغير وجهها. وليس ” الانتباه الحادّ للحظة” في الموقف الحديث منفصلا عن” التحمّس لتخيّلها على نحو آخر غير ما هي عليه، و لتغييرها”، لا ” بتدميرها وإنّما بالقبض عليها فيما هي عليه”. وإذا ما اعترف فوكو بانّ فلسفة الأنوار لم تر النور إلاّ ” في لحظة ما من تطوّر المجتمعات الأوروبية”، التي تميّزت ببعض ” أنماط المؤسّسات السياسيّة”، وببعض ” أشكال المعرفة”، وبعض” الطفرات التكنولوجيّة”، فإنّه يؤكّد إذن مع ذلك أنّها بادرت بموقف للفكر يظلّ في حاجة إلى إحيائه من جديد ( موقف يتمثّل في الإمساك بالفرادة والجدّة التي يضطلع بها الحاضر)، وأنّها صاغت مشكلا أساسيا ” يظلّ مطروحا علينا” ( مشكل “العلاقة بين تطوّر المعرفة وتاريخ الحريّة”). أن نرث شيئا من فلسفة الأنوار يعني إذن التوصّل إلى إعادة إحياء هذا المشكل بمواجهته بجدّة السياق الراهن، الذي يبدو أن أشكال المعرفة والسلطة فيه، قد أعيد تشكّلها، لا فحسب تحت تأثير الصناعات الثقافية و التكنولوجيات التناظرية التي وصفها أدرنو وهوركهايمر في 1944 ، بل أيضا تحت تأثير صناعة المعطيات والتكنولوجيات الرقمية، التي تتطوّر منذ 1990. كيف نطرح مسألة الحقيقة في عصر” مابعد- الحقيقة”، أين يزعم استخدام الألغوريتمات إعلان “نهاية النظريّة”؟ طيف نطرح مسألة الحريّة ، حينما يبدو أنترنت المنصّات قد قطعت ممارسة السياسة وتنفيذ الحقّ؟ وباختصار، كيف نتساءل عن ونغيّر” الحالي”، حينما تبدو وظائف مؤسسات التعليم ومؤسسات السياسيّة قد وضعت موضع تساؤل بفعل التطوّرات التكنولوجيّة؟ ماذا نصنع بإرث الحداثة بعد عصر ما بعد الحداثة، كي نتجنّب أن لا تؤدّي حالة ما بعد الحداثة إلى “موقف مضادّ- للحداثة”؟

      هذه هي الأسئلة التي تبدو مطروحة في الفصل الأول من كتاب” حالات الصدمة. الحمق والمعرفة في القرن 21، وفيه يواجه ب.ستيقلر تأمّلات كانط عن الأنوار بالطفرات و التكنولوجيّة والاقتصاديّة والسياسية التي تميّز المرحلة المعاصرة.  يعرّف كانط الأنوار بوصفها الحركة التاريخيّة والاجتماعية التي من خلالها يرتقي البشر إلى ” حالة الرشد”، أي يخرجون من حالة الوصاية ويصبحوا قادرين على استخدام ذاتي لعقولهم، دون توجيه من أحد. تسمح التربية إذن بتكوين مواطنين عقلاء وعقلانيين، لهم القدرة على المشاركة في سياسة بلدهم وتغيير مجتمعهم، باستخدام عمومي لعقولهم، أي بالتعبير عموميا عن أفكارهم ونقدهم لموضوع المؤسّسات والقوانين التي تنظّم حياة الجماعة. بيد أنّ هذا المرور، حسب ستيقلر، إلى فعل العقل و هذا التكوين لرشد نفسي، أخلاقي وذهنيّ، قد أضحى اليوم إشكاليّا، من حيث أن العلاقات البين- جيلية intergénérationnelles والتي من خلالها تنقل المعارف ( منذ التربية العائلية أو التعليم المدرسي مثلا) نجدها قد قطعت بواسطة سرعة التحوّلات التكنولوجيّة واستخدامها لاقتصاد استهلاكي. وبالمثل فقد تحوّلت في العمق الأجهزة ودعامات النشر التي تشكّل الفضاء الذي بداخله، يفترض أن يستخدم فيه المواطنون عقولهم استخداما عموميّا، منذ مجيء وسائل الاتصال التناظرية ( السينما والتلفاز) والرقميّة ( الواب ثمّ  أنترنت المنصات). كيف إذن تطرح مسائل تكوين الرشد والاستخدام العمومي للعقل دون تجاهل “الاختلاف الذي يحدثه اليوم بالنسبة إلى الأمس”؟

   1-  الأنوار: التكوين والاستخدام العمومي للعقل. تكوين الرشد بوصفه خروجا من حالة القصور.

   يعرّف كانط في نصّه” ما هي الأنوار؟”، الأنوار بوصفها مسار” خروج الإنسان من حالة الوصاية”، التي يمرّ عبرها من القصور إلى الرشد. تعني حالة الوصاية أو القصور” عجز الإنسان عن استخدام عقله ذاتيّا دون توجيه من آخر”. يقدّم كانط ثلاث أمثلة عن هذه الحالة:” حينما يحلّ كتاب محلّ الذهن”، و”حينما يحلّ المرشد الروحي محلّ الضمير” ، أو ” حينما يقرّر طبيب بشأن حميتنا عوضا عنّا”. في كلّ هذه الحالات يقبل الإنسان دون نقاش سلطة أحدهم لتوجيهه، بدل أن يستخدم ملكة الفهم للتفكير بذاته.

   إنّ الإنسان وبعيدا عن كونه ضحيّة حالة كهذه، هو مسئول تماما: لا ينتج عجز الإنسان عن التفكير بنفسه عن قصور في الذهن، بل عن نقص العزم على استخدامه. بلحّ كانط بالفعل ، على أنّ البقاء على حالة القصور أيسر وأقلّ عناء:” من الملائم أن أكون قاصرا.(…) فلا حاجة لي في إرهاق نفسي. لا حاجة لي في التفكير مادام بإمكاني أن أدفع ، سيتكفل آخرون بهذا العمل الشاقّ” ويعرّف كانط شعار الأنوار بدعوة إلى التحلّي الشجاعة ” لتكن لديك الشجاعة في استخدامك عقلك الخاص”. إنّ المرور إلى حالة الرشد الذي يعرّف الأنوار، كما يذكّرنا بذلك فوكو في تعليقه على نص كانط، لم يقدّمه كانط بوصفه ” سيرورة بصدد الحدوث” “يمثّل البشر جزءا منها” فحسب، بل أيضا  بوصفها”مَهَمًّة ، وإلزاما”، ” فعلا للإنجاز شخصيّا” ” يتحمّل كلّ منّا مسؤوليته”: وباختصار فلبشر هم في ذات الوقت” عناصر أو فاعلين في نفس السيرورة”، التي لا تنتج إلاّ ” من حيث يقرّرون أنّهم الفاعلون فيها”.

    إلاّ أنّه حسب كانط، فإنّ ما يحصّل من الرفاهة في حالة القصور والشجاعة اللّازمة للخروج منها، تفسّران أنّ البشر، وبالرغم من امتلاكهم بالفطرة ملكة الفهم، فإنّ بعضهم يتوصّلون مع ذلك، إلى قيادة الآخرين، باستغلال “كسلهم” و” جبنهم”: وذلك بإظهار ” خطورة الإقدام على المشي بأنفسهم”، فالأولياء يجعلون الناس وجلين ويجعلونهم يعرضون عن أي محاولة للتخلّص من حالة الوصاية فيستسلمون في النهاية لوضعهم الطبيعي ويعتادون عليه. لأجل ذلك ، حسب كانط، يتوصّل بعض الناس فقط إلى التحلّي بالشجاعة في استخدام ذاتي لعقولهم . بيد أنّ هؤلاء القصّر يشيعون حولهم حالة ذهنية ” تثمّن رغبة كلّ إنسان في التفكير بنفسه”، ممّا يفسح المجال، حسب كانط، لإمكانية أن يستنير جمهور بنفسه شريطة أن تتاح له الحرية لذلك.

  وباختصار، حينما يكرّس الإنجذاب و النزوع إلى التفكير الحرّ، يؤثّر هذا الميل في المقابل شيئا فشيئا على ذهنيّة الشعب، الذي يضحى إذن مؤهّلا للتفكير بحريّة. لأجل ذلك يؤكّد كانط على ضرورة ضمان الحرية للمواطنين في استخدام عقولهم في كلّ المجالات: إذ يمكن للاستخدام الحرّ والعمومي للعقل فقط، ” إشاعة الأنوار بين الناس”. ولنفاذ الجمهور إلى الأنوار إذن، شروطا هي في ذات الوقت ” روحيّة ومؤسّسية وسياسيّة”، ويحصل هذا النفاذ ببطء : يؤكّد كانط بالفعل، على أنّه إذا ما أدّت ثورة ما إلى رفض استبداد شخصيّ أو قمع تسلّطي، فإنّها لا تكفي لإحداث ” إصلاح حقيقيّ في طريقة التفكير”، ما دام  الاستخدام الحر والعمومي للعقل غير مضمون، ” فتنشأ أفكار مسبقة جديدة ستهيمن على الأغلبية الحمقاء تماما كما الأقدمين.

  المسألة السياسية للاستخدام الحرّ والعمومي للعقل

    ماذا يقصد كانط بهذا الاستخدام الحرّ والعمومي للعقل، المؤهّل لضمان الخروج من حالة القصور و بلوغ الشعب إلى الأنوار؟ علينا أن نذكّر، حتى نفهم قصد كانط، بأنّه  يميّز بين الاستعمال العمومي والاستعمال الخاص للعقل: يعرّف الاستعمال العمومي للعقل بوصفه” ذاك الذي نقوم به مثل عالم أمام جمهور قارئ”، بينما الاستعمال الخاص للعقل هو ” ذاك الذي لنا الحقّ في القيام به في الوقت الذي  نشغل فيه وظيفة مدنيّة”. فبينما يجب أن يكون الاستخدام العمومي للعقل حرّا حسب كانط، يمكن لاستخدامه الخاص أن يظلّ ” محدودا جدّا، دون أن يؤثّر مع ذلك حسيّا في تقدّم الأنوار”. وبالفعل، يمارس كلّ فرد، باعتباره يمثّل جزءا من الجماعة، عددا معيّنا من النشاطات لصالح هذه الجماعة، ومن مصلحة كلّ الأعضاء أن يشغل كلّ عضو فيهم الوظائف المسنودة إليه خدمة للغايات المشتركة. ولا يجب على الفرد، في ممارسته النشاطات الضروريّة لحياة المجموعة أن يحيد عن هذه الغايات. ويظلّ الفرد إذن بالضرورة قاصرا ، مكتف بالطاعة دون أن يفكّر ، طالما ينفّذ مهمّة فرضتها عليه المجموعة. يؤكّد كانط أنّه سيكون من الخطر” أن ضابطا في خدمته تلقّى أوامر للتنفيذ، يشرع في التفكير في مناسبة أو فائدة هذه الأوامر”، مثلما سيكون من الخطر أنّ مواطنا لا يدفع ضرائبه في الوقت الذي يجب فيه تسديدها، أو أن لا يحترم قسّ مذهب الكنيسة التي يخدمها والتي توفّر له وظيفته. بيد أنه لاشيء يمنع هذا الضابط وهذا المواطن أو القسّ من التعبير للجمهور عن أفكارهم في خصوص الطابع غير المناسب لهذا الأمر أو ذاك، والطابع غير العادل لهذا الفرض أو ذاك، أو الطابع المضلّل لهذا المذهب أو ذاك. فحينما يعبّرون هكذا على الملأ عن أفكارهم في شأن المؤسّسات التي يخدمونها (جيش ودولة وكنيسة)، وعن اقتراحاتهم لتحوير أو تحسين سير هذه المؤسّسات، فإنّ الضابط والمواطن والقسّ لا يفعلون ذلك بوصفهم ضابطا ومواطنا أو قسّا، بل من حيث هم ” عارفا أمام جمهور يقرأ”. وإذا ما كان عليهم ، من حيث هم جزء من الآلة التي تمثّلها المجموعة، واجب الطاعة، من حيث هم ” عارفين”، ومن حيث هم أعضاء من الإنسانية العاقلة، فإنّ للضابط والمواطن والقسّ في المقابل مَهَمَّة  إعلام هذه الجماعة ذاتها بأفكارهم ” المتأنيّة والقصدية”. يقرّ كانط إذن أنّه حتى من وجهة نظر التشريع، لا يوجد خطر في السماح لهذه الذوات باستخدام عمومي لعقولهم و عرض أفكارهم للجمهور في شأن أفضل تحرير للنصّ التشريعيّ، حينما يصاحب هذا النص فعلا نقد صريح للقوانين النافذة. وطالما يحترم البشر الوظائف المدنيّة المسندة إليهم ، فلا يوجد ما نخشاه على السلم العمومي ووحدة المجموعة: فهم لا يذهبون ضدّ الوظيفة التي كلّفوا بها فحسب، بل خاصّة، دون هذا الاستخدام البشري الحرّ والعموميّ للعقل،” تتبدّد كل  إمكانية للتحسين التدريجي: للمجموعة، جاعلة إذن العصر” عقيما” و” مضرّا بالأجيال القادمة”. إنّ حكومة تفهم جيّدا وظيفتها وتبتغي تحسينها لها بذاتها فائدة من ضمان ” هذا النظام للحريّة”، الذي يتخلّى فيه البشر بأنفسهم عن خشونتهم تدريجيّا”.

  إنّه إذن من مصلحة ” الحكم المستنير”، للمجموعة الحاضرة، وأجيالها القادمة، أن لا يكون مضمونا فقط ، حريّة التفكير، بل حريّة التعبير عن الفكرة لجمهور قادر على التعرّف عليها. يتميّز الاستعمال العمومي للعقل الذي دافع عنه كانط ، كما أشار إلى ذلك فوكو في تعليقه، عمّا نعنيه منذ القرن 16 بعبارة حرية الضمير : فلا يتعلّق الأمر بضمان ” الحقّ في التفكير كما نشاء، شريطة أن نخضع كما يجب”، بل فعلا بالحقّ المضاعف والواجب المضاعف في القيام بوظيفتنا الاجتماعية، وعرض أفكارنا على المواطنين أمثالنا، أفكارا يحتمل أنّها تغيّر وتحسّن مؤسّساتهم أو تشريعهم. ينفتح النص الكانطي إذن، حسب فوكو، على مسألة ظلّت دون حلّ: إذ لو أدركنا جيّدا أنّ حرية استخدام كلّ فرد لعقله يمكن أن يُؤَمَّن بطريقة سلبية، بغياب كلّ تتبّع ضدّه ، فإنّنا لن نرى بوضوح حينئذ كيف نضمن إيجابيا الاستخدام العمومي لهذا العقل. وبالفعل فالسؤال الذي يطرح نفسه هو معرفة “كيف يمكن لاستخدام للعقل أن يأخذ طابعا عموميّا يحتاجه ضرورة، وكيف يمكن للجرأة في الاستخدام أن تمارس في وضح النهار”. وباختصار كيف نمنح ” للجمهور” وسائل التعرّف على الأفكار التي بناها المواطنون الآخرون بما هم ” عارفين”.(savants) ينفتح تعريف الأنوار l’Aflarung إذن حسب فوكو على مشكل سياسي حقيقيّ، لا يمكن أن يُطرح، إذا سلمنا بما يقوله ستيقلر، إلاّ انطلاقا من أبعاد   تقنية التذكّر(الذاكرة التقنية mnémotechniques و تحت -ذاكرة hypomnésiques (تقنية الاحتفاظ ونقل الذكريات). يشير ستيقلر إذن إلى مجموع العُدَّة الأداتية التي تسند الذاكرة الفرديّة والجماعية وتسمح بنشر وتوزيع المعارف- الدعائم(savoirs- supports) التي تتطور بحسب المجتمعات والعصور، والتي يجب على الأفراد ممارستها اجتماعيا بغية نقل هذه الذاكرة ومشاركة أو تغيير هذه المعارف. إنّ هذه الشروط” الاحتفاظيّة” rétentionnelles، حسب ستيقلر، للتكوين و”نشر” العقل- والشروط الاقتصادية – السياسيّة التي تقتضيها، والتي أهملها كانط: إذ لو سلّمنا بأنّ نقل المعارف والمشاركة في التفكير النقدي يفترض العدّة التكنولوجيّة للإشهار والنشر، عندئذ يطرح السؤال عن معرفة ممّن وكيف تراقب هذه الدعائم supports ، وممّن وكيف تُضَمن مَجْمَعَتها أو نشرها في المجتمع socialisation، وإذا ما أصبح ممكنا نقل وتغيير( الإدخال والإخراج) المعارف التي يسندها الأفراد الذين يمارسونها. إنّ طرح مسألة الشروط الإحتفاظيّة والسياسيّة للتّكوين والاستخدام العمومي للعقل في القرن 21م، يعني إذن، أن نأخذ في عين الاعتبار التطوّرات التكنولوجيّة للدعائم التحت-تذكّرية hypomnésiques والمسارات الاقتصاديّة – السياسيّة لتملّك ومصادرة هذه الدعائم التي تميّز العصر الحاضر.

2- التكوين والاستخدام العمومي للعقل مقابل تطوّر الوسط المنيموتقني  mnémotechnique

” البسيكوتكنولوجيات” التناظرية والرقميّة :لفت الانتباه وتشويه العقل.

       بيد أنّ الوسط المنيموتقني أو تقنية التذكّر قد تغيّر تغيّرا كبيرا خلال القرن 20م، وتأثّرت بعمق وظائف الجامعة والمدرسة والمؤسّسات المتكفلة بتكوين العقل، بهذه التطوّرات وبـ”خارجها”. يذكّر ستيقلر بالفعل، أّنّه لا يُفهم العقل حسب كانط، بوصفه قدرة لا شخصيّة، بل بوصفه حالة ذهنيّة واجتماعيّة هشّة، قابلة دوما للتّشويه: لأجل ذلك يفترض العقل تكوينا، تعود وظيفة توفيره إلى المؤسّسات المدرسية، بتكوين يقظة مواطني المستقبل بجعلهم يجتازون الخلافات المنطقيّة، بما هي أصلا للتخصّصات العقلية. وبالفعل، يمثّل العقل شكلا مخصوصا من اليقظة، ناتجة عن تاريخ، هو تاريخ مختلف التخصّصات العقليّة، التي تمثّل حالتها الراهنة ثمرة تراكم تجارب فكر فردي وجماعي، مترسّبة في دعائم ذاكرة ( كتب مطبوعة أو مواقع انترنت مثلا) ثمّ منقولة ، متقاسمة ، منتقدة ومبدّلة من جماعات متعادلة مشهود بها، في خضمّ ما يسمّيه ستيقلر مسارات العبر- تفريد transindividuation . تمثّل الجامعة الحيّز الذي تبنى وتتحوّل فيه هذه المعارف العقليّة، وللمدرسة وظيفة نقلها، بتعليم القواعد والتعلّمات التي تسمح للأفراد بممارسة ومَجْمَعَة دعائم الذاكرة (مثلا بتعليم تقنيات الكتابة التي تسمح بإدخال وإخراج المعارف المحفوظة في الكتب). ومع ذلك تبدو الطفرات التكنولوجيّة ، حسب ستيقلر، قد دفعت إلى إعادة النظر في وظائف المدرسة (تكوين الإيقاظ الفكري) والجامعة (النقل والتغيير العبر- تفريدي ) للمعارف.

   أولا فيما يخصّ المدرسة، يؤكّد ستيقلر بأنّ تطوّر التكنولوجيات التناظريّة ثم الرقميّة في خدمة اقتصاد استهلاكي قد غيّر الوسط المنيموتقني  mnémotechnique أو تقنية التذكّر خارج المدرسة، إلى حدّ جعله غير متلائم مع وظائف المدرسة ذاتها. وقد جعلت وسائل الإعلام التناظريّة ثمّ الرقميّة في خدمة لفت انتباه الأفراد واستغلال صناعي لدوافعهم، اللذان يلحقان الضّرر بتكوين الإيقاظ وبما هو مسؤولية المؤسسة المدرسية. وبالفعل يفسّر ستيقلر أنّ مجمعة socialisation التكنولوجيات التناظرية ثم الرقمية ( أي نشرها في المجتمع)، بدل أن تحمل على عاتق القدرة العمومية، قد تُركت لغايات استهلاكيّة مستخدمة من خلال استراتيجيات التسويق والإشهار: حتّى انّه بدل أن يبتكر الأفراد النفسيون والاجتماعيون قواعد جديدة وأن يتعلّموا ممارسات جديدة لتملّ هذه التكنولوجيات، فإنّ هذه الأخيرة، التي أصبحت” وسائل إعلام جماهيرية”، أصبحت في خدمة اقتصاد الإنتباه أو “وسائل إعلام جديدة” في خدمة اقتصاد المعطيات، التي تنظّم التصرّفات وتبرمج عمليات الشراء . وسواء تعلّق الأمر بصناعات برامج متطوّرة عبر التلفاز أو صناعة المعطيات التي تسندها الشبكات الاجتماعية أو المنصّات، فإنّه يتعلّق في كلا الحالتين بزيادة الاستمتاع ببيع “زمن دماغ في المتناول” للمعلنين annonceurs. تصبح إذن المينيموتقنيات( تقنيات التذكّر) بسيكوتقنيات (تقنيات بسيكولوجية) في خدمة ” سلطة نفسية” psychopouvoir، وظيفته استقطاب يقظة أو انتباه الأفراد وتوجيه canaliser دوافعهم نحو موضوعات استهلاكيّة، وصرفها عن الموضوعات العمومية التي تمثلها المعارف (فقه العيش والمهارة  والمعرفة النظرية) التي هي أساس الشيء العموميّ. وبالفعل تنتشر الدّوافع اجتماعيا من خلال ممارسة المعارف، وتتحوّل إلى رغبة للمجموعة وإلى مسار تفريد جماعيّindividuation collective( أن نكون نحن) يمثّل قاعدة المجموعة السياسيّة والتي للمدرسة كمؤسّسة وظيفة استخدامها.

    لقد تغيّرت وظيفة الجامعات أيضا بموجب التطوّرات التكنولوجية : لا لأنّ  غاياتها جُعلت في خدمة اقتصاد ” التحطيم الخلاّق” destruction créative” الذي يبتغي الابتكار التكنولوجي العاجل فحسب ، بل أيضا لأنّ الدعائم التكنولوجيّة للمعارف التي دورها الإعداد، قد تغيّرت جذريّا. وسواء تعلّق الأمر بالعلوم الإنسانيّة أو الطبيعيّة ، فقد تغيّرت بعمق رقمنة أدوات الملاحظة والتجريب أو النشر، لا في مناهجها وممارساتها فحسب ، بل أيضا في موضوعات التخصّصات العقليّة ومسارات  الإشهاد certification التي تنظمها. وتطرح هذه الرقمنة للأدوات العلمية مع ذلك مشكلا، من حيث أنّها تمكّن من إخراج الوظائف الذهنيّة للتفكير والعمليات المنطقية في الآلات ( مثلا الحسابات المنجزة آليا بالألغوريتمات على قواعد معطيات واسعة)، والتي تميل إذن إلى قطع أفراد نفسيين واجتماعيين وهم الباحثون، استخدام هذه الملكات، وإلى تقديم نتائج لم يفكّر فيها، حتّى قبل أن تظهر نتائج هكذا تحوّل. ويكون تطوّر هذه الأدوات سريعا جدّا، بحيث لا تجد الأسئلة الأبستيمولوجيّة العديدة التي تطرحها على التخصّصات، الوقت لدراستها علميا، قبل أن يظهر ابتكار جديد.  يميل تخصّصها المميّز إذن إلى الانفلات عن الباحثين أنفسهم ، الذين لا يعرفون أحيانا آلية اشتغال الأدوات التي يستعملونها، ( من حيث أنّهم لم يشاركوا في تصوّرها)، ولا تأثير هذه الأدوات على موضوعاتهم وممارساتهم ( من حيث أنّهم لم يتلقوا تكوينا في دراسة دور الدعائم التقنية أو ” الاحتجازية أو الاحتفاظية”  في إنشاء المعارف- العلوم التجريبيّة كما الإنسانية).

    فبالرغم من أنّ هذه الأسئلة لم تجد وقتا كي تنضج في مجتمع الباحثين ، فإنّ إيقاع تطوّر المعارف ( أكسيومات ووقائع تجريبية) تفلت أيضا عن المدرّسين، الذين لم ” يتسلّحوا لتدريس المتحوّل في تخصّصهم طيلة القرنين الأخيرين، ولا من باب أولى طيلة الخمس عشريات الأخيرة”، والذين هم غالبا لم يتثاقفوا في شأن آلية اشتغال التكنولوجيات الرقميّة التي تميّز الوسط التقني تذكّري  للمعارف أو للاّ معارفnon-savoirs  المعاصرة – وسطا تمارسه الأجيال الشابّة للطلبة باستمرار. وتؤدي هذه الطفرة حسب ستيقلر إلى ضياع سلطة المدرّسين، الذين، لكونهم  لا يفهمون تخصّصهم ولا يشاركون بالمرّة في صيرورته، لا يتوصّلون إلى تجسيده أو التعبير عنه و يحسّون أنّهم غير صالحين في نظرهم كما في نظر تلاميذهم، لمعالجة الأسئلة التي يجدون أنفسهم غالبا عاجزين عن الإجابة عنها.

   تكنولوجيات الفكر: الاستخدام العمومي للعقل في الفضاء العمومي الرقمي

      إنّ تشويه سمعة المعارف النظرية تحت تأثير الطفرات الرقميّة لدعائمها، وما يترتّب عنها من انقلاب العلاقات بين الأجيال في دائرة التعليم المدرسي، يتبعه ذوبان “معرفة كيفية العيش” بتنميط سلوكي تفرضه وسائل الإعلام الجماهيريّة، التي قلبت العلاقات البينجيلية في دائرة التربية العائلية (بدل أن تكون هذه المعرفة بكيفية العيش متوارثة ومشتركة من جيل إلى آخر أثناء مسار التفريد النفسي والجماعي، أصبحت الأجيال الشابّة المستهدفة من الإشهار ملزمة، بفعل الشراء، للأجيال الصاعدة، قاطعة هكذا مسارات تحقيق الهويّة و النزاعات بين الأجيال الضروريّة للمرور من القصور minorité إلى الرشد. ليست المسألة إذن، في القرن 21م  مسألة ريبيّة تجاه الميتا-سرديات الفلسفية فحسب ، بل هي أيضا مسألة تفسّخ المعارف بوجه عام ( المعارف النظرية الفاقدة لمصداقيتها بفعل الابتكارات التكنولوجيّة، فقه العيش المستعاض عنه بسلوكات منمّطة، أو فقه عيش مؤتمت automatisé ) أدت إلى سيرورة تكادح  prolitarisation معمّم، أي إلى كون الأفراد لا ينقلون ولا يتشاركون جماعيا معارفهم ، التي، فجأة لا تتطوّر ولا تتنوّع. إلاّ أن ابتكار معارف  نظرية جديدة ، ومعارف جديدة عن كيفية العيش ، أو مهارات جديدة( التي هي طرق عديدة للفعل والعيش والتفكير) هو وحده  الذي يسمح للأفراد بـ”تحسين”تدريجيّ لعصرهم وجعله ” خصبا” للازدهار، بتبنّي تحوّلات الوسط “المنيموتقني”.

  لأجل هذا يؤكّد ستيقلر على وجوب أن تتولّى الجامعة والمدرسة الصراع ضدّ سيرورات اللاتعلّم désapprentissage الناتجة عن تملّك الترسّبات أي ما تحتفظ به الذاكرة لأجيال)rétentions tertiaires التناظرية والرقميّة بواسطة مجال الاقتصاد الاستهلاكي والرأسمالية المالية. لا يتعلّق الأمر إذن بقذف الدعائم التقنية خارج المجال الأكاديمي، بل على العكس ، بتحليل آثارها ونقد آلية اشتغالها، بغية ابتكار طرق جديدة في تصوّرها وفي ممارستها. يهدف برنامج ” الدراسات الرقمية” الذي اقترحه ستيقلر، إلى تعبئة الباحثين من مختلف التخصّصات الأكاديمية، قصد دراسة الطريقة التي أثّرت بها التكنولوجيات الرقمية على الصعيد الإبستيمولوجي على اختصاصهم، وتحليل تحوّلات أجهزة الملاحظة عندهم أو عُدّة النشر لديهم، بغية إمكان اتخاذ القرار في شأن الطريقة التي تشتغل بها والطريقة التي يجب استعمالها، والمشاركة  من جديد إذن، في بناء وتحوّل مجالات عملهم الخاصّة. بشرط أن تكون هذه المسائل  مدروسة ومشتغل عليها على مستوى البحث، يمكن للمدرسي المستقبل بعد ذلك أن يتلقوا تكوينا في تاريخ التقني وفي آلية عمل التكنولوجيات الرقميّة، وفهم التطوّرات المعاصرة للمعارف التي لها دور نقل ومنح الثقة من جديد إذن في تعليمهم.

   ذلك أنّه لا يتمثّل المشكل حسب ستيقلر، في فرض علاقة السلطة المزعومة للأساتذة على التلاميذ والتي قد ضاعت، بل بالأحرى في التوصّل إلى مفصلة تعليم لائق و ثقافة تقنية عالمة مع معارف خبريّة للأجيال الشابّة، بغرض إعادة بناء علاقة تفريد تشاركي co-individuation بين الأجيال، حينما يتوجّب عليها اتخاذ أشكال جديدة. وبالفعل يؤكّد ستيقلر على أنّه وبغضّ النظر عن سميّتها المحتملة ، تفتح الدِّعائم الرقمية إمكانيات جديدة للنقل والمشاركة في المعارف، وتؤدّي إذن إلى إعادة النظر في ممارسات التعليم. ولا يتعلّق الأمر أبدا بحذف المحاضرات، فقد أصبح مع ذلك ضروريا اليوم بتنسيقها مع الأعمال الفردية والجماعيّة التي يجعلها الحقل الاحتجازي المعاصر ممكنة، شريطة أن تنظّم لهذا الغرض. وقد تصبح المدرسة إذن مخبرا لتفكير نقدي واختراع تكنولوجي، غايته وضع أجهزة النشر الرقمي في خدمة مشاركة المعارف وتكوين الذكاء الجماعي، بتطوير خاصّة أدوات جديدة مُسَاِهَمة : مثلا لغة الشرح والتعليق التي تسمح للمتعلّمين من مشاركة ملاحظاتهم وتأويلاتهم لمحتوى، وألغوريتمات تحليل للمعطيات تسمح بتحليل كيفي لهذه التعليقات وتكوين مجموعات تأويل أو قرابة، وشبكات اجتماعية تقيم صلات بين هذه المجموعات ، بالسماح لهم بمكافحة وجهات نظرهم. ويؤكّد ستيقلر بالفعل أنّه إذا ما تطوّرت مثل هذه الأدوات، فيمكن للأجهزة الرقمية، وبدل أن تقطع الوظائف التربويّة والتكوينيّة للمؤسّسات المدرسية والأكاديمية ،أن توضع في خدمة النقاش الحجاجي والخلافات المنطقية، الأساسيّة لبناء المعارف العلية كما تصلح للتدرّب على النقاش العمومي الذي يؤسّس السياسة.

     ذلك أن الفضاء الرقمي يمثلّ قبل كلّ شيء مسارا للنشر، يعيد تحوّله تشكيل الفضاء العمومي والممارسة السياسيّة في العمق . وإذا كانت التكنولوجيات الرقميّة راهنا قد وضعت في خدمة قابلية تخطيط معمّمة تسمح بتحليل وتوقّع ومراقبة سلوكات الأفراد، فإنّها تمثل مباشرة نظام نشر جديد من خلاله يصبح الأفراد ” قادرين على نشر وإذن بثّ أفكارهم  وقضاياهم وتحليلاتهم ووجهات نظرهم  ونقدهم، وبالتالي المساهمة بطريقة جديدة في الحياة العموميّة”. وبالفعل يبدو أن “الواب” webبالنسبة إلى وسائل الإعلام والصناعات الثقافيّة التي ينقدها أدرنو وهركهايمر، قد فتح فضاء قوّة عموميّة جديدة. فقد أنتجت التكنولوجيات التناظريّة التي احتكرتها الصناعات الثقافية طيلة القرن ال20م لاتناسقا ووتريّة imparité بين، من جهة المنتجين الصناعيين للرموز(للأصوات والصور) التي عليها أن تخضع لمعايير شركائهم، ومن جهة أخرى يمثّل مستهلكي هذه الرموز، لا ” جمهور فضاء عموميّ و زمن عمومي”، بل جلسات استماع للإشهار الخاضعة لبرامج مفروضة عليهم. إلاّ أنّ هذه الوضعية متحوّلة بعمق بالرّقمنة والتشابك: لا تصبح عدة معطيات في متناول الجميع فحسب، بل تكون أيضا الوظائف وأجهزة الالتقاط والإنتاج والنشر التي ظلت طيلة قرن مقتصرة على المهنيين المشتغلين بصناعات الإعلام والاتصال ( وليس للإكليركين les clercs الدينين والعلمانيين) التي تتداولها اليوم أيادي الجماهير ذاتها، والتي لا يمكن  منذ الآن أن يقبض عليهم كمجموعات استهلاك لجلسات استماع قابلة للحساب، بل كجمعيات للمساهمين، المكوّنين لجماعات متساوية أو هواة ( فنّية وعلمية وسياسية). وبدل أن تستعمل لاستغلال المعطيات الشخصيّة للأفراد بغرض التوقّع، والحساب والمراقبة لتصرّفاتهم وإنتاج إذن أفعال استهلاكية متجانسة، يمكن للتكنولوجيات الرقميّة إذن أن توضع في خدمة إنشاء فضاءات جديدة للتعبير والمشاركة، مفضّلة هذه المرّة وفي الآن نفسه التنوّع الاجتماعي والذكاء الجماعي. وبدل أن يكون سلاح السلطة البيسكولوجية ذاتها خادما لحرب اقتصادية، يمكن للواب إذن أن يصبح فضاء للتعبير الرمزي والحجاجي للنزاعات، الذي يمثّله كل فضاء سياسي. إنّ تحوّلا من هذا القبيل لا يمكن مع ذلك أن يكون فعليّا إلا بشرط إعادة النظر في آلية اشتغال تكنولوجيات النشر وطريقة تبنّيها أو استعمالها جماعيا: عن هذه القضايا يمكن للجامعة والمدرسة والمجتمع المدني التساؤل جميعا، قصد جعل ” بسيكوتكنولوجيات” رقمية ” تكنولوجيات الفكر”، في خدمة تكوين واستخدام عمومي للعقل. ولمثل هذه التساؤلات خاصّة خصّص مشروع البحث الإسهامي المفصّل في الجزء الثاني من “حالات الصدمة” والمستخدم منذ 2016 على ارض السهل العمومي.

خاتمـــــــــــة  

  في عصر يقضي فيه أفراد المجتمعات المفرطة صناعيا بمعدّل 18 ساعة في الأسبوع على الانترنت وفي حوزتهم 140 علامة للتعبير ، فإنّه يبدو من الصعب إمكان تعريف الاستخدام العمومي للعقل بوصفه” ذاك الذي نقوم به كعارف أمام جمهور قارئ” ، ويبدو أن العائق الأساسي لتكوين الرشد قائم في “الكتب” الماسكة ” لحيّز الفهم” أو في ” الأوصياء” المستغلين لـ”كسل” الأفراد، أقلّ مّما هو في الموضوعات المتّصلة التي تستقطب اهتمامهم وتستغلّ دوافعهم وتقطع الممارسة الجماعية للمعارف. يلاحظ ستيقلر انّه في مثل هذا الوسط المنيموتقني، تكون التخصّصات العقلية التي يتمثل دور الجامعات في تفريدها عبر الأجيال والإيقاظ الفكري الذي للمدرسة مهمّة تكوينه، قد وضعت في خطر بعمل الأجهزة الرقمية التي تخدم اقتصاد المعطيات المؤسّس على الاستهلاكية. من حيث أنّ الأجهزة المتّصلة مستعملة بغرض تكديس المعطيات وليس للسماح للأفراد بالتعبير عموميا وبشكل متفرّد، ومن حيث أنّ الألغوريتمات مستعملة لوضع خطّ للتصرّفات ولمراقبتها، وليس لإنشاء جماعات الإسهام والاقتدار capacitation أو امتلاك المهارة، فإنّ الفضاء الرقمي لا يمكن أن يمثّل الدعامة التحت-تذكّرية   hypomnésique   والحيز السياسي الذي بإمكانه أن يصيره. لأجل ذلك يؤكّد ستيقلر على ضرورة ” مشروع هو في الآن نفسه علمي وفلسفي وسياسيّ وصناعي واقتصاديّ من أجل أنوار جديدة تستولي على التحدّيات الضخمة التي يحملها الرقمي”، بـ”صراع متأنّ وعقلي ضدّ السُّمِّيَة la toxité” التي ترافق ضرورة إمكانياتها العلاجية. وإذا “لم نكن في عصر الأنوار الخالصة”، وإذا” دخلنا في عصر الظلال والأنوار، أي عصر وعي صيدلاني pharmacologique بما تحدثه التكنولوجيا” التي تعمل بسرعة الضوء، فإنّ “فهم ما تعنيه الأنوار” في القرن 21م يعني ربّما تحويل أدوات المراقبة التي أصبحت الاحتفاظات الرقمية rétentions numériquesإلى دعامات للمعرفة supports savoirs ( العمل والعيش والتفكير)، بغرض أن نمنحها من جديد فعليا دورها في تكوين واستخدام عمومي للعقل – دورا لا يسمح ” السرد الكبير” للأنوار بالتفكير فيه، بل أن يصبح من العسير تجاهله بعد  مابعد- الحداثة.

المصدر


المراجع:

– ف،ليوتار” الحالة المابعد حداثية”

– أدرنو وهوركهايمر” ديالكتيك العقل” ، شذرات فلسفية

– ” رسالة ماهي الأنوار؟” كانط 1784

– ما هي الأنوار – فوكو في ( أقوال وكتابات )ج 4 قليمار نص عدد 338

– أندرسون : نهاية النظرية” 2008

–  حالات الصدمة..” ب . ستيقلر.