مجلة حكمة
ماريو فارغاس يوسا

حوار مع ماريو بارغاس يوسا – حاوره: إلينا سوي / ترجمة: حمزة زكي


الجرأة، أو تلك الفضيلة التي ظهرت بواسطة أناس خالدون، هذا ما يسعني أن أصف به الكاتب ماريو فارغاس يوسا  ( بيرو ، 1936 ) الحاصل على جائزة نوبل للأدب. الكاتب الذي كرس حياته للعديد من الأنشطة بروحٍ فطنة. قدّر له أن يعيش حياةً ملتزمة، كما يتطلب الأدب بالضبط، فهو لا يتردد في التصرف؛ إذا ما استوجب الأمر، كتقدمه لترشح لمنصب رئاسة بلده البيرو سنة 1990. في الوقت الذي كان يؤمن فيه أن من واجبه الأخلاقي أن يكون ناشط فعّالاً في الحياة العامة كديموقراطي، لشجب الحكومات الشمولية أينما وجدت، أو حين صعد إلى الخشبة لأداء دور بدافع حبه الشديد للمسرح. باختصار، هناك أشياء كثيرة عن هذا الكاتب لكن لا يسعنا المقام لذكرها هنا…

فور وصولي وجدته في مكتبه مستغرقا في دراسة ما و هو محاط بالكتب من حوله، رفع رأسه و الابتسامة تعلو وجهه، فحياني بنبرة صوتٍ جميل ليست معهودة إلا في أناس ليما الطيبين، قائلًا: ” كيف الحال ؟.”


 

– إلينا: لما لا نفتتح المقابلة بالحديث عن روايتك الأخيرة، الزوايا الخمسة، التي ستقدم غدا؟ ماذا تعني لك هذه الرواية في هذه المرحلة من من عمرك و بالنسبة لمسيرتك الأدبية؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: حسنا، هذه الرواية ككل كتبي عملياً، حدثت بطريقة غامضة جدا بالنسبة لي. كانت لدي فكرة و هي أن أكتب قصة عن الصحافة الصفراء، التي ليست سوى تلك الصحافة التي تلعب على العاطفة، و أعتقد أنها واحدة من العلامات التي طبعت زماننا هذا. إن الصحافة الصفراء باعتقادي توجد الآن في كل مكان في الدول المتقدمة و دول العالم الثالث على حدٍ سواء. و هي الصحافة ذاتها التي لعبت دوراً مهماً في دكتاتورية فيجموري، حينما اعتمدها النظام الإحتشاد العاطفي لإكراه الشعب على المعارضة محاولة منه ضرب خصومه السياسيون عن طريق تلفيق الفضائح – و هي فضائح لا تمت بصلة حقيقة لمهنهم بشيء، لكنها تطال حياتهم الخاصة، و هي ليس إلا محض تشهير مفتعل لتلطيخ سمعتهم و الحط من مصداقياتهم، و هذا شيء يعتمده كل دكتاتور ضد المنتقصين من قدره.

 

– إلينا: يبدو أنك بدأت كتابك بوضع إيروتيكي غير مبرر.

 

– ماريو فارغاس يوسا: أعتقد أن كيفية معالجة الكاتب لما يسمى إيروتيكية هو الشيء الذي يحدد إذا كانت الإيروتيكية فعلاً شيئاً أنيقاً أم أنه قليل الذوق، قذِراً أم بالغ الرقة. إنه الأسلوب و المفردات المنتقاة و المشهد بأكمله وكيف تلقاه القارئ .. لا أظن أن هناك وجود للإيروتيكية في مجتمع أو لذا شعب بدائي. الجنس بالنسبة لهم ليس أكثر من متنفسٍ للغرائز المكبوتة. في الجنس يطغى الجانب الحيواني فينا على الرقة، و على العنصر الأساسي فينا أيضاً. نشأت الإروتيكية في وقت ما من تاريخ الحضارة حين ارتقت الغريزة الجنسية لذا الإنسان من المستوى الحيواني و تسامت بتظافر اسهامات الفن و الأدب معاً. إنها عالم مصطنع منشأه فعل الحب. و هذا هو الإيروتكية الفعلية. لكن عندما يتخذ الأمر منحى الإنحلال يصل حد الميوعة بسبب رداءة الأداء، وافتقارٍ للبراعة و الحرفية في الوصف و التجسيد، يمكننا الحديث عندها عن الإباحية. و على العموم أعتقد أن الإيروتيكية لها علاقة بالحضارة و بالعادات المجتمعية، بثقافة معينة تحاول تهذيب الغريزة الجنسية و جعلها أكثر نقاءً.

 

– إلينا: لابد إذا أن يجرنا الحديث لذكر فرويد هنا… هل تتفق مع مفهوم تسامي الغريزة بالإبداع الفني؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: طبعا، من دون شك. أظن انه كان محقا جدا حيال ذلك، كما أظن أنه كان محقا أيضا حيال أن للجنس وظيفة أساسية للحياة في حياة الإنسان، شريطة ان لا يكون مبالغ فيه و لا مقصر منه. فعلى سبيل المثال ، في الأدب و الفن عموما نجد الجنس يحضر بشكل ينجح في محو الباقي، يظهر بصورة مفتعلة و موغلة في اللاواقعية ، و لا يمثّ للحقيقة في شيء. لست من من يرون أن منظور الجنس مهما لفهم كل أمور الحياة. رغم ان التحليل النفسي سلك هذا الاتجاه، و فرويد بصفته محللًا نفسيا تبنى الطرح ذاته ..لكننا علينا أن نحتاط من عبقرية الرجل، لأنها شيء لا يقبل الجدل و لا يساور فيها الشك اثنان.

 

– إلينا: هل بإمكان الخيال تهذيب تجربة إيروتيكية بشكل يتخطى التجربة الواقعية ذاتها؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: أظن أن الخيال الخصب و رهافة الحس و الثقافة، هذه الأشياء كلها متظافرة بإمكانها أن تغني التجربة الإيروتيكية بشكل مذهل، لكن ان تصل حد تجاوز التجربة الفعلية، لا أعتقد ذلك. الواقع هو أغنى شيء موجود، أهم شيء هناك. صحيح ان خيالنا يسمح لنا ان نعيش حياة مصطنع و التي هي حقيقةً رائعة و مفعمة جدا، لكن لا أعتقد ان أي فنان يجرئ على القول أن ما أبدع أفضل من الحياة الواقعية.

 

– إلينا: هل تفاجئت يوماً حينما تعيد قراءة ما كتبته، و استغربت متسائلا كيف يعقل انك انت هو من كتبه؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: أجل، كنت دائما أتفاجئ حين أكتب. بل سأكون صريحا إن قلت ربما للمرة الأولى؛ إن اكثر اللحظات إثارة و التي اجد فيها نفسي متحفزا هي حين انكب على كتب قصة ما و تبدأ الأشياء تبرز من تلقاء نفسها دون سابق اعتبار. فعلى سبيل المثال في روايتي الزوايا الخمسة، كانت هناك شخصية أردت لها في البداية ان تكون شخصية ثانوية، غير مأثرة، إلا ان ما حدث سبق ان حدث في عديد المرات، هو أنني كلما تقدمت في القصة ، تأخذ الشخصية في التبلور و تكتسب قوتها فارضة نفسها و سطوتها علي، بمبادرة منها و قررا حاسما بأن تأخذ حيزا كبيرا لها في الظهور، فجأة تصبح الشخصية مفعمة بالحياة، أعتقد أن هذه هي أكثر اللحظات سحرية في الكتابة.

 

– إلينا: ما هي العقبات التي عليك التغلب عليها في عمليتك الإبداعية؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: حسنا، ربما أكبر عقبة بالنسبة لي هي الثقة في النفس، خلافاً لما قد يظنه البعض، هذا لا نني أكون قد قضيت مدة طويلة و أنا أزاول الكتابة باستمرار، وأنه نشر لي عدد من الكتب. لكن ما غاب عنهم أن هذا كله حال دون ان تعزز ثقتي بنفسي، بل على النقيض تماما، إذ إن ذلك زاد من حس عدم الأمان لدي. ربما ذلك بسبب النقد الذاتي الكبير الذي أمارسه على نفسي أو طموحي الذي يكبر. لكن إحساس اللاطمأنينة الذي أمر به حين أشرع في كتابة عمل ما سواء كان قصة او مسرحية أو مقالة حتى، هو أكبر من الذي مررت به بعد انتهائي من أولى أعملي. رغم أني أعلم يقينا أنه بالمثابرة و العمل الدؤوب بإمكاني قهر هذا الافتقار للثقة نهائيا.

 

– إلينا: أفترض أن الكتابة بالنسبة للكاتب هي اسلوب حياة. فانت تلاحظ و تحلل كل شيء بشكل مختلف .. أين برأيك تكمن هذه الفوارق؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: سؤالك يحيلنا الى شيء مشابه لما قاله فلوبير “الكتابة هي أسلوب عيش.” أعتقد ان ذلك غاية في الدقة . رغم أن الأمر يختلف من كاتب لآخر، وهذا في نظري لأن الكاتب لابد له ان يتصف بالتكريس وبالتفان في ما يقوم به، هذا يعني أن يحمل بداخله نوع من روح الجاسوسية و هذه الروح تمكنه من اختبار و أخد دوراً في الحياة الواقعية، مع الأصدقاء و الأحباء و الإخفاقات في الحياة الواقعية، هناك أحد ما داخليا يراقب هذا كله و يقرر، أنه سيكون من الجيد أن تُستعمل هذه الأشياء المعاشة كمادة أولية لعملٍ له ككاتب.

 

– إلينا: في حالتك، ما الشيء الذي أثبت أنه مخصّبٌ لإلهامك الأدبي هل هو الآلم أم السعادة ؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: برأي مذهل أن يختبر المرء السعادة. و لكن لا أظن أنها ما تزال المادة الخام، على الأقل في عصرنا هذا، ربما قد يكون ذلك في الماضي أو في عصور ما خلت، لكن في وقتنا هذا يعد فتيل الإلهام في الادب و الفن و الإبداع عموما هو المحنة و شعور السلبية و الخوف و الألم، أكثر من الحماسة و الإثارة و السعادة .. حسب رأي هذا هو السبب الذي جعل الفن بطريقة ما يشمل على الطابع الدراماتيكي و المأساوي، إذ انه ليس أداباً أو فنّاً ذا قناعة أو تقبل للحياة كما هي. بل على النقيض تماما، اعتقد أن هناك روح متمردة قوية جالية جدا في كل مظاهر الفن في عصرنا وهذا أساساً لأنه في واقع الأمر استلهم من ما هو سلبي أكثر من ما هو إيجابي في الحياة.

 

– إلينا: ربما لأن الإبداع الفني هو السبيل لتسكين الألم، و سبيل لتصريف المشاعر السيئة؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: بالضبط، إنها الطريقة لتعبير عن نوع من الإحباط أو عن استياء أو حتى عن حنين لشيء ما لا نملكه.

 

– إلينا: و هل بإمكان المرء أن يشعر بتحقق ذلك بواسطة أية لغة فنية كانت، رسماً أو كتابة؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: يعتبر الفن شكل من أشكال المعرفة، فهو يساعدك على فهم الحياة التي تعيشها بعمق، و أن تراها من زوايا تبدو منها في أكثر صورها تعقيداً، لأن هناك دائماً مسافة قصيرة بين المرء و الحياة التي يعيشها. لكن الفن يزودك بذلك المنظور الأوسع، ذلك الأفق الرحب، الذي يجعلك قادراً على فهم العالم كما هو عليه، لتفهم الدوافع و البواعث الكامنة خلف السلوك البشري. إن ذلك الوصف لواقع بالغ السرية خلف ما نرى هو ما يوفره لنا الفن أكثر من التاريخ و السوسيولوجيا و أي علم من العلوم الاجتماعية الأخرى.

 

– إلينا: هل باستطاعة الفرد الشعور بتحقق ذلك؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: في الواقع ذلك يبدو في النهاية كتطهير للعواطف، فأنت تصبح كمن يزيح من على نفسه حملا ثقيلا، إلا أنك لا تدرك ماهية هذا الحمل و لا كيف يبدو إلا عندما تعبر عنه بالأدب و الرسم و الموسيقى و أي شكل آخر من أشكال الإبداع. قد يكون الأمر مؤذٍ أو غير محتمل لكن أنت لا تعلم لماذا. و هذا حسب اعتقادي واحدة من غرائب الفن، أي أنه يجعلك قادراً على التلفظ بكل ما هو لا مؤكد و محير و مصدر قلق. إنه لأمر مذهل أن ترى كيف يعطي الفن لهذه الأشياء شكلاً و يجعلها قابلة للوصف .. قد تمر عليك أوقت، يبادرك فيها ذاك الإحساس او تلك الأمزجة التي لا تعرف مصدرها، لربما يعاني المرء الأمرين من تلك الأمزجة التي قد تكون ملازمة لطبعه، لكنه يفتقر لتفسير عميق لها، برأي هذا سوف يتضح فقط عندما يجعلك الأدب و الفن تقف على جانب، و تقدر الحياة بكل مشاعرك و غرائزك و حدسك . أحسب أن واحد من أهم أدوار الفن في حياتنا هو ان يصور أعماقنا و كل ما هو دفين بداخلها.

 

– إلينا: و ربما أنت نجحت أخيرا في الاقتراب أكثر من نفسك و معرفتها على نحو أكبر عن طريق التعبير عنها – قد يكون هذا الشيء الذي قلت لا تعرفه كان مصدره اللاوعي و بشكل لا غريزي – لكنك تمكنت لاحقا من معرفته.

 

– ماريو فارغاس يوسا: أحيانا تتفاجئ و أحيانا أخرى تتوجس خيفة. لا أتوقف عن طرح أسئلة من قبيل، هل هذا كله متواري بداخلي؟ هل حقا لدي كل هذا مخبئ هناك؟ من أين يأتي كل هذا؟ بالتاكيد “هذا يأتي من مكان ما في دخلي”. الأعمال الفنية تعد سير حياتية للكاتب لكنها مدسوسة على نحو مبعثر و غاية في السرية، و ربما الأعمال الأدبية أكثر من الأشكال الأخرى لأنها أكثر وضوحاً و أكثرها صراحة، و لأنها لا تشمل أسلوب الرمزية كالموسيقى مثلاً، رغم أنها هي الأخرى تتضمن سيّرا لكن على نحو أكثر تجرداً. الأدب لا يصل حد التجرد، بل مباشر و ملموس. إنه الصورة المقطعية لدخلة الإنسان، لطبيعة الإنسان و شرطيته؛ الواحد قد يتوجس خيفة من المسوخ التي تبرز من داخله، لكنها ليس إلا مسهّل، و أنت متحرر منهم في الوقت ذاته. 

 

– إلينا: إن ذلك لأسلوب صحي جداً للعيش. لكن كإنسان لاأدري، من اين تستمد القيم الروحية التي يجدها المتديين في الأديان؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: أعتقد أنني أستمدها في الثقافة و الفن و الأدب، هنالك نوع من القيم الروحية تتمظهر في هذه الأشياء، إنها ذاك الشيء الذي ينتزع منك اليقين بوجود ذلك البعد الروحي الذي لا يجده البعض إلا في الدين. أعتقد ان اللاادري ليس من الضروري أن يكون إنساناً مادياً إلى أبعد الحدود. يمكنك أن تعيش حياة روحية بشدة إما من خلال الفن، او الثقافة أو حتى من خلال الاعتقاد بالعلمانية حتى. كل لاأدري يكون لديه قلق ما، حينما يواجه تلك الفكرة الجائرة قولاً ” حسنا، هذا كل ما هنالك، عندما تنتهي الحياة، ينتهي كل شيء آخر”. تصبح الأمور بعدها مفاجئة و أكثر غرابة، كأن تلتمع فكرة الإله، و فكرة وجود حياة بعد الموت. إن التعول كليا على العقل وحده لتفكير في الماوراء أمر صعب، و كذا التفكير في أن هناك بعد آخر …

 

– إلينا: على ذكر فكرة الموت، كيف يمكن للأدب يحارب أفكار الموت؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: إن قوة الأدب تكمن في أنه يسمح لنا بأن نحيا حيوات عديدة، و هذه واحدة من أعظم ميزاته .. إذ ينتشلنا من واقعنا و يجعلنا ندخل إلى عوالم رائعة، نعيش حيوات غنية بكل ما هو مثير، ونغوص مغامرات في عوالم غير عالمنا، و نحن نتقمص شخصيات كثيرة، نختبر نفسيات مختلفة و عقليات متباينة .. إنه إغناء مذهل للحياة. إلا أن الأدب في الوقت ذاته ليس شيك ضمان على السعادة؛ بل العكس ما يحدث أحياناً، بطريقة ما، فهو يحولك إلى شخص حزين لأن من خلاله تفهم أن هناك حيوات أغنى من حياتك. فأنت تصبح واعيا بحقيقة أنك قليل الأهمية ..

 

– إلينا: أنت تحتفظ بكثير من ذكريات الطفولة. هل الطفولة بالنسبة لك شيء متذكر التفصيل أم هي مجرد استعاد لأحداث متقطعة نعيد تركيبها بالخيال؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: حسنا، أعتقد أن المرء يتذكر إذا كان هنالك ذاع ما لذلك، لأن الذاكرة خداعة جدا، و انتقائية جدا. ذاكرتنا تمحي و تضيف أشياءا كثيرة، لأن ذلك يساعدنا على العيش. لا أعتقد أن الذاكرة موضوعية تماما لنعتمد عليها، رغم انها مخلصت لنا إذ تعلق الأمر بمسألة مطابقتنا لذواتنا، لأن حتى التحويلات و التعديلات التي تُحدثها النوستالجيا و الخيال هي أيضاً صورة لمن نكون، لما نحن مفتقرين إليه، لما نود أن نملكه و لكنه في الواقع ليس بحوزتنا، هذا التمرين الذي توفره الذاكرة هو شيء أساسي على الأقل بالنسبة للكاتب. في الواقع الأمر فرويد قال أن السنوات التي يمكن ان تتأسس عليها شخصية الفرد هي كل من مرحلتي الطفولة و المراهقة.

 

– إلينا: ماذا يعني الحب في حياتك؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: الحب كذلك شبيه بالأدب، فهو يغني الحياة بشكل مذهل. أما كيف يحدث ذلك فهو أمر يصعب وصفه. الحب هو الشيء الذي يعاش ويمارس و باب الخصوصية مغلق .. هو تلك العلاقة التي يكتنفها الكثير من الإجهاد – ربما هي أهم علاقة نشأة بين الكائنات البشرية – فهي في حاجة إلى حميمية كبيرة، و في الآن ذاته تحتاج إلى نوع من الكتمان كي تكون مصونة، لأنها ما إن تصبح علانية، حتى تنحط، و تصير مبتذلة، أليس كذلك؟ لكنها أهم تجربة يمكن للمرء اختبارها، كل شيء يكون مختلفا عندما تعيش شغفا كبيراً: الأشياء تبدو أفضل مما كانت، كل شيء يكون جميلاً، و أنت نفسك تواجه الحياة بفتائل، فقط الحب هو ما يمكنك من ذلك. إنها تجربة ضرورية و مفعمة، و لكن في الآن ذاته، هي بالتأكيد مصدر عناء كبير. لأن المأساة تأتي من الحب أيضاً، من تجارب حب حزينة. لأن النزوع الى الرومانتكية هي في الغالب ما تكون نتاج علاقة هي بدورها صدامٌ مع الواقع. ومع ذلك كله، لا أظن أن هناك أحد يرغب في الاستغناء عن الحب. رغم كوننا نعي أن للحب نتائج مفجعة – و أحيانا مريعة -. لكن لا أحد مستعد تمام الإستعداد للاستغناء عنه. لأنه إن تخابر تلك التجربة، تكون قد مررت من أم التجارب، أغناها و أكثرها إجهاداً و أهمها على الطلاق.

 

– إلينا: ما معنى الحب في سنك ؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: لا أعتقد أن للسن صلة تأثير كبير على الحب. حسناً، رغم أن حب شخص صغير يكون مغرق في المثالية، و أكثر طهرانية و براءة. فيما حب الشخص الناضج هو بطبيعة الحال ناجم عن الكثير من التجارب المتراكمة، التي عاشها بحكمة و معرفة أفضل للواقع. لكن بعيداً عن تلك الفروقات كلها، أظن أن الإبتهاج بالنفس و الفرح و الشعور بالتفائل في الحياة هي ذاتها الأشياء التي تحصل عليها من الحب عندما تكون يافعاً.

 

– إلينا: لنتحدث عن كتابك “civilization of spectacle” هل تعتقد ان الثقافة الرفيعة لم تعد تتوق لتغير العالم؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: حسنا، ما أظنه هو أن الثقافة الرفيعة قد أخذت بالتلاشي. و هذا في رأي إنذار بمأساةٍ قادمة – و هذا من الأسباب التي دفعتني إلى كتابة ذلك المقال المطوّل – إنما الثقافة الرفيعة هي بالتالي نخبوية طبعاً. إنها شيء مخصص للأقلية، و من السذاجة بمكان الإعتقاد أن هذا النوع من الثقافة في متناول الجميع. لأنه ليس لدى الجميع الاهتمام و الفضول و الصبر و الانضباط الذي تتطلبه الثقافة الرفيعة.

من جهة أخرى، فأن فكرة كون الثقافة التي يصل إليها الجميع هي جيدة. من ذا الذي يمكنه رفض ذلك؟ غير أن في الآن ذاته، إن كان هذا يعني ( ومن سوء الحظ أن الأمر في وقتنا هذا يسير في هذا النحو ) أن تلك الثقافة من أجل أن تكون في متناول الكل، يجب أن تصبح سخيفة المضامين، و مفتقرة لكل ما هو جدير بالمعرفة، وتستحيل مجرد تمضية للوقت، أي شكل من أشكال التسلية لا غير، عندها تكون النتيجة سلبية بوضوح. أعتقد أن هذا أكبر عيوب التعليم في أيامنا هاته، هي أنه لا يعطي الثقافة الرفيعة الأهمية بقدر ما ينظر إليها بازدراء. إن فن الإبداع او التفكير يتطلب النظر إلى الماضي، لأن الحاضر يرسم مشهداً قاحل في هذا الصدد..

 

– إلينا: ما الدور الذي تظنه منوطاً بالمثقفين في الحياة السياسية الحالية؟

 

– ماريو فارغاس يوسا: انظري، أنا انتمي لجيلٍ تأثر بشدة بأفكار التيّار الوجودي الذي كان سائداً وقتها، رغم انني استطعت التخلص من سطوة فكر جان بول سارتر و لي أراء نقدية في أعماله، إلا أن فكرته حيال التزام الكاتب أو المثقف لزمانه و واقعه و مجتمعه أجدها صحيحة ومنطقية تماماً، إذ لا يمكن للمرء أن يكتب أو أن يرسم أو يؤلّف معزوفة موسيقية مستغنياً عن كل مشاكل العالم الذي يعيش فيه، إنه أمر ملح – خاصة إذا كان يؤمن بالديموقراطية – أن يشارك الجميع في إيجاد الحلول للمشاكل، و توفير إجابات لأسئلة يطرحها المجتمع لأجل إيجاد نظام يمكن للمرء التعايش فيه في سلم مع الآخرين، متقبّلاً إخلافاتهم ورغائبهم .. و علاوة على ذلك، فهذا أساسي، أعتقد أن الأدب و الفن الحقيقيان عليهما أن يتطرقا لهذا الأمر. إن معضلة حاضرنا هذا هي أن الصورة اكتست أهمية أكثر من الأفكار. إن التكنولوجيا الهادفة لا تكفي و و حضور الأفكار في النقاشات الاجتماعية مهم جدا لنفهم مشاكل الإنسان. لكن ما حدث في عصرنا هذا هو أنها أُبعدت و استبدلت بالشاشات و الصور.

 

– إلينا: لأنها تحتاج لمجهود أقل.

 

– ماريو فارغاس يوسا: صحيح أنها تحتاج لمجهود أقل، إلا أني اظن ان الأمر لا يجب ان يكون على هذا النحو، إطلاقا. ليس هنالك قانون تاريخي يقود المجتمع إلى ذلك الاتجاه الذي نسير فيه. رغم ما للتكنولوجيا من أهمية – و هذا أمر لا ريب فيه – إلا اني أظن أنه أمر ضروري ان تستمر الأفكار في لعب دور الريادة في حياة المجتمعات، هذا ما لم تكون نشأ أن نصبح مجتمعاً من الروبوتات. لابد لي أن أشير هنا مرة إلى أرويل، الذي كان متبصرا حيت تخيل العالم أصبح تحت السيطرة التامة لتكنولوجيا، فصار عالم استبدادي. كجمهورية أفلاطون، ألا تعتقدين ذلك؟

المصدر