مجلة حكمة
فلسفة الموسيقى

فلسفة الموسيقى الخالصة (المطلقة) وماهيتها – أندرو كانيا


فلسفة الموسيقى الخالصة

  • مقدمة

إن التساؤلات الأساسية حول طبيعة الموسيقى وقيمتها، وخبرتنا بها هي موضع عناية فلسفة الموسيقى. وكما هو الحال في فلسفة أي من المجالات، فإن فلسفة الموسيقى تفترض المعرفة بموضوعها. وعلى العكس من فلسفة العلم، على سبيل المثال،. فإن ما تقصد إليه فلسفة الموسيقى وهو تلك الملكة التي يحظى بها أغلب الناس بمجرد انتسابهم إلى ثقافة موسيقية ما؛. ذلك أن الموسيقى تلعب دورًا أساسيًا في حياة كثير من الناس. هكذا، وكما هو الحال في المسائل الأساسية في الميتافيزيقا ونظرية المعرفة،. لا يستطيع الناس فهم الأسئلة الفلسفية التي تنطوي عليها الموسيقى بسهولة فحسب، بل إنهم غالبًا ما يثيرون هذه قبل التعرّض الأكاديميّ لها. (تجدر الملاحظة في هذا الموضع أنني أرّكز بصفة خاصة على التقاليد الموسيقية الغربية-مثلما هو الحال غالبًا في الوسط الفلسفي الناطق بالإنجليزية، للوصول إلى نقد لهذا الاتجاه، انظر: Alperson 2009. ولبعض الاستثناءات عن هذه انظر: S. Davies 2001: 254–94، راجع أيضًا (Feagin 2007).

الموسيقى هي الفن الذي ربما يقدم أكثر الإشكالات الفلسفية غموضًا. على العكس من فن التصوير، فإن الأعمال الموسيقية عادة ما تتضمن تمظهرات عدة[1]، لا يمكن أن يعرّف واحد منها العمل بذاته. لذلك، فإن السؤال عن ماهية العمل الموسيقيّ ذاته هو سؤال محير أكثر من السؤال عن ماهية الأعمال المصورة أو اللوحات،. تلك التي تبدو (على الأقل أوّل الأمر) بوصفها موضوعات فيزيقية عادية. وعلى عكس الأعمال الأدبية، فإن تمظهرات العمل الموسيقيّ تلك هي الأداءات، والتي تقدم تأويلات للعمل الموسيقيّ، مع ذلك، يمكن تأويل العمل الموسيقيّ (ربما بمعنى آخر من التأويل) بمعزل عن كل أداء له، كذلك الآداءات نفسها يمكن أن تؤول. فـ الموسيقى فن مفعم بالمعنى، هذا ما يقرره حديثنا هذا عن التأويل. برغم ذلك، فإن موسيقى الآلات الخالصة تخلو من أي مضمون دلاليّ واضح، بخلاف الدراما،. يثير ذلك مسألة لماذا كان ينبغي علينا أن نعتبر أن الموسيقى بالغة القيمة. تعتبر كذلك قدرة الموسيقى فيما يبدو على التعبير عن العواطف، على ألا ينقص ذلك من تجريديتها؛ ذلك ما يأخذه كثير من الفلاسفة بالاعتبار في تناولهم لهذه الموضوعات.

  • فلسفة الموسيقى والموسيقى “الخالصة”

أركز هنا على الموسيقى “الخالصة” أو “المطلقة”-موسيقى الآلات التي لا تحوي أية جوانب، أو عناصر، أو ملحقات غير موسيقية. يركز معظم الفلاسفة الذين أناقشهم هنا على الأمر نفسه، ذلك لثلاثة أسباب: أوّلها أن الموسيقى الخالصة عادة ما تطرح أصعب الإشكالات الفلسفية. فمما لا يبعث على الحيرة أن نفهم كيف يكون الإعداد الموسيقيّ لنص عاطفيّ حزين تعبيرًا عن الحزن مثلًا،. أكثر مما هو الحال إذا كانت المقطوعة الموسيقية خالية من أي برنامج وصفيّ، ذلك لأن التعبير العاطفيّ من الممكن أن ينقل بطريقة ما من النص إلى الموسيقى. أمّا ثاني تلك الأسباب هو أنه على الرغم من أن تلك الإشكالات أكثر صعوبة، فمن المرجح أن تقييم محاولات الإجابة عنها سيكون أيسر في حال الموسيقى الخالصة. مثلما يكون إلقاء اللوم على الجاني أيسر في حال إذا كان فردًا واحدًا قد اقترف الجرم مما لو كان الذنب مفرقًا بين جمع من المتآمرين؛. إن نجاح أحد الحلول لمشكلة التعبير أكثر وضوحًا إذا كان بمقدوره تفسير التعبير الموسيقيّ الخالص. أمّا ثالث الأسباب فإنه من المقدر أن يسهم التعبير الموسيقيّ الخالص في التعبير الموسيقيّ غير-الخالص. وكما أن النص يسهم في تعبيرية أغنية، فإن الجوانب الموسيقية تلعب دورًا ما كذلك. إن تعبير نص عاطفيّ موضوع في لحن رشيق مبهج سيختلف اختلافًا واضحًا عن التعبير الكلي إذا كان النص نفسه موضوع في لحن رثائيّ متهاد. وبرغم ضربي مثالًا هنا بالتعبير، فإن هذه النقاط نفسها سوف تطبق أثناء تناول موضوعات مثل الفَهْم الموسيقيّ والقيمة. ربما توجد أيضًا بعض الأسئلة الطريفة حول أنطولوجيا الموسيقى “غير-الخالصة”،. لكن من غير الواضح أنها أسئلة من جنس التساؤلات حول التعبيرية، والفَهْم،. والقيمة في هذا النوع من الموسيقى (للاطلاع على نقد جيد لهذه المُقاربة العامة، انظر: Ridley 2004).

 نظرا إلى الانتشار العالميّ لموسيقى الروك، من المبرر أن تكون الأغنية أكثر أنواع الموسيقى ذيوعًا التي يستمع إليها في العالم المعاصر. كما أن الفيلم وفنون الصور المتحركة الأخرى كالتلفاز وألعاب الفيديو كلها منتشر على نطاق واسع أيضًا. وضعت بعض الأعمال الهامة حول استطيقا الأغنية (Levinson 1987; Gracyk 2001; Bicknell & Fisher 2013; Bicknell 2015), music drama (Kivy 1988b, 1994; Goehr 1998)، والدراما الموسيقية (Kivy 1988b, 1994; Goehr 1998)، وموسيقى الفيلم (Carroll 1988: 213–225; Levinson 1996b; Kivy 1997a; Smith 1996). (See also the chapters in part V of Gracyk & Kania 2011; on hybrid art forms more generally, see Levinson 1984 and Ridley 2004.)

ومع ذلك، يبدو أن هناك حاجة إلى مزيد من الأعمال في جماليات الموسيقى غير الخالصة. هناك ظاهرة موسيقية أخرى ذائعة الانتشار، هي ظاهرة “الموزاك” Muzak، برغم أنها لم تحظ بكثير من الانتباه الجاد من علماء الجمال، واستعملت عوضًا عن ذلك وبشكل أساسي كمثال يُثير النفور. وسواء أكان هناك ما هو مثير للاهتمام يمكن قوله فلسفيًا في مقابل ما هو نفساني أو اجتماعي عن الموزاك أم لا، هي مسألة لا تزال قيد النظر.

  •  تعريف “الموسيقى”

تنطلق تحديدات مفهوم الموسيقى عادة من فكرة مفادها أن الموسيقى أصوات منظَّمة. ثم تذهب إلى أن هذه الخصيصة فضفاضة للغاية، نظرًا لوجود كثير من الأصوات المُنظَّمة ليست بموسيقى، مثل حديث الإنسان، وأصوات التي تصدرها الحيوانات والآلات. أضاف الفلاسفة بعد ذلك شرطين ضروريين في محاولة لجعل الفكرة المبدئية أكثر دقة. إحداها تتعلق “بالنغمية” أو الخصائص الموسيقية الأساسية كالنغم والإيقاع. (Scruton 1997: 1–79; Hamilton 2007: 40–65; Kania 2011a). والأخرى تتعلق بجماليات الخبرة (Levinson 1990a; Scruton 1997: 1–96; Hamilton 2007: 40–65). وكما تشير هذه المراجع، يمكن الإقرار بأي من هذين الشرطين على حدة، أو كلاهما. تجدر الإشارة كذلك، إلى أن جيرولد ليفنسون Jerrold Levinson وأندرو كانيا Andrew Kania قد حاولا التعريف بمقتضى الشروط الضرورية والكافية. أما روجر سكروتون Roger Scruton وآندي هاملتون Andy Hamilton فقد رفضا إمكان ذلك التعريف-أي التعريف بمقتضى الشروط الضرورية والكافية. صرّح هاملتون بأن التعريفات التي يقدمها تعتمد على “الخصائص الواضحة”، لظاهرة مبهمة بحسب طبيعتها.

المشكلة الكبرى لأول هذه الشروط هي أن كل صوت يبدو كما لو من الممكن إدخاله في أداء موسيقيّ، وبالتالي فإن محاولة توصيف السمة الموسيقية الأساسية في الصوت تبدو عقيمة. (علينا فقط التفكير في مدى تنوع الآلات الإيقاعية “غير النغمية” والمتوفرة تحت طوع المؤلف السيمفونيّ التقليدي، يمكننا كذلك التفكير في استعمال المروحيات، والآلات الكاتبة، والمراحيض، مثال ذلك سيمفونية أنتاركتيكا لرالف فوجان ويليامز، والآلة الكاتبة لليروي أندرسون، ومقطوعة “المرحاض/المجهول” ليوكو أونو). يلجأ أنصار مثل هذا الشرط إلى القَصْدية أو النظريات الذاتية للنغم من أجل تجاوز هذه الصعوبة. إذا كانت السمة الموسيقية الجوهرية للصوت ليست أساسية فيه، ولكنها تتعلق بطريقة إما بالكيفية التي يُنتَج أو يُتلقَى بها ذلك، فيمكن بذلك تصنيف أحد الصوتين “غير المميزين” بوصفه موسيقى. إن ما تنطوي عليه نظرية السمات الجوهرية الموسيقية من تفصيلات سوف تحدد إلى أي مدى يمكن أن نُميز “فن الصوت” للتيارات الطليعية بوصفه فنًا موسيقيًا.

إذا أيّد المرء شرطًا جماليًا، عوضا عن الشرط النغميّ، فإنه يواجه إشكالية الشِعر-أصوات غير موسيقية مُنظمةً جماليًا. يستبعد ليفنسون، والذي يأخذ بهذه المقاربة، صراحةً الأصوات اللغوية المُنظَّمة (1990a).

يثير ذلك مسألة إذا كان هناك تمييزات أخرى يمكن وضعها بين فنون الصوت. يضع آندي هاملتون تمييزًا ثلاثيًا، فهو يقول أن فن الصوت بوصفه متميزًا عن كلا من الموسيقى والأدب،. قد أصبح شكلًا فنيًا مستقلًا في القرن العشرين (2007: 40–65). هذا أحد الأسباب الذي حت هاملتون على قبول كل من الشروط الجمالية والنغمية في الموسيقى؛ بدون الأوّل ليس بمقدور ليفنسون أن يضع مثل هذا التمييز. بقبوله شرطًا جماليًا، يضطر هاملتون من ناحية أخرى إلى استبعاد السلالم والموزاك على سبيل المثال من مملكة الموسيقى. في فلسفة الموسيقى، يقترح كانيا (2013a) أنه من الخطأ النظر إلى الموسيقى بوصفها فنًا بالضرورة، فهي ليست سوى لغة. وهو يقول أنه ينبغي التمييز بين الموسيقى بما هي كذلك وبين تطبيقها فنيًا، مثلما نُميز بالضبط في حالات أخرى بين اللغة والأدب، وبين التصوير والرسم، وما إلى ذلك. بوساطة قضية شرطية انفصالية، يضيف كانيا أيضًا تمييزا إضافيا إلى تعريفات هاملتون، فهو يقول أن الموسيقى هي:

  • كل حدث مُنتَج أو مُنظَم قصديًا، (2) ذا طبيعة مسموعة،. (3) إما أن (أ) يحوز سمة أساسية موسيقية، كالنغم أو الإيقاع، أو (ب) أن يُسمع من أجل هذه السمات. (2011a: 12)

تتيح القضية الانفصالية الأخيرة أن نُميّز أحد الأعمال بوصفه موسيقى والآخر مجرد عملًا صوتيًا،. حتى إذا خلا كلاهما من السمات الموسيقية على نحو دقيق، فذلك بسبب الطريقة المعقدة التي قُصد بها إدراك العمل الأوّل. تعتمد مقاربة كانيا على بعض التحديدات الأخيرة للفن عوضًا عن التقيد بالشرط الجمالي. رغم هذا، فإن كانيا يكون قد وقع بذلك في الدوْر، ويسلم إلى تعريف الموسيقى بوصفها فنًا بطبيعتها. للاطلاع على النقد الشديد لمحاولة تحديد الشروط الضرورية والكافية للموسيقى (انظر: Kingsbury & McKeown-Green 2009 and McKeown-Green 2014). يقترح ستيفن دافيز (2012) بأن كل تعريف كاف يروم إلى كشف طبيعة الموسيقى المعقدة عليه أن يغطي على الأقل جوانبها القصدية، والبنائية، والتاريخية، والثقافية.

  • خاتمة: فلسفة الموسيقى

بعد مناقشة التفصيلات، من الجدير أن نعود إلى الفكرة الأساسية هنا، وهي “الصوت المنظَّم”. لاحظ كثير من المنظرين أن الموسيقى لا تتألف من أصوات فقط. من الواضح أن كثير من الموسيقى يحتوي على فواصل. ومن المحتمل أن تفكر في أن الصمت يعمل على تنظيم الأصوات فحسب. أحد الحجج المضادة لهذا القول هي أن المستمع الواعي يستمع إلى الفواصل الصامتة مثلما يستمع الأصوات (Kania 2010). والأخرى تقدم أمثلة موسيقية يكون الصمت فيها غير بنائي كما هو الحال مع الفواصل الصامتة العادية. مثال ذلك مقطوعة جون كيدج  4′33″ والتي نوقشت بكثرة،. على أن هناك إجماع واسع على أن هذه المقطوعة ليست صمتًا؛ محتواها هو الأصوات المبهمة التي تحدث أثناء أدائها. على كل حال، فإن ستيفن دافيز (1997a) وأندرو كانيا (2010) كلاهما لا يحسب عمل جون كيدج. باعتباره موسيقى-في نظر دافيز لأن هذه الأصوات لا تفي شرط أن تكون منظمة، أما كانيا ففي نظره أنها تفتقر الشرط النغمي. يبقي كانيا على مسمى “الموسيقى الصامتة” ويجعل كثير من الأعمال تنضوي تحت ذلك المسمى، أبرزها “في المستقبل” من “خمس صور” Fünf Pittoresken لإرفن شولهوف Erwin Schulhoff، والذي يسبق عمل جون كيدج بحوالي 33 سنة.


[1] أي أننا نتعرف على العمل الموسيقيّ عندما يؤدى، على خلاف العمل التصويري أو اللوحة. ولهذا فإن العمل الموسيقيّ هو جملة هذه الآداءات المتنوعة والمتعددة، ولا واحد منها في الوقت نفسه. (المترجم)