مجلة حكمة
اوغست كونت

أوغست كونت

الكاتبميشيل بوردو
ترجمةخالد أبو هريرة
تحميلنسخة PDF

مدخل فلسفي شامل حول أوغست كونت؛ نص مترجم لد. ميشيل بوردو، ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها التعديل من منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


من هو أوغست كونت؟

أوغست كونت (1798-1857) هو مؤسس الوضعية positivism، الحركة الفلسفية والسياسية التي تمتعت بذيوع واسع للغاية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، ثم طواها نسيان شبه كامل خلال القرن العشرين، بعد أن حجبتها الوضعية المحدَثَة neopositivism. ومع ذلك، فإن قرار كونت بتطوير فلسفة الرياضيات، وفلسفة الفيزياء، وفلسفة الكيمياء، وفلسفة البيولوجيا (علم الأحياء) على التتابع، يجعله أول فلاسفة العلوم بالمعنى الحديث، كما أن اهتمامه المتواصل بالبعد الاجتماعي للعلوم ترك صداه من عدة نواحي لدى وجهات النظر الحالية. أما فلسفته السياسية، من ناحية أخرى، فإنها كانت أقل شهرة، نتيجة اختلافها جوهريًّا عن الفلسفة السياسية الكلاسيكية التي توارثناها.

أهم أعمال كونت هي: (1) دروس في الفلسفة الوضعية the Course on Positive Philosophy (1830-1842، ستة مجلدات، ترجمتها واختصرتها هارييت مارتينو Harriet Martineau تحت عنوان الفلسفة الوضعية لأوغست كونت The Positive Philosophy of Auguste Comte)؛ (2) نظام السياسة الوضعية the System of Positive Polity، أو أطروحة في السوسيولوجيا، وتأسيس دين الإنسانية Treatise on Sociology, Instituting the Religion of Humanity، (1851-1854، أربعة مجلدات)؛ و (3) الكتابات الباكرة the Early Writings  (1820-1829)، حيث يمكن للمرء معاينة تأثير سان سيمون، الذي عمل كونت سكرتيرًا له من العام 1817 إلى العام 1824. لا تزال الكتابات الباكرة تعد هي المدخل اﻷفضل لأفكار كونت. أما كتابه دروس في الفلسفة الوضعية، فقد قال فيه  إن العلم تحول إلى فلسفة؛ ثم تحولت هذه الفلسفة إلى دين في كتابه  نظام السياسة الوضعية. وقوبل هذا التحول الثاني بمعارضة قوية. ونتيجة لذلك، أصبح من المألوف، رفقة جون ستيوارت مِل John Stuart Mill، التمييز بين «كونت الصالح» (مؤلف دروس في الفلسفة الوضعية) و «كونت الطالح» (مؤلف نظام السياسة الوضعية). ومفهوم الوضعية الشائع اليوم، يتطابق بشكل أساسي مع ما يمكن اﻹطلاع عليه في كتاب دروس في الفلسفة الوضعية.


1. المقدمة

من الصعب اليوم تقدير الاهتمام الذي حظيت به أفكار كونت قبل قرن من الزمان، بما أنها لم تلقى أية عناية تقريبًا خلال العقود الخمس الماضية. قبل الحرب العالمية الأولى، كانت الحركة الكونتية Comte’s movement نشطة تقريبًا في كل مكان في العالم (Plé 1996; Simon 1963). وأكثر الحالات شهرة تلك المتعلقة بأمريكا اللاتينية، حيث المثالان البارزان: البرازيل، التي تدين بالشعار فوق علمها «Ordem e Progresso» (أي النظام والتقدم) إلى كونت (Trindade 2003)، والمكسيك (Hale 1989). فيما كان الوضعيون positivists، أي أتباع كونت، نشطين بالقدر نفسه في إنجلترا (Wright 1986)، والولايات المتحدة اﻷمريكية (Cashdollars 1989; Harp 1994)، والهند (Forbes 1975). كما أنه في حالة تركيا، فإن طابعها العلماني الحديث يمكن إرجاعه إلى تأثيرات كونت على الشُبان اﻷتراك The Young Turks.

لم تنجٌ واحدة من هذه النشاطات من الحرب العالمية الأولى. إذ لم يخلف ميزان القوى الجديد الذي خلقته الثورة الروسية مجالًا للسياسة الوضعية positive polity، بينما استولت الوضعية المحدثة على مكان الوضعية الكونتية في فلسفة العلوم. ومصطلح «ما بعد الوضعية» post-positivism، المستخدم في النصف الثاني من القرن العشرين، يدلل على الاختفاء الكامل لما يمكن أن يسميه المرء، بأثر رجعي، «الوضعية القديمة» paleo-positivism. في واقع اﻷمر، فإن «ما بعد الوضعية» تعتبر نوعًا من «ما بعد الوضعية المحدثة» post-neo-positivism، بما أن الانتقادات الشهيرة التي أطلقها كون Kuhn و فييرابند Feyerabend كانت موجهة إلى الوضعية المحدثة لـ كارناب Carnap، وليس وضعية كونت التي يبدو أنهما لم يعرفا عنها سوى القليل للغاية. وهذا يدل على أن استخدامهما لـ «الوضعية» قد أغفل كليًا كونت، مع أنه كان الرجل الذي صك المصطلح. علاوة على ذلك، ففي عدد من الحالات، أعاد ما بعد الوضعيين اكتشاف نقاط كانت مُتَأَصّلة في الوضعية القديمة (مثل الحاجة إلى مراعاة السياق التبريري والبعد الاجتماعي للعلوم)، ثم أهملت لاحقًا.

هذا الاتفاق غير المتوقع بين الوضعيين القدامى وما بعد الوضعيين، يظهر أن هناك بعض اﻷهمية الباقية ﻷفكار كونت الأصلية، كما يفسر جزئيًا السبب وراء اﻹحياء القوي مؤخرًا للدراسات الكونتية (Bourdeau 2018, Schmaus 2021). حيث بدأ الفلاسفة والسوسيولوجيون في لفت الانتباه إلى الآراء المثيرة للاهتمام التي دافع عنها مؤسس الوضعية قبل أكثر من قرن ونصف القرن. وبالتالي، فإن احتجاب الوضعية الأصلية يبدو أنه قريبًا من نهايته.

يلاحظ المرء سريعًا الفجوة بين معنى «الوضعية» بالنسبة لكونت في القرن التاسع عشر، والمعنى الذي أصبحت عليه في زمننا. وبالتالي، فعلى العكس مما يُعتقد عادةً، فإن وضعية كونت ليست فلسفة علوم بل فلسفة سياسية. أو، إذا يفضل المرء، فإن وضعية كونت هي فلسفة استثنائية لا تفصل فلسفة العلوم عن الفلسفة السياسية. فالعنوان الذي اعتبره كونت دومًا عمله الأساسي (كتبه في العام 1822 عندما كان يبلغ من العمر 24 عامًا فقط) لا يُخَلف شكًا في الآصِرَة بين العلوم والسياسة: فهو خطة للعمل العلمي الضروري لإعادة تنظيم المجتمع Plan for the Scientific Work Necessary to Reorganize Society، كما سماه أيضًا بـ النظام الأول للسياسة الوضعية First System of Positive Polity. كان الهدف منه إعادة تنظيم المجتمع. ولا تنخرط العلوم إلا كتالية للسياسة، عندما يقترح كونت دعوة العلماء لتحقيق هذا الهدف. لذلك، فبينما تلعب العلوم دورًا مركزيًا في السياسة الوضعية، فإن الوضعية ليست سوى إعجابًا أعمى بالعلوم. ومنذ العام 1847، أدرجت الوضعية تحت العنوان «هيمنة القلب المستمرة» (la préponderance continue du coeur)، وتحول الشعار «النظام والتقدم» إلى «الحب كمبدأ، النظام كأساس، التقدم كنهاية» (L’ amour pour principe، l’ ordre pour base et le progrogress pour bun). هذه الانعطافة، الغير متوقعة من قبل العديد من معاصريه، كانت في الواقع محفزًا جيدًا، وخصِّيصة لديناميات الفكر الكونتي ذاته.

حوكمت «الوضعية الشاملة» complete positivism لما دعاه كونت نفسه «مسيرته المهنية الثانية» بصرامة. وبسرعة كبيرة، تنصل أشهر المعجبين بكتابه المبكر دروس في الفلسفة الوضعية (1830-1842)، من أمثال مِل وليتري Littré، من مؤلف الكتاب اللاحق نظام السياسة الوضعية (1851-1854)، اﻷمر الذي أعطى أهمية للفكرة القائلة بوجود كونت صالح وآخر طالح. ورغم ذلك، فإذا كانت كتاباته الباكرة تدعو إلى مراجعة التفسير المعياري للوضعية، فإن هذا هو الحال بصورة أكبر بالنسبة لأعمال «مسيرته المهنية الثانية».

من هذه الملاحظات الافتتاحية، يمكن بالفعل معاينة بعض الخيوط الرئيسية لما سيأتي تاليًا. أولاً، وأيًا ما كانت القيمة الدقيقة للمجموعتين من الكتابات اللتين أحاطتا به، فإن دروس في الفلسفة الوضعية (ويشار إليه فيما بعد بـ دروس Course) يظل هو مساهمة كونت الرئيسة. ثانيًا، يواجه تفسير اﻷعمال الكاملة لكونت مشكلتان: المشكلة الأولى تتعلق بوحدة أفكار كونت: هل تشكل المسيرتان المهنيتان الأولى والثانية سلسلة متصلة، أم أن هناك انقطاع بينهما؟. والمشكلة الثانية ترتبط بعلاقة كونت بسان سيمون (انظر أدناه 3.2): فهل مؤسس الوضعية مجرد سان سيموني Saint-Simonian من بين آخرين، كما زعم دوركايم Durkheim، أم يجب على المرء، كما اقترح جوهييه Gouhier (1933)، أن يتبع كونت نفسه، والذي تحدث في هذه المسألة عن «اتصال كارثي» كان، في أحسن الأحوال، مجرد معوق لـ «تطوره العفوي» (1830 (56), v. 2, 466)؟[2].

باعتباره مقاربة لفلسفة كونت، فإن الترتيب الكرونولوجي يبدو هو الدليل الأنسب. وبعد استعراض سريع لبعض حقائق السيرة الذاتية، سنتعامل أولاً مع المرحلة السان-سيمونية والكتابات الباكرة، ثم مع العملين العظيمين اللذين يبرزان: دروس في الفلسفة الوضعية (6 مجلدات، 1830-1842)، ونظام السياسة الوضعية (4 مجلدات، 1851-1854).

2. السيرة الذاتية لـ اوغست كونت

ولد كونت في مونبلييه في 20 يناير من العام 1798 (الموافق اﻷول من شهر بلوفس من العام السادس للثورة الفرنسية «le 1er pluvióse de l’ an VI»، طبقًا للتقويم الثوري المستخدم حينذاك في فرنسا). وبعد أن أظهر براعته في المدرسة، احتل المرتبة الرابعة في قائمة القبول بمدرسة البوليتكنيك (المدرسة متعددة التقانات) École Polytechnique في باريس عام 1814. وبعد بعامين، أغلق آل بوربون Bourbons تلك المؤسسة، مع فصل طلابها. وفي أغسطس 1817، التقى أوغست كونت بـ هنري دي سان سيمون Henri de Saint-Simon، الذي عينه سكرتيرًا له ليحل محل أوغستين تييري Augustin Thierry.  لينخرط الشاب كونت بذلك في السياسة، متمكنًا من نشر عدد ضخم من المقالات، جعلته إلى حد كبير معروفًا للرأي العام (أعاد كونت نشر أهم هذه المقالات في العام 1854 وظلت أفضل مقدمة إلى أعماله ككل). وفي أبريل 1824، انفصل عن سان سيمون. ثم بعد ذلك بوقت قصير، وفي حفل زفاف مدني، تزوج من كارولين ماسين Caroline Massin، التي كانت تعيش معه لشهور عديدة. وفي أبريل 1826، بدأ كونت في تلقين دروس في الفلسفة الوضعية، التي ضم جمهور مستمعيها بعض أشهر علماء ذلك الوقت (فورييه Fourier، أ. فون هومبولت A. von Humboldt، بوانسو Poinsot). ثم انقطعت الدروس فجأة بسبب «نوبة دماغية» نتيجة العمل الزائد والأحزان الزوجية. وأرسل كونت على إثر ذلك لتلقي العلاج في عيادة الدكتور إسكيرول Dr. Esquirol. وعند مغادرته، صنف باعتباره «لم يشفى». وقد تعافى تدريجياً بفضل إخلاص وصبر زوجته.

يؤشّر استئناف دروس في الفلسفة الوضعية في يناير من العام 1829، على بداية مرحلة ثانية في حياة كونت استمرت 13 عامًا، واشتملت على نشر المجلدات الستة من كتاب دروس (1830، 1835، 1838، 1839، 1841، 1842). إضافة إلى ذلك، فخلال هذه الفترة، انقطعت أكثر فأكثر صلاته بالعالم الأكاديمي. وبعد تعيينه مدرسًا للتحليل والميكانيكا في البوليتكنيك في العام 1832، سعى في العام 1833 إلى إنشاء كرسي في التاريخ العام للعلوم داخل كوليج دو فرانس Collège de France، ولكن دون جدوى. وقد قاده ترشيحان فاشلان لمرتبة بروفيسور في البوليتكنيك في العام 1842 إلى نشر «مقدمة شخصية» للمجلد الأخير من كتاب دروس، جعلته متخاصمًا مع العالم الجامعي إلى الأبد. ثم مَثَّلَ العامان التاليان مرحلة انتقالية. ففي تتابع سريع، نشر كونت كتابه أطروحة أولية في الهندسة التحليلية  Elementary Treatise on Analytic Geometry (1843)، وهو عمله الرياضي الوحيد، إلى جانب أطروحة فلسفية في علم الفلك الشعبي  Philosophical Treatise on Popular Astronomy (1844)، وهو ثمرة دروس سنوية للعمال الباريسيين، بدأت في العام 1830. وقد أَشّر كتابه الكلام في الروح الوضعية Discourse on the Positive Spirit، والذي نشر أيضًا في العام 1844، واستخدمه كونت كمقدمة لأطروحته في علم الفلك، على تغيير حاد في وجهته من خلال التركيز على البعد الأخلاقي للفلسفة الجديدة: فاﻵن وقد نظمت العلوم، أصبح كونت قادرًا على العودة إلى اهتمامه الأول، أي الفلسفة السياسية. وقد جاء الاعتراف العام بـ كونت الوضعي، باعتباره معارضًا لـ السان-سيمونيين،  قبل عشرين عامًا في مقالات إميل ليتري Émile Littré بجريدة لا ناسيونال Le National.

شهد العام 1844 أيضًا أول لقاء لـ كونت مع كلوتيلد دي فو Clotilde de Vaux. وما أتبع ذلك كان «عامًا لا مثيل له» أطلق ما أسماه كونت نفسه «مسيرته المهنية الثانية». كان الموضوع الرئيس لهذه المسيرة الثانية هو «هيمنة القلب المستمرة». وتشهد المراسلات الوفيرة على شغف كونت الذي وجد الوقت،  رغم عبء التدريس الثقيل، لبدء العمل على نظام السياسة الوضعية System of Positive Polity، والذي كان قد أعلن عنه في نهاية كتابه دروس. وبعد وفاة كلوتيلد، في أبريل من العام 1846، بدأ كونت في تأليهها إلى درجة استحالتها إلى معبود حقيقي. وبعد بضعة أشهر، انتهت مراسلاته مع مِل التي كانت قد بدأت في ديسمبر من العام 1841. وفي العام التالي، اختار كونت تطور الإنسانية كموضوع جديد لدروسه العامة.  وكانت هذه مناسبة لتعيين مقدمات ما سيصبح دين اﻹنسانية الجديد. وقد كان مؤيدًا متحمسًا لثورة العام 1848: فأسس الجمعية الوضعية the Positivist Society على غرار نادي اليعاقبة، كما نشر الرؤية العامة للوضعية General View of Positivism، الذي ينظر إليه باعتباره مقدمة لكتاب نظام السياسة الوضعية القادم، إضافة إلى التقويم الوضعي Positivist Calendar. ثم في العام 1849، أنشأ دين الإنسانية.

هيمن على السنوات 1851-1854 ظهور المجلدات اﻷربعة لكتاب نظام السياسة الوضعية، والذي توقف لبضعة أشهر من أجل تأليفه تعاليم الدين الوضعي Catechism of Positive Religion (1852). وبعد إعفائه من جميع واجباته في البوليتكنيك، أصبح كونت الآن يعيش على «الإعانة التطوعية» التي بدأها أتباعه في إنجلترا وأصبحت تمنح إليه الآن أيضًا من مختلف البلدان. وفي ديسمبر 1851، هلّل كونت لانقلاب نابليون الثالث Napoleon III، الذي وضع حدا لـ «الفوضوية» البرلمانية. رفض ليتري اتباع كونت في هذه النقطة، كما في مسألة الدين، وأنهى علاقته به بعد فترة وجيزة. ثم بعد أن خاب أمله سريعًا في الإمبراطورية الثانية، حول كونت آماله إلى القيصر نيكولاس الأول Nicholas I، الذي كاتبه. وفي العام 1853، نشرت هارييت مارتينو ترجمة إنجليزية مختصرة لـ دروس في الفلسفة الوضعية.

مصابًا بخيبة أمل من الاستجابة غير الحماسية التي حازها عمله من قبل المشتغلين، أطلق كونت كتابه دعوة المحافظين Appeal to Conservatives في العام 1855. وفي العام التالي، نشر المجلد الأول من عمله حول فلسفة الرياضيات الذي كان قد أعلن عنه في العام 1842، تحت العنوان الجديد التركيب الذاتي Subjective Synthesis، أو النظام الكوني للمفاهيم المتكيفة مع الحالة الطبيعية للبشرية Universal System of the Conceptions Adapted to the Normal State of Humanity. ومشغولًا بشكل متزايد بوظيفته كـ كاهن أكبر للإنسانية، فقد أرسل مبعوثًا إلى اليسوعيين في روما يقترح التحالف مع «الإغناسيين» Ignacians.

توفي كونت في 5 سبتمبر من العام 1857، دون أن يكون لديه الوقت لتحرير النصوص التي أعلن عنها قبل 35 عامًا: أطروحة التعليم الكوني Treatise of Universal Education، التي اعتقد أنه يمكن أن ينشرها في العام 1858، و نظام الصناعة الوضعية System of Positive Industry  أو أطروحة في عمل البشرية الشامل على الكوكب Treatise on the Total Action of Humanity on the Planet، الذي خطط لنشره في العام 1861، وأخيراً، أطروحة الفلسفة الأولى Treatise of First Philosophy، الذي خطط لنشره في العام 1867. دفن كونت في مقبرة بير لاشيز Père-Lachaise، حيث نَصَب البرازيليون من أتباعه تمثال الإنسانية في العام 1983.

3. سنوات التكوين: التعاون مع سان سيمون والكتابات الباكرة

تظل الكتابات الباكرة نقطة البداية المطلوبة لكل راغب في فهم الهدف الذي كان كونت يلاحقه باستمرار. ولم يكن دون سبب أنه طبق على نفسه فوق الصفحة الأولى من كتاب نظام كلمات ألفريد دي فينيي Alfred de Vigny: “ما هي الحياة العظيمة؟ فكرة في الشباب، أنجزت في سن النضوج”. لقد هيمنت علاقته مع سان سيمون على سنوات تكوينه. وعندما التقاه في العام 1817، كان كونت، مثل زملائه الطلاب في البوليتكنيك، قد طرد من فوره بأمر من لويس الثامن عشر، وبالتالي فإنه كان يبحث عن وظيفة. بل إنه فكر حتى في الهجرة إلى الولايات المتحدة للتدريس في مدرسة كان توماس جيفرسون Thomas Jefferson يخطط لافتتاحها وتشكيلها على غرار البوليتكنيك. كانت البوليتكنيك لـ كونت، وهي التي ضمت هيئة التدريس فيها أمثال أراغو Arago، و لابلاس Laplace، و كوشي Cauchy، وبواسون Poisson، ما مثلته لهيجل مدرسة إيفانجليشز شتيفت Evangelisches Stift في توبنغن. ففيها، تحصل كونت على تعليم في العلوم لا يعلى عليه في كل أوروبا؛ ترك بصمة دائمة عليه. ولكنه بالقدر نفسه، كان ممثلاً نموذجيًا لجيل توكفيل Tocqueville و جيزو Guizot الذي وجد نفسه مواجهًا بالسؤال حول طريقة وقف الثورة بعد انهيار الإمبراطورية. أو «كيف»، كما قال كونت في العام 1848، «يعيد المرء تنظيم الحياة البشرية، بغض النظر عن الله والملك» ؟ (1851, v. 1, 127; E., v. 1, 100). ومن هذا المنظور، يجب أن يفهم عداءه العميق للفلسفة السياسية الكلاسيكية، وهي الفلسفة التي ما زلنا نحترمها إلى اليوم. فمع إصرارها على حرية الضمير، وعلى سيادة الشعب (souveraineté populaire)، لم يكن للعقيدة الثورية من وظيفة أخرى سوى تدمير النظام القديم Ancien Régime (القائم على السلطة البابوية والملكية المشفوعة بالحق الإلهي). ولكن بما أنها نجحت الآن في هذه المهمة. فإن الوقت قد حان لإعادة البناء، وكان من الصعب تخيل الطريقة التي يمكن بها استخدام هذه الأسلحة في عمل مثل ذاك.

في ظل هذه الظروف، ليس مستغربًا لجوء كونت الشاب إلى سان سيمون. فالأخير، مستفيدًا من الحرية النسبية للصحافة التي منحها لويس الثامن عشر، قام بنشر المزيد والمزيد من الكراسات والمجلات، وبالتالي فإنه احتاج إلى مساعد. وقد أخذ كونت أفكارًا ثلاثة من الفكر المعقد لسان سيمون:

  • 1 التناقض بين الفترات اﻷساسية والحاسمة في التاريخ، والتي كانت الثورة للتو مثالاً لها.
  • 2 فكرة المجتمع الصناعي. ففي العام 1817، وتحت تأثير ب. كونستانت B. Constant و جي.بي J.-B على وجه الخصوص، حول سان سيمون نفسه إلى نصير للصناعة. وكمراقب منتبه للثورة الصناعية التي كانت متواصلة أمام عينيه، أدرك أنها سوف تغير جميع العلاقات الاجتماعية القائمة بشكل تام. فحتى الآن، كنا نعيش في مجتمعات عسكرية: يركز فيها الإنسان على الإنسان، بينما تنتمي السلطة إلى طبقة المحاربين. أما من الآن فصاعدًا، فسوف تحل التجارة محل الحرب، فيما سيولي الإنسان اهتمامه بشكل أساسي بالتركيز على الطبيعة. وقد توصل كونت إلى استنتاج خاطئ بالكامل، مفاده أن عصر الحروب قد انتهى (Aron 1957).
  • 3 فكرة السلطة الروحية. وهذا هو دَين كونت الأكثر وضوحا لسان سيمون. إذ كانت الثيمة مطروحة منذ العمل اﻷول لسان سيمون (رسائل من أحد سكان جنيف إلى معاصريه، 1803 Letters from an Inhabitant of Geneva to his Contemporaries) وحتى العمل الأخير (المسيحية الجديدة، 1825 The New Christianity). وقد تولدت عن ملاحظة واقتناع. فقد لاحظ سان سيمون دور العلوم في المجتمع الحديث: واقترح، على سبيل المثال، إتاحة الأموال العامة لتمويل البحث العلمي. كما اقتنع بالطابع الديني للتماسك الاجتماعي، وبالتالي بالحاجة إلى طبقة كهنوتية تكون مسؤولة عن صونه. وقد قاده هذا الاعتقاد إلى فكرة علم التنظيم الاجتماعي، التي ربطت هذين المكونين: الدين سيصبح تطبيقًا للعلم، ما يسمح للرجال المتنورين بحكم الجُهّال. ولذلك، فبدلاً من محاولة تدمير كل أشكال الحياة الدينية، يجب على المرء أن يعهد إلى المتعلمين بالسلطة الروحية التي أضعفها تراجع الأديان التقليدية. وفي هذا الإطار أيضًا، يجب فهم النص الذي كتبه في العام 1814 حول إعادة تنظيم المجتمع الأوروبي: إن إدارة العلاقات الدولية هي إحدى السمات الرئيسية للسلطة الروحية، كما أظهرت البابوية في العصور الوسطى.

استوعب كونت بسرعة ما كان على سان سيمون أن يقدمه له. ولكن كونت كان طامحًا إلى تحرير نفسه من وصاية أثقل وزناً عليه، حيث وجد الفكر غير المنهجي والمتقلب للأرستقراطي اﻹنساني الذي ثقف نفسه بنفسه بالكاد يمكن احتماله. وقد حدثت القطيعة في العام 1824، نتيجة العمل اﻷقصر لـ كونت الذي سوف يثبت كونه عملًا أساسيًا. وإدراكًا منه بامتلاكه بالفعل الأفكار الرئيسية لفلسفته الخاصة، اتهم كونت معلمه بمحاولة الاستيلاء على عمله. كما أشار فوق ذلك، إلى أنه لم يقنع بإعطاء شكل منهجي للمفاهيم المستعارة (Bourdeau 2019). يحوي كتاب  مسائل فلسفية في العلوم والعلماء (1825) Philosophical Considerations on the Sciences and the Scientists الصياغات الأولى والكلاسيكية لحجري الزاوية في الفلسفة الوضعية: قانون الحالات الثلاث Law of the three stages، وتصنيف العلوم Classification of the sciences. أما كتاب مسائل في السلطة الروحية Considerations on Spiritual Power الذي تلا الكتاب السابق ببضعة أشهر، فقد قدم الدوغمائية باعتبارها الحالة الطبيعية للعقل البشري. وليس من الصعب أن نجد وراء هذه المقولة، والتي قد تبدو شائنة بالنسبة لنا، معاداة الديكارتية anti-Cartesianism التي كان كونت يتشاركها مع بيرس Peirce والتي قربت فلسفاتهم من بعضها البعض. فبما أن العقل يبقى بداهة مع ما يبدو صحيحا بالنسبة إليه، فإن تهيج الشك يتوقف عندما يجمد الاعتقاد؛ وقد يقول المرء إن ما يحتاج التبرير ليس الاعتقاد وإنما الشك. وهكذا، يظهر مفهوم الإيمان الوضعي، والذي يعني، ضرورة النظرية الاجتماعية للاعتقاد وملازمتها النظرية المنطقية للسلطة (Bourdeau 2011).

في العام 1826، وقع حدثان كبيران. أولاً، أعيد تشكيل برنامج كونت. فلم يكن كتاب النظام اﻷول للسياسة الوضعية قد اكتمل بعد في العام 1822، وكانت كتابة الجزء المتبقي إحدى أولويات كونت. ولكنه عاد في العام 1826 وأرجأ هذا المشروع لفترة غير محددة. وقرر، لتوفير قاعدة أكثر صلابة للعلوم الاجتماعية والسياسة الوضعية الناتجة عنها، أن يمر أولًا عبر مجمل المعرفة الوضعية مرة أخرى وأن يبدأ دروس في الفلسفة الوضعية. يجب أن يوضع في الاعتبار أن كتاب دروس لا ينتمي إلى البرنامج الأولي لـ كونت، وأنه كان مقصودًا به في الأصل أن يكون جملة اعتراضية أو توطئة، من المفترض أن تستغرق بضعة سنوات على الأكثر. أما الحدث الرئيس الثاني في العام 1826، فكان «النوبة الدماغية» الشهيرة التي وقعت مباشرة عقب المحاضرة الافتتاحية لـ الدروس، وأجبرت كونت على وقف دروسه العامة؛ كما كانت لها أيضا آثارًا طويلة الأمد. وهكذا، فمن المعتاد القول بأن كونت لم يتلقى سوى اعتراف عام متأخر: في العام 1842، مع أول رسالة إليه من مِل، ثم في العام 1844، مع مقالات ليتري في لا ناسيونال Le National. ولكن هذا يعد إغفالًا لحقيقة أن كونت في العام 1826 كان شخصية مشهورة داخل الدوائر الفكرية بباريس. إذ جعلاه جيزو Guizot و لامنيه Lamennais يحظى بتقدير كبير. وقد تضمنت قائمة الحضور للدروس أسماء مرموقة مثل أ. فون همبولدت A. von Humboldt، و أراجو Arago، و بروساي Broussais أو فورييه Fourier. كما أن مِل، الذي زار سان سيمون في عامي 1820-1821، كان معجبًا بعمق بـ النظام اﻷول للسياسة الوضعية، الذي قدمه إليه أحد تلامذة كونت في العام 1829 (Mill 1963, v. 12, 34). وأخيرًا، فعلى الرغم من افتراق كونت عن سان سيمون، فإن المـلأ رآه كواحد من أكثر المتحدثين الرسميين للمعلم موثوقية. وقد أكسبه هذا العداوة الغريبة نوعًا ما من قبل السان سيمونيين: والذين كانت لديهم، مع استثناءات قليلة، السمة المميزة الخاصة بعدم تعرفهم على من أطلقوا عليه اسم «الأب» بشكل شخصي، بينما كان كونت على علاقة حميمة معه. وعلى كل حال، فإن النوبة الدماغية جعلت كونت عاجزًا عن الاستفادة من التقدير الكبير الذي تمتع به: بعد أن اختفى من المشهد العام حتى سنة 1844.

4. دروس عن الفلسفة الوضعية والصداقة مع مِل

كما ورد في الدرس الأول منها، فإن الدروس تسعى إلى هدفين. الأول، وهو هدف خاص، يتعلق بتشييد السوسيولوجيا، والتي دعيت بـ «الفيزياء الاجتماعية». والثاني، وهو هدف عام، يتعلق بتنسيق المعرفة الوضعية بكاملها. تعكس بنية العمل هذه الازدواجية: فالمجلدات الثلاث الأولى تفحص العلوم الأساسية الخمس الموجودة آنذاك (الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الكيمياء، والبيولوجيا)، بينما تتعاطى المجلدات الثلاثة الأخيرة مع العلوم الاجتماعية. ولم يتطلب تنفيذ الجزئين القدر نفسه من العمل. ففي الحالة الأولى، كانت العلوم مُشَكَّلة بالفعل وفي حاجة إلى مجرد تلخيص لنقاطها المذهبية والمنهجية الرئيسة. أما في الحالة الثانية، فإن كل شيء كان لا يزال يتعين القيام به، وكان كونت يدرك تمامًا أنه يؤسس علمًا جديدًا.

1.4 قانون الحالات الثلاث

تفسر بنية الدروس السبب وراء ذكر قانون الحالات الثلاث (والذي هو غالبًا الشيء الوحيد المعروف عن كونت) مرتين. فبصحيح العبارة، ينتمي القانون إلى السوسيولوجيا الديناميكية dynamic sociology أو نظرية التقدم الاجتماعي Theory of social progress، ولهذا السبب فإنه بمثابة مقدمة لدروس التاريخ الطويلة في المجلدين الخامس والسادس. وإن كان يعمل أيضًا كمقدمة للعمل ككل، إلى حد أن مؤلفه يعتبر هذا القانون الطريقة اﻷفضل لشرح ماهية الفلسفة الوضعية.

ينص القانون على أن البشرية، في تطورها، تمر بثلاث حالات متتالية: اللاهوتية Theological، والميتافيزيقية Metaphysical، والوضعية Positive. تعتبر اﻷولى نقطة البداية الضرورية للعقل البشري؛ بينما الأخيرة هي حالته الطبيعية؛ وتبقى الحالة الثانية مجرد مرحلة عابرة تجعل المرور من الحالة اﻷولى إلى الحالة اﻷخيرة ممكنًا. في المرحلة اللاهوتية، يفسر العقل البشري، أثناء بحثه عن الأسباب الرئيسية والنهائية للظواهر، الشذوذات البادية في الكون باعتبارها تدخلات من عوامل خارقة للطبيعة. بينما الحالة الثانية مجرد تعديل بسيط للأولى: حيث تظل الأسئلة كما هي، ولكن تستبدل العوامل الخارقة للطبيعة في اﻹجابات بكيانات مجردة. أما في الحالة الوضعية، فإن العقل يتوقف عن البحث عن أسباب الظواهر، ويقصر نفسه على القوانين الحاكمة لها؛ وبالمثل، فإن المفاهيم المطلقة يستعاض عنها بمفاهيم نسبية. زيادة على ذلك، فإن المرء يمكنه أيضًا إذا تأمل التطور المادي، أن يسمي الحالة اللاهوتية بالعسكرية، والحالة الوضعية بالصناعية؛ فيما تتطابق الحالة الميتافيزيقية مع سيادة المحامين والقضاة[3].

نسبية المرحلة الثالثة تلك، كانت أكثر الخواص المميزة للوضعية. وهي تٌربَط غالبًا وبصورة خاطئة بـ الشكوكية scepticism، بينما تحول ملاحظتنا السابقة حول الدوغمائية دون متابعة ذلك.

بالنسبة لكونت، فإن العلم هو «معرفة تقريبية» connaissance approchée: حيث يقترب أكثر فأكثر من الحقيقة، دون الوصول إليها. لا مكان للحقيقة المطلقة، كما لا توجد معايير أعلى ﻹرساء الإيمان. ويعتبر كونت هنا قريبًا جدًا من بيرس Peirce في ورقته الشهيرة المنشورة في العام 1877.

ينتمي قانون الحالات الثلاث إلى تلك الفلسفات الكبرى للتاريخ التي صيغت في القرن التاسع عشر، وتبدو الآن غريبة جدًا عنا (لرأي مغاير، انظر Schmaus (1982)). إذ تبدو لنا فكرة تقدم الإنسانية تعبيراً عن تفاؤل قامت أحداث القرن العشرين بالكثير لتقليصه (Bourdeau 2006). وبصورة أعم، فإن نظرية قانون التاريخ  Law of history هي إشكالية (حتى لو لم تبدو كذلك بالنسبة لـ مِل (1842, bk. VI, chap. X)). وقد شعر بالفعل دوركايم باضطراره إلى استبعاد الديناميات الاجتماعية من السوسيولوجيا، كي يمنحها مكانة علمية حقيقية.

مع ذلك، فإن هذه الصعوبات أبعد من أن تفتك بهذا الجانب من فكر كونت. فبغض النظر عن حقيقة أن فكرة التقدم الأخلاقي تستعيد ببطء بعض الدعم، فمن الممكن تفسير الحالات الثلاث كأشكال من العقل تتعايش وتتفاوت أهميتها النسبية بمرور الزمن. ويبدو أن هذا التفسير قد قُدِم من قبل كونت نفسه، والذي أعطى أمثلة عديدة عليه في دروسه للتاريخ. فجراثيم الوضعية كانت حاضرة منذ بداية الحالة اللاهوتية؛ ومع ديكارت، تصل الفلسفة الطبيعية برمتها إلى الحالة الوضعية، بينما تبقى الفلسفة الأخلاقية في الحالة الميتافيزيقية (1830 (58), v. 2, 714–715).

2.4 تصنيف العلوم وفلسفة العلوم

صمد قانون تصنيف العلوم، وهو الركيزة الثانية للفلسفة الوضعية، أمام اختبار الزمن بصورة أفضل بكثير من قانون الحالات الثلاث. فمن بين التصنيفات المتعددة التي تم اقتراحها، لا يزال تصنيف كونت هو الأكثر شعبية حتى اليوم. كما أن هذا التصنيف، ينسق الدروس التي تفحص كُلٍّ من العلوم الأساسية الستة – الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الكيمياء، البيولوجيا، والسوسيولوجيا – بدورها. بحيث يوفر طريقة ﻹيفاء تنوع العلوم حقه من دون إغفال وحدتها. كذلك، يجعل هذا التصنيف من كونت مؤسسًا لفلسفة العلوم بالمعنى الحديث. فمن أفلاطون إلى كانط، احتل التفكير في العلوم دومًا مكانُا مركزيًا في الفلسفة، ولكن كان لا بد من تطوير العلوم بشكل كافٍ  حتى يكشف تنوعها عن نفسه. وبفضل تعليمه في البوليتكنيك، بدأ كونت، منذ العام 1818، في تطوير مفهوم فلسفة العلوم. وفي نفس الوقت تقريبًا، الذي ألف فيه بولزانو Bolzano كتابه Wissenschaftslehre (1834)، ومِل كتابه نظام المنطق System of Logic (1843)، كانت دروس كونت تقدم بالتتابع فلسفة الرياضيات، وفلسفة الفلك، وفلسفة الفيزياء، وفلسفة الكيمياء، وفلسفة البيولوجيا، وفلسفة السوسيولوجيا. لم يُقصد بتصنيف كونت استعادة وحدة خيالية، وإنما تجنب تشظي المعرفة. وبفضله، ترتبط العلوم ببعضها البعض في معيار موسوعي ينتقل من العام إلى الخاص، ومن البسيط إلى المعقد: فالانتقال من الرياضيات إلى السوسيولوجيا، يقلل من التعميم ويزيد من التشابك.

كان لقانون تصنيف العلوم كذلك جانب تاريخي: إذ يعطينا الترتيب الذي تتطور به العلوم. فعلى سبيل المثال، يتطلب الفلك علم الرياضيات، والكيمياء تتطلب الفيزياء. وبالتالي، يعتمد كل علم على العلم الذي يسبقه. وعلى حد تعبير كونت، فإن الأعلى يعتمد على الأقل، دون الاتكال على نتائجه. لقد احتوى الاعتراف بالتنوع اللا مختزل بالفعل على تنصل من الاختزالية Reductionism (في تعبير كونت: «المادية» Materialism)، والتي يسمح التصنيف للمرء بتوضيحها. فالوضعي يرى بجلاء أن الميل نحو الاختزالية يغذيه تطور المعرفة العلمية نفسها، حيث يشارك كل علم في تطور العلم التالي؛ ولكن التاريخ يعلمنا أيضًا أن كل علم، من أجل تأمين موضوعه الخاص، عليه التصدي لغزوات العلم السالف. «وهكذا، تبدو المادية خطرًا أساسيًا في الوضع الذي تكون فيه الدراسات العلمية ضرورية كإعداد لـ الوضعية المنشودة. فكل علم يميل إلى استيعاب العلم المجاور له، بناء على وصوله إلى الحالة الوضعية في وقت أبكر وبشكل أكثر شمولا». (1851, v. 1, 50; E., v. 1, 39)

وعلى الرغم من اعتراف فلاسفة العلوم الدائم بمكانة كونت في تاريخ حقلهم المعرفي، فإن فلسفة العلوم المقدمة في الدروس، وباﻷحرى تلك الفلسفة الموجودة في نظام السياسة الوضعية، قليلًا ما تمت دراستها (Laudan 1981, Brenner 2021). تستند فلسفة كونت للعلوم إلى اختلاف تنظيمي بين المنهج والمذهب. هذان، وباستخدام المصطلحات الكونتية، يتعارضان مع بعضهما البعض من وجهة النظر المنطقية ومن وجهة النظر العلمية. ويُقَدَّم المنهج باعتباره متفوقًا على المذهب: فالمذاهب العلمية تتغير (وهذا ما يعنيه «التقدم»)، بينما تكمن قيمة العلم في مناهجه. على مستوى المذهب، فإن للرياضيات مكانتها الخاصة المشار إليها جيدًا في الدرس الثاني، حيث تقدم أخيرًا كما لو أن اﻷمر تعويضًا عن شيء منسي. وبقدر ما أن الرياضيات في حد ذاتها هي مجموعة من المعارف، فإنها أداة للاستكشاف في العلوم الأخرى، أو «أورغانون» Organon بالمعنى الأرسطي. ومن بين العلوم المتبقية، مع تنحية السوسيولوجيا جانبًا في الوقت الحالي، يحتل علمان مكانًا بارزًا:

الفلك والبيولوجيا، بطبيعتيهما، هما الفرعان الرئيسيان للفلسفة الطبيعية. إنهما مكملان لبعضهما البعض، يتضمنان النظام العام لمفاهيمنا الأساسية في انسجامهما العقلاني. إن النظام الشمسي والإنسان هما أقصى ما سيتم تضمين أفكارنا فيه إلى الأبد. النظام الشمسي أولاً، ثم اﻹنسان، وفقًا لمسار منطقنا التأملي: والعكس في العملية النشطة: قوانين النظام الشمسي تحدد قوانين الإنسان، وتبقى غير متأثرة بها. (1830 (40), v. 1, 717-718; E., v. 1, 384)

يظهر المنهج الوضعي في أشكال مختلفة، طبقًا للعلم الذي يطبق عليه: ففي علم الفلك هو الرصد Observation، وفي التجارب الفيزيائية، وفي البيولوجيا هو المقارنة Comparison. كما تكمن وجهة النظر نفسها أيضًا وراء النظرية العامة للفرضيات The general theory of hypotheses في الدرس الـ 28، وهي محور الفلسفة الوضعية للعلوم.

أخيرًا، فإن التصنيف هو المفتاح لنظرية التقانة Theory of technology. والسبب وجود صلة تنظيمية بين التعقيد Complexity والتعديل Modifiability: فكلما كانت الظاهرة أكثر تعقيدًا، زادت قابليتها للتعديل. وإن نظام الطبيعة هو نظام قابل للتعديل. والسلوك البشري يحدث ضمن الحدود التي تعينها الطبيعة، ويتمثل في استبدال النظام الطبيعي بآخر اصطناعي. إن تعليم كونت كمهندس قد جعله على دراية تامة بالروابط بين العلوم وتطبيقاتها، وهو ما لخصه في الشعار الذي كثيرًا ما يتم اقتباسه: «من العلم تأتي البصيرة، ومن البصيرة يأتي الفعل». ووحده الموت هو ما منع كونت من كتابة نظام الصناعة الوضعية System of Positive Industry، أو أطروحة في السلوك الشامل للبشرية على الكوكب Treatise on the Total Action of Humanity on the Planet، والذي كان قد أعلن عنه في وقت باكر من العام 1822.

3.4 السوسيولجيا ووضعها المزدوج

للسوسيولوجيا وضعية مزدوجة. فهي ليست مجرد علمًا واحدًا من بين العلوم الأخرى، كما لو أن هناك علم للمجتمع أسوة بوجود علم للكائنات الحية. إن السوسيولوجيا، بدلاً من ذلك، هي العلم الذي يأتي بعد كل العلوم اﻷخرى. وباعتبارها العلم النهائي، فعليها الاضطلاع بمهمة التنسيق لتطور المعرفة برمتها. مع السوسيولوجيا، تستحوذ الوضعية على الحيز اﻷخير الذي كان حتى الآن مفلتًا منها واعتبر متعذرًا الوصول إليه إلى الأبد. لقد اعتقد الكثير من الناس أن الظواهر الاجتماعية معقدة للغاية بحيث لا يمكن أن يكون هناك علم لها. ففكرة ديلتاي Dilthey عن العلوم اﻹنسانية Geisteswissenschaft، على سبيل المثال، كانت موجهة صراحة ضد الوضعية وحافظت على الفارق بين الفلسفة الطبيعية والفلسفة الأخلاقية. أما كونت في المقابل، فقد أعلن أن هذا التمييز الذي اقترحه اﻹغريق، قد ألغي نتيجة وجود السوسيولوجيا. كما أنه قال باستعادة الوحدة بين الفلسفتين بعد أن كانت ولادة الميتافيزيقا قد أفقدتهما إياها (1830 (58), v. 2, 713–715).

لذلك، فإن تأسيس العلوم الاجتماعية يمثل انعطافة في تاريخ البشرية. فحتى ذلك الحين، كانت الروح الوضعية تتسم بالمنهج الموضوعي Objective method، الذي يشق طريقه من العالم إلى الإنسان. ولكن مع بلوغ هذا الهدف الآن، فقد أصبح من الممكن قلب هذا الاتجاه والانتقال من اﻹنسان إلى العالم، لتبني، بعبارة أخرى، المنهج الذاتي Subjective method، والذي كان مرتبطًا حتى الآن بـ تشبيهية anthropomorphism اللاهوت. ولشرعنة هذا المنهج، كان يكفي أن تحل السوسيولوجيا محل اللاهوت، وهو ما يناظر إحلال النسبي محل المطلق: ففي حين أن الله قد يقول لروح اﻹنسان، كما في التقليد Imitatio، «أنا ضروري لك وأنت عديمة الفائدة لي»، فإن الإنسانية[4] هي الأكثر اعتمادًا على جميع الكائنات. في الحالة الأولى، فإن القول بأن الله في حاجة إلينا يعد تجديفًا: وسيكون إنكارًا لكماله. أما الحالة الثانية، فهي في بعض النواحي مجرد عاقبة لتصنيف العلوم، إذا قبلنا باعتبار الإنسانية الموضوع اﻷصلي للسوسيولوجيا. إن كل علم يعتمد على العلم السابق؛ بينما السوسيولوجيا باعتبارها العلم اﻷخير، كانت هي  الأكثر اِعتِمَادِيّة. فحياة الإنسان تتوقف على سبيل المثال على اﻷحوال الفلكية. كما تعتمد الإنسانية كذلك على كل واحد منا، على ما نفعله وعلى ما لا نفعله. بمعنى آخر، فإن كل واحد منا يعتمد بالطبع على الإنسانية، كما قال قانون النظام البشري: اﻷموات يحكمون اﻷحياء، بالضرورة وبشكل متزايد les vivants sont nécessairement et de plus en plus gouvernés par les morts.

إن الكشف عن هذه المكانة البارزة للسوسيولوحيا هو الهدف الرئيس لـ للخلاصات العامة لـ الدروس. فالدرس الـ 58 يثير السؤال حول أي العلوم التي تترأس العلوم اﻷخرى وفقًا للمعيار الموسوعي. إذ أنه لضمان التطور المتناغم لمختلف العلوم مجتمعة، يجب افتراض هيمنة أحدها. وحتى وقت قريب، كانت الرياضيات هي من لعبت هذا الدور، ولكن «لن يُنسى أن المهد ليس عرشًا» (1830 (58), v. 2, 718; E., v. 2, 510) (Bourdeau 2004). فعلى المرء تمييز أول ازدهار للروح الوضعية عن تطوره المنهجي. ووجهة النظر الإنسانية، والتي تعني وجهة النظر الاجتماعية، هي الوحيدة الكونية حقا. والآن بعد أن ولدت السوسيولوجيا، فقد أصبح الأمر متروكًا لها لتكون مسؤولة عن تطوير المعرفة.

وغني عن القول أن فكرة كونت عن السوسيولوجيا كانت مختلفة تمامًا عن الفكرة المعاصرة. فلصيانة الوضعية في حقلهم المعرفي، سارع السوسيولوجيون إلى التخلي عن وظيفتها التنسيقية، والمعروفة أيضًا باسم الوظيفة الموسوعية أو التَهَنْدُسِيّة Architectonic التي تميز الفلسفة. أما مع مكانتها في أعلى المعيار، فإن السوسيولوجيا في الدروس تلخص المعرفة برمتها، في حين أن العلوم التي تسبقها ليست سوى مقدمة هائلة لهذا العلم النهائي. ونتيجة لذلك، لا يمكن للمرء أن يصبح سوسيولوجيًا دون أن يملك تعليمًا موسوعيًا متينًا، تعليمًا لا مكان فيه للاقتصاد أو الرياضيات الاجتماعية، وإنما يركز، على العكس من ذلك، على البيولوجيا، العلم الأول الذي يتعاطى مع الكائنات المنتظمة. ولكم يبتعد هذا عن منهج السوسيولوجيا اليوم!

إذا اندمجت السوسيولوجيا مع الفلسفة في مواضع، فإنها ترتبط أيضًا بالتاريخ ارتباطًا وثيقًا. وبالتالي، فقد اندفع كونت إلى اتخاذ موقف حيال سؤال يفرقنا اليوم بعمق، هو: كيف يجب النظر إلى العلاقات بين فلسفة العلوم، وتاريخ العلوم، وسوسيولوجيا العلوم ؟. في الدروس، يقع التاريخ في كل مكان وفي لا مكان في آن واحد: إنه ليس حقلًا معرفيًا، وإنما منهجًا للسوسيولوجيا. والسوسيولوجيا الديناميكية هي «تاريخ بدون أسامي الرجال، أو حتى الشعوب» (1830 (52), v. 2, 239). من السهل إذن أن نفهم رفض الوضعية الدائم فصل فلسفة العلوم عن تاريخ العلوم. فطبقًا للوضعية، لا يعرف المرء العلم حقًا حتى يعرف تاريخه. وبالفعل، كان كرسيًا في التاريخ العام للعلوم هو ما طلب كونت من جيزو Guizot إنشائه له في الكوليج دو فرانس Collège de France. بينما لم يكن موقف مِل مماثلًا تمامًا، بما أنه وضع على عاتق مؤلف الدروس مهمة تجاهل إنتاج البرهان، أو في استخدام للمفردات الحديثة، الاهتمام بسياق الاكتشاف أكثر من الاهتمام بسياق التبرير (Mill 1865). أما النقد فمشروع فقط بشكل جزئي: حيث يميز كونت بعناية بدءًا من الدرس الثاني في دروس، بين الدراسة المذهبية والتاريخية للعلوم، مؤثرًا الأولى ومبقيًا على الثانية للدروس في السوسيولوجيا. ومثلما كانت فلسفة العلوم بالنسبة لكونت هي فلسفة للعقل وليس فلسفة للطبيعة، فإنه كان يقدر تاريخ العلوم كموضوع في حد ذاته بشكل أقل من كونه «الجزء الأكثر أهمية، وإن كان الأكثر إهمالًا حتى الآن» من تطور الإنسانية (1830 (2), v. 1, 53). ولذلك، فإن كل علم في الدروس يفحص مرتين: لذاته، في المجلدات الثلاث الأولى؛ ثم في علاقاته بالتنمية العامة للمجتمع، في المجلدات الثلاث الأخيرة. وبهذه الطريقة، ينجح كونت في التوفيق بين وجهات النظر الداخلية Internalist والخارجية Externalist، والتي تعتبر متنافرة عادة.

4.4 كونت ومِل

كان القراء اﻷوائل لـ الدروس في بريطانيا العظمى؛ حيث امتلكت المشاريع اﻹصلاحية للراديكاليين اﻹنجليز العديد من النقاط المشتركة مع الشواغل الوضعية. وقد تركت قراءة المجلدات الأولى انطباعًا كافيًا لدى مِل لحثه على الكتابة إلى مؤلفها. وكانت للمراسلات التي أتبعت ذلك، والتي استمرت من 1841 إلى 1846، أهمية فلسفية بالغة. ففي رسالته الأولى، قدم مِل نفسه تقريبًا كتابع لكونت، واسترجع كيف، قبل حوالي عشر سنوات، كان عمل كونت المنشور في العام 1822 هو الذي حرره من تأثير بنتام[5] Bentham.  ولكن نبرة الرسائل، مع بقائها ودية، تغيرت بعد ذلك بوقت قصير. فلا يتردد مِل في التعبير عن اعتراضاته على مفهوم كونت عن البيولوجيا واستبعاده علم النفس من العلوم. كما كانت لدى مِل، على وجه الخصوص، تحفظات قوية على علم الفراسة  Phrenology لـ غال Gall، والذي صَدَّق عليه كونت، مقترحًا استبداله بـ الأخلاقيات (الإيثولوجيا) Ethology. وقد تبلورت خلافاتهم حول «المسألة النسوية» «la question féminine» – والتي تعني وضعية المرأة في المجتمع – حيث من الممكن معاينة الطريقة التي تُربط بها الاعتبارات اﻹبستمولوجية والسياسية (Guillin 2007).

بعد العام 1846، نأى مِل سريعًا بنفسه عن مراسلته. حتى أنه ذهب إلى حد وصف النظام Système بـ «النظام اﻷكمل للاستبداد الروحي والدنيوي الذي انبثق على الإطلاق من الدماغ البشري، اللهم إلا ما كان من النظام الخاص بـ إغناطيوس لويولا Ignatius Loyola» (السيرة الذاتية Autobiography، 213). تمثل مثل هذه الأحكام – وثمة العديد منها – تطرفًا في تقييم عالمي أكثر توازنًا. ففلسفة كونت اللاحقة تستحق النقد، ولكن مِل كان قادرًا على رصد نقاطها القوية وذكرها. والعبارات الأخيرة من كتاب مِل في العام 1865 تعطي مثالًا جيدًا على الطريقة الفريدة التي تمكن بها من خلط التأييد مع النقد القاسي:

نحن نعتقد بأن السيد كونت في عظمة أيًا من أولئك الفلاسفة [ديكارت Descartes و ليبنيز Leibniz]، وبالكاد أكثر بذخًا. فلو ذكرنا فكرنا كله، فإن علينا اعتباره متفوقًا عليهم: ليس جوهريًا، وإنما في اجتهاد قوة فكرية مساوية داخل عصر أقل تسامحًا مع السخافات الملموسة، والتي يبدو أن تلك التي ارتكبها، إن لم تكن أكبر في حد ذاتها، فإنها على الأقل تظهر أكثر سخافة (Mill 1865, p. 182).

كما قال في وقت أسبق:

لذلك، فإننا لا نعتقد فحسب بأن السيد كونت كان له ما يبرره في محاولة الارتقاء بفلسفته إلى دين، وأنه أدرك الشروط الأساسية لهذه العملية، وإنما بأن الأديان الأخرى،  في نتائجها العملية، صنعت بصورة أفضل بالنسبة إلى توافقها مع ذاك الذي كان يهدف إلى تأسيسه. ولكن، للأسف، الشيء التالي الذي يلزم علينا القيام به، هو اتهامه بارتكاب خطأ كامل في مستهل عملياته ذاتها. (Mill 1865, p. 124) 

وعلى الرغم من أن كل طبعة جديدة من كتاب مِل نظام المنطق System of Logic شهدت إشارات أقل إلى الدروس مقارنة بالطبعات السابقة (في الطبعة الأولى كانت هناك أكثر من مائة إشارة)، فإن تأثير كونت على مل ظل عميقًا، إلى مدى يتم التقليل من قدره كثيرًا اليوم (Raeder 2002). والسيرة الذاتية لـ مِل واضحة تمامًا في هذه النقطة، بحيث يظهر كونت فيها بشكل أكثر بروزًا من توكفيل Tocqueville الذي كان مِل على اتصال به لفترة أطول. وعلى العكس، ساهم مِل كثيرًا في إذاعة الوضعية. وحظي كتابه عن كونت (Mill 1865) بنجاح كبير، كما اعتبر مِل نفسه في بعض اﻷحيان وضعيًا[6].

5. نظام الوضعية السياسية الوضعية والوضعية الشاملة

بعد فترة وجيزة من فراغه من الدروس، عاد كونت إلى مشروعه اﻷول بادئًا في تلخيص كتاب نظام السياسة الوضعية. كان كتابه الكلام في الروح الوضعية Discourse on the Positive Spirit، والذي كان بمثابة توطئة لكتاب أطروحة فلسفية في علم الفلك الشعبي Philosophical Treatise on Popular Astronomy (1844)، قد أبرز بالفعل الغرض الاجتماعي للوضعية وجدارتها بالحلول محل اللاهوت في السياسة والأخلاق. ولكن لقاء كونت مع كلوتيلد دي فو كان من شأنه قلب حياته رأسًا على عقب، وإعطاء مسيرته الثانية انعطافة غير متوقعة (1845-1846).

1.5 العقل خادماً للقلب

بعد وفاة كلوتيلد في العام 1846، تحولت الوضعية إلى “الوضعية الشاملة”، والتي هي «هيمنة القلب المستمرة» (la prépondérance continue du Coeur). فكما قالت افتتاحية كتاب نظام السياسة الوضعية، فإننا «نتعب من التفكير بل حتى من التظاهر Acting، ولكننا لا نتعب أبدًا من الحب». حولت الوضعية العلم إلى فلسفة؛ أما الوضعية الشاملة فقد حولت اﻵن الفلسفة إلى دين. وكان السؤال الذي طرح مبكرًا للغاية، عما إذا كانت مثل هذه الخطوة تتوافق مع الأفكار السابقة لكونت، ومع الوضعية بصورة أعم. وأجاب مِل وليتري سلبًا، ولم تحظى الوضعية الشاملة بشعبية كبيرة.

إن تحويل الفلسفة إلى دين لا ينتج دينًا للعلم، لأنه بعد التغلب على التحيزات الحديثة، يصنف كونت الآن الفن ودون تردد فوق العلم. فالآن، وقد اكتمل الانفصال عن العالم الأكاديمي، ركز الوضعيون آمالهم على تحالف مع المرأة والبروليتاريا. وقد احتفظ كونت (الذي كرس نفسه لـ كلوتيلد عقب وفاتها بهوس، وربما حتى بنوع من العبادة ) بدور حاسم في العصر الوضعي للمرأة (Labreure 2020). ومع ذلك، فإن هذا الجانب من عمله كان من الصعب على القارئ المعاصر قبوله، خصوصًا مع انطوائه على الفكرة الطوباوية المتعلقة بالأم العذراء، والتي تعني التناسل العذري للبشر. أما بالنسبة للبروليتاريين، فقد رآهم كـ وضعيين عفويين، تمامًا كما كان الوضعيون بروليتاريين منهجيين!

العقل، إذن، ليس مقدرًا له أن يحكم بل أن يخدم، ليس كعبد للقلب، بأي حال، وإنما كخادم له (Bourdeau 2000). وبالتالي، فإن العلم يحتفظ بوظيفة جوهرية. وقد تأسست هيمنة القلب بيولوجيًا في «التصنيف الوضعي للوظائف الداخلية الثمانية عشر للدماغ، أو النظرة المنهجية للروح» (1851, v. 1, 726; E., v. 1, 594–95). ويميز الجدول الدماغي Cerebral table عشر قوى عاطفية، وخمس وظائف فكرية، وثلاث صفات عملية؛ تتوافق مع القلب، والعقل، والشخصية على التوالي. وتُرتب الوظائف طبقًا لزيادة الطاقة ونقصان المنزلة، بينما يمكن اعتبار هيمنة القلب مرجعًا من البيولوجيا الوضعية. هذا التصنيف لا غنى عنه لفهم النظام. وتجدر الإشارة بشكل عابر، إلى أن هذا يظهر أن استبعاد علم النفس لم يكن له على الإطلاق المعنى الذي يعطى عادة إليه: فكونت لم يرفض أبدًا دراسة الوظائف العليا للإنسان، سواء كانت وظائف فكرية أو أخلاقية، وإنما كان هذا ينتمي بالنسبة له إلى البيولوجيا (يشير التصنيف إليه أيضًا في بعض اﻷحيان باسم «الجدول الدماغي»)، وبالتالي فإن اﻷمر لا يتطلب إنشاء علم جديد (1830 (45)). تاريخيًا، بدأ مفهوم النظام بهذا الجدول، الذي صيغت منه نسخ مختلفة على التوالي منذ العام 1846. ومفاهيميًا، فإن هذا هو التطبيق الأول للمنهج الذاتي، الذي يُفهم باعتباره تغذية رجعية من السوسيولوجيا إلى العلوم التي تسبقه، بدءًا من أقربها. وبهذه الطريقة، فإن السوسيولوجي يساعد البيولوجي على تحديد الوظائف الدماغية، والتي هي في أغلب الأحيان، مُهِمّة يتبع فيها البيولوجي ببساطة أقسام علم النفس الشعبي مرة أخرى. لاحقًا، وفيما أصبح معروفًا باسم «رسائل عن المرض» letters on illness، يقترح كونت بالمثل تعريفًا سوسيولوجيًا للدماغ، باعتباره العضو الذي يحكم من خلاله الموتى على الأحياء.

2.5 السياسة الوضعية

اليوم، لم نعد نخلط الوضعية بالسياسة. ومع ذلك، فإن الرابطة بينهما كانت موجودة منذ البداية عندما عمل كونت سكرتيرًا لـ سان سيمون، كما كانت السياسة الوضعية مؤثرة للغاية في نهاية القرن التاسع عشر. والمبدآن الرئيسيان للسياسة الوضعية هما: لا يوجد مجتمع دون حكومة؛ واﻷداء السليم للمجتمع يتطلب سلطة روحية مستقلة عن السلطة الزمنية.

للمبدأ الأول جانبين. يعبر الجانب السلبي منهما عن عدم اهتمام كونت بمفهوم الدولة. بينما يجادل الجانب الإيجابي بضرورة التفكير في كيفية عمل الحياة الاجتماعية لكي نفهم لماذا يجب أن توجد حكومة. والمثير للدهشة أن نقطة انطلاق كونت هي نفسها عند هايك Hayek، أعني وجود نظام عفوي Spontaneous order. وقد أتى عنوان الدرس الـ 50 من الدروس بهذه الصورة: اﻹستطيقا الاجتماعية Social statics، أو نظرية النظام العفوي للمجتمع البشري theory of spontaneous order of human society. ولكن، بالنسبة للوضعية، يغطي النظام العفوي جميع الظواهر الطبيعية، وهو ليس مثاليًا ولا ثابتًا. وبشكل عام، يهدف السلوك البشري إلى استبدال النظام الطبيعي بنظام اصطناعي آخر يتماشى مع رغباتنا. بينما الإجراء الحكومي ليس سوى حالة خاصة، تطبق على النظام العفوي المتأصل في المجتمع البشري، والذي يحدده تقسيم العمل. وزيادة التخصص، التي تصاحب تقسيم العمل، تهدد تماسك المجتمع حتى لو كانت شرطًا لازمًا للتقدم. وهذا هو سبب الحاجة إلى حكومة: وظيفتها هي «التحقق من سوء التنظيم ودعم النوازع المتقاربة» لﻷفراد (1852, 205; E. 277).

أما فيما يتعلق بالمبدأ الثاني: فإن السلطة الروحية لا يمكن فهمها إلا من حيث علاقتها بالسلطة الزمنية. فالسلطة الروحية، بطبيعتها، هي سلطة معتدلة تفترض مسبقًا وجود سلطة زمنية، والتي هي على النقيض لا تفترض مسبقًا وجود سلطة روحية. علاوة على ذلك، فإن كونت يختلف بشدة مع المادية التاريخية: فالسلطة الروحية هي الأفكار التي تحكم العالم، بمعنى أنه لا يوجد نظام اجتماعي قابل للاستدامة دون الحد الأدنى من الإجماع على المبادئ التي تحكم الحياة في المجتمع. وفي البداية، خطط كونت لإسناد هذه السلطة الروحية الجديدة إلى العلماء، لأنه لم يرى العلم كأساس عقلاني لعملنا على الطبيعة فحسب، وإنما أيضًا كأساس روحي للنظام الاجتماعي.

على مدى السنوات الخمسين اﻷخيرة على الأقل، كان يُنظر إلى السياسة الوضعية بشكل سلبي باعتبارها رجعية وشمولية. ومن الصحيح، في كثير من النواحي، أن كونت كان معاديًا للحداثة بشكل حازم. ولكنه حمل أيضًا، خصوصًا في كتاباته اللاحقة، أفكارًا تتماشى مع الاهتمامات المعاصرة. فعلى سبيل المثال، كان لديه شعور حاد تجاه الطريقة التي تعتمد بها البشرية على اﻷحوال الفلكية: مفترضًا أن التغييرات الصغيرة في المدار الإهليلجي (البيضاوي) Elliptical orbit للأرض، وفي انحراف مدار الشمس الظاهري Ecliptic، والحياة، على الأقل الحياة كما نعرفها، كانت مستحيلة. فالبشرية، وهي الدراسة اﻷصلية للسوسيولوجيا، ترتبط بشكل وثيق بالأرض، بالكوكب البشري، «بأغلفته الغازية والسائلة» (Comte 1851 [1875]، 429). وعلى الرغم من الثورة الكوبرنيكية، تظل الأرض لكل منا هي الأرضية الثابتة التي لا تتزعزع والتي تقف عليها جميع اﻷشياء. وانظر على سبيل المثال ما يقوله كونت عن الوطن والطريقة التي تكون بها: «الخيمة، أو المركبة، أو السفينة لعائلة الرُحَّل نوعًا من دولة متنقلة، تربط الأسرة أو الجماعة بأساسها المادي. إن حالنا مثل حال [الغجري] the Roma في عربته» (1851، v. 2 285، E. 2 237). إن السياسة ترتكز على الجغرافيا السياسية Geopolitics، حيث يحتفظ اﻷرضي Geo بمعناه الاشتقاقي، جايا Gaia (ربة اﻷرض اليونانية)، وحيث تُفهم الأرضباعتبارها كوكبًا في النظام الشمسي.

هذه الشخصية الكونية للسياسة الوضعية، تساعد على فهم ما يمكن أن يبدو تناقضًا. فبعد العام 1851، اقترح كونت تقسيم فرنسا إلى 19 «متعهدية» Intendances. وهو الاقتراح المحير للغاية نتيجة عدم توافقه مع الرأي الوارد بأنه كان داعمًا للمركزية. ومع ذلك، فإن التناقض يتلاشى بمجرد أن نأخذ في الاعتبار التمييز بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية. إذ تنطبق المركزية فقط على السلطة الروحية (كانت البابوية في ذهن كونت بوضوح) بينما السلطة الزمنية بطبيعتها محلية. وثمة العديد من المقاطع حيث يذكر ذلك الارتباط بوضوح. وهذا ناتج عن كون العقل غير مقيدًا بالحدود؛ فالسلطة الروحية ليس لديها خيار سوى أن تكون كاثوليكية، أي أن تكون كونية. مجالها هو كوكب الأرض.

من هذا، فإن لدينا على الأقل صيرورتان. الأولى، هي الاهتمام القوي بإعادة الإعمار الأوروبية، وهي الأولوية السياسية بين عامي 1815 و 1820، ولكن ليس بعد الآن في العام 1850 عقب انتصار القومية. والثانية، هي الإدراك بأن الدولة كمفهوم هي منتوج تاريخي لم يكن موجودا قبل العام 1500، وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الدول سوف تظل قائمة إلى الأبد. ومن هنا، جاء اقتراحه بتقسيم فرنسا إلى تسعة عشر «متعهدية»: بحيث لا يُسمح لتوسع السلطة الزمنية بالتجاوز إلى مناطق مثل بلجيكا أو كورسيكا.

كان كونت أيضًا من أوائل المناهضين للكولونيالية. فباعتبارها المكان الذي ظهر فيه التفكير الوضعي وتطور، فإن كونت اعتبر أوروبا قائدة للبشرية (1851 [1875], 313, Varouxakis 2017). ولكن الطريقة التي استحوذت بها على الكوكب في العصر الحديث تناقضت وفكرة الوضعية ذاتها عن مكانة أوروبا في التاريخ. وقبل الاشتراكيين بكثير، اعترض الوضعيون الإنجليز على الإمبريالية الفيكتورية (انظر Claeys 2008). وفي هذا السياق، ناقش كونت وأتباعه باستفاضة المزايا النسبية للمسيحية والإسلام. وقدّر الأتراك كثيرا في كونت وأتباعه العلمانية التي تمثل حلا للعديد من مشكلات الإمبراطورية العثمانية. كما كان أحمد رضا بك Ahmed Reza، السياسي المؤثر، وضعيًا بشكل علني. وتأثر أتاتورك والشبان اﻷتراك بهم بشدة (Kaynar 2021).

3.5 دين الإنسانية

كان العنوان الفرعي لكتاب نظام هو أطروحة في السوسيولوجيا المؤسسة لدين الإنسانية Treatise on Sociology Instituting the Religion of Humanity. وبينما حافظت الأشكال المختلفة من الربوبية Deism على فكرة الله وأحالت الدين إلى تدين غامض، فإن كونت اقترح العكس من ذلك تمامًا: دين بدون إله أو خوارق. لم يحقق مشروعه نجاحًا كبيرًا؛ حتى أنه حقق إنجازًا عبقريًا بتوحيده المؤمنين وغير المؤمنين ضده. وقد جعلت التفاصيل السخيفة العديدة في ديانة كونت مهمة خصومه أسهل. ولكن هذا الجانب من فكره يستحق أفضل من التسفيه الذي ناله (Wernick 2000; de Lubac 1945).

يعرّف كونت الدين بأنه «حالة الانسجام التام الفريدة في حياة الإنسان […] عندما ترتب جميع أجزاء الحياة في علاقاتها الطبيعية ببعضها البعض» (1851, v. 2, 8; E.,v. 2, 8). كما يعرّف كونت الدين أيضًا على أنه تناغم Consensus، مشابه لما تعنيه الصحة للجسد. وللدين وظيفتان، وفقا لوجهة النظر التي يتأمل بها المرء في الوجود: ففي وظيفته الأخلاقية، ينبغي للدين أن يحكم كل فرد؛ وفي وظيفته السياسية، ينبغي له أن يوحد جميع الأفراد. للدين كذلك ثلاث مكونات، تتوافق مع التقسيم الثلاثي للجدول الدماغي: العقيدة Doctrine، والعبادة Worship، والقاعدة الأخلاقية Moral rule (الانضباطية Discipline). وتدور مناقشة كونت بصورة أساسية حول أول وثاني هذه المكونات. فإذا اعتبر المرء أن الأولى تتعلق بالإيمان والثانية بالمحبة، فإن علاقتهما تتخذ شكلين: “تأتي المحبة أولاً وتقودنا إلى الإيمان، طالما أن النمو عفوي؛ ولكن عندما يصبح الأمر منهجيًا، فإن اﻹيمان يؤسس من أجل تنظيم عمل المحبة” (1852، v. 2، 152 ؛ E., v. 2, 83). في البداية، اتبع كونت النظام التقليدي مقدمًا العقيدة قبل العبادة، ولكنه سرعان ما أعطى الأولوية للعبادة، ورأى هذا التغيير كخطوة معتبرة إلى الأمام.

في الدين الوضعي، للعبادة والعقيدة والقاعدة الأخلاقية الهدف ذاته، أي الإنسانية التي يجب أن تكون محبوبة، ومعروفة، ومخدومة. وقد قارنت الخلاصات العامة لـ الدروس بالفعل بين مفهوم الإنسانية ومفهوم اﻹله، مؤكدة التفوق الأخلاقي للأول. ولكن فقط في العام 1847، أجرى كونت الاستبدال بشكل صريح؛ حيث يحل التركيب السوسيولوجي محل التركيب اللاهوتي. فعضوية الإنسانية هي عضوية اجتماعية، وليست بيولوجية. ومن أجل الانتماء إلى ما يُعرَّف بأنه الكل المستمر للكائنات المتقاربة – وهو المصطلح الذي أطلقه كونت على الكائنات (البشرية بشكل أساسي) التي تميل إلى الاتفاق – فعلى المرء أن يكون جديرًا به. يُستبعد جميع «منتجو الأرواث» Producers of dung؛ بينما يمكن على العكس من ذلك، إدراج الحيوانات التي قدمت خدمات هامة. باﻷحرى، فإن على المرء التحول إلى السوسيولوجيا لمعرفة قوانين النظام البشري. ولكن، وكما يلخص العلم النهائي جميع العلوم اﻵخرى، فإن المعيار الموسوعي بأكمله (النطاق échelle; وهو نتيجة تصنيف العلوم)، هو الذي يشكل عقيدة الدين الجديد، وبالتالي يصبح الدين واضحًا ولا يعد بعد ذلك مُوحًى بِهِ أو مُلهَمًا.

بالتالي، فإن الابتكار الرئيس في ديانة كونت يكمن في العبادة، والتي هي خاصة (تحدث داخل الأسرة) وعامة. أنشأ الوضعيون نظامًا كاملاً من الصلوات، والترانيم، والطقوس الدينية (Wright 1986). ونظرًا لأن كل هذا كان مستوحى إلى حد كبير من العبادة الكاثوليكية، فقد قيل إنها كانت «كاثوليكية من دون المسيح»، وهو ما رد عليه الوضعيون بأنه «كاثوليكية مضاف لها العلم» Catholicism plus science. وقد عثر على الجوانب الأكثر شهرة وأصالة من ديانة كونت في عبادتها العامة، وفي التقويم الليتورجي (الطقوسي) الوضعي. وبما أن الإنسانية تتألف من الموتى أكثر من الكائنات الحية، فإن الوضعية صممت نظامًا كاملاً من الاحتفالات التأبينية Commemorations، التي كان من شأنها تطوير الإحساس بالاستمرارية التاريخية للبشرية. وهكذا، فإن عبادة الإنسانية هي عبادة الرجال العظماء. وعلى عكس التقويم الثوري الفرنسي، الذي اتبع تواتر الفصول، فإن التقويم الوضعي يستلهم التاريخ ويكرم الرجال العظماء من جميع الأمم ومن جميع الأزمنة.

عادة، يركز المرء عند تعامله مع الديانة الوضعية، على السمات المرتبطة كلاسيكيًا بالدين، كما فعلنا للتو. ومن السهل بعد ذلك تفويت واحدة من أكثر جوانبها أصالة، أي المنهج السوسيولوجي البحت Purely sociological approach (Bourdeau 2020). من وجهة النظر هذه، ينبغي التمييز بين أنواع ثلاثة من المجتمعات: الأسرة، والدولة (الدولة المدينة Polis اليونانية، دولة المواطنة Civitas اللاتينية)، والكنيسة. تتألف الدولة من أسر، وتتألف الكنيسة من دول. وكل منها يعتمد على روابط مختلفة: عاطفية Affective للأولى، نشطة Active للثانية، وفكرية Intellectual للثالثة. كما أن لكل منها أيضًا علاقة مختلفة بالمكان. ومن هنا ضرورة الفصل بين الدولة والكنيسة. المجتمع الديني بطبيعته كاثوليكي، بمعنى كوني، وبالتالي ليس له حدود غير حدود الكوكب؛ بينما مُسَطّح الدولة يفي بمطالب مغايرة، تفرض بدلًا من ذلك حدودًا جغرافية صارمة. والتناقض بين التاريخ السياسي الفرنسي والتاريخ السياسي الإنجليزي، والذي كان نقطة شائعة في زمن كونت (انظر على سبيل المثال توكفيل أو غيزو؛ وهو حاضر بالفعل لدى مونتسكيو وفولتير) يوضح الفكرة: فلا يوجد فصل بين الكنيسة والدولة في بريطانيا العظمى، بمعنى أن الملكة هي أيضًا رئيسة الكنيسة الأنجليكانية. ومع ذلك، فإن التطبيق الرئيسي لذلك يتعلق بالقضية: المركزية ضد القوى المحلية، والذي هو جانب آخر من البعد المكاني للسياسة. ومن بين النموذجين السياسيين اللذين واجهتهما الدروس باستمرار، يفضل كونت بوضوح النموذج الفرنسي. إذ كان التحالف المميز فيه بين النظام الملكي والشعب ضد الأرستقراطية مشفوعًا بمركزية أقنعت الثورة نفسها بتوطيدها. ولذلك، ربما يعتقد المرء بأن كونت كان مناصرًا لسلطة سياسية مركزية (أي: زمنية)، في حين أن العكس كان هو الصحيح في الواقع، حيث اقترح تقسيم فرنسا إلى 17 منطقة إدارية، تساوي بالزيادة أو النقصان المقاطعات القديمة (1851, v. 4, 421; Vernon 1984). فالمركزية تنطبق فحسب على السلطة الروحية.

4.5 الأخلاق والسوسيولجيا

منذ وقت باكر جدًا، أكدت الوضعية على رغبتها في بناء عقيدة أخلاقية لا تدين بشيء للخوارق. فإذا كنا بحاجة إلى سلطة روحية، فذلك لأن الأسئلة الاجتماعية غالبًا ما تكون أخلاقية أكثر منها سياسية. إن إصلاحات المجتمع يجب أن تتم وفقًا لترتيب محدد: على المرء أولًا تغيير الأفكار، ثم الأخلاق (les moeurs; وهي كلمة تصعب ترجمتها: فهي شيء مثل طرق السلوك، والعادات، والأعراف les us et coutumes)، ثم المؤسسات بعد ذلك فقط. ولكن مع النظام، فإن العقيدة الأخلاقية (الأخلاق Ethics) تغير مكانتها وتصبح علمًا، مهمته توسيع السوسيولوجيا من أجل وضع الظواهر الفردية في الاعتبار، لا سيما الظواهر العاطفية.

ترد شروط المشكلة إضافة إلى حلها من خلال قول هو موجود في هامش الجدول الدماغي: «تصرف بعاطفة وفكر لأجل أن تتصرف» (1851, v. 1, 726; E., v. 1, 594). الجزء الأول من هذه «الآية المنهجية» Systematic verse تضمنه هيمنة القلب. ولكن، من بين «القوى العاطفية» العشر، تتوافق القوى السبع الأولى مع اﻷنانية Egoism، بينما تتوافق القوى الثلاثة الأخيرة مع الإيثارية Altruism. والسؤال برمته حول معرفة أيًا منهم سيسود، القوى «الشخصية» أم القوى «الاجتماعية». وفي حين أنه من المهم اﻹقرار بفطرة الغرائز التعاطفية Sympathetic instincts، فإن البشر مضطرون إلى الاعتراف بضعفهم الأصلي: وبالتالي، فإن تفوق الميول الأنانية واضح جدًا لدرجة أنها هي نفسها أحد أكثر السمات لفتًا للنظر في طبيعتنا. إن المشكلة الإنسانية الكبرى هي قلب reverse النظام الطبيعي، وتعليم أنفسنا أن نعيش من أجل الآخرين.

يتمثل الحل في «تنظيم الداخل من خلال الخارج». وهو ما يعتمد، نتيجة لذلك، على الاستخدام الجيد للعقل. إن الطريقة الوحيدة التي يمكن لقوى الإيثار بها الغلبة، هي أن تتحالف مع العقل لتجعله خادمًا لها، وليس عبداً. إن القلب، بدون ضوء العقل، هو أعمى. كما أن الوجدان إذا ترك لنفسه، فإنه يتسم بعدم اتساقه وعدم استقراره. ولهذا السبب يجب أن ينظم الداخل، بمعنى أن يكون انضباطيًا disciplined. وهذه المهمة منوط بها الخارج، لأن الواقع الخارجي هو خير المنظمين. ومهما كانت عيوبه، فإن الترتيب في الطبيعة الذي يكشف عنه العلم، دون الاكتراث برغباتنا، هو مصدر للانضباط. وبالتالي، يصبح الاعتراف بنظام خارجي لا متغير هو «الأساس الموضوعي للحكمة الإنسانية الحقيقية»، و«بإلزامها التكيف معه» تجد عواطفنا «مصدرًا للاستقرار خليقًا بالسيطرة على تقلبهم العفوي، وتحفيزًا مباشرًا لهيمنة الغرائز التعاطفية» (1851, v. 1, 322; E., v. 1, 257). يجد العلم نفسه الآن مكلفًا بوظيفة أخلاقية؛ ولكن هذا يعني أيضا أن «الأفكار يجب تنظيمها قبل المشاعر» (1851, v. 1, 21; E., v. 1, 17)، وأنه إذا كانت السيادة الأخلاقية هي السمة الرئيسية للسلطة الروحية، فإن هذه السلطة لن تكون قادرة على القيام بواجباتها دون مساعدة من فكر متفوق.

أثناء تطويرهم علمًا للأخلاق قائمًا على العقيدة الأخلاقية، كان دوركايم Durkheim وليفي برول Lévy-Bruhl يعتمدان بشدة على هذا الجانب من النظام. ومثل كلمة «السوسيولوجيا»، فإن كونت صك كذلك لفظة «الإيثارية». وفي إدراك عميق منه لما يشترك فيه الإنسان والحيوان، كان كونت قريبًا مما يُعرف اليوم باسم «الأخلاق التطورية» Evolutionary ethics: فقد رأى أن التعاون بين البشر بمثابة متابعة للظواهر التي تعطينا البيولوجيا أمثلة أخرى عليها. ودفعه الاهتمام نفسه بالبيولوجيا إلى ربط الطب بالعقيدة الأخلاقية وحتى بالدين. ففي مجتمعاتنا الحديثة، أصبحت دراسة الإنسان «الآن مجزأة بشكل لا عقلاني بين فئات ثلاثة من المفكرين: الأطباء، الذين يدرسون الجسد وحده؛ والفلاسفة، الذين يتخيلون دراسة العقل؛ والكهنة الذين يدرسون القلب بشكل خاص» (1852، v. 2، 437 ؛ E., v. 2, 356). ولتصحيح هذا واحترام وحدة طبيعتنا، فقد اقترح منح رجال الدين الجدد دورًا في الطب، معتبرًا على سبيل المثال أنه لا يوجد تصديق أفضل على قاعدة التصَحُّح (النظافة) Rule of hygiene من المرسوم الديني. وقبل موته، كان لا يزال لديه الوقت في رسائله إلى أوديفرنت Audiffrent، لتلخيص مبادئ النظرية السوسيولوجية للأمراض.

6. الخلاصة

كَكُلّ، لم يلق النظام استحسانا. إذ على الفور تقريبًا، طرح مِل وليتري فكرة وجود كونت صالح هو مؤلف الدروس، وكونت طالح هو مؤلف النظام. ومع ذلك، فمن المستحيل الاكتفاء بحصره داخل الدروس. ﻷن الأعمال الباكرة لكونت تركت انطباعًا قويًا لدى بعض أفضل العقول في ذلك الوقت؛ وقراءتها لم تزل لازمة لكل راغب في فهم الفلسفة الوضعية، بما أنها تظل من بين أفضل المقدمات للموضوع. إن الدروس لم تكن جزءًا من المشروع الأَوَّلِيّ، والذي لم يغب عن ذهن كونت أبدًا. ومن الأفضل اعتبار العمل حاصرة من المسلم أنها ظلت مفتوحة طيلة عشرين عامًا، رغم أن كونت كان قد قصد إغلاقها بسرعة كبيرة. والسبب وراء تقديم كونت المعتاد لكتابه المؤلف في العام 1822 والمعنون بـ خطة للعمل العلمي الضروري ﻹعادة تنظيم المجتمع Plan for the Scientific Work Necessary to Reorganize Society باعتباره عمله الأساسي هو أن المرء، بدءًا من عنوان الكتاب ذاته، يكتشف الموضوعين اللذين خطط كونت لدراستهما من حيث علاقتهما ببعضهما البعض: أي العلم والمجتمع. والسؤال الرئيسي هو سؤال سياسي: كيف ينبغي إعادة تنظيم المجتمع؟. يلعب العلم، رغم وجوده منذ البداية، دورًا ثانويًا كوسيلة لتحقيق الهدف اﻷثير. وجميع أعمال كونت تهدف إلى تأسيس حقل علمي تصبح فيه أخيرًا دراسة المجتمع وضعية، وعلمية. وإن فكرته عن السوسيولوجيا ليست نفسها تلك الفكرة التي اعتدناها اليوم فحسب؛ بل إن حتى المعنى الحالي لمصطلح «الوضعية»، والتي هي بموجبه مجرد فلسفة للعلوم، كان أكثر تضليلاً كدليل إلى أفكار كونت. وعلى الرغم من أن مؤسس الوضعية يعتبر بحق أحد فلاسفة العلوم العظام، إلى جانب بوانكاريه Poincaré و كارناب Carnap، فإن مكانته الطبيعية موجودة في موضع آخر، إلى جانب السوسيولوجيين من معاصريه من أمثال  ماركس وتوكفيل. وفقط يدخل العلم في الصورة، عندما يطرح السؤال حول ما يميز كونت عن الأخيرين.

يمكن معاينة الحدود الخاصة بالفلسفة العلمية لكونت بسهولة، ولكن هذا لا يقلل من قيمتها التي تظل معتبرة. ومع ذلك، فإن الشيء نفسه لا يمكن قوله عن السياسة الوضعية. فبالنظر إلى أن الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية يستند على الفصل بين النظرية والممارسة، فإن كونت امتنع عن أي عمل سياسي مباشر، وأدان، على سبيل المثال، قرار مِل بالوقوف في البرلمان. ولكن مشروعه الخاص لإعادة تنظيم المجتمع قدم مشكلة مماثلة. ففي كتاباته، من الصعب تمييز ما يتعلق بالعلم الموضوعي الاجتماعي من برنامج الإصلاح الذي يعكس فحسب موقفًا شخصيًا.

بصرف النظر عن تلك الصعوبة، فإن نقاط الضعف في السياسة الوضعية متعددة. ومن بينها، فإن تلك النقاط التي تعتبر الأكثر وضوحًا (انتقاد حقوق الإنسان، الإشادة بالدكتاتورية) هي ليست بالضرورة الأكثر خطورة، بما أنه يمكن الرد على هذه الاعتراضات بسهولة. فعلى سبيل المثال، وبينما ينتقد كونت حرية الضمير، فإنه دائمًا ما يدعم حرية التعبير وبشدة. كما ينبغي لنا أيضا أن نعد احترامه العميق للعفوية أمرا مطمئنا، باعتباره جزءًا هامًا من فكرتنا عن الحرية. أما المسألة الأكثر خطورة، فربما تكون هي عواقب رفضه علم النفس. فالسؤال الأخلاقي، «ماذا يجب أن أفعل؟» لم يعد يُطرح من منظور الشخص الأول، وتحول إلى مشكلة هندسية: «ما الذي يجب فعله لجعل البشر أكثر أخلاقية؟». وبالمثل، فإن الوضعيين تمت دعوتهم للعيش مُجَاهَرَةً، حيث يختفي التمييز بين الحياة الخاصة والعامة.

ومع ذلك، فإن استعراض نقاط الضعف في النظام السياسي الوضعي فحسب لن يكون أمرًا عادلاً. إذ لو حتى كان كونت مخطئًا غير مرة، فإن نظرية التناغم Theory of consensus الخاصة به، إضافة إلى الجدية التي عالج بها السؤال: «ما هو الدين بعد موت الله؟» (وهما مجرد مثالين فحسب) من المرجح أن تساعدنا في حل بعض المشاكل الأكيدة التي تواجه مجتمعنا. فقد كان فكر كونت موجهًا بعزم نحو المستقبل. وقد قال إن ترتيب الوقت ليس هو الماضي-الحاضر-المستقبل، وإنما باﻷحرى هو الماضي-المستقبل-الحاضر. وهذا الأخير، والذي هو مجرد «وقت ضبابي وعابر يملأ الفاصل بين بعدين من الزمن، ويربطهما معا […]، لا يمكن تصوره بشكل صحيح إلا بمساعدة النقيضين اللذين يوحد ويفصل بينهما» (1851, v. 2, 364; E., v. 2, 296).

إن التقييم السليم لفلسفة كونت يجب أن يأخذ في الاعتبار أيضًا عمل أتباعه، وهو موضوع حظي باهتمام متجدد مؤخرًا، خصوصًا في إنجلترا (Wilson 2019, 2021).

المراجع

لا توجد حتى الآن طبعة قياسية من أعمال كونت. وقد ظل بعضًا من أهم عناوينها حتى وقت قريب (الجزء الثاني من دروس في الفلسفة الوضعية، ونظام السياسة الوضعية كاملًا) غير متاح لسنوات عدة (في حالة النظام، لأكثر من خمسين عاما). انظر قسم (مصادر أخرى على الإنترنت) أدناه. والطبعات الأكثر اكتمالا، والتي هي إعادة طبع أناستاتيكية[7] anastatic للمجلدات المنشورة سابقًا (بشكل أساسي 1830-1842 و 1851-1854)، هي:

Auguste Comte, Œuvres, Paris: Anthropos (11 vols.), 1968–1970

لم تظهر منها بعد طبعة جديدة. وقد صدر منها في الوقت الحالي، مجلد واحد: 

Auguste Comte, Cours de philosophie positive, leçons 46–51, Paris: Hermann, 2012

من ناحية أخرى، فإن الوضعيين اﻹنجليز (هارييت مارتينو Harriet Martineau، ريتشارد كونجريف Richard Congreve، جون هـ. بريدجز John H. Bridges، إدوارد س.بيسلي Edward S. Bessly، فريدريك هاريسون Frederic Harrison) ترجموا أهم أعمال كونت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولذلك، فبعد النص اﻷصلي، نحيل إلى هذه الترجمات اﻹنجليزية، حتى لو لم يكن من السهل الوصول إليها.

1820, “Sommaire appréciation du passé moderne”, in L’Organisateur, 8ième et 9ième lettres

أعيد طبعه في عامي 1851 (4 مجلدات، وملحق)، و 1970. وترجم في عامي 1974 و 1980. 

1822, “Plan des travaux scientifiques nécessaires pour réorganiser la société”, Bourdeau M. (ed.), Paris: Hermann, 2020

ترجم في عامي 1974 و 1980.

1825, “Considérations philosophiques sur la science et les savants”, in Le Producteur, n° 7, 8 et 10

أعيد طبعه في عامي 1851 (4 مجلدات، وملحق)، و1970. وترجم في عامي 1974 و 1998 (متاح على الرابط: www.bibnum.education.fr/tags/auguste-comte).

1826, “Considérations sur le pouvoir spirituel”, in Le Producteur, n° 13, 20 et 21

أعيد طبعه في عامي 1851 (4 مجلدات، وملحق)، و1970. وترجم في عامي 1974 و 1998

1830–1842: Cours de philosophie positive, Paris:

أولًا الناشر Rouen، ثم الناشر Bachelier (6 مجلدات). وأضيفت صفحة مراجع إلى الطبعة الجديدة التي أصدرها الناشر  هيرمان، Paris: Hermann, 2 vols., 1975. ترجمته إلى اﻹنجليزية بتصرف واختصرته هارييت مارتينو، تحت عنوان: السياسة الوضعية لأوغست كونت The positive philosophy of Auguste Comte, London: J. Chapman, 1853. كما قدم بارسونز Parsons (1961) بعض المنتخبات من دروس السوسيولوجيا. 

1843, Traité élementaire de géométrie algébrique, Paris: V. Dalmont

1844a, Discours sur l’esprit positif, Paris: V. Dalmont; reprinted, Paris: Vrin, 1995

(مقدمة لكتاب أطروحة فلسفية في علم الفلك الشعبي 1844b، نشر بشكل منفصل). ترجم بعنوان: الكلام في الروح الوضعية A Discourse on the Positive Spirit, London: Reeves, 1903

1844b, Traité philosophique d’astronomie populaire, Paris: V. Dalmont; reprinted, Paris: Fayard, 1985

1845–1846, Correspondance avec Clotilde de Vaux, Guigue A. (ed.), Paris: Mercure de France, 2021

1848, Discours sur l’ensemble du positivisme, Paris: Mathias; reprinted, Paris: Garnier Freres, 1998

(مقدمة إلى كتاب نظام السياسة الوضعية 1851، نشر بشكل منفصل). ترجم بعنوان: نظرة عامة إلى الوضعية General View of Positivism, London: Trubner, 1865

1851–1854, Système de politique positive, ou traité de sociologie instituant la religion de l’Humanité (4 vols.), Paris, Carilian-Goeury.

ترجم بعنوان: نظام السياسة الوضعية System of Positive Polity, London: Longmans, Green and co., 1875–1877

1852, Catéchisme positiviste, Paris: self-published; reprinted, Paris: Garnier Freres, 1966

ترجم بعنوان: تعاليم الدين الوضعي The Catechism of Positive Religion, London: Trubner, 1891

1855, Appel aux conservateurs, Paris: self-published.

ترجم بعنوان: دعوة المحافظين Appeal to Conservatives, London: Trubner, 1889. طبعة جديدة، Paris: Editions du Sandre, 2009

1856, Synthèse subjective, Paris: self-published. Translated as: Subjective Synthesis, London: Kegan Paul, 1891

1970, Ecrits de jeunesse: 1816–1828, textes établis et présentés par P. Carneiro et P. Arnaud; Paris:École Pratique des Hautes Etudes

1973–1990, Correspondance générale et confessions (8 vols.), Paris: École Pratique des Hautes Etudes; La Haye: Mouton

2017, Cours sur l’histoire de l’humanité (1849–1851), texte établi et présenté par L. Fedi; Geneva: Droz

الترجمات

1974, The Crisis of Industrial Civilisation, The Early Essays of Auguste Comte, R. Fletcher (ed.), London: Heinemann

1995, The Correspondence of John Stuart Mill and Auguste Comte, O. Haac (ed.), London: Transaction Publishers

1998, Early Political Writings, H. S. Jones (ed.), Cambridge: Cambridge University Press

أعمال مِل 

عند قراءة كونت، من المفيد أن تكون لديك إحالات مستمرة إلى مِل، خصوصًا:

1843, System of Logic, Ratiocinative and Inductive, London: John Parker

أعيد طبعه في Mill 1963ff, vols. 7–8

1865, Auguste Comte and Positivism, London: Trubner

أعيد طبعه في Mill 1963ff, vol. 10, pp. 261–368

 1873, Autobiography, London: Longmans

أعيد طبعه في Mill 1963ff, vol. 1, pp. 1–290

1874, Three Essays on Religion, London: Longmans

أعيد طبعه في Mill 1963ff, vol. 10, pp. 369–489

1963, Earlier Letters, in Mill 1963ff, v. 12–13

1963ff, Collected Works of John Stuart Mill, J. M. Robson (ed.), Toronto: University of Toronto Press

أدبيات ثانوية

Arbousse-Bastide, P., 1957, La doctrine de l’éducation universelle dans la philosophie d’Auguste Comte, Paris: Presses Universitaires de France

Aron, R., 1959, La société industrielle et la guerre, Paris: Plon

Bensaude, B. and Petit, A., 1976, “Le féminisme militant d’un auguste phallocrate”, Revue philosophique, 3: 293–311 

Bourdeau, M., 2000, “L’esprit ministre du cœur”, Revue de philosophie et de théologie, 132: 175–192

–––, 2004, “L’idée de point de vue sociologique”, Cahiers internationaux de sociologie, 117(1): 225–238

–––, 2006, Les trois états: science, théologie et métaphysique chez Comte, Paris, Editions du Cerf

–––, 2009, “Agir sur la nature, la théorie positive de l’industrie”, Revue philosophique, 439–456

–––, 2011, “Pouvoir spirituel et fixation de croyances”, Commentaire, 136: 1095–1104

–––, 2016, “Fallait–il oublier Comte? Retour sur The Counter Revolution of Science”, Revue européenne des sciences sociales, 54(2): 89–112

–––, 2019, “Saint-Simon et Auguste Comte, la fin d’une collaboration, 1822–1824”, Archives de philosophie, 82(4): 771–790

–––, 2020, “Société politique et société religieuse”, Commentaire, 174: 107–114

Bourdeau, M., Pickering, M., and Schmaus, W., (eds.), 2018, Love, Order & Progress, The Science, Philosophy and Politics of Auguste Comte, Pittsburgh: University of Pittsburgh Press

Bourdeau, M, and Chazel, F., (eds.), 2002, Auguste Comte et l’idée de science de l’homme, Paris: L’Harmattan

Braunstein, J.-F., 2009, La philosophie de la médecine d’Auguste Comte ; Vaches carnivores, Vierge Mère et morts vivants, Paris: Presses Universitaires de France

Brenner, A., 2021, “How did Philosophy of Science come about? From Comte’s Positive Philosophy to Abel Rey’s absolute positivism”, HOPOS, The Journal of the Inernational Society for the History of Philosophy of Science, 11(2): 428–445

Cashdollars, C. D., 1989, The Transformation of Theology (1830–1890): Positivism and Protestant Thought in Britain and America, Princeton: Princeton University Press

Claeys, G., 2010, Imperial Sceptics, British Critics of Empire, 1850–1920, Cambridge: Cambridge University Press

Clauzade, L., 2009, L’organe de la pensée; Biologie et philosophie chez Auguste Comte, Presses universitaires de Franche-Comté, coll. Annales littéraires n° 845, Besançon

De Boni, Cl., 2003, Descrivere el futuro, Florence: Florence University Press

–––, 2013, Storia di una utopia, la religione dell’Umanità di Comte e la sua circolazione nel mondo, Milano: Mimesis Edizioni

de Lubac, H., 1945, Le drame de l’humanisme athée, Paris, Spes; reprinted in: Œuvres complètes, t. II, Paris: Le Cerf, 1998

Dixon, Th., 2008, The Invention of Altruism, Oxford: Oxford University Press

Fedi, L., 2000, Comte, Paris: Les Belles Lettres

–––, 2014, La réception germanique d’Auguste Comte (Les cahiers philosophiques de Strasbourg, 35), Strasbourg: Presses universitaires de Strasbourg

Feichtinger, J., Fillager, Fr., and Surman, J., (eds.), 2018, The Worlds of Positivism, A Global Intellectual History, 1770–1930, London: Palgrave Macmillan

Forbes, G. H., 1975, Positivism in Bengal, Calcutta: Minerva

Gane, M., 2006, Auguste Comte (Key Sociologist series), London: Routledge

Gouhier, H., 1933–1941, La jeunesse d’Auguste Comte et la formation du positivisme, Paris: Vrin, 3 vols

–––, 1965, La vie d’Auguste Comte, Paris: Vrin

Grange, J., 1996, La philosophie d’Auguste Comte: science, politique, religion, Paris: Presses Universitaires de France

Guillin, V., 2007, “La question de l’égalité des sexes dans la correspondance Mill-Comte: une approche méthodologique”, Archives de philosophie, 70(1): 57–75

–––, 2009, Auguste Comte and John Stuart Mill on Sexual Equality: Historical, Methodological and Philosophical Issues Amsterdam: Brill (Studies in the History of Political Thought)

Hale, Ch., 1989, Transformation of Liberalism in Late 19th Century Mexico, Princeton: Princeton University Press

Harp, G., 1994, Auguste Comte and the Reconstruction of American Liberalism, 1865–1920, University Park: Pennsylvania State University Press

Hayek, F. 1952, The Counter Revolution of Science, Glencoe: The Free Press

Kaynar, E., 2021, L’héroïsme de la vie moderne, Ahmed Riza (1858–1930) en son temps, Paris-Louvain-Bristol: Peeters

Labreure, D., and Petit, A. (eds.), 2021, Femmes et Positivismes, Strasbourg: Presses universitaires de Strabourg

Lacroix, J., 1961, La sociologie d’Auguste Comte, Paris: Presses Universitaires de France

Laudan, L., 1981, Science and Hypothesis: Historical Essays on Scientific Methodology, Dordrecht: D. Reidel

Lepenies, W., 1988, Between Litterature and Science: The Rise of Sociology, Cambridge: Cambridge University Press

–––, 2010, Auguste Comte, die Macht der Zeichen, München: Hanser Verlag

Levy-Bruhl, L., 1899, La philosophie d’Auguste Comte, Paris: Alcan

Macherey, P., 1989, Comte, la philosophie et les sciences, Paris: Presses Universitaires de France

Mesure, S., 1990, Dilthey et la fondation des sciences historiques, Paris: Presses Universitaires de France

Muglioni, J., 1995, Auguste Comte, un philosophe pour notre temps, Paris: Kimé

Parsons, T., 1961, Theories of Society, 2 volumes, Glencoe: The Free Press

Petit, A., (ed), 2003, Auguste Comte, Trajectoires positivistes 1798–1998, Paris: L’Harmattan

–––, 2016, Le système d’Auguste Comte, de la science à la religion par la philosophie, Paris: Vrin

Pickering, M., 1993–2009, Auguste Comte: An Intellectual Biography, vol. 1–3, Cambridge: Cambridge University Press

Plé, B., 1996, Die “Welt” aus den Wissenschaften: Der Positivismus in Frankreich, England und Italien von 1848 bis ins zweite Jahrzent des 20. Jahrhunderts, Stuttgart: Klett-Cotta

Raeder, L., 2002, John Stuart Mill and the Religion of Humanity, Columbia: University of Missouri Press

Scharff, R. C., 1995, Comte after Positivism, Cambridge: Cambridge University Press

Schmaus, W, 1982, “A reappraisal of Comte’s Three-states Law”, History and Theory, 21(2): 248–66

Schmaus, W. , and Rey O., 2021, “Special Issue Introduction”, HOPOS, The Journal of the Inernational Society for the History of Philosophy of Science, 11(2): 421–427

Simon, W. M., 1963, European Positivism in the Nineteenth Century, New York: Kennicat Press

Trindade, S., 2003, “La république positiviste chez Comte, théorie et pratique”, in Petit 2003

Varouxakis, G., 2017, “The Godfather of ‘Occidentality’: Auguste Comte and the Idea of ‘The West’”, Modern Intellectual History, 1–31. doi: 10.1017/S1479244317000415

Vernon, R., 1984, “Auguste Comte and the Withering-away of the State”, Journal of the History of Ideas, 45: 549–66

–––, 2005, “Auguste Comte’s Cosmopolis of Care”, in Friends, Citizens and Strangers, Toronto: University of Toronto Press

Wartelle, J.-Cl., 2001, L’héritage d’Auguste Comte, histoire de “l’Eglise” positiviste, Paris: L’Harmattan

Wernick, A., 2000, Auguste Comte and the Religion of Humanity: The Post-Theistic Program of French Social Theory, Cambridge: Cambridge University Press

Wilson, M., 2019, Moralising Space, The Utopian Urbanism of the British Positivists, 1855–1920, London: Routledge

–––, 2021, Richard Congreve, Positivist Politics, and the British Empire, London: Palgrave Macmillan

Wright T. R., 1986, The Religion of Humanity: The Impact of Comtean Positivism on Victorian Britain, Cambridge: Cambridge University Press

أدوات أكاديمية

How to cite this entry

Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society

Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO)

Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database

مصادر أخرى على الإنترنت

نصوص لكونت عبر اﻹنترنت

معظم أعمال كونت متاحة اليوم على الشبكة العالمية. على سبيل المثال باﻹنجليزية:

The Positive Philosophy of Auguste Comte, Volume I, translated by Martineau

A General View of Positivism, translated by J.H. Bridges

The Philosophy of Mathematics, from the Cours de Philosophie Positive, translated by Gillespie

The Catechism of Positive Religion, translated by Congreve

كما يمكن العثور على نصوص أخرى هنا: 

Google search for Auguste Comte

Comte’s works at the Bibliothèque Nationale de France

Positivist e-texts

وهو فهرس مفيد للغاية، يتيح الولوج بسهولة إلى 1087 نص إلكتروني e-texts لكونت والوضعيين في تسع لغات.

Association Internationale Maison d’Auguste Comte

توثيق غني عن كونت والوضعيين.

Association Positiviste Internationale

لا يتم تغذيته بصورة منتظمة، ولكنه يقدم بعض المعلومات المفيدة.

Les Classiques des Sciences Sociales

يضم الكثير من نصوص كونت، بالفرنسية. 

مداخل ذات صلة

altruism | authority | consensus | history, philosophy of | metaphysics | Mill, John Stuart | progress | religion: philosophy of | science: unity of | scientific knowledge: social dimensions of

Acknowledgments

Many thanks to Mark van Atten for the English translation, and to Béatrice Fink and Mary Pickering for revision of the translation and many helpful comments.


[1] Bourdeau, Michel, “Auguste Comte”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2022 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2022/entries/comte/>.

[2] عندما يكون ذلك ممكنًا، فإن الاقتباسات تكون من الترجمات التي قام بها الوضعيون اﻹنجليز في القرن التاسع عشر. وبالنسبة لصفحة المرجع، فإن اﻷولوية تمنح إلى النص الفرنسي، وفي حالة كتاب دروس في الفلسفة الوضعية، فإن رقم الدرس يقدم أيضًا، ثم يتبع باﻹشارة إلى الترجمة اﻹنجليزية. على سبيل المثال فإن (1830 (56), v. 2, 466; E., v. 2, 522 ) تشير إلى مقطع من الدرس الـ 56 الوارد في المجلد الثاني من الطبعة الفرنسية، صفحة 466، ثم ترجمته الواردة في المجلد الثاني من الطبعة اﻹنجليزية، صفحة 522. وتستخدم اﻹرشادات نفسها مع كل أعمال كونت. 

[3] يستخدم كونت مصطلح «المادي» بمعنى واسع، مشيرًا إلى السلطة الزمنية في مقابل السلطة الروحية. علاوة على ذلك، فإنه يستخدم هنا مصطلحًا تصعب ترجمته، هو: légiste والذي يعني اليوم المحامي lawyer أو باﻷحرى اﻷفوكاتو Avocat. وفي الواقع، استخدم الملوك أولئك الليجستيين légistes لتوسيع سلطتهم أمام أرستقراطية العصور الوسطى، وكانت هذه على سبيل المثال هي وظيفة ليبنيز Leibniz في بلاط هانوفر. 

[4] عقب تأسيسه دين اﻹنسانية، يستغل كونت  الكلمة (اﻹنسانية) أو لا يستغلها، طبقًا للسياق.

[5] أنظر الرسالة اﻷولى التي بعث بها مِل إلى كونت (India House, London, 8 nov 1841)، حيث كتب مِل بالفرنسية:

سيدي، في العام 1828، قرأت للمرة اﻷولى أطروحتك في السياسة الوضعية. وقد منحتني هذه القراءة رَجَّة قوية في جميع أفكاري، كانت رفقة أسباب أخرى، ولكنها أكبر منها بكثير، قد حددت خروجي من دائرة البنتاميين..

وبالطبع، ربما كان هناك بعض التَمَلّق الذي يحدث..

[6] أنظر، على سبيل المثال، إيبوليت تين H. Taine في كتابه الوضعية اﻹنجليزية، دراسة عن ستيوارت مِل Le positivisme anglais, étude sur Stuart Mill (1864). ولاحظ كذلك أن التمييز الذي رسمه فلهلم دلتاي W. Dilthey بين العلوم الطبيعية Naturwissenschaft والعلوم اﻹنسانية Geisteswissenschaft إنما نشأ في نقاش نقدي لنظرية مٍل عن العلوم اﻷخلاقية (الجزء اﻷخير من كتابه نظام المنطق the System of Logic). يعتبر دلتاي هذه النظرية، لسبب ما، نظرية وضعية. (أنظر  S. Mesure, Dilthey et la fondation des sciences historiques, Paris: PUF, 1990.) وقد يكون من المدهش أن مِل كان يعتبر وضعيًا على مستوى القارة اﻷوروبية. ويمكن للمرء التساؤل حول صحة هذا التفسير، ولكن هذه مسألة منفصلة. 

[7] الطباعة اﻷناستاتيكية Anastatic printing: طريقة لإنتاج نسخ من المخطوطات، والوثائق المطبوعة، والنقوش،  باستخدام صفائح الزنك، ظهرت منتصف القرن التاسع عشر، وكان يصعب تمييزها من اﻷصول التي نسخت منها. أنظر عنها المادة التي كتبها جون ساوثوورد John Southward في قاموسه لفن الطباعة A Dictionary of Typography and its Accessory Arts الذي كتبه في سبعينيات القرن التاسع عشر عبر الرابط التالي: https://www.c82.net/typography/term/anastatic-printing (المترجم)