مجلة حكمة
فلسفة ابن سينا ستانفورد

فلسفة ابن سينا وأهدافها: النضج الفلسفي وهيكلة المعرفة

فلسفة ابن سينا

تتناول السيرةُ الذاتية لـ فلسفة ابن سينا، التي كتِبت في وقتٍ وصل فيه ابنُ سينـا ​​إلى مرحلة النضج الفلسفي؛ عددًا من القضايا التي شعر أنها كانت ذات أهمية كبيرة في تشكيله كمفكِّرٍ، ومن ثَمَّ فإنها تُشير إلى طريقته في الفلسفة وأهدافه الفلسفية وتوجُّهِه.

للمزيد عن ابن سينا:

مدخل ابن سينا في (موسوعة ستانفورد للفلسفة) كاملاً

وهي، أوّلًا، فهمُه لهيكل المعرفة الفلسفية (أي المعرفة الفكرية) ككلٍّ موحَّدٍ، وهو ما ينعكس في تصنيف العلوم التي درسها، ثانيًا، تقييمه النقدي لجميع العلوم والفلسفة السابقة، كما هو موضَّحٌ في تقييمه للإنجازات وأوجه القصور التي واجهها الفلاسفة السابقون بعد أن قرأ كتُبَهم في مكتبة السامانيين، مما أدى إلى إدراك أنه يجب تطوير الفلسفة، وثالثًا، يشير تركيزُه على امتلاك القدرة البشرية إمكانية التعلُّم الذاتي لاكتساب أعلى معرفة عقلية، ويؤدِّي إلى دراسة شاملة لجميع وظائف النفس الناطقة [أي العاقلة] وكيف تكتسب المعرفة (نظرية المعرفة [الإبستمولوجيا])، وكذلك إلى التحقيق في أصولها، وغاياتها، وأنشطتها، وعاقبتها (الإسخاتولوجي).

فلسفة ابن سينا المتكاملة

وفقًا لذلك، حدد ابن سينا لنفسه مهمة التقديم والكتابة عن الفلسفة ككلٍّ متكامل وليس بصورة مجزَّأةٍ أو عَرَضية، وكذلك مهمة تطوير الفلسفة، ودراسة كيف تَعرف النّفسُ البشرية (العقل) كأساسٍ لنظرية المعرفة، والمنهجية المنطقية، والعلاقة بين العوالم السماوية والأرضية، أو بين الإلهي والإنساني.

لقد جرى تنفيذُ المهمة الأولى، وهي معالجة جميعِ الفلسفة ككلٍّ موحَّدٍ، وعلى الرغم من أنه لم يكن ممكنًا تحقيقُه تاريخيًّا، فقد أنجزته فلسفته ابن سينا دون جهد تقريبًا. لقد كان أرسطو نفسُه في بداية هذه العملية. مفن الواضح أنه كان لديه تصوُّرٌ لوحدة جميعِ الفلسفة، والتي يمكن تقديمها بشكل منهجي على أساس الهيكل المنطقي المنصوص عليه في التحليلات الأولى (Barnes 1994, p. xii)، في حين أظهر تصنيفُه للعلوم في الميتافيزيقا (Metaphysics E1 and K7) ما سيكون الخطوطَ العريضة لهذا العرض المنهجي.

تعدد الأصوات في فلسفة ابن سينا

ومع تعدُّد الأصوات والأنظمة الفلسفية التي أعقبت وفاته عام (322 ق.م)، وطوال الحقبة الهللينستية (336-31 ق.م)؛ ذهبت مقترحاته في الغالب أدراجَ الرياح على يد المشَّائين، ولم يتبعها إلا أندرونيقوس الرودسي في نهاية تلك الحقبة، إن لم يكن ذلك فقط لأغراض الترتيب الذي وضع به مصنَّفات مدرسة أرسطو (مدوَّناته الموجودة) في إصداره الأول لها. في القرون اللاحقة، عندما خضع تعدُّدُ الأصوات لصوتيْن فقط، هما الأفلاطونيون والأرسطيون، الذين كان لابد من تقديمهم في نهاية المطاف كسبب من ضمن أسباب سياسية (لمواجهة الصوت “الإلهي” للتنصير السريع للإمبراطورية الرومانية، شرقًا وغربًا)؛ اشتدّ الميلُ إلى العودة إلى نصوص الفيلسوفيْن (ad fontes) [أي: العودة إلى المصادر] للدفاع عنهما، وهي العملية التي كانت قد بدأت بصورة مكثفة حتى قبل سيطرة المسيحية.

الخطاب الفلسفي

تبعًا لذلك، في حين استمر تصنيف أجزاء مختلفة من الفلسفة كمخطَّطٍ افتراضي لمختصر فلسفيٍّ محتمل؛ كان الشكل الرئيس للخطاب الفلسفي هو الأطروحة الفردية حول واحدٍ أو أكثر من الموضوعات ذات الصلة، وفي الغالب، كتابة الشروح على الأعمال “الإلهية” لـ أفلاطون، وأيضًا بحلول القرن السادس على الأعمال “الإلهية” لأرسطو. عندما جرى إحياءُ الفلسفة بعد توقُّفٍ دام حوالي قرنين من الزمان (حوالي 600 – 800م) مع ترجمةٍ وإعادةِ صياغةٍ هذه المرة لنصوص المصادر الأساسية (Gutas 2004a)، عادت هذه الممارسات التركيبية إلى الظهور. لكنَّ السياقَ الاجتماعي الذي وجدت فيه الفلسفة نفسها الآن قد تغيَّر. كان السُّكَّان المتعلِّمون في الشرق الإسلامي القريب والبعيد خلال الفترة العباسية المبكرة يميلون بشكل إيجابي نحو الفلسفة كنظامٍ علمي عقلاني

وكان من الممكن مع الأجزاء المختلفة من هذا النظام – المنهج الفلسفي – المعروف على نطاق واسع في نطاقه إن لم يكن بالتفصيل، ومن المتوقع بالفعل؛ أن يكون الشخصُ العادي المتعلِّمُ مثل جار ابنِ سينا في بخارى، أبي الحسن أحمد بن عبد الله العروضي (أضَعُ اسمَه الكامل لأنه يستحق أن يُشار إليه في تاريخ الفلسفة)؛ أن يكون لديه اهتمام أن يحصل على ويقرأ عرضًا شاملًا للتخصُّص المعرفي [الفلسفة] بالكامل، وأن يكلِّف بهذا العمل الشابَّ ابنَ سينا. امتثل ابن سينا، ومن ثَمَّ وُلد أولُ ملخّصٍ فلسفي يعالج بطريقة منهجية ومتسقة ضمن غلافي كتابٍ واحدٍ جميعَ فُروع المنطق والفلسفة النظرية كما تم تصنيفها في التقاليد الأرسطية. إن قدرة ابن سينا ​​على إنتاج مثل هذا العمل (وتكراره سبع مرات من الآن فصاعدًا) هو بالطبع تكريمٌ لع بقريته (المعترف بها عالمياً آنذاك والآن)، ولكنّ طلبَ الحصول عليه من مجتمعه هو دليلٌ دامغ على من موقفه الثقافي فيما يتعلق بالعلم.

الخلاصات الفلسفية لـ ابن سينا

لقد كان لتأليف الخلاصات الفلسفية الشاملة – ليس فقط كتابه الأول الحكمة العروضية، ولكن أيضًا على وجه الخصوص كتابه الرئيس: الشفاء، وكذلك كتابه البارز الجذاب: الإشارات والتنبيهات -؛ عواقب مهمة. قدّمت هذه الكتاب لأول مرة رؤيةً شاملةً وموحَّدة ومتّسقة داخليًّا للواقع، جنبًا إلى جنب مع الأدوات المنهجية التي تثبت صحةَ هذه الرؤية (المنطق). لقد قدَّمت نظامًا علميًّا باعتباره رؤية للعالم، يصعب مقاومتها أو حتى دحضها، نظرً لخصائص التحقق الذاتي التي تملكها.

وكان هذا جيدًا لدراسة الفلسفة ونشرها. وعلى المنوال نفسه وبالطبيعة نفسها، فإنّ هذه الرؤية للعالم بوضوحها وتوثيقها وقدرتها على التحقق الذاتي من صحتها قد وضعت نفسَها ضد الأيديولوجيات الأخرى في المجتمع برؤياتٍ متنافسِة للعالم. وحتى ذلك الوقت كانت المصنّفات الفلسفية حول الموضوعات المنفصلة، والشروح العويصة هما الشكلان الغالبان للخطاب الفلسفي، وكما أشرنا للتو فقد كانت هذه الأطروحات أمرًا يخص المتخصصين، الذين لم يستطيعوا ولم يطلبوا التأييد أو الولاء من المجتمع ككلٍّ، وهو الأمر الذي فعلته الخلاصات الفلسفية.

النظام الفلسفي في فلسفة ابن سينا

لقد شملت فلسفة ابن سينا في كتبه أنماط وأنواع مختلفة، بوضوحٍ؛ الوصولَ إلى أكبر عدد ممكن من الناس. ونتيجة لذلك فقط سيطر نظامُه الفلسفي على التاريخ الفكري في كلٍّ من الإسلام الشيعي ومعظم الإسلام السُّني (Gutas 2002)، ومن خلال ردود الفعل المتنوعة التي أثارها فقد حدد، كما يمكن أن نشرح الآن؛ التطورات، ليس فقط في الفلسفة، ولكن أيضًا في اللاهوت والتصوف، وأوجد العديدَ من المجالات لما يمكن أن يسمَّى شبهَ فلسفة(6): فقد استعمل اللاهوتُ الخطابَ الفلسفيَّ للتعبير عن (أو إخفاء) المضمون الإسلامي (تقليد الغزالي وأتباعه ومقلديه)، وكذلك التصوُّف «الفلسفي» (تقليد ابن عربي الذي يُطلق عليه “الشيخ الأكبر” في منافسة لابن سينا “الشيخ الرئيس”)، وكذلك التنجيم، وعلم الأعداد، والحروف.

يستلزم أداءُ المهمة الأولى بالضرورةِ المهمةَ الثانية، وبذلك يجري تحديثُ الفلسفة. لم تكن المعرفة الفلسفية التي تلقَّاها ابن سينا ​​كاملةً ولا متجانسة. لم يكن لديه إمكانية الوصول إلى إكمال المعلومات المليئة بالفجوات، التي نملكها الآن، عن الحركات الفلسفية خلال الـ(1330) عام التي تفصله عن أرسطو (يعطي ابنُ سينا نفسُه هذا الرقم الدقيق تمامًا)، ولكن كان بإمكانه أن ينظر إلى التقاليد بأكملها على أنها أرسطية بشكل أساسي. لـــم يكن أفلاطون متاحًا باللغة العربية بخلاف شذرات مختصرة، في خلاصات جالينوس، وفي تراجم الفلاسفة، وفي روايات ثانوية لدى أرسطو وجالينوس (Gutas 2012a)، وبناءً على ذلك كان بإمكان ابن سينا صرف النظر عنه.

المدارس الفلسفية

المدارس الفلسفية الأصغر في العصور القديمة – الرواقيون، والأبيقوريون، والريبيون، والفيثاغوريون، الذين لم يعد لهم وجود قبل وقت طويل من العصور القديمة المتأخرة – كان ابن سينا يعرف معظمَهم كأسماءٍ مع وجهات نظر أو مقولاتٍ أساسية معيّنة مرتبطة بهم. أما أولئك الذين نسمِّيهم الأفلاطونيين المحدثين الذين عرفهم كشارحين لأرسطو جنبًا إلى جنب مع البقية، وحتى أفلوطين وبروكلس؛ فقد كانا متاحيْن له في شذراتٍ مترجمة تحت اسم أرسطو، كما في كتاب: الثيولوجيا لأرسطو، و: الخير المحض، لهما على التوالي.

ومع ذلك، فإن كلًّا من التنوع الجوهري والزمني لهذه المصادر في التقليد قدَّم تناقضاتٍ خطيرة واتجاهات متباينة، إذا لم نقل شيئًا عن المفارقات التاريخية، في حين احتوت الأعمالُ الباقية حتى لأرسطو نفسِه على تناقضات ومعالجات غير مكتملة. علاوةً على ذلك، لم يكن التقليدُ الإسلامي قبل ظهور فلسفة ابن سينا ​​أقلَّ تجانسًا، حيث كان يمثله الكنديُّ الانتقائيُّ وتلاميذه، والأرسطيون في بغداد، وأتباع أبي بكر الرازي الفريد (الذي كان ابنُ سينا يفكر فيه قليلًا، وباعتباره

طبيبًا). ينبغي أن يضاف إلى هؤلاءِ الفلاسفةِ المتكلِّمون المتمرسين فلسفيًّا في مختلف فروع المعتزلة (قد يكون ابن سينا قد التقى أحدَ أبرز ممثِّليهم، القاضي عبد الجبار، في الرّيّ بين عامي 1013 و 1015م). في مواجهة هذا الموقف، عيَّن ابنُ سينا نفسَه لمهمة مراجعة وتحديث الفلسفة، كنظامٍ كامل ومتناسق داخليًّا يمثِّلُ الواقعَ كلَّه ويمكن التحقُّقُ منه منطقيًّا، من خلال تصحيح الأخطاء الموجودة في التقليد، وحذف الحجج والأطروحات التي لا يمكن دعمُها، وتركيز الاهتمام على غيرها، والتوسيع والإضافة إلى الموضوعات التي تتطلب مناقشة.

خاتمة

كان المجال الذي يجب إضافته على وجه الاستعجال في كلٍّ من الأجزاء النظرية والعملية للفلسفة، إذا كان يجب تغطيةُ الواقعِ كلِّه من خلال نظام الفلسفة؛ هو جميع مظاهر الحياة الدينية والخوارق. وعلى حد تعبيره: «ويحقُّ على مَن بعده [أرسطو] أن يلمُّوا شعثَه، ويرمُّوا ثلمًا يجدونه فيما بناه، ويفرِّعوا أصولًا أعطاها» (GS 8, 2–3; transl. Gutas 2014a, 36).

استلزم أداء هذه المهمة الثانية بدوره مهمةً ثالثةً، وهي الدقة وقابلية التحقُّق التي ستشكِّل محتوياتِ فلسفته المحدثة. تعتمد إمكانية التحقُّق على عامليْن مترابطيْن بالنسبة للشخص الذي يقوم بعملية التحقُّق: اتباع أسلوبٍ منتِجٍ وامتلاك جهازٍ عقليٍّ لاستخدام هذا الأسلوب وفهم نتائجه. كان الأسلوب الذي اتبعه ابنُ سينا بالفعل في بداية حياته العلمية هو المنطق، وكان الجهازُ العقليُّ الذي بواسطته نعرِف أننا ننخرط في فهم ودراسة الإنسان هو النفس الناطقة [العاقلة]. ومن ثَمَّ فإن المنطقَ ونظرية النَّفس كأساسٍ لنظرية المعرفة هما المحرِّكان اللذان يقودان فلسفة ابن سينا. لقد كتب وبشكل متكررٍ عن هذيْن الموضوعيْن أكثر من أي شيء آخر.