مجلة حكمة
لايبنيتس لايبنتز

گوتفريت ڤيلهلم لايبنيتس

الكاتببراندون سي. لوك
ترجمةعلي الحارس
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول سيرة لايبنيتس وفلسفته؛ نص مترجم لد. براندون سي. لوك، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها التعديل من منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


گوتفريت ڤيلهلم لايبنيتس (1646-1716) كان أحد عظماء المفكّرين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويُعرَف بأنّه آخر “عبقري شامل” في التاريخ، إذ قدّم إسهامات عميقة ومهمّة في مجالات الميتافيزيقا، والإپستيمولوجيا، والمنطق، وفلسفة الدين، بالإضافة إلى إنجازاته في الرياضيات، والفيزياء، والجيولوجيا، وفقه القانون، والتاريخ؛ حتّى أنّ ديدرو، الملحد الفرنسي المعروف بالمادّية في القرن الثامن عشر، والذي يقف موقف الضدّ من لايبنيتس في كثير من المسائل، لم يستطع مقاومة التعبير عن شعوره بالرهبة أمام ما أنجزه، فكتب في المدخل المخصّص للايبنيتس في موسوعته: «ربّما لم يسبقه سابق في مقدار ما قرأ، وما درس، وما تأمّل، وما كتب. … وإنّ ما ألّفه حول العالم، والإله، والطبيعة، والنفس يعدّ من أرفع ما جاد به لسان البلاغة. ولو صيغت أفكاره بأسلوب أفلاطون المميّز لما كان هذا الفيلسوف القادم من لايپتسيش ليترك لذلك الفيلسوف الأثيني ذكرًا» (Oeuvres complètes, vol. 7, p. 709)؛ بل إنّ ديدرو وصل إلى حافّة اليأس فيما قاله: «عندما يقارن المرء ما يمتلكه من مهارات بما كان لدى لايبنيتس فإنّ أفكاره تغريه برمي كتبه والتوجّه إلى أيّ ركن مهمل ليموت فيه بصمت» (Oeuvres complètes, vol. 7, p. 678). وبعد هذا الكلام بأكثر من قرن، عبّر گوتلوپ فريگه عن إعجاب مشابه، ولحسن الحظّ لم يرمِ كتبه محبطًا، عندما كتب:

«لقد غرس لايبنيتس في كتاباته قدرًا وفيرًا من بذور الأفكار التي تشير في الواقع إلى رجل في مرتبة فريدة لا يدانيه فيها أحد» (“Boole's logical Calculus and the Concept-script” in Posthumous Writings, p. 9).

ويهدف هذا المدخل في الأساس إلى تقديم سيرة لايبنيتس وتلخيص وتفسير رؤاه في مجالات الميتافيزيقا والإپستيمولوجيا واللاهوت الفلسفي.

جدول المحتويات


1. سيرة لايبنيتس

ولد لايبنيتس في مدينة لايپتسيش (Leipzig) في (1 يوليو 1646)، قبل عامين من نهاية حرب الثلاثين عامًا التي نشرت الخراب في وسط أوروبا. وكانت عائلته تدين بالپروتستانتية وتنتمي إلى النخبة المثقّفة من الجهتين: فوالده (فريدريك لايبنيتس) كان قانونيًا يدرّس الفلسفة الأخلاقية في جامعة لايپتسيش، ووالدته (كاتارينا شمُك) كانت ابنة لأستاذ جامعي يدرّس القانون. ولقد توفّي والده في العام (1652) فتولّى تعليمه والدته وزوج خالته، بل إنّه ذكر في بعض كتاباته بأنّه تولّى تعليم نفسه بنفسه؛ ففي سنّ مبكّرة سُمِح له بالاستفادة من مكتبة والده الواسعة، فانكبّ على المطالعة واستهوته خصوصًا كتب التاريخ القديم وآباء الكنيسة.

وفي العام (1661) بدأ لايبنيتس تعليمه الجامعي الرسمي في جامعة لايپتسيش، وبما أنّ الفلسفة “الحديثة” التي جاء بها ديكارت وگاليليو وگاسيندي وهوبز وغيرهم لم تكن قد أحدثت أثرًا كبيرًا حينها في البقاع الناطقة بالألمانية، فلقد أدّى ذلك إلى أن يكون التعليم الفلسفي الذي تلقّاه لايبنيتس ذا طبيعة سكولائية في الأساس، وإن كان معرّضًا أيضًا لعناصر من إنسانوية عصر النهضة. وأثناء وجوده في لايپتسيش التقى لايبنيتس بجاكوب توماسيوس، والذي أثّر على لايبنيتس فيما بعد تأثيرًا عميقًا وأشرف على إصداره لرسالته الفلسفية الأولى (حول مبدأ الفرد). وربّما لعب توماسيوس الدور الأكبر في غرس شعور بالاحترام العميق لدى لايبنيتس تجاه الفلسفة القديمة وفلسفة العصر الوسيط؛ ومن الأفكار المتكرّرة في مسيرة لايبنيتس الفلسفية رغبته في التوفيق بين الفلسفة الحديثة وبين فلسفة أرسطو وأفلاطون والسكولائيين وتعاليم إنسانوية عصر النهضة. وبعد أن حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة لايپتسيش توجّه لاستكمال دراسته في جامعة آلتدورف، وفي العام (1666) نشر فيها كتابًا أصيلًا مرموقًا بعنوان (أطروحة في فنّ التركيب)، وهو يحتوي على مخطّط لحساب التكامل يتّصف بأنّه “شامل ومميزّ” ومنطقي. وعُرِض على لايبنيتس أن يشغل منصبًا في كلّية القانون بعد إكماله لشهادة الدكتوراه في القانون في العام (1667)، لكنّه كان يحمل خطّة أخرى للمستقبل في ذهنه.

في ذلك العام نفسه التقى لايبنيتس بالبارون كريستيان فون بوينيبورگ، وهو متحوّل من الپروتستانتية إلى الكاثوليكية، وكان قادرًا على تأمين منصب للايبنيتس لدى عضو مجلس الشيوخ عن مدينة ماينتس. وبينما كان يعمل في حاشيته ألّف سلسلة من الكتابات في اللاهوت الفلسفي بعنوان (البراهين الكاثوليكية)، وهي مظهر آخر من مظاهر السلمية التي التزم بها لايبنيتس طوال حياته: إذ حاول في مسعاه السلمي هذا أن يقدّم أساسًا يبرّر فيه التوفيق بين الپروتستانتية والكاثوليكية. وفي هذه المرحلة التفت لايبنيتس أيضًا للفلسفة الطبيعية بعد أن تمكّن أخيرًا من دراسة بعض كتابات المحدثين، وكانت النتيجة رسالة من جزأين في العام (1671) بعنوان (الفرضية الفيزيائية الجديدة)؛ وقد أهدى الجزء الأول منها، وهو بعنوان (نظرية الحركة المجرّدة)، إلى أكاديمية العلوم في پاريس، وأهدى الجزء الثاني، وهو بعنوان (نظرية الحركة المشخّصة) إلى الجمعية الملكية في لندن؛ ولم يكن من المرجّح أن يحقّقا تأثيرًا عميقًا لدى الشريحة المستهدفة، لأنّ ظروف لايبنيتس لم تسمح له سوى بكتابة ما يكتبه الهواة في هذا المجال.

وتغيّرت أحوال لايبنيتس في العام (1672) عندما حصل على أهمّ فرصة في حياته، إذ أرسله عضو مجلس الشيوخ عن مدينة ماينتس في مهمّة دبلوماسية إلى پاريس، مركز العلم والتعليم في ذلك العصر. وتمكّن لايبنيتس من الإقامة في پاريس طوال أربعة أعوام (تخلّلتها زيارة قصيرة إلى لندن في العام 1673)، والتقى خلال إقامته الكثير من الأسماء المهمّة في عالم الفكر، ومن بينهم: أنتوان آرنو، ونيكولاس مالبرانش، والأهمّ منهما: الرياضي والفيزيائي الهولندي كريستيان هويگنس. ولقد كان هويگنس، أو “هويگينيوس العظيم” كما دعاه جون لوك ضمن (رسالة الإهداء) في كتابه (مقالة حول الفهم البشري)، هو من رعى لايبنيتس وعلّمه ما حدث من تطوّرات في الفلسفة والفيزياء والرياضيات. ولم تكن إقامة لايبنيتس في پاريس فرصة للتحاور مع عدد من أعظم عقول القرن السابع عشر وحسب، بل أتاحت له أيضًا الاطّلاع على المخطوطات غير المنشورة لديكارت وپاسكال؛ ويذكر لايبنيتس أنّه بينما كان يقرأ مخطوطات پاسكال في الرياضيات بدأ يكوّن فكرة عما أصبح في النهاية طرحه في حساب التكامل وعمله في السلاسل اللامتناهية. وفي هذه المدّة قام لايبنيتس أيضًا بتصميم آلة للحساب قادرة على إجراء عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة (تجد صورتها في قسم [مصادر أخرى على شبكة الإنترنت] في نهاية هذا المدخل الموسوعي)، وكان أحد أغراض زيارته إلى لندن في العام (1673) أن يعرض تصاميمه على الجمعية الملكية هناك.

وبينما كان لايبنيتس يواصل حياته الفكرية في پاريس، توفّي ربّ عمله، فاضطرّ للبحث عن منصب آخر، وفي نهاية المطاف عثر على وظيفة أمين مكتبة لدى الدوق يوهان فريدريش من منطقة برونشڤيك، وكان يحكم من مدينة هانوفر. وفي طريقه إلى هانوفر توقّف لايبنيتس في أمستردام ليلتقي سپينوزا في المدّة (18-21 نوفمبر 1676) قبل ثلاثة أشهر من وفاة الأخير؛ وقد ذكر لايبنيتس في ملاحظاته أنّهما تحدّثا عن كتاب سپينوزا الذي طُبِع بعد وفاته، وعن الفيزياء الديكارتية، وعن النسخة التي طوّرها لايبنيتس للحجّة الأنطولوجية (تأتيك في موضع قادم). وعلى الرغم من أنّ لايبنيتس سافر إلى إيطاليا لمدّة من الزمن في نهاية ثمانينيات القرن السابع عشر لإجراء بعض البحوث التاريخية لعائلة هانوفر، وسافر كثيرًا في رحلات أقصر إلى مواضع أخرى (ومنها: ڤيينا)، فلقد أمضى بقيّة حياته بشكل رئيسي في هانوفر ومحيطها، يعمل في مهمّات مختلفة لصالح البلاط، بدأها بعمله لدى يوهان فريدريش حتّى وفاته في العام (1680)، ثمّ لدى أخيه إيرنست أوگست (1680-1698)، وأخيرًا لدى جورج لوتڤيش (ابن إيرنست أوگست)، والذي أصبح في العام (1714) ملكًا لإنگلترا باسم (جورج الأوّل). ولم تكن علاقة لايبنيتس مع إيرنست أوگست وابنه على المستوى نفسه من الودّية الذي اتّصفت به علاقته مع ربّ عمله الأوّل، لكنّه كان مقرّبًا من صوفي، زوجة إيرنست أوگست والأخت الصغرى للأميرة إليزابيث من بوهيميا، وهي التي تبادلت رسائل فلسفية مهمّة مع ديكارت (كانت صوفي أيضًا ابنة إليزابيث ستيوارت، ولهذا السبب أصبح ابنها ملكًا على إنگلترا).

وعلى الرغم من أنّ لايبنيتس ربّما شعر بأنّه منعزل بجسده عن المشهد الفكري الأوروبي، فلقد استطاع أن يظلّ على اتّصاله به من خلال شبكة واسعة من المراسلات (تبادل لايبنيتس الرسائل مع أكثر من ألف ومئة شخص خلال حياته). ولم تكن المسؤوليات الضخمة الملقاة على عاتقه، كأمين مكتبة ومؤرّخ ومستشار في البلاط الهانوفري، لتثنيه عن إكمال عمل يخلب الأبصار بسعة نطاقه وعمقه وقيمته الصافية.

وفي السنوات الأخيرة من حياته عاش لايبنيتس في جو كئيب؛ إذ انخرط في جدل عنيف مع نيوتن وأتباعه حول الأسبقية في اكتشاف حساب التكامل، حتّى إنّه اتُّهِم بسرقة أفكار نيوتن (يدّعي معظم مؤرّخي الرياضيات حاليًّا بأنّ نيوتن ولايبنيتس طوّرا أفكارهما بشكل مستقلّ: إذ طوّر نيوتن الفكرة قبل لايبنيتس، لكنّ لايبنيتس سبقه بالنشر). أضف إلى ذلك السخرية التي كان يتعرّض لها في البلاط بسبب شعره المستعار والطراز القديم لملبسه (كان يرتدي الطراز الپاريسي الذي ساد في سبعينيات القرن السابع عشر!)، وازداد العداء المحيط به إلى درجة أن يُطلَب منه البقاء في هانوفر بدلًا من المغادرة إلى لندن عند تنصيب ربّ عمله جورج لوتڤيش ملكًا لإنگلترا باسم (جورج الأوّل). وبعدها بعامين توفّي لايبنيتس في (14 نوفمبر 1716).

1.1 الترتيب الزمني لكتاباته الرئيسية

  • 1684       تأمّلات في المعرفة والحقيقة والأفكار.
  • 1686       مقالة في الميتافيزيقا.
  • ~1686    مراسلات مع آرنو.
  • 1689       الحقائق الأوّلية.
  • 1695       المنظومة الجديدة.
  • 1695       عيّنة من الديناميكا.
  • 1697       حول التولّد النهائي للأشياء.
  • 1698       حول الطبيعة نفسها.
  • ~1699    مراسلات مع ديڤولدير.
  • 1704       مقالات جديدة حول الفهم البشري.
  • ~1706    مراسلات مع ديبوس.
  • 1710       العدل الإلهي.
  • 1714       المونادولوجيا.
  • 1714       مبادئ الطبيعة والنعمة.
  • 1715ف    مراسلات مع كلارك.

2. عرض عام لفلسفة لايبنيتس

لم يكتب لايبنيتس كتابًا يمكننا أن نعتبره “التحفة” التي تعبّر عنه، خلافًا لما درج عليه معظم الفلاسفة العظام الذين ظهروا في الحقبة نفسها؛ فليس هنالك كتاب بعينه يمكن القول بأنّه يحتوي نواة فكره. وعلى الرغم من أنّه ألّف كتابين هما: (العدل الإلهي [1710]) و(مقالات جديدة حول الفهم البشري [أنهاها في العام 1704 لكنّه لم ينشرها حتّى 1765])، فإنّ من يدرس فكر لايبنيتس يتوجّب عليه أن يجمّع فلسفته من كتابات متناثرة: من المقالات التي نشرها في مجلات أكاديمية وغير أكاديمية، والكتابات التي تركها دون نشر، ورسائله الكثيرة. وعلاوة على ذلك، فإنّ الكثير من كتابات لايبنيتس لم تنشر حتّى يومنا هذا. أمّا النسخة الأكاديمية المعتمدة من أعمال لايبنيتس (The Akademie Edition) فلم تنشر حتّى اليوم سوى كتاباته الفلسفية في المدّة (1663-1690)، أي: إنّها لا تغطّي سوى (نصف) المدّة التي نشط فيها بالكتابة. بل إنّ مجرّد العمل على تأريخ كتاباته يعتمد في كثير من الأحيان على التحليل الدقيق للورق الذي كُتِبت عليه وما به من علامات مائية وما أشبه؛ وعلى سبيل المثال: كان الكثيرون يعتقدون بأنّ عمله الوجيز المهم (الحقائق الأوّلية) يعود للعام (1686) (كما ورد في كتابه [مقالات فلسفية])، لكنّ هذا التأريخ تغيّر مؤخّرًا على يد محرّري النسخة الأكاديمية (Akademie) ليصبح (1689) بالاعتماد على علامة مائية في الورق المستخدم. وإنّ عملية تجميع فلسفة لايبنيتس في كيان واحد منسجم منهجيًا هي مهمّة تزداد صعوبتها إذا أخذنا بالحسبان ما كان لايبنيتس يقوم به من تغيير لرؤاه، أو صقلها على الأقلّ، فيما يخصّ عددًا من المسائل خلال حياته المهنية، ويضاف إلى ذلك أنّه كان يراعي مستوى قرّائه مراعاةً شديدةً (وهنالك من يقول بأنّه كان يفرط في مراعاتهم).

وكما قلنا فيما سبق، تلقّى لايبنيتس تعليمًا استند بشكل مباشر إلى السكولائية وإنسانوية عصر النهضة؛ ولذلك كانت خلفيته الفكرية تتكوّن من: الأرسطية، والأفلاطونية، والمسيحية الأصولية؛ لكنّه بمرور الوقت أصبح أكثر اطّلاعًا على الفلسفة الحديثة للقرن السابع عشر، وأخذ يلاحظ الكثير من حسناتها شيئًا فشيئًا. وتعيننا الرسالة التي كتبها لايبنيتس إلى نيكولاس ريمون في العام (1714) على الاقتراب من ملامح عمله في تلك المدة، ففيها رسم لايبنيتس صورة لما هو عليه، فكتب (على أن ينتبه القارئ إلى أنّ هنالك ما يدعو للتشكيك ببعض التفاصيل الواردة): «لقد حاولتُ أن أكشف وأوحّد الحقيقة المطمورة والمتناثرة تحت آراء مختلف المذاهب الفلسفية، وأعتقدُ بأنّني أضفتُ من عندي ما يدفعها خطواتٍ إلى الأمام. وجاءني بعض العون من الظروف التي أحاطت بحوثي بدءًا من أولى أيّام الشباب؛ فقد اكتشفتُ أرسطو وأنا فتًى، بل إنّني لم أنفر حتّى من علماء السكولائية في ذلك السنّ، وهذا أمر لم أندم عليه حتّى في سنّي هذه، ثمّ اطّلعتُ على أفلاطون أيضًا، وعلى أفلوطين، وشعرتُ معهما بشيء من الرضى، ناهيك عن غيرهما من قدامى المفكّرين الذين استعنت بهم فيما بعد. وبعد أن أكملتُ المنهاج المدرسي العادي وقعتُ على أعمال المحدثين، ولا أزال أذكرُ كيف كنت أتمشّى في بستان يدعى (روزنتال)، يقع على أطراف لايپتسيش، وأنا أقلّبُ الفكر بين المحافظة على الصور الجوهرية أو التخلّي عنها، وعمري حينها خمسة عشر عامًا. وفي النهاية انتصرت الميكانيكا وجرّتني لتكريس جهودي في الرياضيات. […] لكنّني عندما بحثتُ عن الأسباب النهائية للميكانيكا، بل حتّى عن قوانين الحركة، أصبت بدهشة عظيمة عندما وجدت أنّها لا يمكن أن توجد في الرياضيات، بل أنّ عليّ العودة إلى الميتافيزيقا. فأعادني ذلك إلى الكمالات الأوّلية (Entelechies)، ومن المادّي إلى الصوري، وجعلني أفهم أخيرًا، بعد الكثير من التصحيح والتقدّم في تفكيري، أنّ المونادات (Monads) أو الجواهر البسيطة هي الجواهر الحقيقية الوحيدة، وأنّ الأشياء المادّية ليست سوى ظاهرات، لكنّها ظاهرات تتّصف بأنّها جيّدة التأسيس والاتّصال. ولقد وردت لمحات عن هذا الأمر عند أفلاطون، وحتّى عند من تلاه من الأكاديميين والشكوكيين. […] وأنا أهنّئ نفسي لاختراقها هذين النطاقين المتناغمين والاكتشاف بأنّهما صائبان لأنّهما لا يصطدمان، وبأنّ كلّ ما يحدث في الطبيعة إنّما يحدث بشكل ميكانيكي وميتافيزيقي في الوقت نفسه، لكنّ مصدر الميكانيكا هو الميتافيزيقا» (G III 606/L 654–55). ونكرّر القول بأنّ هنالك ما يدعو للشكّ في أنّه كان يبلغ الخامسة عشرة حقًّا عندما كان يقوم بنزهاته الفلسفية تلك، وفيما إذا كان حقًّا قد قرأ كتابات المحدثين، وفي تحديد ما قرأ منها؛ ومع ذلك فإنّ هذه الصورة التي رسمها لايبنيتس عن ذاته تعبّر حقًّا عن أمر يجده القارئ في كتاباته، وهو: نسيج لخيوط فلسفية مختلفة، منها القديم ومنها الحديث، تتّحد بشكل يلفت الانتباه بما يتّصف به من إبداع وتفصيل.

إنّ رسالة لايبنيتس إلى ريمون توضح لنا أنّه كان يحمل بعض التحفّظات إزاء جوانب بعينها من الفلسفة الحديثة، وهذه التحفّظات كانت تعكس شعورًا بعدم الارتياح ينبع من خليطه الانتقائي الذي مزج فيه أرسطو بالأفلاطونية المسيحية، وجعلته يعود إليها بعد ذلك؛ ولذلك فربّما من الأفضل للقارئ أن ينظر إلى فلسفة لايبنيتس باعتبارها ردّة فعل على مجموعتين من الخصوم المحدثين: ديكارت وأتباعه من جهة، وهوبز وسپينوزا من جهة أخرى.

ولقد كان نقد لايبنيتس لديكارت وأتباعه مركّزًا في الأساس على الوصف الديكارتي للجسد أو الجوهر الجسدي؛ إذ يرى ديكارت بأنّ ماهية الجسد هي الامتداد، أي: إن الجوهر الجسدي ليس سوى جسم هندسي جُعِل مشخصًّا، فأصبح له حجم وشكل وحركة. وهذه الرؤية تشكّل أساس الفلسفة الميكانيكية الجديدة التي انجذب لها لايبنيتس في الأصل، لكنّه أصبح فيما بعد يجد فيها مشكلتين بيّنتين: (الأولى) تكمن في أنّ الادّعاء بأنّ ماهية الجسد هي الامتداد يجعل ديكارت مؤيّدًا للرؤية القائلة بأنّ المادّة قابلة للتقسيم اللامتناهي، لكنّ المادّة إذا كانت كذلك فلا يمكن التوصّل أبدًا إلى الوحدات البسيطة التي لا بدّ من وجودها ضمن مستوى أنطولوجي ابتدائي؛ وتكمن المشكلة (الثانية) في أنّ المادّة إذا كانت امتدادًا وحسب فهذا يعني أنّها لا تحتوي بطبيعتها على أيّ مصدر للنشاط، وهذا يعني أنّ الأجسام الجسدية في العالم لا يمكن اعتبارها جواهر، وفقًا لرأي لايبنيتس.

أمّا من ناحية هوبز وسپينوزا فلقد كانا، وعلى الرغم من الفروق بينهما، يطوّران، أو يُفهَم منهما أنّهما يطوّران، عددًا من الأطروحات المثيرة للاعتراض والمسبّبة للاضطراب، ورأى فيها لايبنيتس (ومعه معظم معاصريه) تهديدًا هائلًا، وهي: المادّية، والإلحاد، والجبرية. وربّما كان ردّه على الجبرية الهوبزية والسپينوزية هو أهمّ ما كتب، وذلك لأنّه سعى لتطوير وصف للفعل والإمكان يمكنه المحافظة على الحرّية الإلهية والحرّية البشرية. وسنبيّن في موضع لاحق كيف أنّ من محاور فلسفة لايبنيتس الرؤية القائلة بأنّ الإله يختار بحريّة العالم الأفضل من بين عدد لامتناهٍ من العوالم الممكنة وأنّه يمكن القول بأنّ المرء يتصرّف بحريّة عندما لا يكون عكس هذا التصرّف منطويًا على تناقض (سنتناول هذا الموضوع بشكل رئيسي في المدخل المخصّص للميتافيزيقا الجهوية عند لايبنيتس).

3. بعض المبادئ الأساسية لفلسفة لايبنيتس

يشدّد لايبنيتس في (المونادولوجيا) (§§31–32) على أنّ «تفكيرنا يقوم على (مبدأين عظيمين: مبدأ التناقض […] ومبدأ السبب الكافي» (G II 612/AG 217)؛ ويمكننا أن نضيف لهذين المبدأين العظيمين أربعة مبادئ أخرى: مبدأ الأفضل، ومبدأ المحمول في المعنى المجرّد، ومبدأ هوية اللامتميزات، ومبدأ الاتّصال. والعلاقة بين هذه المبادئ أكثر تعقيدًا ممّا قد يتوقّعه المرء؛ إذ يقترح لايبنيتس أحيانًا بأنّ مبدأ الأفضل ومبدأ المحمول في المعنى المجرّد يمكن القول بأنّهما يؤسّسان “المبدأين العظيمين” عنده؛ لكن يبدو في أحيان أخرى أنّ المبادئ الأربعة جميعها تعمل سويّة ضمن منظومة للتضمّن الدائري. وبينما نجد في كثير من الحالات أنّ مبدأ هوية اللامتمايزات يُقدَّم في النقاشات المعاصرة للميتافيزيقا التحليلية باعتباره بديهية قائمة بذاتها، فإنّ لايبنيتس يخبرنا بأنّ هذا المبدأ ينبثق من المبدأين العظيمين. وإنّ مبدأ أو قانون الاتّصال هو في الحقيقة مبدأ استمدّه لايبنيتس من عمله في الرياضيات وطبّقه على التراتبية اللامتناهية للمونادات في العالم وعلى كيفية إدراكاتها الحسّية، ويبدو أنّه لا يعتمد إلّا بشكل ضئيل على (مبدأ السبب الكافي).

1.3 مبدأ الأفضل

قدّم لايبنيتس عددًا من الحجج في إثبات وجود الإله، وهي تمثّل مساهمات عظيمة في اللاهوت الفلسفي، وسنناقشها فيما يلي، لكنّ أحد المبادئ الرئيسية الرئيسية لمنظومته يكمن في القول بأن الإله يعمل دائمًا من أجل تحقيق الأفضل. ويتعامل لايبنيتس مع هذا المبدأ، بشكل عام، باعتباره من البديهيات، ونجد في بداية كتابه (مقالة في الميتافيزيقا) أنّه يقدّم شيئًا من المحاججة في إثباته: «الإله كائن كامل بالمطلق»، «القوّة والمعرفة كمالات، وليس لهما حدود إذا كانا للإله»، «ومن هنا نجد أنّ الإله، وهو مالك الحكمة العليا اللامتناهية، يعمل على الوجه الأمثل، لا على النحو الميتافيزيقي فحسب، بل من الناحية الأخلاقية أيضًا» (AG 35). لكن ليس من الواضح ما إذا كان يجب أن يتصرّف الإله دومًا لتحقيق الأفضل أو حتّى أن يخلق العالم الأفضل، وهو ادّعاء ربّما لا يفاجئنا إذا صدر عن أحد الملحدين (راجع: Adams 1972). وفي بعض الأحيان يلجأ لايبنيتس، صراحةً أو ضمنًا، إلى هذا المبدأ في رؤيته الميتافيزيقية، ويبدو هذا الأمر في أوضح صوره عندما يحاول توظيفه (مبدأ السبب الكافي) أيضًا؛ فعندما يتعلّق الأمر بخلق العالم فإن “السبب الكافي” للخيار الإلهي في هذا العالم هو أنّ هذا العالم هو “أفضل” العوالم الممكنة؛ أي: إنّ (مبدأ السبب الكافي)، في هذه الحالة، هو نفسه (مبدأ الأفضل).

2.3 مبدأ المحمول في المعنى المجرّد

كان لدى لايبنيتس فكرة مميّزة عن جدًّا عن الحقيقة، وهي فكرة تشكّل أساس الكثير من رؤاه في الميتافيزيقا، لكنّها تعود في الأصل إلى الأورگانون الأرسطي (راجع: Posterior Analytics I.4) كما يقول لايبنيتس نفسه، ونجدها كذلك لدى آرنو ونيكول في كتابهما (المنطق، أو فنّ التفكير) (Book IV, Chapter 6). ويعبّر لايبنيتس عن هذه الفكرة بقوله في رسالة إلى آرنو: «في كلّ قضية صادقة مثبتة، سواء كانت ضرورية أو ممكنة، كلّية أو جزئية، تكون فكرة المحمول مضمَّنة على نحو ما في فكرة الموضوع. إنّ (المحمول موجود في الموضوع)، وإلّا فإنّني لا أعلم ما هي الحقيقة» (G II 56/L 337). ويخبرنا لايبنيتس في (الحقائق الأوّلية) و(مقالة حول الميتافيزيقا) بأنّ هذا المبدأ ينبثق منه الكثير من الأشياء، ومنها: ما يعتقد لايبنيتس بأنّه التحليل الصائب للضرورة والإمكان.

3.3 مبدأ التناقض

ويتّبع لايبنيتس أرسطو أيضًا (راجع: Metaphysics IV.3) في التشديد الهائل على مبدأ الهوية أو مبدأ التناقض. وينصّ هذا المبدأ، ببساطة، على أنّ «القضية لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة في الوقت نفسه، ولذلك فإنّ (أ) هو (أ) ولا يمكن أن يكون (نفي أ)» (G VI 355/AG 321). ويرى لايبنيتس بأنّ الحقائق الأوّلية لمنظومته الميتافيزيقية هي الهويات، لكنّه ينتقل فورًا إلى جمع مبدأ التناقض مع المبدأ السابق (المحمول في المعنى المجرّد) ويشدّد في (الحقائق الأوّلية) على أنّ «كلّ الحقائق المتبقّية تُختزَل إلى حقائق أوّلية بالاستعانة بالتعريفات، أي: من خلال تحليل الأفكار» (A VI iv 1644/AG 31). ويضاف إلى ما سبق أن الجمع بين المبدأين المذكورين يعني (بما أنّه في كلّ قضية صادقة يكون المحمول محتوىً في الموضوع بشكل صريح أو ضمني) أنّ الأمر ذاته يسري على (كلّ) الحقائق المؤكّدة، سواء كانت كلّية أو جزئية، ضرورية أو ممكنة. وسيستخدم لايبنيتس هذا المبدأ، السليم ظاهريًا، للخروج باستنتاجات شديدة القوّة حول طبيعة الجوهر والجهوية.

4.3 مبدأ السبب الكافي

يمكننا أن نلخّص فحوى هذا المبدأ في شكله الكلاسيكي بأنّه (لا شيء يكون دون سبب) أو (ليس هنالك تأثير دون سبب). ويعلّق لايبنيتس على ذلك بقوله بأنّ هذا المبدأ «يجب أن يُعتبَر من أعظم وأنفع المبادئ في المعرفة البشرية بأجمعها، فعليه يقوم جزء كبير من الميتافيزيقا والفيزياء وعلم الأخلاق» (G VII 301/L 227). وفي (مبادئ الطبيعة والنعمة) يقترح لايبنيتس أنّ الادّعاء بأنّه ما من أمر يحدث دون سببٍ كافٍ يعني: أنّه ما من أمر يحدث على نحو يستحيل فيه على من يمتلك المعلومات الكافية أن يقدّم سببًا يعلّل فيه كونه على حاله وليس على خلافه. لكنّنا نجد لايبنيتس يعترف بصراحة، في كتابه (المونادولوجيا) وفي غيره أيضًا، بأنّ «هذه الأسباب لا يمكننا أن نعلم بها في معظم الحالات» (G VI 612/AG 217). وعلى الرغم من أنّه لا يبدو من الجديد القول بأنّه لا بدّ من سبب لكلّ حدث وبأنّ هنالك سببًا خلف كون كلّ شيء على حاله لا على خلافه، فإنّ ما يستحقّ الانتباه فيه هو الصلة التي يراها لايبنيتس بين هذا المبدأ وبين مبادئه الميتافيزيقية الأخرى. إذ يرى لايبنيتس بأنّ (مبدأ السبب الكافي) ينبثق، في الواقع، من مبدأ (المحمول في الموضوع) حتمًا، لأنّه إذا كانت هنالك حقيقة بلا سبب فعندها سنكون أمام قضية لا يحتوي موضوعها على المحمول، وهذا الأمر ينتهك مفهوم لايبنيتس للحقيقة.

5.3 مبدأ هوية اللامتمايزات

ربّما يبدو (مبدأ التناقض) و(مبدأ السبب الكافي) بعيدين بما يكفي عن إثارة الخلاف، لكنّ هذا الأمر لا ينطبق على مبدأ آخر شهير طرحه لايبنيتس، وهو (مبدأ هوية اللامتمايزات) (راجع أيضًا: المدخل الخاص بهذا المبدأ في الموسوعة). إذ ينصّ هذا المبدأ، وفقًا لأحد الصيغ النمطية التي صاغها لايبنيتس، على أنّه «ليس صحيحًا القول بأنّ مادّتين اثنتين يمكنهما أن تشبه إحداهما الأخرى كلّيًا دون أن تختلفا سوى بالعدد» (A VI, iv, 1541/AG 42). وبعبارة أخرى: إذا تشارك شيئان صفاتهما جميعها فهما متطابقان، أو:

(∀F)(Fx ↔ Fy) → x = y

لكنّ ما يهمّنا بالخصوص هنا هو أنّ لايبنيتس يصرّ على أنّ هنالك أنواعًا بعينها من الصفات (مستثناة) من قائمة الصفات التي يمكن اعتبارها صفات فارقة، وفي مقدّمتها (الصفات الزمكانية). وهذا ما يعنيه لايبنيتس، جزئيًا، عندما يشدّد على أنّه لا يمكن أن يكون هنالك محدّدات برّانية صافية (أي: علائقية). وعليه، فلا يمكن أن يكون هنالك كتلتان من المادّة تتطابقان في الكيفية لكنّهما تتواجدان في موضعين مختلفين؛ إذ يرى لايبنيتس بأنّ الفرق البرّاني، مهما كان، لا بدّ أن يتأسّس على فرق جوّاني؛ وهو يعبّر عن مراده هذا بقوله في (المقالات الجديدة): «على الرغم من أنّ الزمان والمكان (أي: العلاقات مع ما يقع خارجًا) تميّز لنا فعلًا الأشياء التي ما كنّا لنفصل بينها بسهولة بالاعتماد عليها نفسها وحسب، فإنّ الأشياء تقبل التمييز بينها بالاعتماد عليها نفسها وحسب. وعليه، فعلى الرغم من أنّ تنوّع الأشياء يرافقه تنوّع في الزمان أو المكان، فإنّ الزمان والمكان لا يشكّلان نواة الهويّة والتنوّع، لأنّهما [أي: الزمان والمكان المختلفان] يطبعان الشيء بحالات مختلفة. ويمكننا أن نضيف هنا أنّ علينا الاستعانة بالأشياء للتمييز بين زمان وآخر، أو بين مكان وآخر، وليس العكس» (A VI vi 230/RB 230).

وهنالك أيضًا مبدأ آخر على علاقة بالمبدأ الذي نناقشه، لكنّه ليس خلافيًا، وهو (مبدأ لاتمايز المتطابقات)؛ وهو ينص على أنّه إذا كان الشيئان متطابقين فهما يتشاركان صفاتهما جميعًا، أو:

x = y → (∀F)(Fx ↔ Fy)

وبمزج المبدأين نحصل على ما يدعى أحيانًا بـ”قانون لايبنيتس”، والذي ينصّ على: يكون الشيئان متطابقين إذا وفقط إذا اشتركا بكلّ صفاتهما، أو:

x = y ↔ (∀F)(Fx ↔ Fy)

وممّا يدعو للأسف أنّ هذه التسمية لا تطلق أحيانًا إلّا على (مبدأ لاتمايز المتطابقات) وحسب.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ لايبنيتس قدّم، في (الحقائق الأوّلية) وفي مراسلاته مع كلارك، (مبدأ هوية اللامتمايزات) باعتباره (نتيجة) لمبدأي (التناقض) و(السبب الكافي)، لا باعتباره بديهية تأسيسية لمنظومته. ويمكننا أن نضع مخطّطًا يوجز هذه الحجّة كما يلي:

  1. لنفترض وجود فردين لامتمايزين (أ، ب) ضمن عالمنا (ع).
  2. وإذا كان الحال كذلك، فلا بدّ أن يكون هنالك عالم ممكن (ع*) جرى فيه التبديل بين (أ) و(ب).
  3. لكن إذا كان الحال كذلك، فإنّ الإله لم يكن لديه سبب يدعوه لتفضيل (ع) على (ع*).
  4. لكن يجب أن يكون لدى الإله سبب للقيام بذلك (مبدأ السبب الكافي).
  5. وعليه، فإن الافتراض الأصلي لا بدّ أن يكون كاذبًا؛ إذ (ليس) هنالك فردان لامتمايزان في عالمنا (مبدأ هوية اللامتمايزات).

ولقد قلنا فيما سبق أنّ لايبنيتس يستثني التسميات البرّانية الصافية (أو الصفات العلائقية) من أنواع الصفات التي تشكّل الفرد؛ فالسماح بهذه الصفات يعني السماح بإمكانية أن يكون هنالك شيئان متمايزان من ناحية الصفات العلائقية بينما هما متطابقان من ناحية صفاتهما الجوّانية، وذلك لأنّ صفاتهما العلائقية لن تنبع حينها من صفاتهما الجوّانية. (ونكرّر القول: إذا كان يسمح للصفات العلائقية أن تدخل في حسابات طبيعة الفرد، فإنّ مبدأ هوية اللامتمايزات يصبح ضعيفًا نسبيًا؛ فلا شكّ في أنّ الشيئين اللذين يوجدان في موضعين زمكانيين مختلفين متمايزان، وهذا ما يعترف به لايبنيتس في قوله الذي أوردناه قبل قليل). لكنّنا إذا اتّبعنا لايبنيتس في استثناء أمثال هذه الصفات العلائقية باعتبارها صفات فارقة وفكّرنا في المحاججة السابقة، فسنتوصّل حينها إلى أنّ العوالم تتميّز بعضها عن بعض من ناحية الصفات الجوّانية للأفراد وأنّ هذا الفرق يؤثّر على العظمة أو الكمال النسبي للعالم. ولنفترض هنا مرّة أخرى بأنّ (أ) و(ب) لامتمايزين لكنّهما يحتلّان مواضع متناظرة في العالمين (ع، ع*)، فكيف لنا أن نقول، بأيّ حال من الأحوال، بأنّ (ع) أكثر استحقاقًا للتفضيل الإلهي من (ع*)؟ إنّ هذا غير ممكن، فلا بدّ من سبب يجعل (أ) هنا و(ب) هناك، وهذا السبب بتعلّق بالصفات الجوّانية لهما. وبعبارة أخرى، حتّى الصفات العلائقية يجب عليها أن تكون مشتقّة، على نحو ما، من الصفات الجوّانية للجواهر.

وسنرى فيما يلي أنّ لايبنيتس يوظّف هذا المبدأ في نطاق من المحاججات: ضدّ اعتبار الذهن “صفحة بيضاء”، وضدّ المذهب الذرّي، وضدّ مفهوم الفراغ المطلق لدى نيوتن، وغيرها. وللاستزادة في هذا الموضوع يمكن الاطّلاع على المدخل المعنون (هويّة اللامتمايزات) في هذه الموسوعة.

6.3 مبدأ الاتّصال

يرى لايبنيتس بأنّ هنالك «متاهتين شهيرتين يضيع فيها العقل أحيانًا كثيرة» (G VI 29/H 53)؛ أمّا المتاهة الأولى فتتعلّق بحرّية البشر، وأمّا الثانية فتتعلّق بما يتكوّن منه مبدأ الاتّصال. لكنّ لايبنيتس كان يعتقد بأنّ وجد طريق الخروج من كلتا المتاهتين، وكان حلّه لمشكلة الاتّصال يتعلّق في نهاية المطاف ببديهية أو قانون لم يقتصر لايبنيتس في تطبيقه ضمن كتاباته الرياضية فحسب، بل طبّقه في الميتافيزيقا أيضًا، وهو يعبّر عنه بقوله في تمهيد كتابه (المقالات الجديدة): «لا شيء يحدث فجأة، ومن بديهياتي العظيمة التي تأكّدت أكثر من غيرها: إنّ الطبيعة لا تقفز مطلقًا» (A VI vi 56/RB 56). وبتعبير أدقّ: إنّ لايبنيتس يعتقد بأنّ هذا القانون أو المبدأ يعني ضمنًا أنّ كلّ تغيّر إنّما يمرّ من خلال تغيّر وسيط وأنّ هنالك لاتناهيًا حقيقيًا في الأشياء. وإن تطبيق (مبدأ الاتّصال) يُراد منه التبيين بأنّه لا حركة يمكن أن تنشأ من حالة السكون الكامل وأنّ «الإدراكات الحسّية القابلة للملاحظة تبرز تدريجيًا من إدراكات حسّية ضئيلة إلى درجة تستعصي على الملاحظة» (المصدر السابق).

4. الميتافيزيقا .. تمهيد لفهم الجوهر

يقول لايبنيتس: «إنّني أعتبر فكرة الجوهر أحد مفاتيح الفلسفة الحقيقية» (G III 245/AG 286). فلقد كان يعتقد بأنّ الأسئلة الأساسية للميتافيزيقا يمكن اختزالها لأسئلة أنطولوجية: ماذا هنالك؟ وما هو المكوّن الأكثر رئيسية للواقع؟ وماذا يتأسّس عليه ماذا؟ وظلّ لايبنيتس يؤكّد على جواب واحد لازمه طوال حياته: إنّ كل شيء يتكوّن من، أو يمكن اختزاله بـ(جواهر بسيطة)؛ أي: إن كلّ شيء يتأسّس على جواهر بسيطة. وبينما يبدو أنّ لايبنيتس قد طرح نسخًا طفيفة الاختلاف من وصفه للطبيعة الدقيقة لهذه الجواهر البسيطة خلال حياته العملية، فإنّ هنالك الكثير من الميزات التي ظلّت ثابتة في مرحلة نضج طرحه الفلسفي، فكان لايبنيتس يعتقد دائمًا بأنّ للجوهر «مفهومًا فرديًا كاملًا» وأنّها في الأساس وحدة فعّالة مجهّزة بالإدراك الحسّي والنزوع.

1.4 المفهوم المنطقي للجوهر

في الفقرة الثامنة من (الكلام في الميتافيزيقا) يقدّم لايبنيتس أحد أهمّ توصيفاته لطبيعة الجوهر الفردي؛ إذ يدّعي بأنّ الفكرة الأرسطية القائلة بأنّ (الجوهر هو موضوع المحمول، ولا يمكن أن يكون محمولًا لأيّ شيء آخر) لا تكفي لأيّ تحليل حقيقي لطبيعة الجوهر. ثمّ يلجأ بعد ذلك إلى مبدأي (التناقض) و(المحمول في الموضوع): ففي كلّ قضية حملية صادقة، يكون مفهوم المحمول محتوى في مفهوم الموضوع. وويدّعي لايبنيتس هنا: «بما أنّ الحال كذلك، فيمكننا القول بأنّ من طبيعة أيّ جوهر فرد أو كائن مكتمل أن تكون له فكرة تبلغ من الاكتمال حدًّا يكفي لاحتوائها والسماح لنا بأن نستنبط منها كلّ محمولات الموضوع الذي تُعزى له هذه الفكرة» (A VI iv 1540/AG 41). وبعبارة أخرى: إنّ (س) يعتبر جوهرًا إذا وفقط إذا كان له مفهوم فردي مكتمل، أي: أن يكون له مفهوم يحتوي ضمنه كلّ محمولات (س) في الماضي والحاضر والمستقبل. إذن، فدور (مفهوم الفرد المكتمل) يكمن في فردنة الجواهر؛ إذ يستطيع أن يلتقط حامله من مجموعة لامتناهية من مجموعة متناهية أخرى من الجواهر المخلوقة. ويمثّل لايبنيتس لذلك بالإسكندر المقدوني: فمفهوم الإسكندر المقدوني يحتوي كونه ملكًا، وتلميذًا لأرسطوطاليس، وهزيمته لداريوس وپوروس، وغير ذلك، ثمّ يضيف لايبنيتس: «عندما ينظر الإله إلى الفكرة الفردية للإسكندر المقدوني أو إلى ما به من (إنّية) فإنّه يرى فيه، وفي الوقت نفسه، أساس وسبب كلّ المحمولات التي صحّ إطلاقها عليه» (A VI iv 1540–41/AG 41). ومن المثير للاهتمام لجوء لايبنيتس إلى استخدام فكرة (الماذائية haecceity) المستمدّة من الفلسفة السكوتوسية (Scotism)، فما يقوله لايبنيتس هو أنّ (ماذائية) الإسكندر تتحدّد من خلال مجموع صفاته الكيفية. وعلاوة على ذلك، يمكننا أن نلاحظ جانبًا ميتافيزيقيًا لمفهومه المنطقي للجوهر: أنّ المفهوم المتفرّد المكتمل للجوهر هو فكرة أو (ماهية) الجوهر وفقًا للفهم الإلهي.

ويخلص لايبنيتس في هذا القسم من كتابه إلى ما أشاد به من (مذهب العلامات والآثار)، فيقول: «عندما نفكّر بحذر في الصلة بين الأشياء، يمكننا أن نقول أنّ نفس الإسكندر تحتوي على الدوام علامات لكلّ ما حدث وسيحدث له، بل حتّى نجد فيها آثارًا لكلّ ما يحدث في الكون، وإن كان الإله وحده هو من يستطيع ملاحظتها جميعًا» (A VI iv 1541/AG 41). وعليه، فإنّ (مذهب العلامات والآثار) يدعي بأنّه ما دام (مفهوم الفرد المكتمل) يحتوي جميع المحمولات التي يصدق إطلاقها على جوهر ما في الماضي والحاضر والمستقبل فإنّ تاريخ الكون برمّته يمكن قراءته (وإن كان الإله وحده القادر على ذلك) بأنّه ماهية أيّ جوهر فرد.

وبالانطلاق من المفهوم المنطقي للجوهر و(مذهب العلامات والآثار) استطاع لايبنيتس أن يتوصّل إلى نتائج تلفت الانتباه؛ وهو يخبرنا بثلّة منها في القسم التالي من كتابه (الكلام في الميتافيزيقا):

  1. لا يمكن لأيّ جوهرين أن يشبه أحدهما الآخر كلّيًا وأن يكونا متمايزين في الوقت نفسه (مبدأ تطابق اللامتمايزات).
  2. الجوهر لا يمكنه أن يبدأ إلّا بالخلق ولا ينتهي إلّا بالفناء.
  3. الجوهر لا يقبل التقسيم.
  4. لا يمكن إنشاء جوهر من جوهرين.
  5. عدد الجواهر لا يزيد ولا ينقص بشكل طبيعي.
  6. كلّ جوهر هو مثْل عالم كامل، ومثْل مرآة للإله أو للعالم بأكمله، وكلٌّ منها يعبّر عن نفسه بطريقته.

وممّا يؤسف له أنّ الأسباب التي يوردها لايبنيتس لتوصّله لهذه الاستنتاجات ليست واضحة في جميع الحالات؛ فلماذا يجب على (مبدأ تطابق اللامتمايزات) أن ينتج من المفهوم الفردي المكتمل للجوهر؟ وإذا اعتبرنا أنّ المفهوم الفردي المكتمل هو ما يتيح لنا التقاط وإفراد أي جوهر فرد من مجموعة لامتناهية من الجواهر، فيجب علينا أن نلاحظ حينها أنّه إذا كان المفهوم الفردي لجوهرين (أ، ب) لا يسمح لنا (أو للإله) بالتمييز بينهما فعندها لا يمكن وصف مفهوميهما الفرديين بأنّه (مكتمل). وعليه، يجب أن يكون هنالك دائمًا سبب، يوجد ضمن المفهوم الفردي المكتمل للجوهر ويصدر من أمر إلهي حرّ، يجعل (أ) قابلًا للتمييز عن (ب). وهذه الحقيقة تشير إلى حقيقة مهمّة أخرى حول التفسير الذي اقترحناه: فالأمر لا يقف عند حدّ امتلاك كلّ جوهر لمفهوم فردي مكتمل (ماهية الجوهر عند خروجه من الذهن الإلهي)، بل إنه لكلّ ماهية أو مفهوم فردي مكتمل جوهر واحد لا غير في العالم (هذه المحاججة وردت أصلًا ضمن القسم السابق الذي يصف العلاقة بين مبدأي السبب الكافي وتطابق اللامتمايزات؛ وبالتحديد: حول السبب الذي دفع الإله لإيجاد جوهرين لهما المفهوم الفردي المكتمل ذاته؟). وعلاوة على ذلك، لماذا يجب على الجواهر ألا تنشأ بشكل طبيعي إلّا بخلق الإله للعالم وتنتهي بإفناء الإله لها؟ إذا أخذنا بشكل حرفيّ تمامًا ادّعاء لايبنيتس بأنّ (المبدأ الفردي المكتمل) يحتوي ضمنه كلّ المحمولات الصادقة عن ماضي الجوهر وحاضره ومستقبله، فربّما يتيح ذلك القول بأنّ هذا الأمر لا بدّ أن يتضمّن حقائق تعود إلى أوان الخلق وتستمرّ إمّا بشكل لامتناهٍ أو إلى نهاية الزمان. وهذه المحاججة قد تكون ضعيفة إلى حدٍّ ما في ذاتها، ولكنّها ستبدو بالتأكيد كنتيجة لفكرة لايبنيتس المنطقية عن الجوهر، (وكذلك) كنتيجة عن إحدى النتائج الأخرى، وهي: أنّ كلّ جوهر هو مرآة للكون بأكمله. وإذا كان الحال كذلك، فكان الجوهر مرآة للكون بأكمله، فلا بدّ أن يحتوي ضمنه على محمولات المفهوم الفردي المكتمل التي تعود إلى أوان الخلق وما بعده. ولا يمكننا من اللمحة الأولى أن نتبيّن من مجرّد (المفهوم الفردي المكتمل) و(مذهب العلامات والآثار) السبب الذي يبرّر عدم تركّب أيّ جوهر من جوهرين أو تقسيمه لجوهرين جديدين. ولنفترض أنّ الجوهر (س) يحتوي ضمنه على محمولات للمفهوم الفردي المكتمل (أ، ب، ت، …) صادقة منطقيًا فيماضي (س) وحاضره ومستقبله. ولنفترض أنّ (س) يُراد تقسيمه إلى (س1، س2). وهنا قد يتخيّل المرء بأنّ كلا الجوهرين سيملك كلّ محمولات (س) قبل التقسيم لتكون محمولات مشتركة وفريدة بعد ذلك. لكنّ الجزء الذي يتّصل بالموضوع من فكرة لايبنيتس المنطقية عن الجوهر تقضي بأنّ (المفهوم الفردي المكتمل) غنيّ بما يكفي ليسمح لنا (أو للإله) بأن يستنبط منه كلّ المحمولات في الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا يعني أنّ لايبنيتس يقترح، ضمنيًا، أنّ محمولات ما قبل التقسيم لن تسمح بالاستنباط المنطقي لجواهر تفريعية أو تقسيمية. فإذا كانت (أ، ب، ت، …) تعني ضمنيًا (د1، ذ1، ر1، …) فلا يمكنها أن تعني ضمنيًا أيضًا (د2، ذ2، ر2 …). ويمكن استخدام محاججة شبيهة في إثبات عدم إمكانية دمج جوهرين اثنين. ويضاف إلى ما سبق أنّنا إذا كنّا قد ضمنّا (مبدأ تطابق اللامتمايزات) مسبقًا فينبغي أن يكون من الواضح حينها أنّ الجوهر الذي يحتوي ضمن مفهومه الفردي المكتمل على المحمولات (أ، ب، ت، …، د1، ذ1، ر1) والجوهر الذي يحتوي ضمن مفهومه الفردي المكتمل على المحمولات (أ، ب، ت، …، د2، ذ2، ر2) هما جوهران متميّزان عدديًا وليسا مجرّد جوهر واحد في طور ما قبل الانقسام ثمّ تضاعف فيما بعد. وبما أنّ الجواهر لا يمكنها أن تنشأ بشكل طبيعي إلّا في أثناء خلق الإله للعالم، وبما أنّها لا يمكنها أن تندمج أو تنفصم، فإنّ من الواضح أنّ عدد الجواهر يجب أن يبقى ثابتًا. وفي الختام، إذا كان صحيحًا أنّ من طبيعة الجوهر أن تكون له فكرة وصلت في اكتمالها إلى حدّ أن يستنبط المرء منها كلّ محمولاتها في الماضي والحاضر والمستقبل، وإذا كانت الجواهر توجد من خلق العالم، فعندها يبدو (نسبيًا) أنّ من الطبيعي الاستنتاج بأنّ كلّ جوهر يحتوي ضمنه شيئًا أشبه بقصّة للكون بأكمله من منظوره الخاصّ به. ويمكننا أن نستفيض أكثر بدءًا من هذا الموضع، لكن تجب الإشارة هنا إلى أنّ لايبنيتس يقترح ضمنيًا هنا مجموعة من المبادئ سيتناولها بتفصيل أكثر فيما بعد: مبدأ (انفصال العوالم)، وأطروحة (المرآة) أو (التعبير)، ومبدأ (التناغم الشامل).

وهنالك نتيجة أخرى جديرة بالانتباه للمفهوم المنطقي للجوهر، وهي (إنكار التفاعل العلّي) للجواهر المتناهية؛ وتبدو هذه النتيجة بأوضح أشكالها في كتاب (الحقائق الأوّلية) الذي يطرح محاججة شديدة الشبه فيما يخصّ طبيعة الجوهر. إذ يقول لايبنيتس بأنّ الأمر لا يقف عند حدّ استحالة إمكانية تفسير حدوث تدفّق فيزيائي أصيل (انتقال صفة يتّصف بها جوهر ما إلى جوهر آخر)، بل الأهمّ من ذلك أنّ المفهوم المنطقي للجوهر يرينا أنّ (أسباب) اتّصاف الجوهر بأيّة صفة قد تكون محتواة مسبقًا ضمن (المفهوم الفردي المكتمل) لهذا الجوهر. وبعبارة أخرى: إنّ كلّ حالة من حالات الجوهر يقوم شرحها أو أساسها أو سببها على فكرتها أو مفهومها الفردي المكتمل (ولا شكّ في أن أساس أو سبب وجود أو تحقّق أيّ جوهر يجب أن نجده عند الإله وخياره الحرّ للعالم. ومن يرغب بالمزيد من التفاصيل حول رؤى لايبنيتس في العلّية يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون [العلّية عند لايبنيتس] في هذه الموسوعة). وسنرى فيما يأتي كيف أنّ إنكار التفاعل العلّي للجواهر يشكّل مقدّمة لا بدّ منها لمحاججة لايبنيتس حول التناغم المؤسّس مسبقًا.

2.4 الوحدة

إذا كان الجوهر المتناهي يمتلك (مفهومًا فرديًا مكتملًا)، كما ادّعى لايبنيتس في الفقرة الثامنة من كتابه (الكلام في الميتافيزيقا) فما هو وضعه من الناحية الأنطولوجية؟ أي: ما هو نوع الشيء الذي يمكن أن يكون له مثل هذا (المفهوم الفردي المكتمل) أو هذه الطبيعة؟ يجيب لايبنيتس على هذا السؤال بتسليط الضوء على نموذج آخر جوهرية، وهو: الوحدة. فعلى الرغم من أن طبيعة الجوهر الفردي تقضي بأن (يمتلك) مفهومًا فرديًا مكتملًا، فإنّ الوحدة الأصيلة هي وحدها من يمكنه أن تؤهّله لمسمّى الجوهر. ويعبّر لايبنيتس عن موقفه في رسالة لآرنو بمنتهى الوضوح والقوّة: «وبعبارة موجزة، إنّني أولي مرتبة البديهيات لقضيةٍ متطابقةٍ أينما أوردتُها، ولا فرق في صيغتها سوى بعبارات التأكيد، وهي: ما ليس كائنًا (واحدًا) بحقّ فهو ليس (كائنًا) بحقّ أيضًا» (G II 97/AG 86). وفي المدّة التي كتب فيها لايبنيتس (الكلام في الميتافيزيقا) ومراسلاته مع آرنو، لجأ لايبنيتس إلى أفكار سكولائية محدّدة، ومن أبرزها: فكرة الصورة الجوهرية؛ ثمّ زال النهج السكولائي من حديثه تدريجيًا في الأعوام التالية، لكنّ الفكرة الرئيسية بقيت على حالها: لا بدّ أن يكون هنالك ما يضمن، أو يجعل من الممكن، وحدة الجوهر، وهو: الصورة الجوهرية أو النفس. والنقطة التي يريد لايبنيتس بيانها هنا هي: إنّ النفس أو الصورة الجوهرية هي الأمر الوحيد الذي يمكن أن يقال عنه بأنّه يمتلك أو يبطّن مفهومًا فرديًا مكتملًا، لأنّ النفس أو الصورة الجوهرية بطبيعتها هي (وحدة) لا تفنى. ويقدّم لايبنيتس هذه النقطة بوضوح كبير في رسالة أخرة إلى آرنو: «الوحدة الجوهرية تتطلّب كائنًا لا يقبل الانقسام مطلقًا ولا يقبل التدمير بطبيعته، لأنّ فكرته تتضمّن كلّ ما سوف يحدث له، وهو ما لا يمكن أن نجده لا في الشكل ولا في الحركة (فكلاهما يتضمّنان عنصرًا خياليًا ما، ويمكنني أن أعرض لذلك)، لكنّنا يمكننا أن نجده في النفس أو الصورة الجوهرية، على النموذج الذي يُدعى (أنا)» (G II 76/AG 79). وعليه، فإنّ الوحدة هي العلامة المميّزة للجوهر الأصيل، وتتساوى معها في الأهمّية الحالة النموذجية للجوهر التي طرحها لايبنيتس، وهي: (النفس)؛ وهذه الفكرة تبطّن الكثير من تفكير لايبنيتس حول طبيعة الجوهر ولها عواقب مهمّة، لأن الـ(أنا) غير مادّية في الأساس، فهي ذهن أو نفس، كما يرى تيّار عريض لا يقتصر على ديكارت بل يشمل التراث الأوغسطيني بأكمله. وعلى النحو ذاته يقول لايبنيتس في (الحقائق الأوّلية): «يتطلّب جوهر الأجسام شيئًا لا امتداد له، وإلّا فلن يكون هنالك مصدر لواقعية الظاهرات أو للوحدة الحقيقية […] لكن بما أنّ الذرّات مستثناة، فما يتبقّى لدينا هو شيء لا امتداد له، يشبه النفس، وكان يُدعى حينًا بـ(الصورة) أو (النوع)» (A VI iv 1648/AG 34). وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ لايبنيتس يستبعد مفهوم الذرّات المادّية، كما قدّمه ديموقريطوس في الحقبة الكلاسيكية وگاسيندي وغيره في القرن السابع عشر، وذلك لأنّه ينتهك (مبدأ تطابق اللامتمايزات)؛ أي: إنّ أيّ ذرّتين مادّيتين خالصتين ستكونان بذلك متطابقتين بالكيفية ومتمايزتين في الوقت نفسه، وهو أمر مستحيل لمن يقبل (مبدأ التناقض) و(مبدأ السبب الكافي) ومشتقّ مبدأ (تطابق اللامتمايزات).

ولا يتوخّى لايبنيتس في هذا الموضوع ما يرغب به القارئ من وضوح، وقد يظنّ من يصل معه إلى هذا الموضع أنّه يرى بأنّ أيّ شيء هو جوهر ما دام (يمتلك) نفسًا أو صورة جوهرية، بينما نجد أنّ لايبنيتس في مرحلة تالية من عمله يبدو أكثر وضوحًا في اعتقاده بأنّ الجواهر الوحيدة هي الأنفس أو الكيانات الشبيهة بالأنفس (المونادات). وبعبارة أخرى: يمكن تفسير ما يقوله لايبنيتس بأنّه يؤيّد، حتّى الموضع الذي بلغناه على الأقلّ، بنوع من المادّصورية الأرسطية، والتي تتركّب فيها الجواهر من مادّة وصورة. ولا يزال الجدل مستمرًّا حول هذه المسألة بين من ناقشوه، ولا يمكن لهذا المدخل الموسوعي أن يبتّ فيها (للاستزادة حول الجدل المذكور، راجع: Look 2010).

وعلى الرغم ممّا سبق، فإنّ إعلان لايبنيتس بأنّ الجوهر لا يقبل التقسيم بالضرورة، يجعل من المستحيل على أيّ (جسم)، أو المادّة لوحدها، أن يكون جوهرًا. ولهذا فإنّ (الجوهر الجسماني) الديكارتي، وماهيّته الامتداد وحسب، لا يمكنه أن يوجد كجوهر. وبعبارة مختلفة: تتلخّص محاججة لايبنيتس في أنّ كلّ ما يقبل التقسيم ليس جوهرًا؛ والكتلة الديكارتية تقبل التقسيم، ولذلك فإنّ الكتلة المادّية الديكارتية ليست جوهرًا. وهذا يشير إلى القسم الأوّل من نقد لايبنيتس للديكارتية المذكور سابقًا، أي: إنّ لايبنيتس يرى بأنّ المادّة الديكارتية تفشل في امتلاك الوحدة التي يتطلّبها الجوهر الأصيل. ولقد ورد في مراسلات لايبنيتس وآرنو مناقشة لحالة الجسم البشري المجرّد من النفس، إذ رأى لايبنيتس بأنّ هذا الجسم، أو الجثّة، لا يمكن أن يكون جوهرًا على الإطلاق، بل مجرّد تجمّعات من الجواهر. وعلاوة عليه، إنّ كلّ ما يفتقر إلى صورة جوهرية أو نفس ليس جوهرًا، أي: إذا لم يكن الشيء “محرَّكًا” بحقّ فليس حينها سوى ظاهرة حقيقية (G II 77/AG 80). وتجب الإشارة هنا إلى مدى قوّة ما يدّعيه لايبنيتس: فهو يحاجج بأنّ الجواهر الجسمانية الديكارتية، أو أيّ تجمّع مماثل للمادّة، ليست كائنات حقيقية، وعلى الأقلّ: ليست حقيقية على نحو مماثل للجواهر البسيطة. وعليه، فإنّ تجمّعات الجواهر البسيطة ذات وضع أنطولوجي مختلف عن وضع الجواهر البسيطة.

إنّ التمييز بين الجواهر البسيطة وبين التجمّعات يأخذ أهمّية خاصة في فلسفة لايبنيتس؛ فممّا كتبه لآرنو: «إنّني أعتقد بأنّ الفلسفة لا يمكن إعادة تأسيسها واختزالها إلى أمور محدّدة على نحو أفضل ممّا يفعله الاقتصار في الاعتراف على الجواهر أو الكائنات المكتملة المتمتّعة بوحدة حقيقية، جنبًا إلى جنب مع حالات مختلفة يلي بعضها بعضًا؛ وما عدا ذلك فليس سوى ظاهرات أو مجرّدات أو علاقات» (G II 101/AG 89). وإذا كان هذا صحيحًا فليست تجمّعات الجواهر البسيطة عندها سوى ظاهرات، ولا تستطيع امتلاك واقعية العناصر البسيطة المبطّنة لها؛ ويضاف إلى ذلك أنّ الأجسام في الفلسفة الطبيعية، أي: الأجسام التي نلاحظها حولنا في العالم، من شأنها أن تبدو لنا (مجرّد ظاهرات) وفقًا لبعض الاعتبارات.

وعلى الرغم من أنّ بعض الخبراء بفكر لايبنيتس اقترحوا ذلك، فإنّه لا يقدّم القصّة الكاملة للمنظومة الميتافيزيقية عنده. فالخطّ الفاصل الذي يرسمه لايبنيتس هو للتمييز بين الوحدة الحقيقية وبين الوحدة الظاهراتية، أو بحسب تعبيره: بين (الوحدة بذاتها) وبين (الوحدة بتجمّعها). والمثال المقارن الذي يفضّله لايبنيتس في هذه الحالة هو قوس قزح: فالأجسام، على سبيل المثال، لا تستطيع امتلاك وحدة ذاتية، لكنّنا نمثّلها فعلًا باعتبارها أجسامًا واحدة وموحّدة بشكل يشبه ما نقوم به عندما نمثّل قوس قزح باعتباره شيئًا واحدًا بينما هو في الحقيقة مجرّد نتيجة لانكسار الضوء عند مروره بعدد لا يحصى من قطيرات الماء. وعلى الرغم من ذلك، فتمامًا كما أنّ قوس قزح ينتج من وجود اتّحادات أصيلة هي قطيرات الماء (سنستمرّ باستخدام الكناية نفسها وإن كان هذا لا يصحّ في الكلام مع لايبنيتس بصرامة ميتافيزيقية)، فكذلك تنتج الأجسام في العالم الطبيعي من جواهر بسيطة أصيلة. وبعبارة مختلفة: إنّ الجواهر البسيطة (تتأسّس عليها) ظاهرات الأجسام في العالم. وهذه العلاقة بين الظاهرات وبين الجواهر المدعّمة لها هي ما يعنيه لايبنيتس بكلامه حول “الظاهرات المؤسّسة بشكل جيّد”. لكن ما دامت أجسام العالم الطبيعي ظاهرات مؤسّسة بشكل جيّد (أي: ما دامت مدعّمة بجواهر بسيطة) فهي ليست مجرّد ظاهرات على النحو الذي نجدها عليه في فلسفة باركلي (هذه الرؤية، أيضًا، ليست سليمة من الخلاف. ومن يرغب بالمقارنة بين رؤيتي لايبنيتس وباركلي يمكنه الرجوع إلى المدخل المخصّص لباركلي في هذه الموسوعة).

3.4 الفاعلية

إنّ فكرة الفاعلية ترتبط بالقسم الثاني من نقد لايبنيتس للعقيدة الديكارتية بشأن الجوهر الجسماني؛ إذ يرى لايبنيتس بأنّ الجواهر ليست وحدات فيماهيتها وحسب، بل هي فاعلة أيضًا، فيقول في السطر الأوّل من كتابه (مبادئ الطبيعة والنعمة): «الجوهر كائن قادر على الفعل» (G VI 598/AG 207). لكنّ الجوهر الجسماني الديكارتي، ما دامت ماهيته الامتداد، فلا يمكن أن يكون هو نفسه مصدرًا للفعل (G IV 510/AG 161). وهنالك على الأقلّ خطّان اثنان يوصلاننا إلى محاججة لايبنيتس في هذه النقطة: (الخطّ الأوّل) اعتقاد لايبنيتس بذلك لأنّه يتمسّك بالفكرة الكلاسيكية السكولائية (الأفعال ترتبط بالافتراضات)، أي: إنّ الشيء الذي يستطيع أن يكون موضوعًا للمحمول هو وحده من يستطيع الفاعلية، والوحدات الحقيقية وحدها هي من يمكنها أن تكون موضوعات أصيلة للمحمول (وليست مجرّد ظاهرات). وبتعبير مختلف: إنّ الشيء الديكارتي الممتدّ لا يمكنه أن يشكّل افتراضًا أو موضوعًا لمحمول ما دام قابلًا للانقسام بشكل لامتناهي. لكنّ لايبنيتس يعتقد، وهنا يأتي (الخطّ الثاني)، بأنّ الشيء فاعل إذا وفقط إذا كان (مصدر) فاعليته يمكنه النشوء من ضمنه، أي: إذا وفقط إذا كانت فاعليته تنشأ تلقائيًا من ضمنه. إذن، فهذا سبب آخر لفهم الجواهر الفردية على أنّها تشبه الأذهان، إذ يعتقد لايبنيتس بأنّ الأذهان وحدها، أو الأشياء الشبيهة بالأذهان وحدها، يمكنها أن تنشأ وأن تغيّر ما عليها من تعديلات.

وعندما يقول لايبنيتس بأنّ الجواهر فاعلة فيماهيّتها، فهو يعني بقوله أنّها مزوّدة بـ(قوى). وبتعبير أدقّ: يرى لايبنيتس بأنّ «جوهر الأشياء نفسه يتكوّن من قوّة للفعل والانفعال» (G IV 508/AG 159)؛ أي: إن كلّ جوهر بسيط مزوّد بما يدعوه لايبنيتس قوى بدائية للفعل والانفعال. وهذه الفكرة، أيضًا، تبدو مستمدّة من أرسطو: فالجوهر يمتلك مكوّنًا ماهويًا فاعلًا محدّدًا، ونفسًا أو شكلًا جوهريًا أو كمالًا أوّلًا، ومكوّنًا انفعاليًا هو المادّة الأوّلية. والقوّة الفاعلة البدائية هي «قانون ملازم فرضه أمر إلهي» وفقًا للوصف الذي طوّره لايبنيتس، أي: إنّها قانون الانبساط أو قانون لسلسلة الجوهر البسيط. ويعبّر عنه بقوله في رسالة إلى ديڤولديه: «إنّني أعتقد بأنّ من الواضح أنّ القوى البدئية لا يمكنها أن تكون سوى المجهودات الداخلية لجواهر بسيطة للانتقال من الإدراك الحسّي إلى الإدراك الحسّي المتوافق مع قانون بعينه لطبيعتها، جنبًا إلى جنب مع التناغم المتزامن بينها، لتمثّل ظاهرات الكون نفسها بطرق مختلفة، وهو أمر لا بدّ أن ينشأ بالضرورة من غاية مشتركة» (G II 275/AG 181). وبما أنّ الجواهر البسيطة أذهان، فإنّ تعديلاتها تمثّلات أو إدراكات حسّية، وفاعلية الجوهر البسيط ترتبط حينها بتغيّر إدراكاته الحسّية أو تعاقبها. ومن طرق التفكير بهذا الأمر: أنّ كلّ جوهر له سلسلة فريدة من الإدراكات الحسّية برمجها الإله لتعمل بالتناغم مع كلّ الجواهر الأخرى، وإنّ الميل الداخلي لدى كلّ جوهر للانتقال من إدراك حسّي إلى آخر هو قوّته الفاعلة، أو ما يدعوه لايبنيتس أيضًا: النزوع.

4.4 التناغم المؤسّس مسبقًا

هنالك مداخل موسوعية منفصلة ومفصّلة حول رؤية لايبنيتس للعلّية والذهن، ومع ذلك فمن المفيد أن نورد هنا تفسيرًا موجزًا للحلّ الشهير الذي طرحه لايبنيتس لمشكلة الذهن-الجسد التي ورثها من ديكارت وأتباعه. وتتلخّص مشكلة الذهن-الجسم في: إذا كانت ماهية الذهن هي الفكر (لا غير)، وماهية الجسد هي الامتداد، فكيف يمكن للذهن والجسد أن يتفاعلا أو يشكّلا وحدة على النحو الذي نعلم بالتجربة أنّه قائم حتمًا؟ أو: كيف يمكن لجوهر مفكّر وجوهر امتدادي أن يتّحدا في جوهر هو الكائن البشري؟ يجيب لايبنيتس على هذا السؤال بأن ينكر أوّلًا إمكانية التفاعل العلّي لدى الجواهر المتناهية؛ وبهذا فهو يهدم الثنائية الديكارتية لأنّها تولي منزلة المقدّمة المنطقية لفكرة مفادها أنّ التفاعل الذهني-الجسدي يجب أن يُشرَح على أساس تأثير أحدهما على الآخر من خلال الغدّة الصنوبرية (راجع التأمّل السادس من تأمّلات ديكارت: VII 86–87/CSM II 59–60). ولكنّ لايبنيتس كان أيضًا ينظر إلى التناغم المؤسّس مسبقًا باعتباره تفسيرًا لعلاقة الذهن-الجسد يتفادى الصعوبات الملازمة لنظريات مذهب المناسبة (Occasionalism) حول الذهن وتفاعل الجواهر. وفي إحدى كنايات لايبنيتس الأكثر شهرة يطلب من القارئ أن يتخيّل الذهن والجسد كنوّاسي ساعة معلّقين بعارضة خشبية؛ فمن أين لهما أن يتّفقا؟ قد يتخيّل المرء أنّ حركة أحدهما تنتقل عبر العارضة الخشبية إلى النوّاس الثاني، فتتسبّب لذلك بتناغم حركتهما (نظرية التدفّق)؛ أو يمكن للمرء أن يتخيّل قيام الإله بالتدخّل وتحريك النوّاسين، فيضمن تزامنهما (نظرية المناسبة)؛ أو يمكن للمرء أن يتخيّل قيام الإله، وهو الصانع الأعظم، بخلق العالم (وضمنه: النوّاسان) على درجة عالية من الكمال تجعل النوّاسين يتأرجحان، بطبيعتهما، بتناغم كامل. وبالطبع، فإنّ الأطروحة الأخيرة هي التي يؤيّدها لايبنيتس ويطلب من قرّائه تأييدها أيضًا (راجع، مثلًا، الهامش الذي كتبه على رسالة إلى بازنيه دوبوڤال: G IV 498–500/AG 147–49).

ويمكن القول بشكل أدقّ، أنّ لايبنيتس يحاجج بأنّ الإله خلق العالم على درجة عالية من الكمال تجعل كلّ جوهر يتصرّف وفقًا لقانونه الخاصّ به للانبساط على أن يحدث ذلك في الوقت نفسه بالتناغم الكامل مع كلّ الجواهر الأخرى؛ ويضاف إلى ذلك أنّ للذهن رؤية محدّدة للعالم بفضل كونه مركزًا لكتلة ما (الجسد)، وأنّ قانون انبساط الذهن يتوافق مع قوانين الآلة الجسمانية. ولقد عبّر لايبنيتس عن رؤيته هذه بأشدّ العبارات إيجازًا في مقالة صدرت في العام (1695) بعنوان (منظومة جديدة للطبيعة)، وفيها قدّم طرحًا فعّالًا لحجّة تتكوّن من خمسة خطوات لـ(التناغم المؤسّس مسبقًا)، وهي:

  1. «لا يوجد تأثير حقيقي لجوهر مخلوق على آخر» (G IV 483/AG 143).
  2. «في الأصل، خلق الإله النفس (وكلّ وحدة حقيقية أخرى) بطريقة تجعل كلّ شيء لا بدّ أن ينشأ لها من أعماقها هي [من أسسها]، وذلك من خلال (تلقائية) كاملة فيما يتّصل بها، لكن من خلال (انسجام) كامل فيما يتّصل بالأشياء الخارجية» (G IV 484/AG 143).
  3. «هذا هو ما يجعل كلّ جوهر يمثّل الكون بأكمله كما هو تمامًا وبطريقته الخاصّة، انطلاقًا من رؤية محدّدة، ويجعل الإدراكات الحسّية أو التعبيرات عن الأشياء الخارجية تحدث ضمن النفس في زمان محدّد، بفضل قواه الخاصّة به، وكأنّه في عالم منعزل، وكأنّما لا يوجد غير الإله والجوهر» (G IV 484/AG 143).
  4. «إنّ الكتلة المنظّمة، والتي تكمن فيها رؤية النفس، والتي تعبّر عنها النفس بشكل أكثر قربًا، هي بدورها جاهزة للعمل بنفسها، متّبعةً قوانين الآلة الجسدية، في اللحظة التي تريد فيها النفس منها أن تعمل، دون الإخلال بقوانين الطرف الآخر، إذ تمتلك الأمزجة الجسدية والدم ما تحتاجه تمامًا من الحركات اللازمة للاستجابة للانفعالات والإدراكات الحسّية للنفس» (G IV 484/AG 144).
  5. «هذه العلاقة المتبادلة، المنظّمة مسبقًا في كلّ جوهر من الكون، هي التي تنتج ما ندعوه بـ(تواصل) الجواهر، وهي وحدها من يحقّق (اتّحاد النفس والجسد)» (G IV 484–85/AG 144).

وهنا نلاحظ أنّ لايبنيتس عندما يتكلّم بصرامة ميتافيزيقية فإنّه ينكر المقدّمة التأسيسية للثنائية الديكارتية: إنّ الجسم (ليس) جوهرًا، ولذلك لا يمكن أن يكون هنالك سؤال حول كيفية تفاعله كجوهر مع الذهن، أو حول كيفية علاقته كجوهر بالذهن. ومع ذلك، فلقد استطاع لايبنيتس التعبير عن رؤيته لعامّة القرّاء، أي: لمن ينتظرون منه ميتافيزيقا ديكارتية، من خلال قوله بأنّ الذهن والجسد يمكن القول بأنّهما يشكّلان اتّحادًا وأنّهما يتفاعلان ما دام الذهن يتّبع قوانينه هو، والجسد يتّبع قوانينه هو، ويلفّ الاثنين تناغم كامل. فالجسم والنفس ليسا موحّدين أحدهما بالآخر وفقًا للمعنى الذي اقترحه ديكارت، بل إنّ ما للنفس من إدراكات حسّية ونزوعات ستخرج تلقائيًا من مخازنها الخاصّة بها وستتجاوب مع أفعال الجسم ومع أحداث العالم. وبعبارة أخرى: مع أنّ ما للذهن أو النفس من إدراكات حسّية ونزوعات ستكون مستقلّة عن الجسم وفقًا لهذه الرؤية، فإنّ ذلك لا يمنع من تجاوبها بشكل دقيق مع أفعال ذلك الجسم ذاته الذي صاحَبَته، وأن تنسجم بشكل كامل مع كلّ الجواهر الأخرى في العالم.

ويرى لايبنيتس بأنّ الجواهر الفردية لا يعود لها سوى الإدراكات الحسّية والنزوعات، وهذه الإدراكات الحسّية والنزوعات يمكن فهم تكوينها سلسلةً ضمن الجوهر الفردي. وبعبارة أخرى: إنّ كلّ جوهر فردي يمكن فهمه على أنّه يمتلك مجموعات من الإدراكات الحسّية والنزوعات على النحو الذي يمكن أن يقال، وفي أيّ وقت معطى، بأنّ جوهرًا بعينه كان يمرّ بهذا وذاك من الإدراكات الحسّية والنزوعات. وفي الواقع، إنّ رؤية لايبنيتس تقول: إنّ الجوهر المعطى (س) يحتوي ضمن مفهومه الفردي معلومات على النحو التالي: (س) في الزمان (ز1) سيكون له الإدراك الحسّي (إ1) و/أو النزوع (ن1)، وفي الزمان (ز2) سيكون له الإدراك الحسّي (إ2) و/أو النزوع (ن2)، وهكذا دواليك (إنّ الوضع هاهنا أكثر تعقيدًا في الحقيقة، فالذهن، كما سنبيّن في قسم تالٍ، يمتلك ضمنه في أيّ لحظة مجموعة لا متناهية من “الإدراكات الحسّية الضئيلة”، وهي إدراكات حسّية لكلّ ما يحدث في الكون، لكنّ الذهن البشري سيكون على الأقلّ واعيًا حقًّا بشيء واحد في الوقت نفسه. وعلى سبيل المثال: إنّ قارئ هذه الأسطر يمكن أن يقال عنه بأنّه يمتلك سلسلة من الإدراكات الحسّية المرتّبة زمانيًا [ز1 تقابل الجملة الأولى، ز2 تقابل الجملة الثانية، …إلخ]، بالإضافة لـ”ضجيج الخلفية” الذي لا يدركه القارئ بشكل مباشر، كصوت سيارة إسعاف تقترب تدريجيًا وتبتعد من الزمان [ز1] إلى الزمان [ز3]). وعلاوة على لك، فإنّ سلسلة الإدراكات الحسّية والنزوعات تتولّد من داخل الجوهر الفردي نفسه؛ أي: إن لايبنيتس يتكلم كما لو أنّ الإدراكات الحسّية والنزوعات تتوالى بشكل طبيعي من إدراكات حسّية ونزوعات سابقة، وفي نهاية المطاف: إنّ الجوهر الفردي المتناهي، وفقًا لهذا الاعتبار، مستقلّ عِلّيًا عن كلّ ما يخلق من جواهر متناهية أخرى.

والفكرة الحاسمة هاهنا مفادها: إنّ الجسد سيتّبع قوانينه الخاصّة به، والذهن سيتّبع قوانينه الخاصّة به، ولن يكون هنالك تأثير حقيقي بين الاثنين. وعليه، سيبدو أنّ الذهن والجسد يشكّلان، كما فيما سبق، عالمين منفصلين، وهذا ما يدّعيه لايبنيتس حقًّا في موضع تالٍ حين يفسّر العالم على أساس (المونادات)، وهذان العالمان المنفصلان، وفقًا لما يدّعيه لايبنيتس، يتّحدان في الأساس بفضل التجاوب بين أفعالهما وإدراكاتهما الحسّية. وعلاوة عليه، فإنّ هذين المجالين المنفصلين ستنطبق عليهما وسيلتان متمايزتان لتفسير أحداث العالم: التفسير وفقًا للعلّة الغائية للذهن، أو التفسير وفقًا للعلّة الفاعلية للجسد أو الأجساد عمومًا. وبذلك فلا الذهن لوحده، ولا الجسد لوحده، يبدو عليهما اتّباع مجموعة مختلفة من القوانين، بل إنّ لايبنيتس يرى بأنّ العالم يمكن وصفه على أساس أيّة مجموعة من مجموعتي القوانين هاتين.

5.4 العلّتان الفاعلية والغائية ومملكتا الطبيعة والنعمة

إنّ تفسير لايبنيتس للتناغم المؤسّس مسبقًا بين الذهن والجسد هو جزء من موقف أعمّ في رؤيته الميتافيزيقية، وهو: وجود أنماط موازية للتفسير. فلقد ورد فيما سبق أنّ لايبنيتس يعتقد بأنّ الذهن سيتصرّف وفقًا لقوانينه الخاصّة به، والجسد سيتصرّف وفقًا لقوانينه الخاصّة به، وسيكون الاثنان في حالة تناغم؛ لكنّ لايبنيتس يعتقد أيضًا بأنّ الذهن، أو النفس، يتصرّف لغايات محدّدة، ولذلك يمكن تفسير أفعاله على أساس (العلل الغائية)، أمّا أفعال الجسد، وهي ليست سوى حالات لمادّة تتحرّك وفقًا لما تدّعيه الفلسفة الميكانيكية، فيجب أن تُفسَّر على أساس (العلل الفاعلية)؛ إذ يقول لايبنيتس في كتابه (المونادولوجيا): «تتصرّف الأنفس وفقًا لقوانين العلل الغائية، من خلال النزوعات والغايات والوسائل؛ أمّا الأجساد فتتصرّف وفقًا لقوانين العلل الفاعلية، أو وفقًا لقوانين الحركة؛ وهاتان المملكتان (العلل الفاعلية والعلل الغائية) في حالة من التناغم بينهما» (Monadology §§79, 81). فبحسب هذه المنظومة تتصرّف الأجساد وكأنّها بلا نفوس (وإن كان هذا مستحيلًا)، وتتصرّف النفوس وكأنّها بلا أجساد، ويتصرّف الاثنان كما لو أنّ أحدهم يؤثّر بالآخر (G VI 620–21/AG 223).

وفي مجال الفلسفة الطبيعية يقول لايبنيتس بوضوح بأنّ «كلّ الظواهر الجسمانية يمكن اشتقاقها من العلل الفاعلية والميكانيكية» على الرغم من وجود علل غائية (أو “أسباب أعلى”) تدعّمها (راجع: Specimen Dynamicum: GM VI 242/AG 126)، لكنّ لايبنيتس يأخذ هذا التوازي إلى مدى أبعد حين يقول: «بشكل عامّ، يجب أن نعتقد بأنّ كلّ ما في العالم يمكن تفسيره بطريقتين: الأولى من خلال (مملكة القوّة)، أي: من خلال (العلل الفاعلية)، والثانية من خلال (مملكة الحكمة)، أي: من خلال (العلل الغائية)، من خلال الإله الذي يحكم الأجسام من أجل مجده وكأنّه مهندس، يحكمها كآلات تتّبع قوانين (الحجم) أو (الرياضيات)، ويحكمها حقًا كي تستخدمها الأنفس؛ وعندما يحكم الإله، من أجل مجده، الأنفس القادرة على الحكمة فإنّه يحكمها باعتبارها شريكة له في الانتماء، وباعتبارها تشاركه عضويّة مجتمع ما، يحكمها كأمير، لا بل كأب، من خلال (قوانين الخيرية) أو (القوانين الأخلاقية)» (GM VI 243/AG 126).

وعلى الرغم من أنّ لايبنيتس يتكلّم هنا على مملكتي القوّة والحكمة، فإنّ المقاربة التفسيرية المزدوجة (تفسير ظاهرات العالم الطبيعي بالاعتماد على العلل الفاعلية وأفعال الذهن المفسّرة من خلال العلل الغائية) تقود إلى التمييز بين ما ندعوه بشكل أعمّ (مملكة الطبيعة) وبين (مملكة النعمة) (راجع: Monadology §87). ولهذا، وفقًا لما يراه لايبنيتس، يمكننا أن نفهم العالم كما لو أنّه مصمّم بواسطة الإله، المهندس الميكانيكي أو المعماري الكامل، ويمكننا أيضًا أن نفهم العالم كما لو أنّه مرتّب وموجّه بواسطة الإله، الملك الأعلى، الذي يتركّز همّه في الأساس على سعادة رعيّته.

5. الميتافيزيقا .. المثالية اللايبنيتسية

1.5 المونادات وعالم الظاهرات

لقد رأينا، حتّى هذا الموضع، كيف يرفض لايبنيتس التفسير الديكارتي للمادّة، وهو تفسير يمكن بموجبه اعتبار المادّة، والتي ماهيّتها الامتداد، من الجواهر؛ إذ كان يعتقد لايبنيتس عوضًا عن ذلك بأنّ الكائنات المزوّدة بالوحدة الحقيقية، والقادرة على الفعل، هي وحدها من يمكن اعتبارها من الجواهر. ولقد عبّر لايبنيتس عن رؤيته هذه على النحو الأمثل في نظرية المونادات الشهيرة، وهي تقضي بأنّ الكائنات الوحيدة التي تستحقّ تسمية الجوهر الأصيل، وتُعتَبَر حقيقيةً تبعًا لذلك، هي الجواهر البسيطة الشبيهة بالذهن المزوّدة بالإدراك الحسّي والنزوع. وما أوردناه فيما سبق حول وحدة الجوهر البسيط ونشاطه يجب أن يكفي لشرح الأسباب التي دعت لايبنيتس لاعتناق موقفه هذا، ويبقى علينا فيما يلي أن نقدّم نسخة أوفى للمثالية عند لايبنيتس.

يرى لايبنيتس بأنّه إذا كانت الكائنات الحقيقية الأصيلة هي الجواهر البسيطة الشبيهة بالذهن وحسب فلا بدّ حينها من أن تكون الأجسام والحركة وكلّ شيء آخر ناتجة عن، أو مشتقّة من، تلك الجواهر البسيطة وحالات إدراكها الحسّي. ويقول لايبنيتس في إحدى عباراته النمطية حول طرحه المثالي: «في الحقيقة إنّني لا ألغي الجسم، لكنّني أختزله لما هو عليه؛ وذلك لأنّني أبيّن بأنّ الكتلة الجسمانية، والتي يعتقد البعض بأنّها تمتلك ما تسمو به على الجواهر البسيطة، ليست جوهرًا، بل هي ظاهرة ناتجة عن جواهر بسيطة، والجواهر البسيطة هي وحدها من يتّصف بالوحدة والواقعية المطلقة» (G II 275/AG 181). لكنّ الكثير أصابتهم الصدمة من هذا الموقف الذي ينكر واقعية الأجسام ويؤكّد على أن المونادات هي أساس كلّ الظاهرات الجسمانية ومستلزماتها الميتافيزيقية؛ فعلى سبيل المثال: ثمّة عبارة شهيرة لبيرتراند راسل في مدخل كتابه حول لايبنيتس قال فيها بأنّه شعر بأنّ «المونادلوجيا أشبه بقصّة خيالية رائعة، ربّما لا يعوزها الترابط، لكنّها اعتباطية بالكامل»؛ وربّما كان أذكى وألذع سؤال مجازي طُرِح على لايبنيتس هو السؤال الساخر الذي سأله ڤولتير: «هل يمكنك حقًّا أن تعتقد بأنّ قطرة من البول هي مجموعة لامتناهية من المونادات، وبأنّ لكلّ منها أفكارًا، مهما كانت غامضة، يتلخّص فيها الكون كلّه؟» (Oeuvres complètes, Vol. 22, p. 434). في الحقيقة، إنّ لايبنيتس قد يعتقد ذلك، لكن: كيف؟

2.5 العضوانية الشاملة والمثالية

عندما يحاجج لايبنيتس بأنّ الأجسام نتائج للمونادات، وبأنّ المادّة نفسها ظاهرة، فهو يقصد أمرًا محدّدًا بدقّة. ففي المقام الأوّل: تحتوي منظومته نوعًا خاصًا من النظام في العالم الطبيعي يتجاوب مع تراتبيةٍ للمونادات؛ ولنفكّر أوّلًا في تعليق شهير أدلى به لايبنيتس لديفولديه قدّم فيه مخطّطًا أنطولوجيًا خماسيًا بقوله:

«إنّني أميّز بين: (1) الكمال البدئي أو النفس البدئية، و(2) المادة، وبالتحديد: المادّة الأولى أو القوّة المنفعلة الأوّلية، و(3) الموناد المكوّن من هذين الشيئين، و(4) الكتلة أو المادّة الثانوية، أو الآلة العضوية التي يتجمّع فيها عدد لا حصر له من المونادات التابعة، و(5) الحيوان، أي: الجوهر الجسماني الذي يجعل منه الموناد المهيمن آلة واحدة» (G II 252/AG 177). 

ومن النقاط التي يطرحها لايبنيتس بقوله السابق أنّ في الحيوان مونادًا مهيمنًا يرتبط بعلاقة خاصّة مع كلّ المونادات التابعة له، وهذه العلاقة هي التي تكوّن “الآلة العضوية” للحيوان. لكنّ الصورة أكثر تعقيدًا من ذلك في نهاية المطاف، لأنّ كلّ موناد من المونادات التابعة يمكن اعتباره ممتلكًا لآلة عضوية ألحقت به، وهذه العلاقة تستمرّ إلى حدّ لامتناهي الصغر. ولهذا يكتب لايبنيتس في الفقرة (70)، مثلًا، من كتابه (المونادولوجيا):

«وهكذا نرى أنّ كلّ جسم حي يحتوي على كمال أول مهيمن، وهو يدعى (النفس) في الحيوان؛ لكنّ أطراف هذا الجسم الحيّ مليئة بكائنات حيّة أخرى، من نباتات وحيوانات، وكلّ منها له أيضًا كماله الأوّل، أو نفسه المهيمنة» (G VI 619/AG 222). 

ويورد لايبنيتس قولًا مشابهًا في رسالة إلى بيرلينگ قال فيها:

«إنّ أيّ كتلة تحتوي ما لا حصر له من المونادات، وذلك لأنّه على الرغم من أنّ أيّ جسم عضوي واحد في الطبيعة له موناد مجاوب [مهيمن] فإنّ هذا الأمر لا يمنع من أن يحتوي في أجزائه مونادات أخرى مزوّدة على النحو نفسه بأجسام عضوية تابعة للموناد الأوّلي؛ والطبيعة بأجمعها ليست سوى ذلك، لأنّ من الضروري أن يكون كلّ تجمّع ناتجًا من جواهر بسيطة كما لو كانت عناصر» (G VII 502). 

وبعبارة أخرى: إنّ كلّ موناد سيكون له جسم عضوي هو بدوره مكوّن من مونادات أخرى، وكلّ من هذه المونادات سيكون له بدوره جسم عضوي كذلك. وعلى نحو مشابه، فإنّ أيّ قطعة جامدة ظاهريًا من المادة، كحجر أو قطرة من البول كما في سؤال ڤولتير، ستكون نتيجة لعدد لا متناهٍ من المونادات وأجسامها العضوية، والتي ليست بدورها سوى المزيد من المونادات وأجسامها العضوية. وهذه الرؤية تترافق مع خطّ ( العضوانية الشاملة) في فكر لايبنيتس، وهذا هو السبب الذي جعل لايبنيتس يدّعي بأنّ «كلّ ما في الطبيعة مليء بالحياة» (Principles of Nature and Grace §1: G VI 598/AG 207)، وأنّ «الحياة توجد في المونادات بدرجات لامتناهية» (Principles of Nature and Grace §4: G VI 599/AG 208).

وفي المقام الثاني، هنالك ما يمكن وصفه على النحو الأمثل بأنّه خطّ مثالي أصيل في فكر لايبنيتس، وهو: إذا كانت المثالية هي الأطروحة القائلة بأنّ الأشياء الموجودة حقًّا هي الأذهان وأفكارها وحسب، فإنّ لايبنيتس يعتنق المثالية بوضوح. والفكرة العاملة هاهنا هي: إنّ الأجسام، وخصوصًا: الأجسام المرافقة لأذهان محدّدة، هي أشياء قصدية، وإن كانت تنتج من المونادات أو تتأسّس عليها. وهذا هو ما يعنيه لايبنيتس بقوله في رسالة أخرى إلى ديڤولديه:

 «إذا دقّقنا النظر في المسألة، فلا بدّ أن نقول بأنّه ليس في الأشياء سوى جواهر بسيطة، وليس في هذه الجواهر البسيطة سوى الإدراك الحسّي والنزوع. وعلاوة عليه، فإنّ المادّة والحركة ليستا من الجواهر أو الأشياء بقدر ما هما ظاهرتان لمن يقوم بالإدراك الحسّي، وتكمن واقعيّتهما في التناغم بين من يقوم بالإدراك الحسي ونفسه (في أزمنة مختلفة) والتناغم بينه وبين نظرائه الآخرين» (G II 270/AG 181). 

وعليه، فإنّ الأشياء الحقيقية الوحيدة هي الجواهر البسيطة؛ أي: الأجسام التي ندرك حسّيًا من حركتها حولنا بأنّها ظاهرات وليست جواهر، وإن كانت تتأسّس في نهاية المطاف على جواهر بسيطة أو مونادات. ويضاف إلى ذلك أنّ أجسام العالم الطبيعي ينبغي اعتبارها أشياء عالمية من ناحية كونها أشياء لدينا حولها معتقدات أكيدة؛ وهذا ما يعنيه لايبنيتس بقوله بأنّها تمتلك واقعًا ما دام هنالك انسجام بين من يقومون بالإدراك الحسّي أو بين معتقدات هؤلاء أو إدراكاتهم الحسّية في أزمنة مختلفة. وبعبارة أخرى: إنّ جسم المرء، أو حتّى أيّ حجر من الأحجار، يكون حقيقيًا لأنّه مفعول لإدراك حسّي يتلاءم مع تفسير للعالم ويتّصف بأمرين في الوقت نفسه: الترابط من وجهة نظر أيّ شخص يقوم بالإدراك الحسّي، والتناغم مع الإدراكات الحسّية للأذهان الأخرى.

3.5 المنظور والفيض الإلهي

وعلى الرغم ممّا سبق، فإنّ نسخة المثالية التي يعتنقها لايبنيتس تميل إلى التسبّب بالالتباس بفعل خطّين فكريين اثنين: الالتزام بـ”تجسيد” المونادات بالترافق مع رفض واقعية الأجسام، والرؤية القائلة بأنّ المونادات غير مكانية لكنّها تمتلك وجهة نظر. لكنّ ما يرمي إليه لايبنيتس هو أنّه بينما لا تتمتّع المونادات بالامتداد فإنّ لها مع ذلك وضع ما دامت تمتلك علاقة منظّمة مع الأجسام الأخرى من خلال الجسم الذي توجد فيه أو من خلال الجسم الذي تمثّل نفسها باعتبارها متّصلة به (G II 253/AG 178). وبعبارة أخرى: إنّ الجواهر البسيطة، وفقًا لمونادولوجيا لايبنيتس، هي كيانات شبه ذهنية لا توجد، بالمعنى الضيّق للكلمة، في الفضاء، بل تمثّل الكون من منظور فريد.

لكنّ مفهوم لايبنيتس عن مثل هذا الكون المتصوّر يمكن إعادته، على نحو مميّز، إلى أصل أفلاطوني. وبالعودة إلى ما ورد سابقًا: إنّ كلّ جوهر بسيط شبه ذهني يمثّل نفسه باعتباره يمتلك جسمًا ووضعًا بالنسبة للأجسام الأخرى، لكنّه بذلك يقدّم منظورًا للعالم إلى الذهن الإلهي. وهذه الفكرة تخرج من نصوص لايبنيتس بوضوح شديد بقوله في كتابه (الكلام في الميتافيزيقاDiscourse on Metaphysics §14):

«الآن، وقبل كلّ شيء، من الواضح جدًّا أنّ الجواهر المخلوقة تعتمد على الإله، والذي يحفظها وحتى أنّه ينتجها باستمرار عبر نوع من الفيض، تمامًا كما ننتج أفكارنا. والإله يشغّل، إذا جاز التعبير، المنظومة العامّة للظاهرات من كلّ الجوانب وبكلّ الطرق التي يراها جيّدة للإنتاج من أجل إظهار مجده، وهو يستعرض كلّ أوجه العالم بكلّ الطرق الممكنة لأنّه لا توجد علاقة تغيب عن علمه الكلّي. وإنّ نتيجة كلّ رؤية للكون، كما تُرى من وضع بعينه، هي جوهر يعبّر عن الكون بالتناغم مع هذه الرؤية، وذلك إذا رأى الإله أنّ من المناسب تحويل فكره إلى حقيقة واقعة وإنتاج الجوهر» (A VI iv 1549–50/AG 46–47). 

إنّ هذا القول صادم، وفحواه أنّ كلّ جوهر متناهٍ هو نتيجة لمنظور مختلف يمكن للإله النظر إلى الكون من خلاله، وأنّ كلّ جوهر مخلوق هو فيض من الإله. وهذه الحجّة يمكن التعبير عنها بطرق متعدّدة ومختلفة: (أوّلها) أنّه بما أنّ الإله (قادر) على احتلال أيّ منظور عن العالم، وكلّ المنظورات المماثلة، فلا بدّ أن يكون هنالك جوهر بسيط يمثّل العالم من ذلك المنظور (وبما أنّ الجوهر البسيط لا بدّ أن تكون هنالك تمثيلات لمفهومه الفريد، فلا بدّ أن يكون جوهرًا شبه ذهني، أي: موناد، قادرًا على أن تكون له إدراكات حسّية). و(ثانيها)، وهو أقوى من الأوّل، أنّ العلم الكلّي للإله يستلزم المعرفة بالعالم من كلّ المنظورات في آن واحد، وأنّ المنظورات اللامتناهية للعالم المتوّلدة من طبيعة الإله (هي) مونادات بكلّ بساطة.

4.5 المراتب المونادية

إذا كانت الأشياء التي توجد حقًّا هي الكيانات شبه الذهنية (المونادات) وحسب، فإنّ الفروق بينها لا بدّ أن تكون قابلة للتفسير على أساس الميزات الذهنية. ولقد أوردنا فيما سبق أنّ من الميزات المركزية لتفسير لايبنيتس للجواهر ادّعاؤه بأنّها مزوّدة بقوى فاعلة ومنفعلة، وهو يعبّر عن هذه الرؤية في رؤيته الميتافيزيقية المكتملة بشكل مختلف شيئًا ما، وذلك عندما يقول بأنّ الجوهر يكون فاعلًا ما دام يمتلك إدراكات حسّية مميّزة، ويكون منفعلًا ما دام يمتلك إدراكات حسّية ملتبسة. وعليه، يكتب لايبنيتس، على سبيل المثال، في الفقرة (49) من كتابه (المونادولوجيا): «إننّا نعزو (الفعل) للموناد ما دام يمتلك إدراكات حسّية محدّدة، ونعزو له (الانفعال) ما دام يمتلك انفعالات ملتبسة» (G VI 615/AG 219)، لكنّنا نقرأ في موضع آخر من الكتاب نفسه: «إنّ كلّ المونادات تمضي ملتبسةً نحو اللاتناهي، نحو الكلّ؛ لكنّها محدودة ومتمايزة بدرجات إدراكاتها الحسّية المميّزة» (G VI 617/AG 221). والفكرة الرئيسية هنا ذات شقّين: (أولًا) إنّ الفاعلية والانفعالية ميزتان لما في تمثيلات الموناد من وضوح نسبي وتمييز، و(ثانيًا) ما دامت الأجسام العضوية لأيّ موناد بعينه هي نفسها مكوّنة من مونادات، فإنّ مونادات الجسم العضوي سيكون لها إدراكات حسّية ملتبسة. وهذه السلسلة تستمر نزولًا إلى حدّ لامتناهٍ في الصغر لا تمتلك فيه المونادات سوى إدراكات حسّية شديدة الالتباس وغير دقيقة حول العالم.

وبما أنّ هنالك تراتبية بين المونادات ضمن أيّ حيوان، من نفس الشخص نزولًا إلى الموناد اللامتناهي الصغر، فإنّ علاقة الهيمنة والتبعية بين المونادات هي ميزة حاسمة في كلٍّ من مثالية لايبنيتس والعضوانية الشاملة عنده. لكنّ تراتبية الجواهر ليست مجرّد تراتبية احتواء يكون بموجبها لكلّ موناد جسم عضوي ناتج عن مونادات أخرى، ولكلٍّ منها جسم عضوي بدورها، وهكذا دواليك. ففي حالة الحيوانات (الحيوانات المتوحّشة والبشر) تكون المونادات متعلّقة أيضًا بـ(السيطرة) على “آلة الطبيعة” (كما ورد في رسالة كتبها لايبنيتس إلى ديڤولديه واقتبسنا منها فيما سبق). إذن، ما الذي يفسّر العلاقة بين المونادات المهيمنة والتابعة؟ يخبر لايبنيتس ديبوزيه بأنّ الهيمنة والتبعية تتكوّن من درجات من الكمال. وبما أنّ المونادات يراد لها أن تتمايز من ناحية إدراكاتها الحسّية، فإنّ من القراءات الطبيعية الاكتفاء بمجرّد ما اقترحته الفقرة السابقة: الموناد (س) يهيمن على الموناد (ص) عندما يكون لـ(س) إدراك حسّي أوضح بالمقارنة مع ما لـ(ص). لكنّنا إذا اتّبعنا وصف مظهر التفاعل العِلّي الذي نجده في المونادولوجيا (الفقرات 49-51) فيمكننا الحصول على صورة أكثر تعقيدًا بقليل: فالموناد (س) يهيمن على الموناد (ص) عندما يحتوي (س) على أسباب لأفعال (ص). وهذا هو السبب الذي يسمح بأن نقول عن ذهن الحيوان بأنّه يوجّه أفعال جسمه؛ وهو السبب الذي يسمح بأن نقول مثلًا، بأنّ هنالك تراتبية للوظيفية ضمن أيّ حيوان. وعليه، فإنّ ذهن المرء يمتلك إدراكات حسّية أوضح بالمقارنة مع ما تحتويه مونادات جسمه العضوي، لكنّ جسمه العضوي يمتلك أسباب كلّ ما يحدث فيه؛ فالكبد يحتوي أسباب ما يحدث في خلاياه، والخليّة تحتوي أسباب ما يحدث فيما تتضمّنه من الميتوكوندريا؛ ولايبنيتس يرى بأنّ هذه العلاقة تستمرّ نزولًا إلى حدّ لا متناهٍ.

6. الإپستيمولوجيا

إنّ أفكار لايبنيتس في المسائل الإپستيمولوجية لا تضارع في كمّيتها أفكاره الأخرى في المنطق والميتافيزيقا والعدل الإلهي والفلسفة الطبيعية؛ لكن يمكن القول بأنّ لايبنيتس فكّر بعمق حول إمكانية المعرفة البشرية وطبيعتها، وسنعرض فيما يلي لمعتقداته الرئيسية في هذا المجال.

1.6 “تأملات في المعرفة والحقيقة والأفكار”

نشر لايبنيتس في العام (1684) رسالة موجزة حملت هذا العنوان، وكانت أولى إصداراته الناضجة، وقد أشار إليها كثيرًا خلال عمله في الفلسفة. ولقد أورد لايبنيتس في رسالته هذه سلسلة من مميّزات المعرفة البشرية أو الإدراك البشري (cognitio): فالمعرفة إمّا غامضة أو واضحة؛ والمعرفة الواضحة إمّا ملتبسة أو مميّزة؛ والمعرفة المميّزة إمّا غير مطابقة أو مطابقة؛ والمعرفة المطابقة إمّا رمزية وإمّا حدسية. ويرى لايبنيتس بأنّ المعرفة الواضحة تعني القدرة على تمييز شيء يُقدَّم لنا (وردة، مثلًا)؛ وتكون المعرفة واضحة ومميّزة في الوقت نفسه عندما يستطيع المرء تعداد العلامات الكافية لتمييز الوردة عن غيرها من الأشياء؛ وإذا استطاع المرء ذلك فهو يمتلك فكرة مميّزة أو مفهوم مميّز، ويتمكّن بالتالي من تقديم (تعريف اسمي) للشيء. ويضاف إلى ما سبق أنّه إذا كانت كلّ العلامات التي تشكّل جزءًا من فكرة مميّزة هي نفسها معلومة على نحو مميّز، فعندها يكون الإدراك كافيًا. وأخيرًا: إذا كانت الفكرة معقّدة وكناّ قادرين على أن نأخذ بالحسبان كلّ محتواها من الأفكار في الوقت نفسه فعندها تكون معرفتنا حدسية. وفي نهاية المطاف، يعتقد لايبنيتس بأنّ الإنسان لا يمتلك من المعرفة الحدسيّة إلّا ما يتعلّق بالأفكار والقضايا الأوّلية، بينما يمتلك الإله، طبعًا، المعرفة الحدسية بكلّ شيء.

إنّ لايبنيتس يعتقد بأنّ تمييزاته تفيد أيضًا في تبيين الفرق بين الأفكار الصادقة والكاذبة، فيقول: «الفكرة صادقة عندما تكون فكرتها ممكنة، وكاذبة عندما تحتوي على تناقض» (A VI iv 589/AG 26). والإمكانية قد تكون (قبلية) ثابتة و(بعدية)؛ فمن جهة يمكننا أن نعلم (كقبلية) بأنّ شيئًا ممكن إذا كنّا قادرين على تحليله إلى الأفكار التي يتكوّن منها، والتي هي بدورها ممكنة، وإذا علمنا بأنّه ما من تنافر بين تلك الأفكار المكوّنة للشيء؛ ومن جانب آخر، إننّنا نعلم (كبعدية) بأنّ شيئًا ما ممكن بالتجربة وحسب، وذلك لأنّ الوجود الحقيقي لأيّ شيء هو دليل على إمكانيّته.

2.6 حقائق الاستدلال وحقائق الواقعة

على الرغم من أنّنا ناقشنا فيما سبق مبدأ التناقض ومبدأ السبب الكافي، لم نشر هناك إلى أنّ هذين المبدأين يوظّفان لخدمة تمييز لايبنيتس بين (حقائق الاستدلال) و(حقائق الواقعة)، أي: التمييز بين (الحقائق الضرورية) و(الحقائق الممكنة). ولقد عالجنا تفسير لايبنيتس للجهوية في موضع آخر، لكن لا بدّ هنا من إيراد تفسير موجز لهذا التمييز. ففي حالة الحقيقة الناتجة عن الاستدلال، يمكن العثور على برهانها أو تفسيرها من خلال تحليل الأفكار أو المفاهيم: «تحليلها إلى أفكار أبسط وحقائق أبسط حتّى الوصول إلى الأوّليات» (G VI 612/AG 217). وفي نهاية المطاف، إنّ كلّ حقائق الاستدلال ستكون قابلة للتحليل إلى أوّليات أو هويات، وبهذا يكون مبدأ التناقض عاملًا. أمّا في حالة حقائق الواقعة فإنّ برهانها لا يمكن العثور عليه من خلال عملية (متناهية) من تحليل الأفكار، ولكن يجب أن يكون هنالك برهان على أنّ بعض الأفكار بعينها هي على نحو دون آخر (مبدأ السبب الكافي)، وهذا البرهان يوجد، وفقًا للايبنيتس، خارج سلسلة الأشياء الممكنة (انظر ما يلي).

3.6 الأفكار الفطرية

كثيرًا ما يُدرَج لايبنيتس في معسكر العقلانيين في مواجهة معسكر التجريبويين (من أمثال: لوك، باركلي، هيوم). وعلى الرغم من أنّ هنالك أسباب جديرة للطعن في هذا التمييز المعتاد في المناهج الدراسية الفلسفية، فإنّ لايبنيتس يناسب فعلًا هذا التصنيف، وذلك من جانبين مهمّين: كونه عقلانيًا باعتناقه لمبدأ (السبب الكافي)، وكونه عقلانيًا بقبوله للأفكار الفطرية وإنكاره القول بأنّ الإنسان يولَد بذهن خالٍ (الصفحة البيضاء). ومن ناحية الانتماء الكلاسيكي للايبنيتس، من المثير للاهتمام أن نجده يعبّر عن رؤاه الميتافيزيقية بمصطلحات الفلسفة الأرسطية (والسكولائية)، لكنّه في مجال الإپستيمولوجيا كان أفلاطونيًا بشكل واضح (فيما يخصّ وجود الأفكار الفطرية على الأقل). وهذا ما نجده فعلًا في افتتاحية كتابه (مقالات جديدة حول الفهم البشري)، وهو تعليق مطوّل على كتاب لوك (مقالة في الفهم البشري)، إذ انحاز لايبنيتس بصراحة إلى أفلاطون في المسألة الرئيسية المتعلّقة بأصل الأفكار (A VI vi 48/RB 48).

يورد لايبنيتس عدّة أسباب (ميتافيزيقية) صريحة لإنكار إمكانية أن يكون الذهن (صفحة بيضاء)، وأوّلها، وهو أوضحها، أنّه لعدم إمكانية أن يكون هنالك تفاعل عِلّي أصيل بين الجواهر فلا سبيل لأن تكون كلّ أفكارنا قادمة من التجربة، بل يمكن القول بصرامة: لا يمكن لأيّة فكرة أن تأتي من التجربة (لكنّ لايبنيتس سيعتنق فيما بعد فهمًا أكثر تحرّرًا فيما يخصّ التجربة الحسّية، ولذلك فإنّ رأيه هذا لا يجب الحكم عليه دون أن يضاف إليه ما تلاه). لكنّ لايبنيتس يعتنق سببًا ثانيًا، وإن كان لم يجتذب التعليقات إلّا فيما ندر، وهو الرؤية المتمثّلة بأنّ القول بولادة الذهن البشري كصفحة بيضاء ينتهك (مبدأ تطابق اللامتمايزات)؛ وباختصار: إنّ (مبدأ تطابق اللامتمايزات) يعمل بالضدّ من الذرّات الفيزيائية المتطابقة كيفيًا وبالضدّ من الأنفس المتطابقة كيفيًا (تتطابق لأنّها تولد كصفحات بيضاء). ويضاف إليه أنّ لايبنيتس يعرض، في نصّ يكشف مراده، المضامين الميتافيزيقية للرؤية التجريبوية التي يرفضها إلى هذا الحدّ، فيقول: «أعترف بأنّ التجربة ضرورية إذا كان يُراد للنفس أن يكون لها هذه الفكرة أو تلك، أو أن تنتبه للأفكار المضمّنة فينا. لكن كيف يمكن للتجربة والحواسّ أن تزوّدنا بالأفكار؟ هل للروح نوافذ؟ وهل هي شبيهة بألواح الكتابة، أو بالشمع؟ من الواضح أنّ من يعتنقون هذه الرؤية حول النفس يتعاملون معها باعتبارها أمرًا جسمانيًا في الأساس» (A VI vi 110/RB 110). ويُشتهَر عن لوك أنّه فكّر في إمكانية “المادّة المفكّرة”، وكان لايبنيتس ينظر إليها كأطروحة مقيتة. وإذا استقصينا كتابات لايبنيتس فلن نجد لديه شكًّا في أنّ الذهن البشري أو النفس البشرية لامادّية بالضرورة، وسنجد أيضًا أن شكوكية لوك حول طبيعة الجوهر تتعارض جذريًا مع التزامات فلسفية يعتنقها لايبنيتس بعمق لا تدانيها فيه التزامات أخرى. ومن الطبيعي أن يسعى لايبنيتس، بسبب ذلك، إلى نقض موقف لوك فيما يخصّ أصل الأفكار وطبيعتها، ولقد أشرنا فيما سبق (القسم المتعلّق بالميتافيزيقا) إلى رؤية لايبنيتس القائلة بأنّ الذهن (يجب) أن يكون لامادّيًا بالضرورة، لكنّ لايبنيتس يمتلك أيضًا حجّة خاصّة حول لامادّية الذهن أو ضدّ الآلية المتعلّقة بطبيعة الفكر والأفكار، وهي كنايته الشهيرة (الطاحونة)، والتي وردت في كتابيه (المقالات الجديدة) و(المونادولوجيا)، وخلاصتها: إنّ الإدراكات الحسّية لا يمكن تفسيرها على أساس آلي أو مادّي، وحتّى إذا تمكّن المرء من إنشاء آلة يمكن أن يُعزى لها الفكر ووجود الإدراكات الحسّية، فإنّ تفحّص باطن هذه الآلة لن يكشف عن (تجربة) للأفكار أو للإدراكات الحسّية، بل عن حركة الأجزاء المختلفة للآلة وحسب.

لكن حتّى عندما يقبل لايبنيتس النمط الشائع للكلام، أي: القول بأنّ الحواسّ إذا كانت مسؤولة عِلِّيًا عن بعض الأفكار، فإنّه يقدّم بعض الحجج ضدّ الاّدعاء التجريبوي بأنّ الحواسّ هي أصل (كلّ) الأفكار؛ إذ يرى بأنّه بينما يمكن للموقف التجريبوي أن يفسّر مصدر الحقائق الممكنة، فلا يمكنه أن يقدّم تفسيرًا كافيًا لأصل الحقائق الضرورية وطبيعتها، وذلك لأنّ الحواسّ لا يمكن لها مطلقًا الوصول إلى مستوى الشمول الذي تتمتّع به أيّة حقيقة ضرورية، وأقصى ما يمكنها أن تفعله هو أن تزوّدنا بوسيلة للخروج باستقراء قويّ نسبيًا. بل إنّ لايبنيتس يدّعي بأنّ الفهم نفسه هو أصل أمثال هذه الحقائق وهو الذي يضمن ضروريتها نفسها. وبينما لا يمكننا أن نكون واعين بكلّ أفكارنا في زمان ما، وهي حقيقة تبرزها وظيفة الذاكرة ودورها، فإنّ هنالك أفكارًا أو حقائق بعينها توجد في أذهاننا باعتبارها نزعات أو ميول؛ وهي المعنية بالكلام عن (الأفكار الفطرية) أو (الحقائق الفطرية). ناهيك عن أنّ لايبنيتس يعتقد بأنّ للذهن “ألفة خاصّة” تجاه الحقائق الضرورية، وهو يستخدم في هذا الموضوع كناية مميّزة: قطعة من الرخام ذات عروق، وعروقها تشير، أو تنزع إلى أن تشير، إلى أشكال يمكن للنحّات الماهر أن يكتشفها ويستغلّها. وعلى نحو مشابه، فـ«هنالك نزوع، واستعداد، وتشكّل سابق، يقرّر أنفسنا ويؤدّي إلى أن تكون الحقائق الضرورية قابلة للاشتقاق منها» (A VI vi 80/RB 80).

4.6 الإدراك الواعي، والذاكرة، والسبب

ثمّة نتيجة منطقية لتراتبيّة المونادات، التي ذكرناها فيما سبق، نجدها في الإپستيمولوجيا اللايبنيتسية؛ فالمونادات تتّصف بالكمال، نوعًا ما، بالاعتماد على صفاء إدراكاتها الحسّية، والموناد يكون مهيمنًا على موناد آخر إذا احتوى على أسباب لما يحدث في هذا الآخر؛ لكنّ بعض المونادات يمكن أن تنشأ أيضًا على مستوى (الأنفس) عندما يحدث، مثلًا، أن تختبر (الإحساسات)، أي: عندما تكون إدراكاتها الحسّية متميّزة جدًا ومترافقة مع الذاكرة؛ وهذا الوضع تحتلّه الحيوانات. ويضاف إلى ما سبق أنّ بعض الأنفس تكون أحيانًا في وضع يمكّنها من ممارسة الإدراك الواعي (apperception)، أي: التفكير في حالاتها الداخلية أو في إدراكاتها الحسّية. وكما يخبرنا لايبنيتس في كتابه (مبادئ الطبيعة والنعمة)، فـ«من الجيد التمييز بين (الإدراك الحسّي)، وهو الحالة الداخلية للموناد الممثّل لأشياء خارجية، وبين (الإدراك الواعي)، وهو (الوعي) أو المعرفة التفكيرية لهذه الحالة الداخلية، وهو أمر لم يمنح لكلّ الأنفس، ولا تتمتّع به النفس في كلّ أوقاتها» (G VI 600/AG 208). والمغزى الذي يريد لايبنيتس إثباته هنا هو رؤية مضادّة للرؤية الديكارتية: فليس صحيحًا أنّ الحيوانات لا أنفس لها وأنّها مجرّد آلات؛ فثمّة اتّصال هاهنا، من الإله والملائكة والبشر وعبر الحيوانات وصولًا إلى الأحجار والمونادات الجامدة التي تقع تحت ما في العالم من طين وأوساخ، وهذ الاتّصال يجب ألا نقتصر في فهمه على الوضوح المقارن للإدراكات الحسّية للذهن، بل على أساس أنواع النشاط الذهني الممكنة لكائن بعينه. وفي الحقيقة، إنّ لايبنيتس يعتقد بأنّ الحيوانات لا تتصرّف كمجرّد آلات ذاتية الحركة كما تدّعي الفلسفة الديكارتية، بل إنّها تمتلك ملكات ذهنية على قدر كبير من التعقيد؛ وعلى سبيل المثال: حتّى الكلب يمكنه، بفضل ذاكرته، أن يمتلك إدراكًا حسّيًا بإدراك حسّي سابق: «ولذلك تجد الكلب يفرّ من العصا التي ضُرب بها في الماضي، لأنّ ذاكرته تمثّل له الألم الذي سبّبته له هذه العصا» (G VI 600/AG 208). وعلى الرغم من أنّ هذا الأمر يمثّل تفكيرًا برهانيًا، فإنّه ليس من النوع الذي يستطيعه البشر، لأنّ العمليات الذهنية لدى الكلب «لا تتأسّس إلّا على ذاكرة من (حقائق) أو معلولات، ولا تتأسّس مطلقًا على المعرفة بـ(العلل)» (المصدر السابق). ويسارع لايبنيتس في الوقت نفسه إلى الإضافة بأنّ النشاط الذهني للكلب (يتطابق) مع النشاط الذهني للإنسان في ثلاثة أرباع أفعالهما، لأنّ معظم البشر يقضون أغلب أوقاتهم وهم لا يمارسون تفكيرًا برهانيًا يربط العلّة بالمعلول. ومع ذلك فإنّ لايبنيتس يعتقد بأنّ البشر يختلفون عن الوحوش، فهنالك من المخلوقات ما يستطيع معرفة الحقائق الضرورية والسرمدية للمنطق والرياضيات والحقائق الماقبلية (من العلّة للمعلول)، و«يطلق عليها اسم يناسبها هو (الحيوانات العاقلة)، وأنفسها يطلقها عليها (أذهان)» (G VI 601/AG 209). ويضيف لايبنيتس: «هذه الأنفس قادرة على أداء أفعال تفكيرية، وقادرة على فهم ما يُعرَف بـ”أنا”، والجوهر، والنفس، والذهن، وباختصار: الأشياء اللاماديّة، والحقائق اللامادّية. وهو ما يجعلنا قادرين على علوم المعرفة البرهانية» (المصدر السابق). وعليه، فإنّ ما يجعل البشر (والأذهان العليا) يتمتّعون بمرتبة استثنائية هو القدرة (عبر الإدراك الواعي) على صياغة مفهوم لـ(النفس). ولقد رأينا في هذه الفقرة حقًا كيف يقترح لايبنيتس أنّ العقلانية نفسها تأتي من القدرة على التفكّر: إذ يبدأ المرء بمفهوم حول النفس، وينتقل من هذه النقطة إلى التفكير بالكائن، وبالجوهر، وبالإله؛ ويصبح واعيًا أيضًا بالحقائق السرمدية والضرورية. لكنّ العقلانية ليست في الحقيقة سوى القدرة على تكوين «صلات قطعية بين الأفكار» وتتبّعها وصولًا إلى «عواقبها الأكيدة» (المصدر السابق). وبعبارة أخرى: إنّ الحيوانات ومعظم البشر في أغلب أوقاتهم ليسوا سوى تجريبويين؛ أمّا الشخص العاقل فهو الذي يستطيع الانخراط في تفكير برهاني (ماقبلي) أصيل، ينتقل به من المعرفة بعلّة حقيقية إلى المعلول الضروري عبر الاستنباط.

5.6 الإدراكات الحسّية الضئيلة

من الأطروحات الرئيسية لفلسفة لايبنيتس أنّ كلّ جوهر يعبّر عن الكون بأكمله. ولدمج أطروحته هذه ضمن رؤيته العامّة في الإپستيمولوجيا وفلسفة الذهن، طوّر لايبنيتس تفسيره الخاصّ لـ”الإدراكات الحسّية الضئيلة” (petites perceptions) الذي أشرنا إليه بإيجاز في القسم المخصّص للتناغم المؤسّس مسبقًا؛ إذ قال في مدخل كتابه (المقالات الجديدة): «في كلّ لحظة هنالك عدد لامتناهٍ من الإدراكات الحسّية التي لا يواكبها وعي أو تفكير؛ وهي تغييرات تحدث للنفس ذاتها دون أن نكون واعين بها إمّا لأنّ هذه الانطباعات ضئيلة جدًّا وهائلة العدد، وإمّا لأنّها تبلغ درجة مفرطة من التشابه، ولذلك فهي غير مميّزة بما يكفي في حدّ ذاتها» (A VI vi 53/RB 53). وبعبارة أخرى، إنّ كلّ ما يحدث في الكون حقًّا إنّما يعبَّر عنه في كلّ ذهن متناهٍ، لكنّ الإدراكات الحسّية المتناهية الموجودة في الذهن، من فراشة تطير في غابة الأمازون إلى تهادي البطاريق في القارّة القطبية الجنوبية، تكون في العادة على درجة مفرطة من الضآلة أو اللاتمايز تمنعها من التفوّق في الأهمّية على منظر شاشة الحاسوب أو الشعور بالجوع. وفي الواقع، إنّ هذه الإدراكات الحسّية اللامتناهية يشبّهها لايبنيتس بهدير البحر، فيقول: «كي نتمكّن من سماع هذه الضجّة على النحو الحاصل لا بدّ من أن نسمع الأجزاء التي تشكّل المجموع، أي: أن نسمع ضجّة كلّ موجة، وإن كانت كلّ من هذه الضجّات الصغيرة لا تجعل نفسها معلومة إلّا بالانضمام على نحو ملتبس إلى كلّ الضجّات الأخرى، ودون أن تكون قابلة للملاحظة إذا كانت الموجة التي تسبّبت بها لا تصاحبها موجات أخرى» (A VI vi 54/RB 54). وعليه، فإنّ العدد اللامتناهي من الإدراكات الحسّية الضئيلة ليس سوى (ضجيج أبيض) إپستيمولوجي.

ويرى لايبنيتس بأنّ بساطة الذهن ووحدته تسمح له، مع ذلك، بتعدّد الإدراكات الحسّية والنزوعات؛ لكنّ هذا التعدّد يجب ألا يفسَّر على أنّه (تعاقبي) وحسب، بل على أنّه (تزامني) أيضًا؛ أي: إنّ الذهن يحتوي (في أيّ زمان) عددًا لامتناهيًا من (الإدراكات الحسّية الضئيلة) المختلفة، وذلك على الرغم من بساطته ووحدته. والكائن البشري، في حالة اليقظة، يعي إدراكات حسّية بعينها، لكنّه لا يعيها بأكملها على الإطلاق؛ وهنا تكمن أهمّية المنهاج اللايبنيتسي، وذلك بتقديمه لرؤية مناقضة لنظرية الذهن الديكارتية. إنّ لايبنيتس يرى بأنّ العقل نشيط (دومًا)، لأنّ هنالك دومًا إدراكات حسّية تُعرَض عليه، حتّى وإن كانت هذه الإدراكات الحسّية ضئيلة ولا تصل إلى مستوى قابل للإدراك. وعليه، فحتّى في النوم العميق الخالي من الأحلام لا ينقطع الذهن عن نشاطه، ويحتوي على إدراكات حسّية. وعلاوة عليه، إذا كان ديكارت قد أيّد حقًّا الشفافية الكاملة للدماغ، فيجب أن يكون من الواضح حينها أنّ لايبنيتس يسمح بصورة أدقّ للمحتوى الذهني، أي: إنّ الدماغ يحتوي الكثير من الأشياء الملتبسة والضئيلة التي لا يمكننا النفاذ إليها في كلّ الأوقات.

6.6 نطاق المعرفة البشرية

إنّ لايبنيتس، على الرغم ممّا سبق، لا يكتفي بالاختلاف مع جون لوك حول طبيعة الذهن وإمكانية الأفكار الفطرية، فهو يجادل أيضًا بأنّ الكائن البشري قادر على اكتساب المعرفة بطريقة أنكرها لوك بوضوح. ولقد أوضحنا فيما سبق أنّ لايبنيتس مقتنع بأنّ معرفتنا بالحقائق الضرورية لها أساس مختلف كلّيًا عن الأساس الذي يدافع عنه لوك. وعلى نحو مشابه، يعتقد لايبنيتس بأنّنا قادرون على امتلاك معرفة أصيلة بالماهيات الحقيقية للأشياء، وهو أمر شكّك فيه لوك. وبالإجمال، لقد حاجج لوك بأنّ علينا أن نعترف بأنّ “الماهيّة” ليست سوى كلمة نستخدمها لوصف “الماهيّة الاسمية”، أي: مجموعة من مفاهيم الفرز القائمة على كيفيّات حسّية؛ وعلينا ألا نتصرّف وكأنّ “الماهيّة” تتعلّق بالتركيب الحقيقي أو الداخلي لشيء ما، لأنّنا سنظلّ جاهلين به. لكنّ لايبنيتس يعتقد بأنّنا قادرون على معرفة أشياء محدّدة، لا حول الأفراد فحسب، بل حول أصنافها وأجناسها. وفي الفصل الرابع من كتابه (المقالات الجديدة)، نجد فيلايثيس (شخصية تمثّل لوك) ينتقد إمكانية امتلاكنا لمعرفة أكيدة حول الجواهر باعتبارها أنواعًا طبيعية، فيجيبه ثيوفيلوس (شخصية تمثّل لايبنيتس) بقوله: «اسمح لي بأن أخبرك بأنّ هنالك، مثلًا، مئات الحقائق التي يمكننا أن نكون متأكّدين منها بشأن الذهب، أي: الجسم الذي تكشف ماهيّته الداخلية عن نفسها من خلال أكبر وزن عرفته الأرض، أو من خلال أكبر مرونة أو أيّة علامة أخرى؛ وذلك لأنّنا قادرون على أن نقول بأنّ الجسم الذي يمتلك أكبر مرونة معروفة هو أيضًا الأكبر وزنًا بين كلّ الأجسام المعروفة» (A VI vi 400/RB 400). وفي موضع سابق من الكتاب نفسه يقول لايبنيتس: «إنّ الماهية ليست في الأساس سوى إمكانية الشيء الذي نأخذه بالحسبان» (A VI vi 293/RB 293)، و«الماهيّات أبدية لأنّها تتعلّق بالممكنات وحسب» (A VI vi 296/RB 296). وعليه، قد يبدو أنّ لايبنيتس يعني أمرًا يشبه ما يلي: إنّ التجربة تبلغنا بوجود مجموعة منسجمة أكيدة من الخصائص المحسوسة للذهب (مثلًا)، أي: بأنّ مجموعةً بعينها من الخصائص تتّصف بأنّها ممكنة على نحو مشترك (compossible)؛ والأهمّ من ذلك، أنّ علينا أن نكون قادرين على أن نجزم واثقين بأنّه إذا كان لجسم ما المرونة الأكبر فإنّ له الوزن الأكبر أيضًا.

7. اللاهوت الفلسفي

طوّر لايبنيتس، كما هو حال أغلب معاصريه من العظماء (ديكارت، سپينوزا، ماليبرانش)، عددًا من الحجج في إثبات وجود الإله؛ وقدّم اثنتين منها بشكل وجيز في الفقرات (36-45) من كتابه (المونادولوجيا)، كحجّتين ماقبلية ومابعدية (أو كحجّتين أنطولوجية وكونية، وفقًا لمصطلحات كانت)، لكن لكلّ منهما تاريخ طويل في فكر لايبنيتس. ومع ذلك فإنّ لايبنيتس، وبخلاف ديكارت وسپينوزا على الأقلّ، بذل أيضًا جهودًا عظيمة في تفسير وتبرير عدالة الإله وخيريّته في الدنيا. وبعبارة أخرى، لقد كان لايبنيتس شديد الاهتمام بالإجابة على مشكلة الشرّ؛ ولقد أدّى عمله في هذا الموضوع إلى أطروحته التي تقول بأنّنا نعيش في (أفضل العوالم الممكنة)، وهي أطروحة تناولها ڤولتير بسخرية لاذعة في روايته (كانديد).

1.7 وجود الإله

1.1.7 الحجّة الأنطولوجية

قدّم لايبنيتس مساهمة مهمّة لتاريخ الحجّة الأنطولوجية، إذ ترجع تفكّراته في هذا الشكل من الحجج إلى ستّينيات القرن السابع العشر، ومن المعلوم أنّه تشاطر أفكاره حول هذه المسألة مع سپينوزا عندما زاره لايبنيتس في طريقه إلى هانوفر. ويرى لايبنيتس أنّ الحجّة التي قدّمها ديكارت ضمنيًا في (التأمّل) الخامس، وبشكل صريح في (مجموعة الردود الأولى)، هي حجّة خاطئة. إذ حاجج ديكارت بأنّ الإله كائن له كلّ الكمالات، والوجود كمال، ولذلك فإنّ الإله موجود (AT VII 118–19/CSM II 84–85)؛ لكنّ لايبنيتس يعتقد بأنّه لا بدّ من البرهان على أنّ من (الممكن) لمثل هذا الكائن أن يوجد، أي: أن يكون من الممكن لكلّ الكمالات أن تتعايش في كائن واحد؛ فإذا كان هذا ممكنًا، فعندها وفقط عندها يمكن القول بأنّ (الأكمل) موجود. ويطرح لايبنيتس هذه الحجّة تمامًا في مقالته الموجزة (حول وجود الأكمل)، المنشورة في العام (1676)؛ إذ يعرّف “الكمال” باعتباره «كيفية بسيطة أكيدة ومطلقة، أو: كيفية تعبّر دون حدود عن ما تعبّر عنه» (A VI iii 578/SR 101). وإذا أخذنا هذا التعبير بالحسبان فإنّ لايبنيتس يستطيع الادّعاء بأنّه ليس الممكن أن يكون هنالك تنافر بين الكمالات، لأنّ الكمال، باعتباره بسيطًا وأكيدًا، لا يمكن تحليله ولا حصره في حدود؛ أي: إذا كان (أ) و(ب) من الكمالات، فعندها تكون القضية (أ وب متنافران) لا يمكن إثباتها لأنّ (أ) و(ب) بسيطان، ولا يمكن أيضًا لهذه القضية أن تُعرَف بذاتها. وعليه، فمن الممكن أن تكون أيّة مجموعة من الكمالات، وكلّ الكمالات، متوافقة في الحقيقة. ومن هنا يرى لايبنيتس بأنّ من الممكن فعلًا وجود حائز لكلّ الكمالات (الأكمل).

لكنّ هذه الحجّة لا تكفي بذاتها للبتّ في أنّ الإله موجود بالضرورة، إذ يجب على لايبنيتس أن يبرهن أيضًا أنّ الوجود نفسه من الكمالات، فيكون بعدها الكائن الحائز لكلّ الكمالات (الأكمل) يمكن القول عنه بأنّه موجود. وبعبارة أدقّ: إنّ لايبنيتس يحتاج للبرهان على أنّ (الوجود الضروري) ينتمي لماهية الإله؛ وهذا ما فعله في مقالة موجزة أخرى قال فيها:

«ونكرّر القول: إنّ الكائن الضروري هو نفسه الكائن الذي ماهيّته تستلزم وجوده؛ لأنّ الكائن الضروري هو كائن يوجد بالضرورة، فعدم وجوده يعني ضمنيًا حدوث تناقض، ممّا يتعارض مع مفهوم أو ماهية هذا الكائن» (A VI iii 583/SR 107). 

وبعبارة أخرى، إذا كان حقًّا هنالك (تماثل) بين الكائن الضروري وبين الكائن الذي تستلزم ماهيته وجوده، فلا بدّ أن يكون الوجود في الحقيقة أحد خصائصه الماهوية. ويتابع لايبنيتس قوله في تفكّره الموجز هذا:

«وهكذا فإنّ الوجود ينتمي لمفهومه أو ماهيته. وهذا يمنحنا مبرهنة رائعة تتبوّأ ذروة النظرية الجهوية، ويمكننا استخدامها للانتقال بشكل رائع من الإمكانية إلى الفعل: فإذا كان الكائن الضروري ممكنًا، فهذا يستلزم أن يوجد حقًّا، أو يستلزم العثور حقًّا على هذا الكائن ضمن الكون» (A VI iii 583/SR 107). 

وإنّ عبارة “ذروة النظرية الجهوية” التي أوردها لايبنيتس ليست سوى واحدة من البديهيات سيّئة السمعة في المنطق الجهوي (S5: ◊□p → □p). ويمكن تلخيص حجّة لايبنيتس كما يلي:

  1. الإله كائن حائز لكلّ الكمالات. (تعريف)
  2. الكمال كيفية بسيطة ومطلقة. (تعريف)
  3. الوجود من الكمالات.
  4. إذا كان الوجود جزءًا من ماهية الشيء، فهذا الشيء كائن ضروري.
  5. إذا كان يمكن للكائن الضروري أن يوجد، فإنّ الكائن الضروري يوجد حقًّا.
  6. من الممكن لكائن ما أن يكون حائزًا لكلّ الكمالات.
  7. إذن، الكائن الضروري (الإله) يوجد حقًّا.

وتجب الإشارة هنا إلى أنّ حجّة لايبنيتس تبدي ألفة أكيدة مع الحجّة الأنطولوجية التي قدّمها گودل، وذلك إلى الحدّ الذي تبلغه في سعيها للبرهان على إمكانية حيازة كائن ما لكلّ الخصائص البسيطة الأكيدة (للاطّلاع على حجّة گودل يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون: الحجج الأنطولوجية).

2.1.7 الحجّة الكونية

لقد مرّ بنا فيما سبق أنّ مبدأ (السبب الكافي) يشكّل أحد المبادئ التأسيسية لفلسفة لايبنيتس بأجمعها؛ وفي (المونادولوجيا) يلجأ لايبنيتس إلى هذا المبدأ ويقول بأنّه حتّى في حالة الحقائق الممكنة أو حقائق الواقعات يجب أن يكون هنالك سبب كافٍ يبرّر أن تكون على حال وليس على غيره (Monadology §36)؛ لكن بما أنّ كلّ حقيقة من حقائق الواقعات تتّصف بأنّها ممكنة بالاستناد إلى حقيقة مماثلة أخرى (قبلية)، فإنّ سبب سلسلة حقائق الواقعات بأكملها يجب أن يتواجد خارج السلسلة، وهذا السبب النهائي هو الذي ندعوه الإله (Monadology §37).

وفي كتابه (العدل الإلهي) يقوم لايبنيتس بملء هذه الحجّة بوصف مدهش لطبيعة الإله، كما يلي:

  1. ما دامت العلّة الأولى للسلسلة بأكملها لا بدّ أن تكون قادرة على استقصاء كلّ العوالم الممكنة الأخرى، فهي تمتلك فهمًا.
  2. ما دامت العلّة الأولى قادرة على اختيار عالم واحد من بين عدد لامتناهٍ من العوالم الممكنة فإنّ لها إرادة.
  3. ما دامت العلّة الأولى قادرة على إحداث العالم فإنّ لها قوّة (ويضيف لايبنيتس هنا أنّ «القوّة تتعلّق بـ(الكينونة) أو الحكمة أو الفهم، وبـ(الحقيقة) وإرادة (الخير)»).
  4. ما دامت العلّة الأولى تتعلّق بكلّ الممكنات، فإنّ لها قدرًا لامتناهيًا من الفهم والإرادة والقوّة.
  5. ما دامت كلّ الأشياء يرتبط بعضها ببعض، فليس هنالك سبب للافتراض بوجود أكثر من إله واحد.

وعليه، يمكن للايبنيتس (البرهان) على فرادة الإله، وكلّية علمه، وكلّية قدرته، وخيريته، وذلك اعتمادًا على افتراضين: إمكانية العالم، ومبدأ السبب الكافي (Theodicy §7: G VI 106–07/H 127–28). ومن الطبيعي أنّ من المستبعد تأثّر القارئ بهذه الحجّة إذا كان ينكر وجود العوالم الممكنة على النحو الذي طرحه لايبنيتس، أو كان ينكر مبدا السبب الكافي (بالإقرار بـ”الواقعات العمياء”).

2.7 التفاؤل

هنالك مدخل آخر في هذه الموسوعة يتناول وصف لايبنيتس للعوالم الممكنة. وفيما يلي سنعالج المسألة البسيطة التالية: كيف يمكن لهذا العالم أن يكون أفضل العوالم الممكنة؟ فعلى الرغم من كلّ ما يقال، يخبرنا ڤولتير بكلّ وضوح في كتابه (كانديد) بأنّ من المؤكّد أنّ هذا العالم يبدو بعيدًا عن الكمال، وما أكثر الشواهد المرعبة على ذلك في ميداني الطبيعة والأخلاق، بل إنّه يبدو على درجة كبيرة من التدنّي. ولا شكّ في أن الغبي وحده من يعتقد بأنّ هذا العالم أفضل العوالم الممكنة، لكنّ لايبنيتس يتكلّم بالنيابة عن هذا الغبي ويطرح حجّة تقوم على البنية التالية في الأساس:

  1. الإله هو خالق هذا العالم الذي يتّصف بأنّه كلّي القدرة (و) كلّي العلم (و) خيّر (و) حرّ.
  2. يمكن للأمور أن تكون قد جرت على نحو آخر؛ أي: هنالك عوالم ممكنة أخرى (مقدّمة منطقية).
  3. لنفرض أنّ هذا العالم (ليس) أفضل العوالم الممكنة؛ أي: قد يكون هنالك عالم أفضل منه.
  4. إذا لم يكن هذا العالم أفضل العوالم الممكنة، فلا بدّ أن إحدى القضايا التالية يجب أن تكون صادقة:
  • الإله لم يكن يمتلك القوّة الكافية لإحداث عالم أفضل. أو:
  • الإله لم يعلم كيف سيتطوّر هذا العالم بعد خلقه له؛ أي: الإله كانت يعوزه العلم المسبق. أو:
  • الإله لم يرغب بأن يكون هذا العالم هو الأفضل. أو:
  • الإله لم يخلق العالم. أو:
  • الإله لم يكن لديه عوالم ممكنة أخرى ليختار من بينها.

5. لكنّ واحدًا أو أكثر من القضايا المفصولة (منطقيًا) للقضية (4) تناقض القضية (1) أو (2).

6. إذن، هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة.

وبعبارة أخرى، يبدو أنّ لايبنيتس يحاجج بأنّه إذا كان المرء يريد أن يعتنق المفهوم التوحيدي التقليدي للإله (و) يعتقد بأنّه قادر على التأكيد، بشكل معقول، على أنّ هذا العالم كان من الممكن أن يكون على غير ما هو عليه، فلا بدّ أن يعتقد بأنّ (هذا) العالم هو أفضل العوالم الممكنة. ومن الطبيعي أن تكون هذه الحجّة مجرّد ردّ مسيحي سريع على الحجّة الإبيقورية ضدّ التوحيد.

لكن ما هي المعايير التي يمكن الرجوع إليها للقول بأنّ هذا العالم هو (الأفضل)؟ يجب أن يكون من الواضح أنّ لايبنيتس لا يدّعي في كلّ ما كتبه بأنّ هذه الحجّة تعني ضمنيًا أن كلّ شيء يجب أن يكون رائعًا؛ بل إنّ لايبنيتس يلتزم تمامًا بالعرف الذي سار عليه كلّ اللاهوتيين التبريريين المسيحيين منذ القديس أوغسطين، فيحاجج بأنّنا عاجزون عن امتلاك معرفة بالعالم كلّه، وأنّه حتّى إذا كانت القطعة المتاحة لنا لنكتشفها من اللوحة الفسيفسائية قبيحة في أعيننا فإنّ اللوحة بأكملها قد تكون، في الحقيقة، عظيمة الجمال. ومع ذلك فإنّ لايبنيتس يقدّم اعتبارين على الأقلّ فيما يخصّ تحقّق السعادة وكمال العالم، فيخبرنا في (الكلام في الميتافيزيقا)، أوّلًا، بأنّ «سعادة الأذهان هي الهدف الرئيسي للإله» (A VI iv 1537/AG 38)؛ ويخبرنا، ثانيًا، بأنّ «الإله قد اختار العالم الأفضل، أي: العالم الذي يتّصف في آن واحد بأنّه الأبسط بالفرضيات والأغنى بالظاهرات» (A VI iv 1538/AG 39). إذن، فهل هذا العالم الذي يشهد ارتكاب الإبادة العرقية وحدوث الكوارث الطبيعية أفضل من عالم ليس فيه إلّا وردة واحدة متعدّدة الأوراق؟ نعم، لأنّ العالم الأوّل فيه عدد لامتناهٍ من الأذهان التي تحسّ وتفكّر مقابل الظاهرات التي تتسبّب بها ثلّة من القوانين البسيطة. أمّا السؤال الأصعب حول ما إذا كان هنالك عالم أفضل يشهد عددًا أقلّ بقليل من الإبادة العرقية والكوارث الطبيعية فلا يمكن للايبنيتس أن يجيب عليه سوى بالقول: لو كان هنالك عالم كذلك العالم لكان الإله قد حوّله إلى حقيقة واقعة؛ ولا شكّ في أنّ هذا الردّ يتطابق مع القول بأنّه ليس هنالك، حقًّا، أيّ عالم ممكن أفضل من هذا العالم.


المراجع

مصادر رئيسية

مصادر رئيسية من مؤلّفات لايبنيتس (مع رموزها المستخدمة للإشارة إليها في هذا المدخل)

Confessio Philosophi: Papers Concerning the Problem of Evil, 1671–1678. Translated and edited by Robert C. Sleigh, Jr. New Haven, CT: Yale University Press, 2005.
The Labyrinth of the Continuum: Writings on the Continuum Problem, 1672–1686. Translated and edited by Richard T. W. Arthur. New Haven, CT: Yale University Press, 2002.
The Leibniz-Arnauld Correspondence. Edited and translated by H. T. Mason. Manchester: Manchester University Press, 1967.
The Leibniz-Des Bosses Correspondence. Edited and translated by Brandon C. Look and Donald Rutherford. New Haven, CT: Yale University Press, 2007.
The Leibniz-De Volder Correspondence: With Selections from the Correspondence between Leibniz and Johann Bernoulli. Edited and translated by Paul Lodge. New Haven: Yale University Press, 2013.
Lettres de Leibniz à Arnauld d’après un manuscrit inédit. Edited by Geneviève Rodis-Lewis. Paris: Presses Universitaires de France, 1952.
Logical Papers. Translated and edited by G. H. R. Parkinson. Oxford: Clarendon Press, 1966.
[GM]Mathematische Schriften. 7 vols. Edited by C. I. Gerhardt. Halle, 1849–63. Reprint, Hildesheim: Georg Olms, 1963.
[RB]New Essays on Human Understanding. Translated by Peter Remnant and Jonathan Bennett. Cambridge: Cambridge University Press, 1981.
Nouvelles lettres et opuscules inédits de Leibniz. Edited by A. Foucher de Careil. Paris, 1857. Reprint, Hildesheim: Georg Olms, 1971.
Opera omnia, nunc primum collecta… 6 vols. Edited by Ludovici Dutens. Genevae, 1768.
[C]Opuscules et fragments inédits de LeibnizExtraits des manuscrits… Edited by Louis Couturat. Paris: Presses Universitaires de France, 1903. Reprint, Hildesheim: Georg Olms, 1961.
[AG]Philosophical Essays. Translated and edited by Roger Ariew and Dan Garber. Indianapolis: Hackett, 1989.
[L]Philosophical Papers and Letters. Edited and translated by Leroy E. Loemker. 2d ed., Dordrect: D. Reidel, 1969.
Philosophical Texts. Edited and translated by R.S. Woolhouse and Richard Francks. Oxford: Oxford University Press, 1998.
[G]Die philosophischen Schriften. 7 vols. Edited by C. I. Gerhardt. Berlin, 1875–90. Reprint, Hildesheim: Georg Olms, 1965.
Political Writings. Edited by Patrick Riley. Second edition. Cambridge: Cambridge University Press, 1988.
[A]Sämtliche Schriften und Briefe. Edited by the Deutsche Akademie der Wissenschaften zu Berlin. Darmstadt, 1923 ff., Leipzig, 1938 ff., Berlin, 1950 ff. Cited by Series (Reihe) and Volume (Band). (To date the Akademie edition, Series VI, has the philosophical writings to 1690, plus the New Essays, as well as, in Series II, Leibniz’s philosophical correspondence to 1685.)
[SR]De Summa Rerum: Metaphysical Paper, 1675–1676. Translated and edited by G.H.R. Parkinson. New Haven, CT: Yale University Press, 1992.
Textes inédits d’après les manuscrits de la Bibliothèque provinciale de Hanovre. 2 vols. Edited by Gaston Grua. Paris: Presses Universitaires de France, 1948.
[H]Theodicy: Essays on the Goodness of God, the Freedom on Man and the Origin of Evil. Translated by E. M. Huggard. La Salle, IL: Open Court, 1985.

مصادر رئيسية أخرى

[CSM]The Philosophical Writings of Descartes. Edited by John Cottingham, Robert Stoothoff, Dugald Murdoch. 2 Volumes. Cambridge: Cambridge University Press, 1984.
[AT]Oeuvres de Descartes. Edited by Charles Adam and Paul Tannery. 12 Volumes. Reprint, Paris: J. Vrin, 1996.

مصادر ثانوية

  • Adams, Robert Merrihew, 1972. “Must God Create the Best?” Philosophical Review, 81(3): 317–332.
  • –––, 1983. “Phenomenalism and Corporeal Substance in Leibniz,” Midwest Studies in Philosophy, 8(1): 217–257.
  • –––, 1984. “Predication, Truth and Transworld Identity in Leibniz,” in Bogen and McGuire, How Things Are, Dordrecht: D. Reidel, 235–283.
  • –––, 1994. Leibniz: Determinist, Theist, Idealist, Oxford: Oxford University Press.
  • Aiton, Eric, 1985. Leibniz: A Biography, Bristol: Adam Hilger.
  • Andrault, Raphaele, 2006. “Leibniz et les iatromécaniciens,” Studia Leibnitiana, 38/39(1): 63–88.
  • Antognazza, Maria Rosa, 2008. Leibniz on the Trinity and the Incarnation: Reason and Revelation in the Seventeenth Century, Gerald Parks (trans.), New Haven: Yale University Press.
  • –––, 2009. Leibniz: An Intellectual Biography, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Arthur, Richard, 1985. “Leibniz’s Theory of Time,” in Okruhlik and Brown (eds.), The Natural Philosophy of Leibniz, 263–313.
  • Beeley, Philip, 1996. Kontinuität und Mechanismus. Stuttgart: Steiner Verlag (Studia Leibnitiana, Supplement 30).
  • Bolton, Martha Brandt, 1996. “The Nominalist Argument of the New Essays,” The Leibniz Review, 6: 1–24.
  • –––, 1998. “Locke, Leibniz, and the Logic of Mechanism,” Journal of the History of Philosophy, 36 (2): 189–213.
  • Broad, C. D., 1975. Leibniz: An Introduction, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Brown, Gregory, 1987. “Compossibility, Harmony, and Perfection in Leibniz,” The Philosophical Review, 96(2): 173–203.
  • –––, 1988. “Leibniz’s Theodicy and the Confluence of Worldly Goods,” Journal of the History of Philosophy, 26(4): 571–591
  • –––, 1992. “Is There a Pre-Established Harmony of Aggregates in the Leibnizian Dynamics, or Do Non-Substantial Bodies Interact?” Journal of the History of Philosophy, 30(1): 53–75.
  • Brown, Stuart, 1984. Leibniz, Minneapolis: University of Minnesota Press.
  • Burkhardt, Hans, 1980. Logik und Semiotik in der Philosophie von Leibniz, Munich: Philosophia Verlag.
  • Busche, Hubertus, 1997. Leibniz’ Weg ins perspektivische Universum, Hamburg: Meiner.
  • Cassirer, Ernst, 1902. Leibniz’ System in Seinen Wissenschaftlichen Grundlagen, Marburg: Elwert; reprinted Hildesheim: Olms, 1962.
  • Coudert, Allison P., 1995. Leibniz and the Kabbalah, Dordrecht: Springer.
  • Couturat, Louis, 1901. La logique de Leibniz. Paris: Presses Universitaires de France; reprinted Hildesheim: Georg Olms, 1961.
  • Cover, J.A. and J. O’Leary-Hawthorne, 1999. Substance and Individuation in Leibniz, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Di Bella, Stefano, 2005. The Science of the Individual: Leibniz’s Ontology of Individual Substance, Dordrect: Springer.
  • Duchesneau, François, 1993. Leibniz et la méthode de la science, Paris: Presses Universitaires de France.
  • –––, 1994. La dynamique de Leibniz, Paris: J. Vrin.
  • Fichant, Michel, 1998. Science et métaphysique dans Descartes et Leibniz, Paris: Presses Universitaires de France.
  • –––, 2003. “Leibniz et les machines de la nature,” Studia Leibnitiana, 35(1): 1–28.
  • –––, 2004. “L’Invention métaphysique” (Introduction to Leibniz, Discours de métaphysique suivi de Monadologie et autres textes), Paris: Gallimard, 1–123.
  • Frankfurt, Harry G. (ed.), 1972. Leibniz: A Collection of Critical Essays, New York: Doubleday.
  • Furth, Montgomery, 1967. “Monadology,” The Philosophical Review, 76(2): 169–200.
  • Garber, Daniel, 1982. “Motion and Metaphysics in the Young Leibniz,” in Hooker (ed.) 1982, pp. 160–184.
  • –––, 1983. “Mind, Body and the Laws of Nature in Descartes and Leibniz,“Midwest Studies in Philosophy, 8(1): 105–133.
  • –––, 1985. “Leibniz and the Foundations of Physics: The Middle Years,” in Okrulik and Brown, Natural Philosophy, 27–130.
  • –––, 2009. Leibniz: Body, Substance, Monad, New York and Oxford: Oxford University Press.
  • Gaudemar, Martine de, 1994. Leibniz: de la puissance au sujet, Paris: Vrin.
  • Goldenbaum, Ursula, and Douglas Jesseph (eds.), 2008. Infinitesimal Differences: Controversies between Leibniz and his Contemporaries, Berlin: De Gruyter.
  • Guéroult, Martial, 1967. Leibniz: Dynamique et Métaphysique. Paris: Aubier.
  • Hacking, Ian, 1972. “Individual Substance,” in H. Frankfurt (ed.), Leibniz: A Collection of Critical Essays, New York: Doubleday, 137–153.
  • Hartz, Glenn, 2006. Leibniz’s Final System, New York: Routledge.
  • Hooker, Michael (ed.), 1982. Leibniz: Critical and Interpretive Essays, Minneapolis: University of Minnesota Press.
  • Ishiguro, Hidé, 1990. Leibniz’s Philosophy of Logic and Language, 2nd ed., Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1972. “Leibniz’s Theory of the Ideality of Relations,” in Frankfurt, Leibniz: A Collection of Critical Essays, New York: Doubleday, 191–213.
  • Jalabert, Jacques, 1947. La théorie leibnizienne de la substance, Paris: Presses Universitaires de France.
  • –––, 1960. Le Dieu de Leibniz, Paris: Presses Universitaires de France.
  • Jauernig, Anja, 2008. “The Modal Strength of Leibniz’s Principle of the Identity of Indiscernibles,” Oxford Studies in Early Modern Philosophy, IV: 191–225.
  • –––, 2010. “Disentangling Leibniz’s Views on Relations and Extrinsic Denominations,” Journal of the History of Philosophy, 48 (2): 171–205.
  • Jolley, Nicholas, 1984. Leibniz and Locke: A Study of the “New Essays on Human Understanding,” Oxford: Clarendon Press.
  • –––, 1986. “Leibniz and Phenomenalism,” Studia Leibnitiana, XVIII(1): 38–51.
  • –––, 2005. Leibniz, New York: Routledge.
  • Jolley, Nicholas (ed.), 1995. The Cambridge Companion to Leibniz, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Kauppi, Raili, 1960. Über die Leibnizsche Logik, Helsinki: Acta Philosophica Fennica, Fasc. XII.
  • Kulstad, Mark A., 1980. “A Closer Look at Leibniz’s Alleged Reduction of Relations,” Southern Journal of Philosophy, 18(4): 417–32.
  • –––, 1991. Leibniz on Apperception, Consciousness and Reflection, Munich: Philosophia Verlag.
  • –––, 1993. “Two Interpretations of the Pre-Established Harmony in the Philosophy of Leibniz,” Synthese, 96(3): 477–504.
  • Lærke, Mogens, 2008. Leibniz et Spinoza: le genèse d’une opposition complexe, Paris: Honoré Champion.
  • –––, 2011. “Leibniz’s Cosmological Argument for the Existence of God,” Archiv für Geschichte der Philosophie, 93(1): 58–84.
  • Leduc, Christian, 2009. Substance, individu et connaissance chez Leibniz, Montreal: University of Montreal Press.
  • Levey, Samuel, 1998. “Leibniz on Mathematics and the Actually Infinite Division of Matter,” Philosophical Review, 107(1): 49–96.
  • Lin, Martin, 2012. “Rationalism and Necessitarianism,” Noûs, 46(3): 418–448.
  • Lodge, Paul, 1998a. “Leibniz’s Heterogeneity Argument against the Cartesian Conception of Body,” Studia Leibnitiana, 30(1): 83–102.
  • –––, 1998b. “Leibniz’s Commitment to the Pre-established Harmony in the Late 1670s and Early 1680s,” Archiv für Geschichte der Philosophie, 80(3): 292–320.
  • –––, 2001. “Leibniz’s Notion of an Aggregate,” British Journal for the History of Philosophy, 9(3): 467–486.
  • Lodge, Paul (ed.), 2004. Leibniz and His Correspondents, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Lodge, Paul, and Marc Bobro, 1998. “Stepping Back Inside Leibniz’s Mill,” The Monist, 81(4): 553–572.
  • Look, Brandon C., 1999. Leibniz and the ‘Vinculum Substantiale’, Stuttgart: Steiner (Studia Leibnitiana, Supplement 30).
  • –––, 2002. “On Monadic Domination in Leibniz’s Metaphysics,” British Journal for the History of Philosophy, 10(3): 379–399.
  • –––, 2005. “Leibniz and the Shelf of Essence,” The Leibniz Review, 15: 27–47.
  • –––, 2010. “Leibniz’s Metaphysics and Metametaphysics: Idealism, Realism and the Nature of Substance,” Philosophy Compass, 5(11): 871–879.
  • Look, Brandon C. (ed.), 2011. The Continuum Companion to Leibniz, London: Continuum.
  • Martin, Gottfried, 1964. Leibniz: Logic and Metaphysics, Manchester: Manchester University Press.
  • Mates, Benson, 1972. “Individuals and Modality in the Philosophy of Leibniz,” Studia Leibnitiana, IV(2): 81–118.
  • –––, 1986. The Philosophy of Leibniz: Metaphysics and Language, Oxford: Oxford University Press.
  • McDonough, Jeffrey K., 2008. “Leibniz’s Two Realms Revisited,” Noûs, 42(4): 673–696.
  • McRae, Robert, 1976. Leibniz: Perception, Apperception, and Thought, Toronto: University of Toronto Press.
  • Mercer, Christia, 2001. Leibniz’s Metaphysics: Its Origin and Development, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Mercer, Christia, and Robert C. Sleigh Jr., 1995. “Metaphysics: The early period to the Discourse on Metaphysics,” in N. Jolley (ed.), The Cambridge Companion to Leibniz, 67–123.
  • Mondadori, Fabrizio, 1973. “Reference, Essentialism, and Modality in Leibniz’s Metaphysics,” Studia Leibnitiana, V(1): 74–101.
  • –––, 1985. “Understanding Superessentialism,” Studia Leibnitiana, XVII(2): 162–190.
  • Mugnai, Massimo, 1992. Leibniz’ Theory of Relations, Stuttgart: Franz Steiner (Studia Leibnitiana, Supplement 28).
  • Nachtomy, Ohad, 2007. Possibility, Agency, and Individuality in Leibniz’s Metaphysics, Dordrecht: Springer.
  • Newlands, Samuel, 2010. “The Harmony of Spinoza and Leibniz,” Philosophy and Phenomenological Research, 81(1): 64–104.
  • Okruhlik, Kathleen, and James Brown (eds.), 1985. The Natural Philosophy of Leibniz, Dordrecht: D. Reidel.
  • Parkinson, G. H. R., 1965. Logic and Reality in Leibniz’s Metaphysics, Oxford: Oxford University Press.
  • Phemister, Pauline, 2001. “Corporeal Substances and the ‘Discourse on Metaphysics’,” Studia Leibnitiana, 33 (1): 68–85.
  • –––, 2005. Leibniz and the Natural World: Activity, Passivity, and Corporeal Substances in Leibniz’s Philosophy, Dordrecht: Springer.
  • Picon, Marine, 2003. “Vers la doctrine de l’entendement en abrégé: éléments pour une généalogie des Meditationes de cognitione, veritate, et ideis,” Studia Leibnitiana, 35 (1): 102–132.
  • Puryear, Stephen, 2010. “Monadic Interaction,” British Journal for the History of Philosophy, 18(5): 763–796.
  • Rateau, Paul, 2008. La question du mal chez Leibniz, Paris: Champion.
  • Rauzy, Jean-Baptiste, 2001. La doctrine leibnizienne de la vérité: aspects logiques et ontologiques, Paris: J. Vrin.
  • Rescher, Nicholas, 1979. Leibniz: An Introduction to His Philosophy, Oxford: Basil Blackwell.
  • –––, 1981. Leibniz’s Metaphysics of Nature, Dordrecht: D. Reidel.
  • –––, 1967. The Philosophy of Leibniz, Englewood Cliffs, NJ: Prentice Hall.
  • Rescher, Nicholas (ed.), 1989. Leibnizian Inquiries: A Group of Essays, New York: University Press of America.
  • Rey, Anne-Lise, 2011. “Les paradoxes de la singularité: infini et perception chez GW Leibniz,” Revue de métaphysique et de morale, 70(2): 253–266.
  • Riley, Patrick, 1996. Leibniz’ Universal Jurisprudence: Justice as Charity of the Wise, Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Risi, Vincenzo de, 2007. Geometry and Monadology: Leibniz’s Analysis Situs and Philosophy of Space, Basel: Birkhäuser.
  • Robinet, André, 1986. Architectonique Disjonctive Automates Systémiques et Idéalité Transcendantale dans l’Œuvre de G.W. Leibniz, Paris: J. Vrin.
  • Rodriguez-Pereyra, Gonzalo, 1999. “Leibniz’s argument for the identity of indiscernibles in his correspondence with Clarke,” Australasian Journal of Philosophy, 77(4): 429–438.
  • Roland, Jeanne, 2012. Leibniz et l’individualité organique, Montreal: University of Montreal Press.
  • Russell, Bertrand, 1937. A Critical Exposition of the Philosophy of Leibniz, 2nd ed., London: Allen & Unwin.
  • Rutherford, Donald, 1990a. “Leibniz’s ‘Analysis of Multitude and Phenomena into Unities and Reality,’” Journal of the History of Philosophy, 28: 525–552.
  • –––, 1990b. “Phenomenalism and the Reality of Body in Leibniz’s Later Philosophy,” Studia Leibnitiana, XXII(1): 11–28.
  • –––, 1993. “Natures, Laws, and Miracles: The Roots of Leibniz’s Critique of Occasionalism,” in Steven Nadler (ed.), Causation in Early Modern Philosophy, College Park, PA: Pennsylvania State University Press, 135–58.
  • –––, 1994. “Leibniz and the Problem of Monadic Aggregation,” Archiv für Geschichte der Philosophie, 76(1): 65–90.
  • –––, 1995a. Leibniz and the Rational Order of Nature, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1995b. “Metaphysics: The late period,” in N. Jolley (ed.), The Cambridge Companion to Leibniz, Cambridge: Cambridge University Press, 124–174.
  • –––, 2008. “Leibniz as Idealist,” Oxford Studies in Early Modern Philosophy, IV: 141–190.
  • Schepers, Heinrich, 1965. “Zum Problem der Kontingenz bei Leibniz: Die beste der möglichen Welten,” in Collegium Philosophicum: Joachim Ritter zum 60. Geburtstag, Basel and Stuttgart: Schwabe, 326–350.
  • Sellers, Wilfrid, 1965. “Meditations Leibniziennes,” American Philosophical Quarterly, 2(2): 105–118.
  • Simmons, Alison, 2001. “Changing the Cartesian Mind: Leibniz on Sensation, Representation and Consciousness,” Philosophical Review, 110(1): 31–75.
  • Sleigh, R. C., Jr., 1982. “Truth and Sufficient Reason in the Philosophy of Leibniz,” in Hooker (ed.), 1982, 209–42.
  • –––, 1983a. “Expression, Perception and Harmony in the Discourse,” Southern Journal of Philosophy, 21 (Supplement): 71–84.
  • –––, 1983b. “Leibniz on the Two Great Principles of All Our Reasonings,” Midwest Studies in Philosophy, 8(1): 193–217.
  • –––, 1990a. Leibniz and Arnauld: A Commentary on Their Correspondence, New Haven: Yale University Press.
  • –––, 1990b. “Leibniz on Malebranche on Causality,” in J.A. Cover and M. Kulstad (eds.), Central Themes in Early Modern Philosophy, Indianapolis: Hackett, 161–193.
  • Smith, Justin E. H., 2004. “Christian Platonism and the Metaphysics of Body in Leibniz,” British Journal for the History of Philosophy, 12(1): 43–59.
  • –––, 2010. Divine Machines: Leibniz and the Sciences of Life, Princeton: Princeton University Press.
  • Smith, Justin E. H. and Ohad Nachtomy (eds.), 2011. Machines of Nature and Corporeal Substances In Leibniz, Dordrecht: Springer, 2011.
  • Wilson, Catherine, 1983. “Leibnizian Optimism,” The Journal of Philosophy, 80 (11): 765–783.
  • –––, 1987. “De Ipsa Natura: Sources of Leibniz’s Doctrines of Force, Activity and Natural Law” Studia Leibnitiana, 19(2): 148–172.
  • –––, 1989. Leibniz’s Metaphysics: A Historical and Comparative Study, Manchester: Manchester University Press.
  • –––, 2000. “Plenitude and Compossibility in Leibniz,” The Leibniz Review, 10: 1–20.
  • Wilson, Margaret D., 1976. “Leibniz’s Dynamics and Contingency in Nature,” in Machamer and Turnbull, Motion and Time, Space and Matter, London: Routledge, 264–289; reprinted in Wilson 1999.
  • –––, 1978/9. “Possible Gods,” Review of Metaphysics, 32(4): 717–733; reprinted in Wilson 1999.
  • –––, 1987. “The Phenomenalisms of Leibniz and Berkeley,” in Essays on the Philosophy of George Berkeley, E. Sosa (ed.), Dordrecht: D. Reidel, 3–22; reprinted in Wilson 1999.
  • –––, 1999. Ideas and Mechanism: Essays on Early Modern Philosophy, Princeton: Princeton University Press.
  • Woolhouse, R. S., 1993. Descartes, Spinoza, Leibniz: The Concept of Substance in Seventeenth Century Metaphysics, Routledge: New York.
  • Zalta, Edward, 2000. “A (Leibnizian) Theory of Concepts,” Philosophiegeschichte und logische Analyse / Logical Analysis and History of Philosophy, 3: 137–183.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

مداخل ذات صلة

Arnauld, Antoine | Continental Rationalism | identity: of indiscernibles | Kant, Immanuel: and Leibniz | Leibniz, Gottfried Wilhelm: ethics | Leibniz, Gottfried Wilhelm: influence on 19th century logic | Leibniz, Gottfried Wilhelm: modal metaphysics | Leibniz, Gottfried Wilhelm: on causation | Leibniz, Gottfried Wilhelm: on the problem of evil | Leibniz, Gottfried Wilhelm: philosophy of mind | Leibniz, Gottfried Wilhelm: philosophy of physics | Malebranche, Nicolas | Newton, Isaac: views on space, time, and motion

Acknowledgments

The editors would like to thank Sally Ferguson for noticing inaccuracies in a claim and in a quote attributed to Leibniz.


Look, Brandon C., “Gottfried Wilhelm Leibniz”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2020 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2020/entries/leibniz/>.