مجلة حكمة
كيف تساعدنا الفلسفة

كيف تساعدنا الفلسفة في وقت الأزمة هذا؟

الكاتبعبد الغني بومعزة

   بين سنة 165 وسنة 190 قبل الميلاد، تأثّر سكّان الإمبراطوريّة الرّومانيّة بجائحة عُرفت في التّاريخ باسم”الطاعون الأنطوني”، وفقا للمؤرّخ الرّوماني كاسيوس ديو (235-155)، تمّ تقدير العدد الإجمالي للوفيات بحوالي 5 ملايين شخص ، قتل المرض ما يصل إلى ثلث السكّان في بعض المناطق ودمّر الجيش الرّوماني، حاول الإمبراطور الرّوماني ماركوس اوريليوس التعامل مع الوضع من خلال كتابة أفكار لها علاقة بالفلسفة، جرّه هذا إلى التعمّق في مسائل لها علاقة بالعزلة و الخوف والموت والحقيقة والحزن والخراب والعبث، جُمعت هذه الأفكار في كتابه الشّهير”التأمّلات” وهو عبارة عن تأمّلات فلسفة رواقيّة راقيّة جوهرها فكرة قبول ما لا يمكن تغييره.

كتب ماركوس اوريليوس”تؤكد الرّواقيّة بشكل خاص أن الإنسان قادر على البقاء غير مبال بغض النظر عن الموقف، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا، الخير الأخلاقي والشّر الأخلاقي هما المفهومان الوحيدان المهمّان، يجب أن يثير الموت والفقر والمرض والفشل، تمامًا مثل نقيضهم اللاّمبالاة، لذلك يجب أن نتبع عقلنا ونبقى على حالنا في أصعب اللحظات”(كتاب التّأمّلات)، تحذّرنا الرّواقيّة أيضًا من أننا يمكن أن نصبح مشلولين بالخوف”أن الخوف نفسه قد يكون أكبر من الواقع”، يخبرنا الإمبراطور محاطًا بالموت، أنه لا يجب أن نخاف منها، لكن” يجب ألا نخشى ألا نبدأ في العيش أبدًا”، مارك أوريليوس لديه الكثير ليعلّمنا إيّاه في عصر”الطّاعون”.

[ 2 ]

لا تقدّم الفلسفة أدوات لحل المشكلات العلميّة، ولكنّها تبحث عن معنى مواقف محدّدة من خلال التفكير العقلاني، في هذه الحالة، يركّز هذا المعنى على جوانب عديدة …

  • 1: هشاشة الإنسان (يمكن للفيروس أن يقتل أيّ إنسان)،
  • 2: العجز البشري(وضعنا مطابق بشكل أساسي لوضع الأوبئة القديمة، دفاعنا ينقلنا إلى العزلة)،
  • 3: محدوديّة فعاليّة العلوم التقنيّة رغم الانجازات الكبيرة كالعثور على لقاحات متنوّعة للفيروس وهذا بفضل جهود المئات من المختبرات وشركات الأدويّة،
  • 4: إعادة اكتشاف الصّالح العام والتّضامن الإنساني (حمايّة الأفراد ضروريّة لحمايّة المجتمع والعكس صحيح)،
  • 5: الوجود التاريخي للموت والذي في ضوءه يمكن إعادة تشكيل هرميّة القيم التّي توجّه الوجود البشري، يمكن لنتائج هذه الانعكاسات أن تشير بأصابع الاتهام إلى مسؤوليات السّلطة السّياسيّة،وتؤدّي إلى العداء ضدّ الفلاسفة والجهود المبذولة لإسكات أصواتهم، مذكّرة بمثال سقراط، لسوء الحظ.

لا يمكننا أن نقول هذه هي الطّريقة التّي غيرتنا بها لأنّ الوباء لا يزال حاضرًا إلى حد كبير، العالم  مازال يواجه موجات أكثر ضراوة من سابقاتها، لكن الجانب الايجابي في كلّ هذا هو اكتساب الإنسان للمعرفة، للطريقة المثلى لمجابهة الفيروس، ومع تهديدات الأوبئة في كلّ مكان، نراقب عن كثب الموجة الرّابعة التّي من المتوقع وصولها في فصلي الخريف والشّتاء.

بالإضافة إلى ذلك، فإن المشكلات التّي يسبّبها الكوفيد – 19 ستكون معقدة عندما يتعايش مع فيروسات أخرى، مثل تلك التّي تسبّب نزلات البرد أو الأنفلونزا، أشارت حنة أرندت من مثل هذه العزلة، تذكّرنا أنه بالنسبة للرومان في العصور القديمة، فإن الحياة تعني”أن تكون بين الرّجال”، وأن الموت يعني”عدم الوجود بين الرّجال”، قالت انه يمكن أن” نُطرد”، أو “ننسحب”من العالم، ” نُرسّخ أنفسنا في ملجأ نفسيتها”، ونفقد”إنسانيتنا”و نترك”الواقع”، هي مجموعة من الإحالات الجدليّة تحيل لهشاشة الإنسان وهو يواجه فكرة الموت والغياب والحصار و المرض، كم عدد الأشخاص المسجونين الآن؟، لاجئين في دواخلنا، مشتّتين، محبطين، غاضبين، وحيدين ومملّين؟، كما تقول أرنت في سياق آخر”في الحوار الصّامت بين الأنا مع نفسها”ّ.

  مع حبس الملايين من الناس، والتضحيّة بالحريّة لهزيمة الوباء، يُطرح سؤال جوهري،كيف يمكننا قبول ما هو خارج عن إرادتنا؟،التعامل معه؟، كيف لا نقع فريسة الخوف عندما يكون كلّ ما نسمعه هو عبارة عن إيقاع غير متناغم لفكرة الخراب والموت، لقد أصبنا بالذّهول والشلل ونحن نتابع يوميّا إحصاءات مخيفة تظهر على شاشات التلفاز عن الوباء الزّاحف كمخلوق خارج من الميثولوجيا اليونانيّة، يطلّ برأسه في شكل تنين يلفظ نيرانه وناشرا الخراب والموت، وباء مجهول و غامض اسمه الكوفيد 19، لقد أدى العلم إلى إطالة عمرنا إلى الحد الذّي يجعلنا نعتقد تقريبًا أننا خالدون، ولكن من المفارقات أننا أيضًا نخاف ونختبئ من الشّيء الوحيد الذّي لا مفر منه، الموت، قال باروخ سبينوزا”الإنسان الحر أقل ما يفكّر في الموت، هذا الإنسان لا يوجّهه الخوف، الحكمة هي تأمّل في الحياة”، كثيرون منا اليوم معزولون عن بعضهم البعض، على قيد الحياة، نعم، إن لم يكن على قيد الحياة بالكامل .

[ 3 ]

   أين إنسانيتنا؟، ما هو الثمن الذي سندفعه؟، هذه ليست أسئلة للأخبار اليوميّة، هي أسئلة سيتردّد صداها بعيدًا عن العناوين الرّئيسيّة لأنّ الحاجة تتطلب هذا، الوضع الذي نعيشه هو وضع غير مألوف وغير طبيعي ويستدعي التأمّل و التدبّر وطرح الأسئلة، اعتقد جازما انه ذات الوضع الذي وجد ماركوس اوريليوس نفسه فيه وهو يقف على شرفة قصره يراقب روما المحاصرة بالموت والخراب ومشهد جثث آلاف من مواطنيه ملقاة في الشّوارع والأزقّة، يتمّ تكديسها فوق بعضها ليتمّ إحراقها خوفا من العدوى، بينما غيرهم حبسوا أنفسهم في بيوتهم، انّها رائحة الخراب والموت تخنق عظمة روما المستسلمة، موت مختلفة عن الموت الطبيعيّة، عن موت الغزوات الرّومانيّة الدّمويّة في أرجاء العالم.

كتبت حنة أرندت عن صعود النّازيين وكيف كان النّاس ينظرون إليهم في صمت وجبن بعيدًا عن الرّعب الذّي انكشفت صورته فيما بعد، لقد توقفوا عن طرح الأسئلة، جُبنوا، تقول انّه “في الأوقات العصيبة، يجب أن نطرح الأسئلة، ونتأمّل ونضع أفكارنا موضع التنفيذ”،كيف كانت سترى جائحة الكوفيد وسياسة الإغلاق لو كانت بيننا؟، ربّما أيّدت الحاجة إلى الإغلاق ،لكن ليس العزلة،من المؤكد أنها كانت ستحذّر من تفشي الاستبداد، وتشجّعنا على طرح الأسئلة، التساؤل عمّا يقال لنا، التفكير بتعاطف، التفكير والسّؤال هما جوهر البحث عن الحقيقة والتّي هي وسيلة للدفاع العظيم ضدّ الاستبداد، لكن أرنت حذّرت من أنه حتّى عندما يتعلق الأمر بالعلم”الحقائق ليست نهائيّة أبدًا”، بل يتم دائمًا إثباتها، انّها الطّبيعة البشريّة، الحقيقة في كثير من الأحيان لا تتناسب مع الخوف، أحد الأمثلة على ذلك هي المقاومة، أو الإحجام عن تلقي اللّقاح . 

  لقد أدّى انخفاض خطر الوفاة من اللقاح إلى تخويف الأشخاص العقلانيين من الفوائد الهائلة لتلقيه، يسمّي عالم الاجتماع البولوني زيجمونت باومان (Zygmunt Bauman) هذا”الخوف السّائل”، انه خوف منتشر، مبعثر، غير واضح، كتب” نحن مسكونون بهذا الخوف، الخوف هو الاسم الذي نطلقه على عدم اليقين لدينا، على جهلنا”، بينما فلاسفة آخرون، مثل، دان داغرمان، ماثيو فليندرز، ماثيو توماس جونسون كتبوا في دراستهم أننا نعيش في زمن الخوف، لقد ظهر الكوفيد ـ 19 في سياق اجتماعي سياسي مقرون إلى حد ما بقصص الأزمات التّي يعيشها الإنسان،  الأزمة الماليّة العالميّة، الحروب، تعاقب الأوبئة(أنفلونزا الطيور، SAR ، MER، إيبولا) إلى أزمة تغيّر المناخ، الأزمة في منطقة اليورو، في الحقيقة العالم والإنسانيّة يعيشون في هوس بسبب هذه الأزمات التّي لا تتوقف، انه القلق الدّائم بشأن”الأزمة”، هناك كذلك، موت، أو انتحار الدّيمقراطيّة، تظهر”الحياة السّائلة”على أنّها رحلة محفوفة بالمخاطر بشكل متزايد حيث تبدو فترة الرّاحة بين الرّوايات المليئة بالخوف لأزمة وشيكة أقصر من أي وقت مضى .

[ 4 ]

  في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، أصبح الوباء مرادفًا للجوانب الأكثر فوضويّة لرئاسة دونالد ترامب والشّعب المنقسم سياسيًا والمعرّض لنظريات المؤامرة لدرجة أن ارتداء القناع، أو عدم ارتدائه أصبح رمزًا سياسيًا، حيث يتحدّث زيجمونت باومان عن الجهل المولّد للخوف، بينما داغرمان وفليندرز وجونسون يقولون أن الخوف السّائد في أوقاتنا العصيبة يأتي من المعرفة، لكنها معرفة مبتورة عن سياقها الحقيقي، حقيقة مجانبة للواقع، لما تعيشه الإنسانيّة، حقيقة مشوّهة يتم استغلالها بشكل سيّئ لتحقيق مآرب شخصيّة لبعض الشّعبويين، إلى جانب هذا فمعرفة فيروس كورونا بالتحديد يولّد الشكّ، وهو ما يهمّش المجتمعات، الضّعيفة منها والأكثر فقراً والمتنوّعة عرقياً والأكثر عزلة، فيقودنا هذا إلى الخوف من”الآخر”، كتب داغرمان وفليندرز وجونسون”يمكن القول إن الكوفيد ـ 19 خلق وقفًا أصبحت فيه جميع ، أو معظم الجثث، حتّى أجسادنا خائفة، فقد جعل بعض الأجساد مخيفة بشكل خاص”، يلاحظ داغرمان .

  يمكن ملاحظة في عزّ اشتداد الأزمة(الموجة الأولى والثّانيّة) في باريس، روما، مدريد، لندن، سيدني ونيويورك ان   سكّان هذه العواصم خضعوا لحراسة مشدّدة وتحوّلوا إلى مواطنين من الدّرجة الثّانيّة، إن الجائحة مثّلت تحديًا للجميع، و بدون استثناء لما ندين به لمواطنينا، وجعلتنا نطرح الأسئلة القديمة الجديدة التّي من العادة نقرأ عنها دون التمعّن فيها،ماذا نفضّل؟، الصحّة أم الاقتصاد؟، أم الحريّة؟، ان الإغلاق، أو الحجر الصحّي وما شابهه من سياسات حكوميّة تحدّ من انتشار الجائحة لكنّه يخلق مشاكل صحيّة أخرى، خاصة الأمراض العقليّة، ويضرّ بالأعمال،  يكلف الوظائف ويضرب الفقراء بشدّة، انّها حرب بدون وجه وعنوان رئيسي، إذا، ماذا نختار؟، الصحّة، الاقتصاد، الحريّة، اعتقد انّ أي مفكر لديه الإجابة.

لنأخذ مثالا على اسمين بارزين من فلاسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إيمانويل كانط و جيريمي بنثام (Jeremy Bentham)، فبالنسبة لكانط، يجب أن تكون هناك قاعدة للجميع ويجب أن يأتي المجتمع قبل كلّ شيء، إن واجبنا القاطع المتمثل في أنّه لا يمكننا التصرّف إلا بالطريقة التّي يمكن للآخرين التصرّف بها وهذا يعني أنّه من أجل هزيمة الجائحة، لا يمكننا فقط الانغماس في أهواءنا و حياتنا الخاصة المليئة بالمشاعر المتناقضة والنفعيّة، بل يجب التضحيّة بحريّتنا من أجل الآخرين، بالنسبة لكانط، تأتي حماية المسنّين و المستضعفين قبل الاقتصاد، وماذا عن جيريمي بنثام؟، هو أبو النفعيّة، بالتأكيد، الإغلاق الذّي يحافظ في أحسن الأحوال على حياة معظم الناس في مأمن من المرض، واحتمال ضئيل للموت، من شأنه أن يحافظ على السّعادة.

لكن ماذا عن الملايين من الأشخاص الذّين هم في منأى عن الجائحة ولكنّهم محرومون من حريّتهم ومعيشتهم؟،هل ستجتاز اختبار بنثام للصالح العام للعدد الأكبر؟، في معركة الفلاسفة نحن جميعًا كانطيون الآن، من الملاحظ ان جيريمي بينثام أعطى العالم ليس المنفعة فقط، بل أمر آخر في غايّة الأهميّة، انّه ما يعرف بنظام (panoptique)،ما هو هذا النظام؟، البانوبتيكون هو جهاز مكاني يسمح بالمراقبة المستمرّة للأفراد. تخيّله جيريمي بينثام في نهايّة القرن الثامن عشر، تمّ تعميم البانوبتيكون أو”البانوبتيكون” من خلال عمل ميشيل فوكو وأصبح منذ ذلك الحين مرجعًا مشتركًا للعلوم الاجتماعية.

لكن أيضًا فكرة البانوبتيكون، اختصارا بالعين التّي ترى كلّ شيء في السّجن الحديث، فيلسوف آخر هو ميشيل فوكو أخذ رمز بنثام الشّامل وطبقه على ما أسماه السّياسة الحيويّة، بالنسبة لفوكو، المجتمع هو جسم، والطب الحديث والتكنولوجيا يمنحان الدّولة سلطة أكبر على هذا الجسد، نحن منضبطون من قبل عين الدّولة التّي تعرف كلّ شيء، والتّهديد بالاعتقال والعقاب يغيّر سلوكنا، الأوبئة والحروب، تغيّرنا، نحن نعيش في عصر المراقبة الكاملة.

من المؤكّد أن الإغلاق أنقذ الأرواح، لكنّه أيضًا سلبنا حرياتنا ويذكّرنا التّاريخ بأن هذه الحريات قد لا تعود بالكامل أبدًا، هل يتذكّر أحد ما الحرب على الإرهاب؟، للتعامل مع هذا التّهديد، فرضت الحكومات سلطات الطوارئ التّي أثّرت بشكل عميق على حياة النّاس في أنحاء العالم، حتّى في اعرق الدّيمقراطيات وأكثرها قوّة، وغيّرت طبيعة الخصوصيّة، وقيّدت حريّة الإعلام، قيل إن البروتوكولات الأمنيّة وضوابط المطار التّي تمّ تقديمها لأمن النّاس لا تزال ساريّة حتّى اليوم، ليس هناك عودة إلى الوضع الطبيعي، فقط التكييف المرهق إلى الوضع الطبيعي الجديد، كتبت هانا أرندت” كلّ ما يمسّ أو يدخل في علاقة مستدامة مع الحياة البشريّة يفترض على الفور صفة حالة الوجود البشري”.

  لقد فضحت الجائحة العالم وسرّعت من تصدّعاته، عدم المساواة والانقسامات السّياسيّة، عولمة الحدود المفتوحة مقابل قوميّة الحدود المغلقة، يمكن للمرء أن يعتبر هذه المرّة على أنها عجّلت بتراجع الدّيمقراطيّة بما للكلمة من معنى وسرّعت من صعود الشعبويّة والاستبداد، بدلاً من ذلك، قد نعتقد أن معاناتنا المشتركة (نحن جميعًا في نفس القارب) ستقرّبنا من بعضنا البعض، أعتقد انّه العكس، على حد تعبير أرندت، فإن مشاعر الأخوة”لا تأتي إلاّ في الظلام”، لكن أعظم جملة تلخّص مأساتنا كإنسانيّة مهدّدة بالموت والخوف والمجهول” انّ بشريّة المهانين والمجروحين لم تنجو من ساعة التّحرير التّي استمرت دقيقة واحدة”، في الوقت الحالي، لا يزال بإمكان أولئك الذين يستطيعون تحمّل تكاليفها الرّجوع إلى الحنين إلى الماضي، وأسطوانات فن الزّمن الجميل وكلمات خوليو اغليزياس الرّقيقة”ها هي الشّمس، وأنا أقول إنها بخير” .