مجلة حكمة
لورنس الأدب الفلسفة

الأدب مقابل الفلسفة – جولييت فييل / ترجمة: نادية المطيري، مراجعة: وليم العوطة


يشهد هجوم لورنس المتكرّر على سقراط وأفلاطون على نيته للعودة  إلى النزاع  القديم بين الكتّاب والفلاسفة. عندما صمم افلاطون مدينته الفاضلة نفى الشعراء خارج أسوارها. فالهدف من الحياة بالنسبة له هو السعي خلف الجوهر المثالي للأشياء، وإنّ جميع الأشياء الملموسة هي تقليد ناقص لهذا الجوهر.ونظرا لهذا النقص في كل ما هو ملموس فقد يُتهم الأدب بأنه يبعدنا أكثر عن الحقيقة المثالية، إذ ما يقدمه هو مجرد تقليد للتقليد، ونضيف أنّه يثير العاطفة ويسجن الإنسان في وظائفه الجسدية بدلا من الارتقاء به نحو التجريد والمنطق. منذ عهد افلاطون وما بعده والحضارة الغربية تؤيّد سيادة العقل التامة على كل شيء يعزى إلى الجسد مثل الحواس والانفعال و العاطفة. وكما نعلم جميعًا، يستنكر لورنس الفصل بين الجسد والعقل وما لحقه من تسلسل هرمي للمنطق على  العواطف. فجميع أعماله الفنية يمكن اعتبارها محاوله لقلب بناء هذا الهرم. عندما كتب” لاتثق في الفنان بل ثق في الحكاية”( دراسة في الأدب الأمريكي الكلاسيكي 14)  كان يشير إلى أن الأدب يقول أكثر بكثير مما يدركه الفنان، وأنّ الرواية قد تقترب من الحقيقة أكثر من الفكرة المحضة .وذهب إلى أبعد من ذلك مضيفاً: “عندما يضع الروائي إبهامه في الميزان  ليميل به نحو نزعاته فهذا هو الفساد” (  فينيكس1 528). ويوضّح أن رأي الشخص الواحد هو طريقة للابتعاد عن الحقيقة لأنه اختيار لواحدٍ دون البقية ما يعني نقصانًا أكثر لجوهر الحياة الأساسي والمتنوع . يرى لورنس أنّ الأدب يتفوق على الفلسفة بإثارته للعاطفة فيصل لشيء يعجز المنطق عن الوصول إليه. وعلى الرغم من ذلك، يدّعي لورنس أن كتاباته أنشأت  فلسفهً ما (رسائل 307:2).

 وفي حين أنّه يهاجم الفلسفة فهو يكتب فلسفته الخاصة. ولحلّ هذا التناقض الواضح  لا بدّ من الإجابة عن هذا السؤال الأساسي : ما الفرق بين الفلسفة التي يعارضها لورنس بقوة والفلسفة التي تقدمها كتاباته كما يدّعي؟ بما أنّه اعتبر المنطق يضرّ بثراء الحياة العاطفية، الحياة العاطفية التي قدمها على كل شيء، فما هي طبيعة هذه “الفلسفة” التي تشمل الجسد والعواطف في نطاقها؟ هذه الورقة ستحدد واقعًا مفاده أنّ، لو انتقد لورنس الفلسفة، فهو لم يقصِ العقل بحد ذاته. لم يكن لورنس غير عقلاني ولم يشجع على إقصاء المنطق.هو ببساطة حَلِمَ بفلسفة تستطيع استيعاب العاطفة، بشكلٍ تكون أكثر من كونها فلسفة بمعناها الضيق للّفظ و أكثر من المنطق الميكانيكي. في رواية نساء عاشقات هيرميون وبيركين يناقشان موضوع تعليم الأطفال، الأمر الذي يسمح للورنس أن يميّز بين طريقتي التفكير:

“لكن هل تعتقد أن [الأطفال] يكونون أفضل إذا استثير [إدراكهم] مبكرًا؟ أليس من الأفضل أن يبقوا غير مدركين ؟أليس من الأفضل أن يروا الأمر ككلّ، بدون تفكيك الأجزاء الصغيرة لكلّ هذه المعرفة؟” (نساء عاشقات40)

ها هو يقارن بين نوعين من الاستيعاب :الواعي و اللاواعي: فهذا يحفظ  كلية الأشياء، بينما ذاك يفككها. تُذْكَر الطبيعة التحليلية للاستيعاب الفكري مره أخرى في سياق الرواية:

“أنا حقا لا أريد أن يُزجّ بي في كل هذا النقد والتحليل للحياة. حقيقةً، أنا أريد أن أرى الأشياء بتمامها، وجمالها يترك لها، أريد أن أرى كلّيتها وقدسيتها الطبيعية- ألا تشعرين بذلك؟ ألا تشعرين أنّك لا  تستطيعين أن تتعذبي بمزيد من المعرفة؟ قالت هيرميون […] يبدو أنها [أي المعرفة] تدمر كل شيء. كل الجمال، وكلّ هذه القدسية الحقيقية، وأشعر أنني لا استطيع العيش من دونهما”.

” وسيكون ببساطة من الخطأ العيش من دونهما” صرخت  أرسولا، “لا، سيكون من الرعونة الاعتقاد أنّ كل شي لابد أن يُدْرَك بالعقل، هناك أمور يجب أن نتركها للرب” (نساء عاشقات141-42)

هنا، يتلاعب لورنس متعمدًا بالتشابه بين “الكلية” و”القدسية” كأنما أراد أن يؤكد لنا  لكي نفهم ظاهرة عضوية يحتاج المرء أن يتبنى موقف شموليًا. بالنسبة له، يجب البحث عن الحقيقة في النواة الحية والعضوية للأشياء، نواة يجب أن تبقى متكاملة لتكون حيوية.  طبيعة التفكير المنطقي حين يفككّ الأشياء تبدو مميتة. يرى لورنس أنّ العلم يدرس الأشياء الباردة والجامدة لذا يلجأ لاستخدام الاستعارات الميكانيكية لكي يستحثّ التأثير المتحجر للعقل. في رواية “الرجل الأعمى” تُستعرض سمة أخرى للمقارنة بين هذين النوعين من الاستيعاب . موقفان متعارضان، واحدٌ يجسّده بيرترام ريد وهو “رجل اسكتلندي من النوع الذكي، السريع ، الساخر و الرقيق”. والآخر يجسّده موريس بيرفين وهو “رجل انفعالي،حساس، قد يكون حساس جدا، وفزِع”. بالنسبة لموريس، الرجل الأعمى، العالم “[كله] ثري وحقيقي ولا يرى.”( قصص مجموعة  2:347). على الرغم من كونه بطيءَ الفهم غير إنّ مشاعره سريعةٌ وحادة. بيرترام عكسه تمامًا حاضر البديهة، لكن يتملّكه خوف غير مبرر عند الاتصال المباشر مع الآخرين. هذا الانقسام يضع الشعور في مواجهة الكلام، واللمس مقابل النظر. الرجل الأعمى يفكر بجسده، فالكاتب يستخدم مصطلحات مثل ” فطن، حذر، اتصال قوي لقدميه مع الأرض … سيقان قوية “. يبدو الذكاء الفكري مرتبطًا بالرؤية، حيث تتضمن المسافة، بينما الذكاء العاطفي عبارة عن أحاسيس، و لمس، و تلامس، فهو غير مرئي، و بديهي، وفوق كل ذلك، يذيب المسافات التي عادة تبعد الأفراد عن بعضهم. عندما لمس موريس وجه بيرترام، لم يستطع الرجل أن يخفي اشمئزازه من اليد “العارية”، فقد أحسّ بالخطر عند ملامستها؛ بينما موريس يشعر انه غُمِرَ بالحب والفرح لخلقه رابطًا حميميًا مع أخيه الإنسان. وُصف بيرتي إنّه “حيوان رخوي كُسِرَت صدفته” (365)، فالقصة على ما يبدو توضّح كيف أن المعرفة الفكرية تعزل الأنا داخل نفسها وتحبسها داخل غلاف من الصلابة الظاهرة بينما الاستيعاب العاطفي يخلقُ تواصلًا وقوة مبنية على صلة عضوية. المعرفة الفكرية مرتبطة بما هو مرئي، وتتضمّن مسافة؛ لكنّ المسافة تميل لتبديل الأشياء وجعلها تبدو أصغر.

وعندما قامت اورسولا بوصف منحوتات جوردون، قالت:

“أليس غريبًا أنها دائما تحب الأشياء الصغيرة ؟ – فهي طوال الوقت تنحت الأشياء الصغيرة التي يستطيع الشخص أن يضعها في يده، من طيور وحيوانات صغيرة. فهي تحبَ أن تنظر من خلال الجهة المقلوبة لنظارات الأوبرا، وترى العالم بهذا الشكل” .( نساء عاشقات39)

حقيقة أن جوردون ترفض نحت الأشكال البشرية تدل أنها تعتبرهم حيوانات مضحكة. كما أنها تحوّل الأفراد لنسخٍ تافهةٍ من أنفسهم. هي تحتفظ بخصوصيتها؛ وبطبيعتها الذكية اليقظة و الساخرة تلتقط بلمحةٍ السمةَ الظاهرة في الفرد. اورسولا تدرك بديهياً وجود ما هو شرير في الطريقة التي تصغًر فيها جوردون الأشخاص. فهي تبيّن إرادتها في التحكم في مخلوقات حية بوضعها باليد وقد تختنق كطيور صغيرة عندما تحكم القبضة عليها.

 تميل المعرفة الفكرية إلى تبني موقفٍ متباعدٍ ومتغطرسٍ وساخرٍ من الحياة. هنا لورنس يشاطر ديكارت وجهة النظر حين يقول إنّ المحتوى الفلسفي يُصنع من خلال تبني زاوية بعيدة ونقطه عالية المكانة مستخدما كلمة dominer  التي تعني النظر من الأعلى، كما تعني الإخضاع. وعلى العكس تمامًا، كما يُظْهِر مثال الرجل الأعمى، المعرفة العاطفية تعني المشاركة، فهي تلزِم الفاعل بالتواصل مع المفعول مثيرة تغيرًا ديناميكيًا في الاثنين. فحين يكون  الاستيعاب الفكري عبارة عن مسافة وسيطرة، يكون الاستيعاب العاطفي تواصلًا و تفاعلًا وتبادلًا. أحدهما ينحني بينما الآخر منفتح للتغيّر. أحدهما يَسْجن والأخر يُحَرّر. حين تقول اورسولا لبَركين “اجعله حصانًا غامقاً لمرة ” ( نساء عاشقات 131) فهي تعزز لأخلاقيات تخلي الفرد عن إرادة السيطرة، فتقدم وجهة نظر لا تفرض فكرة مسبقة عن العالم، بل تعريفًا واضحًا للأشياء التي تقتلهم في نهاية الأمر. هي تتبنى موقف احترام نحو الآخر المجهول بقبول تام وتخلٍ عن الذات. نفس الأخلاقيات يؤيّدها لورنس في ” أن تكون رجلا” حين يسميها “الفكر-المغامرة”، القفزة نحو المجهول.

متحديًا شعار سقراط ، كتب لورنس:

أن تعرف نفسك يعني أنّك أخيرًا لا تستطيع معرفة نفسك. أنا لا أستطيع أن اعرف آدم الأرض-الحمراء الذي هو أنا. نفسي ستقوم دائمًا بما سيتجاوز معرفتي. ولا أستطيع أن اعرف حواء المنصتة للثعبان التي هي المرأة […]  يجب أن نتقابل كما أقابل نمرًا بين الأشجار في الجبال وأتقدم وألمس وأجازف […] جازف […] طوال الوقت، أن تجازف بنفسك المعهودة وأن تصبح مرة أخرى ذاتاً لم تكن لتعرفها أو تتوقعها.

يستنكر لورنس الفلسفة لتعزيزها موقف السيطرة الخانق الذي يقود إلى عزلِ الأفراد داخل غلاف صلب من آراء مسبقة وأشكال مثالية. فيحثنا على أن نعترف بحدود الاستيعاب الواعي وأن نجازف بالتواصل مع “آخرية” كل فرد، نواة الظلام هذه صعبة الاختزال لا يستطيع المنطق اختراقها.

عمومًا سيكون من الخطأ أن نستنتج مما سبق أن لورنس احتقر كل أشكال المقاربات الفكرية؛ فحين هاجم سقراط في روايته “عشيق السيدة تشاتيرلي” من خلال مناقشات الأصدقاء، احتقر لورنس الحياة الذهنية التي تكون مستقلة عن العقلانية:

المعرفة الحقيقية تأتي من جسد الوعي المتكامل: من بطنك، من قضيبك، تمامًا كما تأتي من  عقلك وذهنك .العقل يستطيع فقط أن يحلل ويعقلن. جهّز العقل والمنطق ونصبهما فوق البقية وكل ما يستطيعون فعله هو الانتقاد الجمود. (عشيق السيدة تشاتيرلي37)

الحياة الذهنية مرض؛ وهي تحدث حين يقرر العقل أن يكون النهاية الحصرية لكل تفكير. هذا المقطع يمكن مقارنته مع ” مولد التراجيديا ” حيث انتقد نيتشه سقراط لساهلاله عصر المنطق المستبد. وكما هو الحال لدى جميع الرجال المنتجين، الغريزة قوّة الإبداع والتوكيد الحقيقية، والوعي يعمل كردة فعل تحذيرية نقدية. لدى سقراط، تصبح الغريزة الناقد، والوعي هو المبدع- وهذه حقًا قباحات مختلّة per defectum [ من لدن الاختلال]!( نيتشه§ 13)

يتفق لورنس مع نيتشه على حقيقة أن للقبيح تسلسل هرمي غير منظم من قدرات الجسد العليا والدنيا:

نفهم المثالية بكونها تحفيزًا للمصادر الوجدانية العظيمة بوساطةِ أفكارٍ ناجمة عن الذهن. مثلاً، ارتكاب المحارم الذي هو أولاً وقبل كل شيء استدلال منطقي قام به العقل البشري، حتى ولو تولّد بشكلٍ لاوعٍ، ومن ثمّ اُدخِلَ إلى الإطار العاطفي الوجداني حيث يستمر الآن ليكون بمثابة مبدأ فعلٍ.

كلّ التفكير يأتي من الجسم، الجزء السفلي للجسم يمثل اللاوعي والإبداع، بينما الجزء العلوي ذهنيّ و واعٍ وناقد أيضًا. عند الرجل المعافى يمارس جسده السفلي دورًا إثباتيًا، بينما العقل دوره استجابي. يسمي لورنس هذا التوازن بين الاثباتية والاستجابية “حقيقة السلام”. في أعمال نيتشه، أرجعها إلى الاقتران بين ديونيسوس وابوللو. ابوللو هو إله الأشكال، الأشكال التي تجلب الاعتدال والتناغم للنزوات المضطرمة في أهواء ديونيسوس العفوية. إنها الاقتران الخلاق بين الحركة والشكل، بين العنف والاعتدال. في المقابل، استبداد المنطق هو الاقتران بين ديونيسوس وسقراط ، وهو ما يقتل، في نهاية المطاف، روح التراجيديا أي الإبداع. لذا لا ينتقد لورنس كثيرًا استخدام  الشخص لعقله لكن إحلاله المبدأ الذهني محلّ مبدأ الإبداع والتلقائية. أولا يجب أن تأتي الروح، الإرادة الابداعية اللاواعية للحياة، بينما يجب على الجزء الواعي من الإنسان أن يلعب دورًا تابعًا:

إنّ عملية المثلنة idealization، الوعي الذهني، هي عملية فرعية […].النشاط الذهني، التفكّر النهائي، الافتكار ideation هي ما يتم تجهيزها فقط في مرحله ثانوية بعد التفاعل الكامل والتواصل البيني للمراكز الوجدانية الأولية، والتي تظلّ دائمًا هي عقولنا الأولى الديناميكية. (فينيكس1 620)

استخدم لورنس صورةً تقارن العقل بإلهٍ داخل آلة، وهي مأخوذة من كتاب ديكارت “تأملات ميتافيزيقية” وتشير إلى سيادة الفكرة المنطقية على العاطفة كما في الفلسفة الغربية التقليدية. .يؤمن ديكارت أن المحرّك هو العقل والجسد مجرّد آله مطيعة. وكمفكر بعد-نيتشويّ، شدّد لورنس على العكس تمصمًا، حيث أنّ الدافع الحيوي يأتي من الجسد بينما المبدأ الميكانيكي يتولد من العقل. وكما لو أنه يردّ على ديكارت، صنع شخصية هيرميون روديس Hermione Roddice. يوضح وَصفَهُ لجسمها لاتنسابًا بين أجزاء جسمها العلوية والسفلية: “قبعة مسطحة ضخمة” تقف فوق “ثبات مميز للوركين”( نساء عاشقات15) .في المقابل، الرجل الأعمى لديه “عضلات ساقين” قوية و”أكتاف مائلة” ( قصص مجموعة 2:354.). وبما أنّ هيرميون عكست الوظائف العلوية والسفلية للجسد فقد اعتمدت فقط على عقلها لتثير إرادة الحياة فيها و كنتيجة:

هشّة، شعرت دائمًا إنّها هشّة. واهنة النفس. لم تكن تعرف ما هي عليه. وكانت تفتقرُ لذاتٍ صلبةٍ، ولا قدرة طبيعة بحوذتها. لفّها شعور بالفراغ الرهيب، بالنقص والعجز في الكينونة بداخلها.(نساء عاشقات 16)

لا يمكن لخلاصةِ الحياة أن تتأتّى عن العقل، فمصادرها تقع في الأجزاء السفلية من الجسم الذي أطلق عليها لورنس تسمية “المراكز العاطفية”. ولكي يوضح وجهة نظره بشكل عملي، يطرح لورنس طريقة تعليم جديدة بهدف تطوير الذكاء العاطفي. أولاً، يرى أنه لا بد من إبعاد الأطفال عن أيّ نوع من التعليم الذهني لأنه يجعلهم واعين لأنفسهم بشكل مبكرٍ جدًا. وبعيدًا عن )الكتابة والقراءة والرياضيات) يجب على التعليم أن يشدد على التدريب البدني والحرف. إثارة المراكز العاطفية في الأطفال من خلال الأنشطة الحركية والتواصل غير اللفظي سيجعلهم أقوياء وأصحاء؛ بل هو يوصي بضرب الأطفال عند الضرورة كعقاب لان الضرب بالنسبة له يثير، من خلال الاتصال المباشر، لمراكز الإرادية الواقعة في نهاية الظهر. في الواقع، وبحسب نظريته فالجزء الخلفي من الجسم يحوي مراكز نشطة تنتج دوافعَ تحفز كل شخص لتأكيد فرديته. وهو يؤمن بأنّ طريقته ستساعد على تعزيز طاقات الأطفال الغريزية بدلا من خنقهم بالأوامر العقلية. ويجادل لورنس بأنّ التعليم الحالي يطوّر الفكر المنطقي مما يضر بالقدرات الأخرى، وهكذا يولّد الانحراف، والعواطف الحقيقية تستبدل بأخرى مزيفة، بلا تلقائية ومدفوعة فقط بجهد من الإرادة. يسمّي ذلك الانحراف “الإحساسية” sentimentality. يجب أن يُعْطَى التعليم الفكري في مرحلة ثانية حين يكون الأطفال أقوياء عاطفيًا، وقد ترسخّت أسس إبداعيتهم. وكما يقول:  “الشخصية والعقل مثل الشوارب تظهر في سن معين” (فينيكس 1 620 ).

          قول  لورنس السابق لا يعني إن على الشخص أن يعتمد كليًا على الغريزة والعواطف، فقد يتحول الأمر لنوع من الانحدار الهمجي إلى حالة الحيوان. انابيل اللاعب في رواية “الطاووس الأبيض” جعل أطفاله يعيشون في حاله شنيعة من الهمجية. فهم يزدادون بفوضوية كالأرانب فتتدمر الحقول، ويرحل المزارعون واحدًا تلو الآخر، جالبين الفوضى والبؤس للريف. ولأنه جرّب في الماضي علاقة مخيبة للآمال مع السيدة كريستبال، وهي سيدة عقلانية جدا، فتجاوب الرجل بأن وقع في النقيض المفرط، أي إلى مستوى ما دون البشر [تحت- بشرية subhuman] . موت انابيل  يبدو أنه يقول أن العودة إلى الحالة الحيوانية، الحالة التي تسبق انفصال النفس البشرية إلى واعية وغير واعية قد تقود إلى الهلاك. فمن المستحيل أن تكون غير واع مرة أخرى بعدما استيقظ الوعي . ينتقد بيركين هيرميون لادعائها العكس:

“أنتِ تختلقين الكلمات فقط” قال لها ” لمعرفة تعني لكِ كل شي. حتى حيوانيتك تريدينها في عقلك . لاتريدين أن تكوني حيواناً، تريدين أن تتأملي وظائفك الحيوانية لتحصلي على الإثارة العقلية منها. انه أمرٌ ثانوي تماما-وأكثر انحطاطاً من أكثر الآراء الضيقة الأفق في المذهب العقلاني”(نساء عاشقات 41)

          يبدي لورنس إعجابه بالحيوانات والشعوب البدائية، ويسعى خلف سر الحياة العاطفية فيهم لأنه اعتقد انّ لديهم ما يفتقده المتحضّرون. لكن بدلاً من المنافحة عن رجعيةٍ بسيطة، أراد للإنسانية أن ترتقي بنفسها من وضعها الحالي متجاوزةً ثقافتها وتعقليّتها intellectualism .لاحظ رد بيركين على هيرميون:

  • “أليس هو العقل؟” قالت ذلك، مع حركات تشنجية بجسدها “أليس هو موتنا؟ ألا يدمر كل تلقائيتنا وغرائزنا؟ ألا يكبر الشباب هذه الأيام كأنهم أموات قبل أن يحصلوا على فرصة للحياة؟

  • ” ليس لأنهم أذكياء جدًا بل بالعكس “ قالها بكل وحشيه. (نساء عاشقات 41)

ومثل العديد من معاصريه ممن قرؤوا لنيتشه، لورنس كان منبهرًا بمفهوم الإنسان الفائق Superman. هذا الانسان الفائق، الماهر فكريًا، لكن المتطور عاطفياً الذي يستطيع أن يصالح بين روح ديونسيس وابولو. يوضّح كتاب نيتشه ” ولادة التراجيديا” أن سقراط  أدرك أخيرًا عندما اقترب موته، أن انجذابه للموسيقى، علّمه شيئا أكثر حكمةً مما علّمه الاستيعاب المنطقي، كما لو أن الفيلسوف اعترف أخيراً أن الفلسفة تقتضي أن يتجاوزها الفن. أناسُ لورنس الفائقون، الذين يجمعون الاستيعاب العاطفي والعقلي وُصفوا بأنهم “المتفوّهون العظماء”. وهم يجسدون انجاز المجتمع العظيم، ويمثلون طاقةً أصبحت واعية بنفسها من خلال عمليات طويلة لروحنة الغرائز.

طوال فترات حياتها، تستمر البشرية صعودًا، عبر مناطق التعبير عن الحياة والوعي الوجداني، صعوداً  لتصل إلى المتفوّه الأعلى، أو إلى المتفوّهين الأعلين (فينيكس1 609)

هذه العملية المبدعة تحدث فقط إذا منح أساس البشرية “السر الهائل لنيران الإبداع” إلى هؤلاء المتفوهين، الشعراء. يجب على الوعي أن يبنى على عاطفة قوية، وعلى الذكاء أن يتأتّى عن حكمة الحياة، لأن أعلى ميزة تكمن في أن نفهم العيش، وهذا أول ما يجب أن يتعلمه الإنسان.

لكن كيف لك أن تتفوه بالحقيقة دون الوقوع في فخ المعرفة المنطقية التي تجزأ وتغلف الأشياء في صدفه الأفكار فتحجّرها؟ تنوّرنا هذه المحادثة بين اورسولا وهيرميون:

[بيركين] هو حقًا مثل صبي يرغب في تفكيك كل شي كي يعرف كيف صُنِع. انا لا استطيع التفكير بأنه أمر صحيح- يبدو انها الرعونة كما تقولين”.

“كما لو انك تفتح البرعم عنوةً كي ترى كيف سيكون شكل الوردة” قالت اورسولا (نساء عاشقات 142)

اذا نزعت بتلات الزهرة لن تجد إلا العدم. جوهر المخلوقات الحية يوجد في طبقات الوهم. يعارض لورنس فكرة أن الحقيقة توجد خلف المظاهر. هو لا يعتقد أنك إذا أزلت غطاء الوهم ستصل للحقيقة العارية. الحقيقة هي مظهر بكل ثناياها وسمكها. جلد الأشياء هي حقيقتها. الحقيقة عضوية وكلية وأيضا حسية. ليس هناك من حقيقة غير التي تشعر بها الحواس، لذا الفنان هو وحده من يستطيع أن يقترب من الواقع الحي، ولن ينتهكه لأنه سّيد الأوهام ويعرض أكاذيب جميلة.

عندما تجادل اوسولا ولويرك حول منحوتة الحصان، يعارض لورنس المقاربتين:

“أنت تعلم” قال [لويرك] […]،   الحصان هو شكل محدد، جزء من شكل متكامل. جزء من عمل فني، قطعة من الشكل . هو ليس صورة لحصان لطيف تعطيه قطعة سكر. ترى انه جزء من عمل فني، لا علاقة له بأي شي خارج هذا العمل الفني” […]

” ماذا تعني بأنه صورة لحصان؟” [صرخت اورسولا ]

“ماذا تعني بحصان؟ هل تعني فكره موجودة في رأسك، توّد رؤيتها مصورة  […] انه افتراء من تأليفك. […] اعرف أنها فكرته، اعرف أنها صورة لنفسه, حقاً” قالها لويرك بغضب.

“صورة لنفسي!” ردد بسخرية “تعلمين يا سيدتي هذا عمل فني، عمل فني. إنه عمل فني  إنها صورة للاشيء […] . لاعلاقة لها إلا بنفسها، لاعلاقة لها بالعالم اليومي، لهذا وذاك […] إنهما مستويان مختلفان و متميزان للوجود […]” (نساء عاشقات 430)

طبقا للويرك على الفن أن يمثل المثال eidolon والتي تعني الشكل في اليونانية. وهو هنا يشير إلى فلسفة افلاطون التي تنص على أن شكل الكائنات هو جوهرها المخفي، القالب الذي يمنح كل فرد قيمته الحقيقية. على المستوى الحسي للوجود الأفراد هم نسخ فاسدة، لذا مهمة الفيلسوف أن يدرك  أفكارهم المثالية. يتولى لويرك دور الفيلسوف الأفلاطوني. اورسولا تستنكر الأمر وتعتبره هراء. الأشكال التي سبقت الوجود والمستويات المثالية المتسامية غير موجودة.هناك عالم واحد فقط، العالم الحسي الذي يضم الكثير من الأفراد الاستثنائيين والجذابين. لويرك بنفسه احتاج أن يستخدم نماذج حتى يتمكن من نحت الحصان والبنت الصغيرة جالسة على ظهره، والنماذج هي لأفراد. الفن يستطيع فقط أن يصوّر كائنات استثنائية تدرك من خلال الحواس والعواطف. في الواقع، لا يبدو لورنس انه ينتقد افلاطون كثيرًا، بل من اساؤوا فهمه، فهو يستنكر التضليل العقلي. الفن الخاضع للأفكار المجردة لا يكسبنا فلسفة، هو يقدم فنًّا يدّعي انه فلسفة وكلاهما فن وفلسفة سيّئان. وفي نص آخر، يضيف الكاتب:

عندما يرسم فان جوخ  دوّار الشمس، فهو يكشف أو يحقّق العلاقة الواضحة بينه كرجل  وبين دوّار الشمس، كدوّار شمسٍ، في تلك اللحظة الخاطفة من الزمن. لوحته لا تمثل دوار الشمس بنفسه. كما أننا قد لا نعرف ماهيّة دوار الشمس. […]. أنها توضيح لعلاقة مثالية في لحظة معينه بين رجلٍ و دوار الشمس. (فينيكس 1 627)

هذا الترابط الذي يحدث بلحظة هو الطريقة الوحيدة لمعرفه الوجود المادي. كلا المشاركان ملتزمان وتغيّرا خلال هذا الترابط. ولأنه فريد، لايمكن تنظيره. اللغة تستطيع تحليله، لكنها تلتقط فقط ما هو مشترك مع علاقات تبادلية أخرى وسينقصها دوماً فرادة تلك اللحظة بالذات. الفنان يجب أن يُلزِم نفسه كما فعل الرجل الأعمى مع بيرترام، أي أن يتخلى عن المسافة ويجازف ويقفز للمجهول. ما سيظهر عنه هو أمر غير متوقع. لاحقًا, حينما ينظر أحدهم ألى الصورة أو يقرأ الرواية، فرد واحد سيقوم بالمقابل بإنشاء علاقة جديدة مجازفًا بروحه.

الفن وحده يعبّر عن الفردية، لذا يستطيع أن يقدم نوعًا من المعرفة غير الملزمة. يقترح لورنس تبديل الفلسفة الفكرية- يقصد المنطقية – التقليدية بفلسفته. فهو يعيد تركيز التفكير على مسألة الأخلاق، ويوضح أن الهدف من الحياة تأكيد تفرّد الشخص، وبهذه الطريقة يتواصل برقّة ولطافةٍ مع الفرد الآخر. هذا النوع من التواصل العاطفي هو فلسفة لأنها معرفة ويمكن أن تكون بمثابة أساس لأخلاقيات جديدة. الأدب هو فلسفة الفريد والخاص. لكن بتأكيده لهذا، يعتمد لورنس على شكل  من الحساسية التي  يكون تدريسها أصعب من العقلانية لأنها تتطلب أن يجازف كل طالب بروحه، أن يتعرّى، بدون أدنى احتمال للغشّ.


بيبليوغرافيا:

أعمال د.ه. لورنس:

Complete Short Stories. 3 vol. Harmondsworth: Penguin books, 1976.

Lady Chatterley’s Lover, Ed. M. Squires, Cambridge: Cambridge University Press, 2002.

The Letters. 12 vol. Ed. G. Zytaruk and J.T. Boulton, Cambridge: Cambridge University Press, 1979-2000.

Phoenix, The Posthumous Papers of D. H. Lawrence. London: Heinemann, 1967.

Phoenix II, Uncollected, Unpublished and Other Prose Works by D. H. Lawrence. Ed. W. Roberts and H. T. Moore. New York: Viking Press, 1976.

Psychoanalysis and the Unconscious, Fantasia of the Unconscious. Ed. B. Steele. Cambridge: Cambridge University Press, 2004.

Studies in Classic American Literature. Ed. E. Greenspan, L. Vasey, and J. Worthen. Cambridge: Cambridge University Press, 2003.

The White Peacock. Ed. A. Robertson, Cambridge: Cambridge University Press, 1983.

Women in Love. Ed. D. Farmer, L. Vasey, and J. Worthen. Cambridge: Cambridge University Press, 1987.


مراجع أخرى:

Descartes, René. Meditations on First Philosophies. Ed. and trans. S. Tweyman. London: Routledge, 1993.

Nietzsche, Friedrich. The Birth of Tragedy and the Genealogy of Morals. Trans. F. Golffing. New York: Doubleday, 1956.


المصدر: Juliette Feyel, « Literature Versus Philosophy », Études Lawrenciennes [En ligne], 42 | 2011, mis en ligne le 21 janvier 2014, consulté le 12 janvier 2021. URL : http://journals.openedition.org/lawrence/118 ; DOI : https://doi.org/10.4000/lawrence.118