مجلة حكمة
فريدريك هايك - موسوعة ستانفورد للفلسفة / ترجمة: علي الحارس

فريدريك هايك – موسوعة ستانفورد للفلسفة / ترجمة: علي الحارس


حول فريدريك هايك ، وموقفه من العدالة، والممارسات النزيهة والسعر العادل؛  نص مترجمة للـد. ديفيد شميتز، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة على هذا الرابط، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التحديث أو التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد، وعلى رأسهم د. إدوارد زالتا، على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة. نسخة PDF


ولد فريدريك هايك في فيينا عام (1899) لأسرة ضليعة بالحياة الأكاديمية والبحث العلمي. عمل إحصائيًا في المدّة (1927-1931)، وأصبح محاضرًا في علم الاقتصاد بجامعة فيينا في العام (1929)، ثم انتقل إلى جامعة لندن في العام (1931)، وإلى جامعة شيكاگو في العام (1950)، وجامعة فرايبورگ في العام (1962)، ليتقاعد في العام (1967)، لكنّه لم ينقطع عن الكتابة حتى أواخر الثمانينيات الماضية، ثم وافته المنيّة في العام (1992).

عمل هايك في مجالات: فلسفة العلم، الفلسفة السياسية، مشكلة الإرادة الحرّة، والإپستيمولوجيا؛ وخلال ذلك سعى إلى تفسير العالم من منظور واحد عوضًا عن استقبال الظواهر المتنوّعة كما هي، فالمسعى الذي أمضى فيه حياته، ونال عليه جائزة نوبل في العام (1974)، سلّط الضوء على طبيعة (النظام التلقائي) وأهمّيته؛ وعلى الرغم ممّا يبدو عليه مفهوم النظام التلقائي من بساطة، فقد أنفق ستّة عقود وهو يصقل فكرته، ليتبيّن له أنّ الهدف من وجود الإنسان غامض بالدرجة نفسها من وضوح هذا الهدف في التصوّر الذي كان يطمح إليه.

وتركّز هذه المادّة الموسوعية على ذلك الموضوع المتكرّر كثيرًا في كتابات هايك، وعلى سؤال مفاده: لماذا ننظر إلى العالِم الذي عمل أكثر من غيره في القرن العشرين لتعزيز فهمنا لإشارات السوق ونشوء الأنظمة التلقائية فنجده ميّالًا إلى الادّعاء بأنّ العدالة الاجتماعية ليست إلّا سرابًا؟

  • 1. إشارات السوق والنظام التلقائي

  • 1. 1. النظام يمكن أن لا يكون ناتجًا عن التصميم

  • 1. 2. النظام يمكن أن يكون غير قابل للتنبّؤ

  • 1. 3. النظام يمكنه أن يجسّد معلومات ذات طبيعة لامركزية في جوهرها

  • 1. 4. الجمعيات تميل إلى أن تكون أنظمة تلقائية

  • 2. التقدّم

  • 3. الأنظمة المخطّطة أدنى شأنًا من غيرها

  • 3. 1. المبادلة، والمقايضة، والجمعية، وعلوّ المنزلة

  • 3. 2. القانون كبيئة مناسبة

  • 4. العدالة باعتبارها حيادية، السياسة باعتبارها ريادية بلا قيود

  • 5. موقف هايك من العدالة

  • 5. 1. المدخلات، والمخرجات، ومعنى السلوك المقتصد

  • 5. 2. الحقّ بالتوزيع

  • 5. 3. الممارسات النزيهة

  • 5. 4. السعر العادل

  • بيبليوگرافيا

  • النصوص الرئيسية (بقلم هايك)

  • النصوص الثانوية

  • مصادر أخرى على شبكة الإنترنت


1. إشارات السوق والنظام التلقائي

1. 1. النظام يمكن أن لا يكون ناتجًا عن التصميم

ظهر النظام في العالم الطبيعي على امتداد مئات الملايين من السنين. ولا غرابة في أن يتساءل الذهن البشري: كيف حدث ذلك؟ وتتبادر هنا للذهن “حجج التصميم”، لكنّ هايك، وحاله هذا كحال معظم الفلاسفة، يعتبر هذه الحجج مغالطات نحتاجها لافتراض وجود مصمِّم من أجل شرح ظهور النظام في الطبيعة (راجع مادّة: الحجج الغائية في تعليل وجود الإله). وبخلاف غيره، أصيب هايك بالإحباط عندما وجد المغالطة نفسها تكتنف الحجج التي نحتاجها لافتراض وجود مصمِّم لتفسير ظهور النظام في المجتمع (Hayek 1960, 59).

وتمامًا كما أنّه لم يتوجّب على أيّ أحد أن يخترع (الاصطفاء الطبيعي)، لم يتوجّب على أيّ أحد أيضًا أن يخترع العملية التي تتطوّر اللغات الطبيعية وفقًا لها؛ فاللغة، في أغلب تكوينها، عملية ضبط متبادل لانهائي تعتمد على المسار، وهي تتطوّر تلقائيًا. وليس ثمّة معنى للقول بأنّ لغة من اللغات قد بلغت مستوى أمثل من الكفاءة، لكن لا بأس في النظر إلى اللغات باعتبارها على مستوى عالٍ من الصقل وأنّها تكيّفت بشكل فعّال مع احتياجات التواصل المتطوّرة لجماعات بعينها (Hayek 1945, 528). ويقول هايك: “ربّما ليس من المبالغة القول بأنّ النظرية الاجتماعية تبدأ من، وليس لها من هدف إلّا بسبب، اكتشاف وجود بنى منظّمة ناتجة عن عمل الكثير من الناس دون أن تكون ناتجة عن التصميم البشري. وهذا الأمر يلقى قبولًا شاملًا في بعض المجالات؛ لكنّ الناس كانوا يعتقدون في زمن مضى أنّ حتّى اللغة والأخلاق قد اخترعهما أحد العباقرة في الماضي، أمّا اليوم فالجميع يعترفون بأنّهما نتاج عملية من التطوّر لم يتوقّع أو يصمّم نتائجها أيّ أحد” (Hayek 1973, 37).

1. 2. النظام يمكن أن يكون غير قابل للتنبّؤ

إن الاصطفاء الطبيعي يعمل بموجب الطفرات، ممّا يجعل مسار الاصطفاء الطبيعي غير قابل للتنبّؤ بغضّ النظر عن مدى كفاءة فهمنا للمبادئ الضمنية. ويرى هايك أنّ التطوّر الاجتماعي والتطوّر الثقافي يكادان يتماثلان: إذ يسيّرهما الابتكار والموضة والصدمات المختلفة التي تحدث “طفرات” في خطط الناس على نحو غير قابل للتنبّؤ وبنتائج غير قابلة للتنبّؤ أيضًا. وقد تبدو المنظومة منطقية بشكل ما، ومعظم الأشياء قد يبدو أنّها قد حدثت لسبب ما عند النظر إليها بمنظور رجعي، لكنّ مهما كانت المنظومة منطقية فإنّ منطقيتها لا تجعلها حتمية. ويمكننا أن نصوغ التنبّؤات على مدى واسع، كما هو الحال حين نقول بأنّ زيادة المعروض من المال يؤدّي إلى ارتفاع الأسعار مع بقاء العوامل الأخرى على حالها، لكنّنا نفتقر للأساس الذي نبني عليه تنبّؤنا بالتفاصيل الدقيقة. فهذه المنظومة فوضوية من الناحية التقنية، وتبلغ من الفوضى درجة تصبح معها حتّى الأمور الواضحة، كأسعار الأسهم في الأسبوع المقبل، حبيسة دومًا في إطار التخمين، ولا يسلم من هذا الأمر حتّى الخبراء (راجع مادّة: الفوضى).

1. 3. النظام يمكنه أن يجسّد معلومات ذات طبيعة لامركزية في جوهرها

يرى هايك بأنّ الأسعار كاللغات، فيكون السؤال أوّلًا: كيف لنا أن نعلم ما يتوجّب علينا فعله لإيصال منتجنا إلى من يريده أو يحتاجه أكثر من غيره؟ ربّما نلجأ إلى المزاد، وعندما نستلم العروض (وكذلك منافسونا في طرح السلعة) للمنتَج (س) فإن (س) يصبح له (سعر)، والأسعار، كما اللغات، تتيح للناس أن يصوغوا توقّعات متبادلة، والأسعار المعوّمة بحرّية تساعدهم على التنسيق بطرائق متشابكة وذات مراعاة متبادلة بينما يقرّرون بشكل فردي ماذا ينتجون أو يستهلكون. وإنّ الاعتقاد بالحاجة إلى وجود مرجعية تقرّر ما يجب أن يكون عليه سعر الأرزّ يتماثل مع الاعتقاد بالحاجة إلى مرجعية تقرّر الصوت الذي يجب يتلفّظ به الناس عندما يريدون الإشارة إلى الأرزّ.

ومن الحقائق البسيطة، لكن المهمّة، أنّ الأسعار تحثّ الناس على الاستجابة لمعلومات لا يمتلكونها: كالتكلفة المتغيّرة لاستخراج الموادّ الخام، أو اكتشاف بدائل رخيصة، أو زيادة صعوبة الحصول على أحد مدخلات الإنتاج الرئيسية بسبب الاضطرابات السياسية؛ فعلى الرغم من أنّ المشترين لا يعلمون أيّ شيء بشأن هذه المتغيّرات فإنّهم يستجيبون لها بصورة عقلانية لأنّهم يعلمون الشيء الوحيد الذي يحتاجون العلم به، أي: السعر (Hayek 1978a, 4). ويقول هايك: “لنفترض أنّ هنالك في مكان ما من العالم قد برزت فرصة جديدة لاستخدام بعض الموادّ الخامّ، القصدير مثلًا، أو أنّ أحد موارد التزويد بالقصدير قد ألغي؛ فليس من المهمّ حينها في غايتنا، ومن المهمّ جدًّا أنّه ليس من المهم، تحديد أيّ من هذين السببين هو الذي جعل القصدير أكثر ندرة؛ فكلّ ما يحتاج مستخدمو القصدير أن يعلموا به هو أنّ بعض القصدير الذي اعتادوا على استهلاكه قد أصبح الآن يدرّ ربحًا أكبر عند توظيفه في مجال آخر، وأنّ عليهم أن يقتصدوا في استخدام القصدير بسبب ذلك” (Hayek 1945, 526).

1. 4. الجمعيات تميل إلى أن تكون أنظمة تلقائية

إنّ ما ينشأ عن المساومة على السعر ليس مجرّد صفقة، بل هو شيء أكبر: جمعية (community)؛ فليس هنالك قرار مركزي بشأن من يتوجّب عليه إنتاج القصدير، أو ما إذا كان يتوجّب إنتاجه في المقام الأوّل، وليس هنالك قرار مركزي بشأن من يتوجّب عليه استهلاك القصدير، أو ما إذا كان يتوجّب استهلاكه في المقام الأوّل، وليس هنالك قرار مركزي بشأن ما يجب إعطاؤه مقابل الحصول على القصدير؛ وكلّ ما يحدث هو أنّ البعض يخمّنون أنّهم لو أنتجوا القصدير وأحضروه إلى السوق فستكون له قيمة ما في نظر الزبائن، وأنّ هذه القيمة كبيرة بما يكفي لتجعل المشروع جديرًا بالعناء؛ وعندما يثبت صواب بعض هذه التخمينات ويحدث التبادل التجاري ينشأ حينها سوق للقصدير ويصبح جزءًا من العوامل التي تجمع الناس كشركاء في مشاريع ذات منافع متبادلة.

وبهذا النحو تقوم الإشارات السعرية بـ(الاقتصاد) في المعلومات؛ وفي أثناء هذه العملية تحفّز على ظهور أنماط للتعاون تتضمّن أعدادًا غفيرة من الناس. ويتطوّر التعاون بين الناس دون أن يحتاجوا إلى التحدّث باللغة نفسها، ولا أن يعلم أحدهم بوجود الآخر، ولا أن يعلموا باعتمادهم المتبادل بعضهم على بعض؛ وليس لهم سوى إدراك مبهم بالآلاف من الوظائف التي يجب أداؤها للتزويد بالمدخلات التي تتيح لهم الحصول على منتَج نهائي للبيع. ونادرًا ما يكون هنالك وكلاء بعينهم يمتلكون ما هو أكثر من مجرّد لمحة عن الصورة الكبيرة، لكنّهم يتمكّنون من التجمّع وتشكيل جمعية، والنتيجة الحاصلة هي أنّهم يكادون يصبحون جميعًا أفضل حالًا بكثير ممّا كانوا عليه.

2. التقدّم

إن التطّور التقني يوسّع جبهات الممكن؛ وفي رأي هايك أنّ الأهمّية الكبرى هي لحرّية القلّة بالقيام بأمر جديد، لا حرّية الكثرة بالقيام بأمر مألوف؛ وعليه، فإن الحرّية التي أمارسها شخصيًا كثيرًا ما تكون مناقضة للحرّية التي تمتلك التأثير الأكبر على مستقبلي (Hayek 1960, 32). ولنتأمّل في مثال المتبنّين الأوائل لتقنية من التقنيات وتمويلهم للأبحاث التي تخفّض تكاليف الإنتاج، وبالتالي يموّلون مجموعة متناثرة من المنتجات والخدمات بأسعار متواصلة الانخفاض، ممّا يؤّدي في نهاية المطاف إلى إحضار المتبنّين الأواخر للتقنية، مثلي أنا، إلى السوق؛ إذ قد لا يحدث أي اتّجار بيني وبين المتبنّين الأوائل مطلقًا، لكنّي أعتمد عليهم بالرغم من ذلك، لأنّهم يساعدون على تمويل الابتكار والعملية المتواصلة لإعادة ابتكار المنتجات التي تنخفض تكلفتها الهامشية في النهاية إلى الحدّ الذي يمكنني فيه أن أتحمّل تكلفتها.

وفي كثير من الأحيان، يتكوّن التطوّر التقني من ابتكارات تخفّض تكلفة التعامل: كالسفن البخارية، والسكك الحديدية، والسفر الجوّي، والاتصالات البرقية، والهاتف، والإنترنت، وأجهزة قراءة الباركود، و”التطبيقات” التي تتيح إمكانية القيام ببعض الاستثمارات من قبيل (أوبر) و(أير بي إن بي)، بالتوازي مع البنى التنظيمية المبتكرة والأنماط الاستثمارية من قبيل (فيديرال إكسپرس) أو سفن الشحن بالحاويات (والتي استطاعت بعد معركة قضائية دامت عشر سنوات مع نقابات العمّال أن تخفّض الوقت اللازم لنقل الشحنة من السيّارات الشاحنة إلى السفن، فأصبح الأمر لا يستغرق سوى دقائق بعد أن كان يستغرق عدّة أيام). وفي الكثير من الحالات تكون تكلفة التعامل مهمّة لتكلفة المعلومات؛ فمع توسّع جبهة المعلومات، لا بدّ أن تصبح الحصّة التي يمكن للفرد المعني أن ينالها من المعلومات أصغر وأصغر بالنسبة للكلّ، ويزداد شيئًا فشيئًا الدور الذي لا يستغنى عنه للأسعار كنافذة نطلّ منها على عالم من المعلومات الضمنية.

وتلخيصًا لما سبق نقول: إنّ الابتكار التقني يهزّ الاقتصادات، وذلك حين تصبح الاستثمارات المربحة أطلالًا لعصر مضى ولا بدّ من تصفيتها، وحين يتمّ تسريح العمّال بشكل مؤقّت ريثما يجدون لهم طريقة ما لإنتاج سلع يرغب بها الزبون في الوقت الراهن. وهكذا فإنّ عمليات الانتقال صعبة، وتكثر فيها الحسابات الخاطئة، لكنّ النتيجة هي تلمّس الطريق نحو قمم لم نكن لنبلغها إلّا بفضل هذا الابتكار. والأساليب المبتكرة لتخفيض تكلفة التعامل تنتشر خلال الجمعية بأكملها، ويجري التخلّص من حالات الفشل (بما فيها: الابتكارات التي كانت نافعة في يوم من الأيّام وأصبحت اليوم دون جدوى). ويمكن القول بشكل أدقّ: إنّ حالات الفشل يجري التخلّص منها إذا كان، وعندما يكون، صنّاع القرار مبتكرين على أرض الواقع، يتعلّمون تفادي خسارة أموالهم الخاصّة بهم على أفكار تفشل في أن تؤتي أكلها في الزمان والمكان المحدّدين.

وينكر هايك أن يكون هنالك أيّ استخدام، على الإطلاق، للموارد وفقًا لمفهوم ذروة الكفاءة النظري (Hayek 1945, 527). فالبشر، على ما هم عليه، يمارسون الهدر في كلّ مكان وزمان، ويرتكبون الأخطاء في كلّ مكان وزمان، وتتمثّل “أعجوبة” الأسواق في أنّ الناس يخطئون ويتعلّمون من أخطائهم ويتفادون تكرارها؛ لكنّ الأمر على العكس من ذلك في الجانب الآخر، فإذا كان صنّاع القرار بيروقراطيين في منظّمات كبيرة فإنّ تركيزهم لن يكون على تفادي الأخطاء بل على تفادي الاقتطاع من ميزانياتهم. وإذا اعترف البيروقراطيون بأنّ خططهم تعاني الفشل فإنّ العواقب حينها لن تكون قيامهم بخفض الإنفاق وتوجيه مواردهم هم نحو غايات أفضل، بل قيام المرجعيات التي تعلوهم بالاقتطاع من ميزانياتهم. ويجب الانتباه هنا إلى أنّ الاقتطاع من ميزانياتهم لا يتماثل مع الخطأ الذي يرتكبه من يتعلّم من خطئه؛ فالبنية البيروقراطية تجعل المعلومات الجديدة تهديدًا يجب إسكاته (Hayek 1944, 130).

إنّ البيروقراطيين لا يعانون الأخطاء كأحداث يجب عليهم التعلّم منها، بل كأحداث يجب إخفاؤها؛ فأخطاؤهم يرتكبونها بأموال الآخرين، ولذلك يتعلّم البيروقراطيون أن يقولوا عند مواجهتهم بها، وبلا تحفّظ، أنّ ميزانياتهم لم تكن كبيرة بما يكفي، أو أنّ الأمور كانت لتسوء أكثر لولا سياساتهم.[i] بل إنّهم قد يصلون إلى حدّ تصديق ما يقولونه، لكنّهم لا يعلمون، ولديهم كل الدوافع الكافية لتفادي التعلّم.

3. الأنظمة المخطّطة أدنى شأنًا من غيرها

إذا كنّا نفهم المبادئ التي توجّه منطق المنظومة، فربّما نتمكّن حينها من التنبّؤ بأنّ عيّنة من الحشرات ستطوّر مقاومة لمبيد بعينه من المبيدات؛ وقد نتمكّن من التنبّؤ بأنّ مجتمعًا أعلن الحرب على المخدّرات سيخسر هذه الحرب. إذن، فبعيدًا عن السؤال المتعلّق بما يمكننا أن نتوقّعه، يضع هايك نصب عينه هدفًا أبعد وأكثر دقّة: مهما كان حجم ما يمكننا توقّعه فهنالك حدّ صارم لما يمكننا أن (نقرّره) ببساطة.[ii] ولا يمكن لأيّ أحد أن يقرّر بأنّ الناس لن يستجيبوا بطرائق قابلة للتنبّؤ أمام الحوافز الفاسدة التي خلقتها خطّة مركزية بشكل غير متعمّد، وذلك على النحو نفسه حين لا يمكن لأيّ أحد أن يقرّر بأنّ الحشرات في عيّنة ما لن تصبح منيعة ضد مبيد بعينه.

هذه النقطة غير واضحة، كما لاحظ آدم سميث من قبل؛ وهنالك طبقة من التكنوقراطيين لا تقدّر الصعوبة فيها. إذ يشتهر عن آدم سميث ملاحظته، والتي ساقها هايك وهو يتّفق معها، بأنّ “رجل المنظومة”: “يبدو بأنّه يتخيّل قدرته على ترتيب الأفراد المختلفين في مجتمع هائل بالسهولة نفسها التي ترتّب فيها يد لاعب الشطرنج القطع المختلفة على الرقعة. فهو لا يضع بحسبانه أنّ قطع الشطرنج ليس لها من مبدأ للحركة سوى ما تمليه اليد التي تحرّكها، أمّا في رقعة شطرنج المجتمع البشري الهائل فإنّ لكلّ قطعة بعينها مبدأ للحركة يخصّها دون غيرها ويختلف كلّيًا عمّا قد يختار المشرّع أن يمليه عليها. وإذا صدف أن تلاقى هذان المبدآن وعملا في الاتجاه نفسه، فإنّ لعبة المجتمع البشري ستستمرّ بسهولة وتناغم، ومن المرجّح جدًّا أن تكون لعبة سعيدة وناجحة؛ أمّا إذا تضادّ المبدآن أو اختلفا فإنّ اللعبة ستستمرّ بشكل بائس، وسيتوجّب على المجتمع أن يكون في كلّ أحواله رهنًا لأعلى درجات الفوضى” (Smith 1790, 234).

إن المنظومة لها منطق؛ والمخطّطون لا يمكنهم تغيير هذا المنطق، ويتمثّل قرارهم الرئيسي بالعمل مع هذا المنطق أو ضدّه (وهو ما يعتبره سميث خيارًا بين التناغم والبؤس). ويرى سميث بأنّ المخطّطين الذين لا يعبؤون بالمنطق الاقتصادي يقرّرون في الواقع أن يضحّوا بـ”بيادقـ”هم، وهو ما لا يقدم على فعله الخيّرون.

وعندما يشرح هايك العقبة التي تقف في التخطيط المركزي الفعّال، فإنّ ما يدّعيه ليس مجرّد القول بأنّ المعلومات متناثرة على نحو واسع ولذلك فهي صعبة الاكتساب، بل إنّه يرى بأنّها مستحيلة الاكتساب (Hayek 1973, 51)؛ فعندما تحدّد الأسعار بشكل دوري من قبل مخطّط مركزي، عوضًا عن وضعها بشكل لحظي على يد المستهلكين والمنتجين الذين هم أوّل، وآخر بطبيعة الحال، من يملك المعلومات بشكل موثوق ومتوفّر عند الطلب، فلا محيد عن أن تأتي الأسعار وهي تحمل معلومات أقلّ موثوقية وأقلّ توفّرا عند الطلب. ويلاحظ هايك: “إذا كنّا نمتلك المعلومات اللازمة، وإذا أمكننا البدء من منظومة محدّدة من التفضيلات، وإذا امتلكنا زمام معلومات كاملة حول الوسائل المتاحة، فإنّ المشكلة المتبقيّة ليست سوى مشكلة منطقية تمامًا؛ أي: إنّ الجواب على السؤال حول الاستخدام الأفضل للوسائل المتاحة هو سؤال متضمّن في افتراضاتنا؛ لكنّ هذا ليس بالتأكيد هو المشكلة الاقتصادية التي يواجهها المجتمع. وإنّ الحسابات الاقتصادية التي طوّرناها لحلّ هذه المشكلة المنطقية، وإن كانت خطوة مهمّة باتّجاه حلّ المشكلة الاقتصادية للمجتمع، فإنّها لا تقدّم حلًّا لها؛ والسبب هو أنّ ’البيانات‘ التي تنطلق منها هذه الحسابات الاقتصادية ليست على الإطلاق، في المجتمع بأكمله، من ’المعطيات‘ ليتمكّن أحد الأذهان من تحليل مضامينها، ولا يمكنها أن تكون من هذه المعطيات أبدًا” (Hayek 1945, 519).

لقد كان المخطّطون المركزيون السوڤييتيون يتّخذون القرارات بالاطّلاع على الأسعار في الأسواق العالمية، لكن لنفترض أنّه ليس هنالك أيّة معلومات حول العرض والطلب؛ وعلى سبيل المثال: لنفترض أنّك مخطّط مركزي، لكنّ كلّ ما تعلمه هو أنّ الطلب سيزيد على الأسلاك وعلى الحليّ، فكيف ستقرّر حينها ما إذا كان يتوجّب عليك توجيه المصانع لإنتاج الأسلاك من النحاس أو البلاتين، أو توجيه الصاغة لإنتاج الحليّ من الذهب أو الفضّة؟ وكيف ستقرّر من سيحصل على الحليّ الفضّية ومن سيحصل على الحليّ الذهبية؟ وكيف ستقرّر ما إذا كان ينبغي السماح بإنتاج الحليّ في الأصل باعتباره يتناقض مع حجز كلّ المعادن اللازمة لإنتاج الأسلاك؟

عندما لا يدفع المستهلك ثمن ما يستلمه من سلع فإنّ الطلب يصبح، في الواقع، لانهائيًا؛ ولا مفرّ حينها للمخطّط المركزي من أن تتحوّل مهمّته في نهاية المطاف إلى مهمّة لاحتواء التكلفة؛ والأسوأ من ذلك أنّ المخطّط المفتقر لأيّ مقياس من مقاييس التكلفة ليس أمامه سوى أساس محدود لاتّخاذ القرار بشأن ما يمكن اعتباره احتواءً للتكلفة؛ وعلى سبيل المثال: إذا كان طنّ من الفولاذ يكفي لصناعة سيّارة واحدة أو عشر ثلّاجات، فأيّ الصناعتين تقتصد أكثر في استهلاك الفولاذ؟ وكيف يمكن للمخطّط أن يقرّر بشأن الاستثمار في تطوير التمديدات المائية أو تطوير المفاعلات النووية؟ فإذا كان كلّ ما تعلمه، كمنتِج، هو أنّ الناس يبدون طلبًا لانهائيًا على ما يمكنك إمدادهم به، ففي نهاية المطاف لن تلقي لهم سوى بأذن صمّاء، فتسلّم الحصّة المطلوبة منك، ولا تبالي بما إذا كانت التفضيلات أو الحاجات قد تمّت تلبيتها.

وإذا افترضنا بأنّ الأسعار توضع على يد المخطّطين، فسنجد هايك ينبري للقول بفكر يبدي ملامح الاقتصاديين النيوكلاسيكيين: “إنّ الأسعار التي يضعها السوق الحرّ هي وحدها التي تحقّق التساوي بين الطلب والعرض” (Hayek 1960, 63). فضوابط الأسعار (أي: سقوفها وقيعانها، أو: حدودها العليا والدنيا) تجعل المشتري والبائع أقلّ قدرة على الاستجابة للإشارات التي قد يطلقها بعضهم لبعض عندما يكون بإمكان المشتري زيادة المبلغ الذي يعرضه لاشتراء السلعة أو بإمكان البائع خفض السعر الذي يطلبه مقابلها. فإذا لم يكن من الممكن زيادة السعر، فلن يتمكّن المشترون من إرسال إشارة للمنتجين مفادها أنّ الطلب قد زاد وأنّهم قد يبيعون المزيد إذا زادوا الإنتاج؛ وإذا لم يزد المنتجون من إنتاجهم فإنّ الطلب المتزايد سينتج حالات عجز عوضًا عن النموّ الاقتصادي (للمزيد من التفصيل راجع خصوصًا: Zwolinski 2008).[iii]

إنّ المخطّط المركزي قد يمتلك أقوى حاسوب في الوجود، بقدرات تتخطّى ما قد يتخيّله هايك عندما نشر مقالته (استخدام المعرفة) في العام (1945)، لكن ما من حاسوب يستطيع أن يحلّ المشكلة التي كان هايك يحاول التعبير عنها. وهذه المشكلة ليست، في المقام الأول، افتقارًا للقدرة على المعالجة بقدر ما هي افتقار للنفاذ إلى المعلومات. وقد يبدو أنّ المشكلة تبدو واضحة بما يكفي على هذا الأساس، لكنّها تنزلق إلى مستوى أعمق من ذلك، فهي ليست مجّرد افتقار لـ(النفاذ) للمعلومات، إذ إنّ المعلومات غير موجودة أصلًا؛ فليست هنالك حقيقة بشأن ما يجب أن تكون عليه الأسعار، فتكون هذه الحقيقة يمكن النفاذ إليها أو لا، سوى ضمن المدى الذي تصل إليه الأسعار في تمثيلها لما يدفعه الزبائن مقابل خدمة ما، فهذه هي بعينها الطريقة التي تقوم الأسعار وفقها بخدمة المجتمع (Hayek 1944, 51–52).

وعلى سبيل المثال: لنفترض أنّ أحد الصناعيين اكتشف كيفية صناعة حقنة جاهزة للاستخدام يمكنها أن تنقذ حياة المستهلكين الذين يقعون من دونها تحت تهديد الموت بسبب الاستجابة التحسّسية للسع النحل. ولنفترض أنّ هذا الصناعي يمكنه إنتاج كمّية محدودة (عرض محدود) من هذه الحقن بتكلفة تقلّ عن مئة دولار لكلّ حقنة، ويعرضها للبيع بمئة دولار. ولنفترض أنّ هذا الصناعي وجد المشترين يصطفّون في طوابير بالآلاف لشراء الحقنة، ولنفترض نشوء مجموعة من “الوسطاء” المستعدّين للوقوف في الطابور لأسابيع كي يشتروا كلّ الحقن مقابل مئة دولار للواحدة ثمّ يعيدوا بيعها بمئتين، ثمّ بثلاثمئة، ثمّ بأربعمئة، دون أن يقلّل ذلك من قوّة الطلب. هنا قد يتنبّأ هايك بأنّ ترك الإشارات السعرية تعمل عملها المدهش سيجعل منتجين آخرين يقفزون إلى الحلبة ويبدؤون بصناعة حقن يبيعونها بمئة دولار للواحدة؛ وفي نهاية المطاف سيتمّ تلبية الطلب على هذه السلعة، ويزول الوسطاء؛ ثمّ يظهر منتجون آخرون يبتكرون عملية جديدة تمكّنهم من إنتاج الحقنة بتسعين دولارًا، ثمّ بثمانين، ثمّ ينخفض السعر تارةً أخرى، وذلك بينما تقوم المنافسة بجعل الإشارة السعرية مؤشّرًا يواكب انخفاض تكلفة الإنتاج. ولا شكّ في أنّ الأمور التي ذكرناها لن تحدث إذا أصدرنا نظامًا لبراءات الاختراع أو التراخيص أو سلكنا أيّ سبيل آخر لمنع المنتجين المنافسين من دخول السوق؛ وعلى النحو ذاته فإنّنا إذا فرضنا سقفًا للسعر عند مئة دولار فلن تنطلق أيّ إشارة باتّجاه المنافسين المتوقّعين، إلّا إذا قام الوسطاء بإرسال الإشارة لمنافسين مستعدّين لإنتاج الحقنة وطرحها في السوق السوداء. أو إذا كان هنالك سبب آخر يبرّر استحالة زيادة المعروض من السلعة، فعندها تنجرف الأسعار إلى الحدّ الذي يبدي الزبون استعداده لدفعه. وباستثناء ما سبق فهنالك الكثير من الأساليب التي تتيح تدخّل الحاكم أو المشرّع أو غيرهما من المخطّطين، لكنّ الإشارات السعرية تعمل بطريقة خاصّة إذا تركها المخطّطون وشأنها: فالعرض والطلب يميلان إلى التوازن، وإلى الاقتراب من نقطة يجاور فيها السعر تكلفة الإنتاج؛ فالسلعة تميل إلى الامتناع عن الوقوع في يد المستهلك إلّا إذا كان هنالك مستهلك بعينه يريد السلعة برغبة تبلغ من الشدّة ما يكفي لدفعه إلى تسديد تكلفة إنتاجها.

وعلى الرغم من أنّ الحواسيب لا يمكنها أن تحلّ المشكلة، فلقد اعتقد هايك بأنّ عملية صنع القرار التي يقوم بها المشترون والبائعون، وهي عملية متناثرة جذريًا، يمكنها أن تحلّ المشكلة، وتحلّها فعلًا، ما دامت المشكلة قابلة للحلّ. فالبائع الذي يطلب سعرًا باهظًا ينتهي به الحال وقد انفضّ عنه الزبائن، فيتعلّم أن يكون أكثر كفاءة في عمله وإلّا فسينبغي عليه خسارة عمله.[iv] فالمشترون الذين يرغبون بالسلعة (س) لكنّهم يعتبرونها باهظة السعر سيمتنعون عن اشترائها لمدّة، انتظارًا لهبوط السعر، لكنّهم عندما يرونها تختفي من رفوف المتاجر فإن بعضهم سيتعلّم أمرًا حول أنفسهم: أنّهم يفضّلون امتلاك السلعة بالسعر الباهظ على عدم امتلاكها. ويرى هايك بأنّ الآلية السعرية وحدها يمكنها معالجة المعلومات المتغيّرة على نحو يكاد يكون لحظيًا. ومن المفارقة أنّ العمل (الأكثر) كفاءة من بين الأعمال التي قد يتمكّن المخطّط المركزي من فعلها هو أن يضع سعرًا يتماثل مع ما كان ليكون عليه السعر دون تدخّل هذا المخطّط.

3. 1. المبادلة، والمقايضة، والجمعية، وعلوّ المنزلة

إذا اعتبرنا المجتمع مشروعًا تعاونيًا للمنفعة المتبادلة، فإنّ تعلّم البقاء (لا البقاء المادي فحسب بل البقاء كأعضاء كاملي العضوية من جمعية ما) يتضمّن تعلّم التعاون؛ وهو بدوره يتضمّن تعلّم كيفية التحوّل إلى شريك مبادل، وبعبارة أخرى: إنّ التعاون يبدأ بامتلاك المرء شيئًا يعرضه على الآخرين، وذلك كي يجعلهم أفضل حالًا.

ومن يقرأ ما كتبه سميث الذي ألهم هايك، وما كتبه هايك نفسه، يستنتج بوضوح أنّ الدافع الموجّه ليس الطمع أو حتّى الرخاء، بقدر ما هو الميل إلى المبادلة والمقايضة. فهدف المشتري والبائع كليهما ليس التعاون على أساس سعر (قد) يقع عليه مخطِّط مركزي، بل هو التعاون لا غير. فالتعاون المتبادل المرضي للرغبات، أي: التوازن المستمرّ بين العرض والطلب، والمتطوّر بوتيرة ثابتة على نحو يستجيب للظروف المتغيّرة، هو إنجاز بحدّ ذاته. وليس هنالك حاجة لأن يقتفي هذا التعاون أثر أيّ شيء سوى أثره هو. ويرى هايك بأنّ القيمة التي نأمل أن تتحقّق في السوق لا تتطابق كثيرًا مع الحجم الصحيح للسلع التي يجري تبادلها بالسعر الصحيح، بل إنّ منشأ تقسيم العمل وغايته ليس مجرّد إمكانية تحقيق المكاسب من التبادل التجاري، بل هو التبادل التجاري نفسه. والنتيجة القيّمة هي استجابة المشترين والبائعين بعضهم لبعض فيصبحون أكثر تناغمًا مع ما يريده الناس من حولهم، فيساعدون على خلق مجتمع يؤدّون فيه دورًا مهمًّا. وهكذا، فإنّ المتاجرين يجنون عيشهم وفي الوقت نفسه يحقّقون علوّ المنزلة، فالتاجر الناجح يحقّق علوّ المنزلة ويصبح جديرًا بها عندما يتوجّه للسوق وهو يضع نصب عينيه مهمّة تحسين أحوال الناس، فيرجع إلى أهله في نهاية اليوم وقد حقّق ربحين: الربح المادّي، وتبرئة نفسه من الشبهات (Schmidtz 2016a).

وهذه الحساسية من الأمور الجيّدة، لكنّ المخطّطين المركزيين لا يمكنهم أن يفعلوا إلّا القليل لتشجيعها؛ فهم يزيلون ما يمكن أن يكون شبكة لامركزية معقّدة من المسؤولية المتبادلة التي يعتمد فيها الأفراد بعضهم على بعض، ويستعيضون عنها بشيء أشبه بمجتمع من مقابض التحكّم الموصولة بموزّع مركزي محوري لا تنتظم حركتها من دونها؛ لكنّ هذا المجتمع لا يقدّم بديلًا عن المجتمع الحقيقي بأيّ حال من الأحوال.

3. 2. القانون كبيئة مناسبة

على مستوى الطبيعة، إذا أردنا للتكيّف البيئي أن يبلغ ذروته فنحصل على كائنات حيّة أفضل تكيّفًا مع مرور الزمن فلا بدّ أن تكون البيئة التي يجري فيها التكيّف مستقرّة نسبيًّا. وبالشكل نفسه، ففي ظلّ حكم القانون يتمثّل هدف الحكومة بتوفير بيئة مناسبة مستقرّة تمكّن اللاعبين الحقيقيين من تطوير استراتيجيات تناسب تحقيق النجاح ضمن هذه البيئة، وليس هدف الحكومة أن تحصل على هذه البيئة وتستفيد منها. والأمر يشبه البنية البلّورية المعقّدة التي لا يمكنها أن تتشكل إلّا إذا تُرِك الوسط الذي تتشكّل فيه خاليًا مما يحدث فيه الاضطراب. ويتمثّل النموذج المثالي الذي يطرحه هايك بـ”وسط” قانوني للمجتمع، يكون (ليبراليًا) بما يكفي لإتاحة الابتكار، و(مستقرًّا) بما يكفي للمكافأة على الابتكار، و(مقيِّدًا) بما يكفي (وبالأساليب الصائبة) لإبعاد الابتكار عن الألعاب صفرية الحصيلة وسالبة الحصيلة وتوجيهها نحو ألعاب موجبة الحصيلة، أي: نحو خلق الثروة، لا حبسها.

في ما يلي سنطرح بضع جمل نشرح بها الهدف مما يريده هايك: ليس كلّ ما يحدث في مجتمع يتطوّر متوقّعًا أو مقصودًا، فالأفعال لها أكثر من نتيجة واحدة، ولا تقتصر نتائجها على المقصودة منها. ومن يتّبع خطّة المخطّط لا يفعل ذلك لمجرّد أنّ المخطِّط يريد منه ذلك، فـ”البيادق” تتكيّف مع خطّة المخطّط على أيّ نحو يحقّق التلاؤم الأمثل مع خططها هي، والنتيجة المرتّبة فوضوية إلى درجة كبيرة يستعصي معها التنبّؤ الآمن. وعلاوة على ذلك، فإنّ حكم القانون نفسه هو نتيجة مستمرّة التطوّر لعملية صناعة قرار مستمرّة، ولذلك فهي أيضًا لا تأخذ الشكل الذي يقصده أيّ مشرّع. فهل يعني هذا أنّ كلّ نظام، بتحصيل حاصل، نظام تلقائي؟ والجواب: إنّ من الصواب، في جميع الحالات، القول بأنّ التعميم التجريبي الشامل الصواب، لا تحصيل الحاصل، هو الذي يقول بأنّ كلّ تنظيم اجتماعي، حتّى الأنظمة الديكتاتورية، هي (جزئيًا) نتيجة مستمرّة لتنظيم عمليات تتّصف بدرجة ما من التلقائية. لكن على الرغم من لانهائية درجة اللاقصدية في النتائج، فإنّ ثمّة هدفًا من وراء تصنيف المجتمعات في تصنيفين متضادّين: مجتمعات التخطيط المركزي، والمجتمعات التلقائية؛ فالخطّة المركزية مصمّمة على نحو نحقّق فيه حالة نهائية، وأيّة خطة تهدف إلى تحقيق نتائج بعينها، فتتضمّن الأدوار التي يؤدّيها الناس فيها، وما سينجزونه من خلال أدوراهم هذه، وما سيربحونه مقابل هذا الإنجاز؛ وعلى العكس من ذلك، في ما يجدر أن ندعوه النظام التلقائي، توفّر الحكومة إطارًا من القواعد يتّصف بأنّه مستقرّ ومعلوم (Hayek 1944, 113). وعلى الرغم من أنّ هذا النموذج المثالي لا يمكن إنجازه بشكل كامل فعليًّا، فإنّ الحكومة الخاضعة لحكم القانون تعمل كحكَم وكموفّر للائحة الأحكام (Hayek 1960, 114) وتعمل مقتديةً، بأقصى ما تستطيع، وفقًا للنموذج المثالي “دع اللاعب يلعب”.

هل “دع اللاعب يلعب” أمر جيّد؟ وهل هو جيّد بالضرورة؟ ربّما كان آدم سميث ليجيب بـ(لا)، وربّما كان هايك ليماثله في ذلك. فمبدأ حكم القانون الجدير بالثناء يعزّز التبادل التجاري ذي المنفعة المتبادلة من خلال استدخال الخرجانيات، وبالوصول إلى الحدّ الأدنى من تكلفة التعامل (لا سيّما في مجال اكتساب المعلومات)، وبالوصول إلى الحدّ الأدنى من فرص الاستيلاء على ممتلكات الناس دون موافقتهم (ممّا يشجّعهم على التبادل التجاري بشروط يمكنهم القبول بها، وبالطبع فهي شروط نافعة)، وبالوصول إلى أعلى درجات التنبّه ضدّ الأعمال الخارجة عن هذه الحدود.

وليس لهايك شكوى خاصّة ضد توفير التعليم الحكومي أو الحدّ الأدنى من متطلّبات دولة الرعاية الاجتماعية، لكنّ موقفه هذا لا ينطلق من اعتقاده بضرورة هذه المؤسّسات؛ فببساطة يمكن لهايك أن يقول بأنّ هذه المؤسّسات وأمثالها لا تحتاج إلى أن توكل للتخطيط المركزي، وبالتالي فليس من الواجب أن تتضادّ مع مفهوم المجتمع الحرّ. وعلى سبيل المثال: إنّ إصدار قسائم لتمويل شراء حقن الحساسية أو لتمويل التعليم يؤدّي إلى تشويه الأسواق إلى مدى ما في مجال السلع المدعومة (فيكون لذلك تأثير تضخّم على أسعار هذه السلع) لكنّه لن يشوّهها إلى الحدّ الذي يبلغه تشويه ضوابط الأسعار لها.

4. العدالة باعتباره حيادية، السياسة باعتبارها ريادية بلا قيود

كان هايك، إلى حدٍّ ما، ممّن يؤمنون بأنّ (العبرة بالنتيجة)، وكذلك كان آدم سميث من قبله، لكنّ دفاع هايك عن الحرّية الاقتصادية يوحي، كما هو الحال عند سميث أيضًا، بمسحة من الحساسية الأخلاقية التعاقدية أو الواجباتية (ويضاف إليها في حالة سميث: الفضائلية النظرية) التي تعتبر الفصل بين الأشخاص أمرًا جوهريًا من الناحية الأخلاقية. ولهذا يقول هايك، مثلًا بأنّ “اختبار عدالة قاعدة ما يوصف في العادة (منذ كانط) بأنّه اختبار لمدى قابليتها للشمول” (Hayek 1969, 168). ويرى جون گراي بأنّ هايك أثنى على قواعد العدالة “باعتبارها الشرط الذي لا غنى عنه لتعزيز الرخاء العامّ”، لكنّ هايك كان يعتقد في الوقت نفسه بأنّ “الاهتمام الحيادي بالرخاء العامّ هو ذاته أحد متطلّبات قابلية الشمول” (Gray 1984, 65).

وإذا نظرنا للأمر بمنظور ما يخدم به المشروع الإجمالي لرعاية الرخاء العامّ، فإنّ هدف القانون والتشريع هو الصياغة الماهرة لإطار عمل يكون فيه النظام السوقي تأريخًا لتبادلات تحسّن وفقًا لمعايير پاريتو.[v] فمن الأدوار الرئيسية للأخلاق، وللتشريع أيضًا (عند الضرورة)، هو تقليص خيارات الناس بما يحدّ من فرص الاغتناء على حساب الآخرين،[vi] فما دام حكم القانون قادرًا على استدخال التكاليف الخارجية، وبذلك يتمكّن من توجيه الابتكار إلى جهات ذات منافع متبادلة عوضًا عن الجهات التطفّلية، فإنّ النظام ذا التطوّر المستمرّ سيكون نظامًا يزداد فيه الازدهار.

وفي مقابل ذلك، نجد في النظام المخطّط أنّ حتّى القرارات الذكية والتي تراعي إملاءات الضمير، والتي يتّخذها القائمون على المنظومة، تتّصف بأنّها ضارّة على نحو خاصّ. ويكون ذلك بالتحديد عندما يضطلع هؤلاء بمهامّ إدارة دقائق الأمور، فحينها يصبح هؤلاء لاعبين، لا حكّامًا. وإذا بدأ البيروقراطيون باللعب، وأخذوا يستجيبون للأحداث المؤقّتة بعملية ضبط مركزية دقيقة، فعندها نجد أنّهم حتّى لو لعبوا بأذكى مستوى قد يصله البيروقراطي فإنّ هذا لا يغيّر الحقيقة القائلة بأنّ النتيجة ستكون تحييد المعارف المتناثرة الضمنية للبائع والمشتري العادي. وهكذا يصبح من كانوا ليكونوا خالقي فرص عمل مجرّد متفرّجين، يحبط اللايقين عزائمهم، منتظرين رؤية ما ستؤول إليه الخطّة، وفي أثناء ذلك ما من سبيل أمامهم للعلم، بل حتّى للتخمين الذكي، بأيّ شيء بسيط بساطة السؤال عمّا إذا كان حجم العمالة التي يوظّفونها مفرطًا في القلّة أو الكثرة.

إنّ الحكومة توفّر إطار عمل للتفاعل؛ ولقد أسلفنا بأنّ الحكومة، نموذجيًا، لا تعمل إلّا في إطار عمل مستقرّ ومعلوم مكوّن من قواعد (Hayek 1944, 113). وهذا هو النموذج المثالي للحكومة الجيّدة بنظر هايك. وهنا يكون السؤال: هل هذه الحكومة واقعية؟ وهل يمكننا أن ننتظر من أيّة حكومة أن تعمل كحكم حيادي؟ لقد كان هايك ينظر إلى حكم القانون باعتباره البيئة خارجية المنشأ الملائمة للسوق، وبأنّ هذه البيئة الملائمة يجب بناؤها على النحو المناسب إذا أردنا لعملية النظام التلقائي أن تكون أمرًا جيدًا. لكن يبدو أنّ هايك توصّل إلى الشكّ في ما إذا كان يمكن أن يكون هنالك شيء كهذا (إنشاء حكم القانون على النحو المناسب)، وذلك للسبب الآتي: إنّ صناعة القانون عملية توجّهها عمليات أقلّ أو أكثر قابلية للتمييز من العملية السوقية، ما عدا أنّ المنافع التي يحصل عليها المشرّعون من صناعة القانون مركّزة، أمّا تكاليفها فهي متناثرة بشكل واسع، ولذلك فهي لا تُفهَم إلّا بشكل ضبابي حتّى بعد وقوع الواقعة.[vii] وهذا ليس خطرًا أخلاقيًا بل هو خطأ معلوماتي، فالقانون التشريعي قد يتكوّن من آلاف الصفحات، وليس هنالك من (يقصد) القانون كوحدة كاملة؛ بل ليس هنالك هدف إجمالي للقانون، سواء كان معلومًا أو لا، لأنّ ما من أحد قطّ قرأ أكثر من بضع صفحات من القانون قبل إقراره، وهذا الأمر يشمل حتّى المئات من المشرّعين الذين أضاف كلّ واحد منهم عدّة صفحات من الملاحظات للقانون كثمن لتأمين تصويته بالموافقة عليه.

أمّا القانون العامّ (common law)، فهو، في مقابل ذلك، كتلة من الممارسات والتقاليد التي تحتاج أحيانًا لتشريعات ملحقة بها؛ لكنّ من المهمّ قطعًا أنّ لا يُنظَر إلى القانون العام باعتباره مجرّد تحامل أو خرافة، وذلك بعد أن نجح في اجتياز اختبار الزمن كأداة لتسوية النزاعات؛ فهو، وعلى العكس من ذلك، سيكون له الأفضلية الأكيدة على التشريع الراهن، لأنّ التشريع توجّهه أفكار غير مجرّبة حول كيفية الاستجابة للأزمات الحاصلة، ولأنّ هذا التشريع سيجري إقراره دون أن يعلم أيّ أحد ما يكتنفه من عواقب أكبر وذات تأثير دائم. ولم يشكّ هايك أبدًا في الحاجة إلى التشريع، لكنّه كان يأسف لميلنا إلى الغفلة عن عواقبه الحتمية غير المقصودة والتطرّف في التقليل من تكاليفه اللامرئية الحتمية (Hayek 1973, 86).

5. موقف هايك من العدالة

يرى هايك بأنّ من الأهمّ بكثير أن يكون القانون إطار عمل للتنسيق بالمقارنة مع كونه التحديد الدقيق لأهداف هذا التنسيق (Hayek 1960, 118). إذ يلاحظ هايك أنّ الكثير من أهداف التنسيق لها مضامين توزيعية، ممّا يؤدّي بهايك إلى الشعور بالأسى على ميلنا إلى تقييم التوزيعات من خلال السؤال عمّا إذا كانت عادلة (ومع ذلك فإنّ هايك يتنازل ويقرّ، من ناحية المبدأ على الأقلّ، بشرعية وضع حدّ أدنى للدخل أو شبكة للحماية الاجتماعية. راجع [Tebble 2015] للاطّلاع على محاججة متعاطفة، لكنّها حادّة، ترى بأنّ تنازل هايك هذا بمثابة “تردّد قاتل”؛ بل إنّ تيبل يحاجج بأنّ رفض هايك للعدالة الاجتماعية لا يدع مجالًا لأيّ تنازل مماثل).

يقول هايك بأنّ “من الأمور الرئيسية التي شغلت بالي طوال أكثر من عشر سنوات” كانت تقبّل فكرة أنّ العدالة الاجتماعية سراب (Hayek 1978b, 57).[viii] ويبدو أنّ هايك يعني بـ(العدالة الاجتماعية): العدالة التوزيعية، وبتحديد أكثر: ما كان نوزيك يدعوه مبادئ الحالة النهائية للعدالة التوزيعية، والتي تتعامل مع العدالة كميزة لنتائج، لا كميزة لعمليات.

لماذا تصبح العدالة سرابًا وفقًا لفهم هايك؟ يقول هايك: “لا يمكن أن يوجد عدالة توزيعية عندما لا يقوم أحد بالتوزيع” (Hayek 1978b, 58 or 1976, 68–69). وبتعبيره هو: “اعتبارات العدالة لا تقدّم أيّ مبرّر لـ’تصحيح‘ نتائج السوق” (Hayek 1969, 175). وما دام الذين يتبادلون يقومون طوعيًا بتحرّكات أفضل وفقًا لمعايير پاريتو، فليس هنالك بعدها ما يمكن أن يقال، أو تدعو الحاجة إلى أن يقال، على سبيل التعليل.

لماذا تبرز مقاومة تطبيق أوجه فهم العدالة والظلم على الأوضاع التي لا يقوم فيها أحد بالتوزيع؟ إنّ ما يستحوذ على هواجس هايك هنا ليس فكرة مفادها أنّ هنالك من قد يكون أكثر استحقاقًا من غيره، بل أن يتجرّأ “مسؤول جدارة” على تصحيح الأسواق التي تفشل في إعطاء الناس ما يستحقّون. فلخوفه من احتمال وقوع الاستبداد، لا يحاجج هايك بأنّ الأسواق عادلة، بل بأنّها ليست من النوع الذي يمكن أن يكون عادلًا أو ظالمًا. وعندما لا يقوم أحد بالتوزيع فلن يوجد حينها أيّ شيء يدعو للأسى بشأن النتيجة، لكنّ النتيجة لن تكون ظالمة على النحو الذي تكون عليه عندما تنتج عن “هندسة”. فالنتائج التي كانت لتكون ظالمة (لو فُرِضت بقصد)، كأن يولد المرء بتشوّه شفة الأرنب، يمكن أن تحدث أحيانًا بكلّ بساطة. وكما يقول رولز: “التوزيع الطبيعي ليس عادلًا ولا ظالمًا؛ وليس ظالمًا لأنّ الأفراد يولدون في المجتمع ضمن وضع خاصّ. إنّ هذه ليست سوى من الحقائق الطبيعية”؛ وهو رأي قد يتّفق هايك معه.

لكنّ رولز يرفق قوله ذاك بقول آخر قد لا يوافق هايك على التسلسل المنطقي بينه وبين القول الأول: “ما هو عادل أو ظالم إنما هو طريقة تعامل المؤسّسات مع هذه الحقائق” (Rawls, 1971, 102). فإذا كان رولز مصيبًا في الاعتقاد بأنّ العدالة التوزيعية ليست عادلة ولا ظالمة، فعندها لا تكون المؤسّسات مخطئة في “التعامل مع حقوق طبيعية”. وربّما لا ينكر هايك مطلقًا أنّ الإصابة بشفة الأرنب أمر سيّئ، أو أنّ معالجتها أمر جيّد، لكنّه قد يصرّ على أنّ إصلاح ما ليس بظلم لا يمكن أن يعدّ تصحيحًا للظلم. فإذا طُلِب منّا أن نبتكر أداة لمساعدة الأطفال المصابين بشفة الأرنب، فالسبب هو أنّ الإصابة بشفة الأرنب أمر سيّئ، وليس لأنّ الإصابة بها ظلم. وعندما نساعد فإنّنا لا نصلح بذلك توزيعًا غير مناسب للإصابة بشفة الأرنب، بل إنّنا، وبكلّ بساطة، نصلح مشكلة الإصابة بشفة الأرنب (Schmidtz 2006, 219). فالمشكلة التي نستجيب لها لا صلة لها بالحسد أو اللامساواة أو الحقوق أو الإنصاف في الحصص؛ وإنّ الموقف الذي نتّخذه عند إنشاء شبكة للحماية الاجتماعية ليس ضد الظلم، بل ضدّ المعاناة (Hayek 1976, 87).

إذا صحّ ما سبق فإنّه يوضّح لنا لماذا لا يمكن أن يكون الهاجس الفعلي لهايك (ببساطة) أنّه لا يمكن أن يكون هنالك ظلم في سوق لا يقوم فيه أحد بالتوزيع. وعلى سبيل المثال: لنفترض أنّني حطّمت سيّارة أحدهم عن طريق الخطأ، فبما أنّه ليس هنالك من يقوم بتوزيع الضرر فهذا الوضع ليس عادلًا ولا ظالمًا؛ لكن إذا كان رولز سينبري حينها للقول بأنّ ما يحدّد العدالة أو الظلم هو كيفية استجابتنا للضرر، فعندها قد يوافقه هايك؛ إذ يختلف الوضع نوعًا ما عندما يتسبّب بالضرر كيان فاعل قابل لتحمّل المسؤولية.

ويبدو أنّ هايك يشعر بالقلق من أنّ فهمنا للعدالة قد يعسّر علينا العيش سويّة وإنجاز التقدّم بشكل مشترك. إذ يرى هايك بأنّ الناس إذا عجزوا عن الادّعاء بأنّ نقطة الانطلاق ظالمة، فعندها يكون كلّ ما نفعله قابلًا للتبرير على أنّه (تحسين)، وليس تصحيحًا. فإذا لم يكن هنالك ظلم يحتاج إلى تصحيح، فعندها يكون التحسين الذي يحقّ لنا السعي إليه تحسينًا وفق معايير پاريتو، أو، في الحالات جميعها، تحسينًا بوسائل ذات مقبولية متبادلة. وفي مقابل ذلك (خلافًا لرولز)، إذا كان التوزيع الطبيعي ظالمًا، فإنّ ذلك سيفتح المجال أمام كلّ التحرّكات صفرية الحصيلة وسلبية الحصيلة التي يشعر الناس بأنّه يحقّ لهم فرضها بعضهم على بعض تحت غطاء الاتّصاف بالعدالة. وإنّ الحقّ بالقيام بهذه التحرّكات في ما يخصّ أموال الآخرين يكاد يصبح بأكمله لعبة سياسية تدرّ ربحًا وفيرًا، وتغري أصحاب المواهب السياسية الريادية بالدخول إلى حلبة السياسة، حيث يقوم هؤلاء الرياديون بإنفاق أوقاتهم في اختراع طرق ذكية جديدة لتقسيم الرأسمال الاجتماعي، عوضًا عن العمل على خلق رأسمال اجتماعي جديد. (قد يدرج رولز هنا ملاحظة تقول بأنّ وجود المال في حوزة الآخرين لا يستلزم شرعية امتلاكهم له، لكنّ ما يفعله هايك هو بحث في علم الاجتماع؛ فهو لن ينكر الحقيقة الواضحة التي تقول بأنّ الناس يمكنهم، وهذا ما يفعلونه في كثير من الأحيان، التعامل مع ممتلكات الآخرين كلعبة سياسية، بل إنّهم أحيانًا يخترعون نظريات تمنحهم الحقّ بذلك. وهنا يتكلم هايك عن التكلفة التجريبية للتعامل مع ممتلكات الآخرين كلعبة سياسية، لا عن الإمكانية النظرية).

وفي رأي هايك أنّنا يجب أن نريد من أيّة منظومة للعدالة ما نريده من أيّة منظومة لتنظيم المرور: إطار عمل يعيننا على تشكيل توقّعات متبادلة حول من له الحقّ بالسير في الطريق. فالمنظومة الفعّالة في تنظيم المرور تتيح لنا، ببساطة، أن ننسّق أفعالنا وفقًا لمجموعة من التوقّعات المتبادلة التي يجد كلّ فرد منّا أنّها نافعة في مساعدتنا على الحيلولة دون اصطدام بعضنا ببعض أثناء انطلاقنا في مساراتنا التي نختارها بشكل فردي. فمنظومة تنظيم المرور لا تختار هذه المسارات لنا، ولا هي تشترط علينا أن نبرّر مساراتنا هذه أمام الآخرين. وفي الواقع، إنّ منظومة تنظيم المرور تكمن بشكل عام في عدم اضطرار الناس إلى تبرير أفعالهم أمام الغير. وإذا كنّا نرغب بالعمل وفقًا لمبادئ الحالة النهائية للعدالة (Nozick 1974) فسنحتاج لتبرير أيّ حركة تتعلّق بكيفية توزيع السلع في الحالة النهائية المتطوّرة باستمرار، وهذا يعني القول بأنّنا سنحتاج في الواقع لتبرير كلّ تبادل نفكّر بالإقدام عليه، وهو ما من شأنه أن يعيقنا بدلًا من إعانتنا في ابتكار طرائق جديدة لجعل أنفسنا أكثر قيمة بنظر المحيطين بنا.

ربّما يبالغ هايك هنا في ردّ فعله، لكنّ هذه المبالغة تنشأ ممّا يبدو أنّه رفض دوگمائي لمبادئ الحالة النهائية للعدالة؛ فلأسباب تذكّرنا بنوزيك، يجد هايك أنّ هذه المبادئ ذات تكاليف غير مستطاعة، وأنّها لا تتوافق مع الكيانات الفاعلة المستقلّة التي يهتمّ كلّ منها بشؤونه الخاصّة في المجتمع الحرّ؛ بل إنّ هذه المبادئ وأمثالها تجعل من المستحيل القول بأنّ أمرًا ما يقع ضمن اهتمام المرء بشؤونه الخاصّة. وعلى هذا الأساس فإنّ محاولة هايك اقتطاع ميدان متماسك للاستقلالية الفردية تجعل منه، كما كان يدّعي في كثير من الأحيان، ليبراليًا من ناحية النموذج الذي يتبنّاه، وليس محافظيًا.

5. 1. المدخلات، والمخرجات، ومعنى السلوك المقتصد

الجدارة تتعلّق، كما يفهمها هايك، بطبيعة الفعل لا بطبيعة الإنجاز (Hayek 1960, 94)؛ وبعبارة أخرى: يرى هايك بأنّ ادّعاءات الجدارة تتعلّق بالمدخلات التي يحضرها المرء للعملية، لا المخرجات؛ وهو يعتقد بأنّ لا فائدة يمكن أن تأتي من ذلك، ففي المجتمع الحرّ يكافأ المرء على مخرجاته، لا مدخلاته (Hayek 1960, 98).

ولهايك حجّة مهمّة في هذا الطرح؛ إذ يتمحور اهتمامه حول “سراب” الاعتقاد بأنّ العدالة تشترط مكافأة الناس على التزويد بالمدخلات وليس المخرجات؛ لكن إذا كان سرابًا الاقتصار على مكافأة التزويد بالمدخلات، فلا بدّ أنّ هذا السراب يشمل اقتصار العدالة على المدخلات. ولا بدّ من الاعتراف بأنّنا إذا تركنا الزبون على هواه فسيكافئ على المخرجات، وهذا ما يريده هايك؛ وعلى النحو ذاته، إذا تركنا الناس على هواهم وكافؤونا على مخرجاتنا فإنّ سلوكهم هذا لن يفتقر للحساسية تجاه الجدارة. وإنّ ميل مكافآت السوق لاقتفاء أثر الجدارة سيكون مجرّد ميل، لكنّ اعتبار نظام الجدارة مجرّد ميل لا يتساوى مع اعتباره سرابًا. فالعنصر الرئيسي لنجاح أيّ منظومة للترويج للازدهار سيكمن في المكافأة على المخرجات الممتازة، وعلى عوامل هذا الامتياز، من الاجتهاد والشجاعة والتنبّه والإخلاص. وسيكمن أيضًا في المكافأة على الحظّ، لكن دون أن يكون هذا الحظّ مجرّد صدفة عشوائية خارج المسار الطبيعي للأمور.[ix] وهنا يتحدّث هايك وكأنّ الجدارة لها علاقة كاملة بالاجتهاد في المحاولة، ولا علاقة لها بالمخرجات الممتازة، لكنّ قوله هذا لا يجعلها كذلك، وليس هنالك سبب يدعو لتصديق ما جاء به (Schmidtz 2008, 34).

ويقول هايك بأنّنا نريد أن نكون مقتصدين مع الجدارة (Hayek 1960, 96). وإذا كانت الجدارة ذات صلة حصرية بالتزويد بالمدخلات، فسيكون هايك مصيبًا في قوله حينها، لكن حتّى إذا كان هايك مصيبًا، فمن الصعب أن نتبيّن سبب اعتقاد هايك بأن لقوله صلة بالموضوع. فلنفترض مثلًا أنّنا نقتصد في استهلاك الذهب، لماذا؟ لأنّه ذو قيمة كبيرة. وفي الحقيقة إنّ قولنا بأنّنا نقتصد في الاجتهاد ليس إلّا تعبيرًا آخر للقول بأنّ الاجتهاد مهمّ. فليس هذا دليلًا على أن الاجتهاد سراب، وعندما نعتقد بأنّ هنالك سببًا وجيهًا يدفعنا للمكافأة على الاجتهاد الذي يبلغ ذروته بالمخرجات الممتازة فإنّ اعتقادنا هذا ليس دليلًا على أنّنا أسرى لسراب.

وبالمحصّلة، إنّ منظّر الجدارة ربّما يقرّ لهايك بأنّ المكافأة يجب أن تقتفي أثر الأداء الفعلي، لا الجدارة التي في داخله؛ فالمستهلك يمكنه الحكم على جدارة سلعتك دون الحاجة لمعرفة ما إذا حالفك الحظّ في إنتاجها، والنقطة الحاسمة هنا هي أنّه أينما كان الاجتهاد يجلب مكافأة أكبر ممّا يجلبه الامتناع عنه، وأينما كان العمل الممتاز يجلب مكافأة أكبر ممّا يجلبه الامتناع عنه، وأينما كان التنبّه لحاجات الزبون يجلب مكافأة أكبر ممّا يجلبه الامتناع عنه، فإنّ المنظومة تميل إلى المكافأة على القيام بما هو صائب. وستميل المخرجات في هذه المنظومة إلى أن يرتقي مستواها الممتاز بمرور الوقت، وستميل السلع إلى أداء ما يرتجى منها، وسيميل الناس إلى الازدهار، وإلى أن يضعوا نصب أعينهم غاية تحقيق الجدارة أيضًا.

5. 2. الحقّ بالتوزيع

كما أشرنا من قبل، فإنّ نقد هايك للعدالة الاجتماعية هو، بشكل أكثر تحديدًا، نقد للتوزيع بحسب الجدارة على يد التخطيط المركزي؛ وهو يعتقد بأنّ (مسؤول الجدارة) لن يتحمّله أحد. لكنّ الجانب الكابوسي لهذه الرؤية يتّصل اتّصالًا تامًّا بفكرة التخطيط المركزي وليس له أيّ صلة بفكرة الجدارة. ومن يفكّر بالجدارة على نحو جادّ يتّفق مع هايك بأنّ من الواجب انتهاج اللامركزية في التقييم. وإذا كان هايك مصيبًا بأنّه ليس هنالك موضع لمسؤول الجدارة في المجتمع الصالح، فإنّ رؤيته هذه تعني ضمنيًا، وعلى العكس ممّا يعتقد، لا أنّ الجدارة عديمة الأهمّية، بل أنّها ذات أهمّية تحديدًا (Hayek 1976, 64). وإنّ سبب عدم تحمّلنا لمسؤول الجدارة هو أنّ هذا المسؤول سيكافئ الخنوع، لا الجدارة.

ويبدو أيضًا أنّ هايك يسلّم، كما هو حال الكثير من معارضيه فلسفيًا، بأنّه في المنظومة القائمة على الجدارة إذا كنت عاجزًا عن إثبات جدارتك بالحصول على (س)، فإنّ هذا العجز يرخّص لمسؤولي الجدارة أخذ (س) منك؛ أو إذا كنتُ عاجزًا عن إثبات جدارة شخصٍ ما بشيء (س) أودّ إعطاءه له، فهذا يرخّص لمسؤول الجدارة أن يمنعني من إعطاء (س) لذلك الشخص. وفي الحالتين كلاهما يكمن الفيصل في أنّه: قبل الانتقال إلى مسألة (ما إذا كنت سأعطي الشيء لأكثر الناس جدارة بالحصول عليه) يجب عليّ التعامل مع مسألة قبلية حول (ما إذا كنت أمتلك الشيء في الأصل). ولنفترض مثلًا بأنّني أتلقّى خدمة ممتازة في مطعم ما، ويحكم عقلي بأنّ النادل يستحقّ إكرامية قدرها عشرون دولارًا، فلا يمكنني هنا أن أبرّر طلبي من زبون آخر للمطعم بأن يعطيني عشرين دولارًا لا لشيء سوى أنّ النادل قد فعل ما جعله جديرًا بها، إذ يجب أن تكون العشرون دولارًا ملكي أوّلًا، ثم يمكنني بعدها أن أتساءل ما إذا كان النادل جديرًا بها؛ أمّا ما يجيز طلب العشرين دولارًا من زميلي الزبون فلن يتعلق بمسألة تعيين استحقاق النادل للإكرامية، بل بمسألة ما إذا كنتُ أنا قد فعلت ما يجعلني مخوّلًا بها. وهذه النقطة حاسمة، لا لأنها تنقض ما يراه هايك، بل لأنّها تكشف الطبيعة الدقيقة للهاجس الحقيقي الذي يشعر به هايك: فهاجسه ليس سراب الاعتقاد بأنّ الجدارة مهمّة (حقًّا)، بل سراب الاعتقاد بأنّ التخويل (ليس) مهمًّا.[x]

5. 3. الممارسات النزيهة

تجدر الإشارة في هذا المجال إلى أوجه الشبه بين رؤية هايك وبين رؤية جون رولز التي عبّر عنها في كتابه (مفهومان للقواعد [1955])؛ فكلاهما يفهمان مضامين (الممارسة) عندما تكون لها منفعة. ويطرح رولز مثالًا مفاده: إنّ ممارسة لعبة كرة القاعدة (البيسبول) تعرّف من خلال القواعد الإجرائية عوضًا عن تعريفها بمبادئ الحالة النهائية للعدالة التوزيعية. ويجب على المرء أن يكون دوگمائيًا (كما قد يقول هايك) حول عدد الضربات التي يحقّ لضارب الكرة تسديدها إذا كان يرغب بأن تأخذ الممارسة مجراها.

ولنتخيّل تغيّر فهم اللعبة على نحو يكون فيه دور الحكم هو العمل على أن يكون الفوز لصالح الفريق الخيّر، فما الذي سيؤثّر به هذا الدور على اللاعبين؟ وكيف ستكون مساعيهم؟ إنّ نتيجة التغيير لن تكون لعبة بيسبول؛ فإذا انتهى بنا الحال مع لعبة يحرص فيها الحكم على فوز الفريق الذي يفضّله، فعندها سيجلس اللاعبون على المقاعد الجانبية متفرّجين أملًا في أن يحظوا بمحاباة الحكم. وتتمثّل رؤية هايك (ورؤية رولز في هذه المرحلة من مسيرته الفكرية) في أنّ النزاهة الحقيقية ليست الحرص على المساواة في توزيع الجوائز.[xi] بل إنّها لا تتعلّق حتّى بالحرص على عدم تأثّر النتائج، إلى حدّ مفرط، بعوامل اعتباطية أخلاقيًا من أمثال: مستوى اللعب، ومقدار اجتهاد اللاعبين في العمل لتنمية مواهبهم. فالنزاهة الحقيقية تتعلّق بانتهاج الحيادية وعدم التحزّب، أو ما يعبّر عنه المثل السائر: “دع اللاعب يلعب”.

ومن مشكلات هايك مع هذا النوع من العدالة، والتي تصل إلى حدّ الحرص على تحقيق الأخيار للفوز، أنّها تنزع نحو تحويل البنية الرئيسية للمجتمع إلى لعبة كرة قدم سياسية، والتي تميل إلى تبديد المكاسب المتحقّقة من التبادل التجاري. وهنا يرى هايك، أيضًا، بأنّ العدالة الحقيقية تتعلّق بـ(ترك اللاعب يلعب)، على النحو نفسه الذي يتعلّق فيه التعاون الاقتصادي الذي يحقّق تحسّنًا بحسب معايير پاريتو بترك اللاعبين يلعبون (راجع أيضًا: Gaus 2016).[xii]

5. 4. السعر العادل

إنّ تحقيقنا للأرباح يتطلّب التبادل التجاري وحسب، دون تحديد هذا التبادل بسعر ما؛ ولهذا لا نحتاج للتركيز على السعر عندما تتّصل ثروة الأمّة اتّصالًا وثيقًا بالأرباح المتحقّقة من التجارة ولا تتّصل بالسعر.

وفي الواقع، يلاحظ هايك بأنّ استحواذ مسألة السعر العادل على التفكير تقلّل احتمال التبادل التجاري، والذي سيؤدّي حينها إلى تبديد بعض الفائض التعاوني. وإنّ نفور هايك من العدالة ينشأ في الكثير من جوانبه من أنّ مرور آلاف السنين على الحديث في العدالة قد حوّله بطريقة ما إلى الحديث عن (السعر) العادل (Hayek 1976, 73). وهذا يجعل الأسعار تبدو مهمّة من الناحية الأخلاقية، وهو أمر يعدّه هايك سرابًا.[xiii] ويتحدّث هايك عن مثال (القصّابين والخبّازين) الشهير في كتابات آدم سميث، فيقول: “تحديدًا لأنّهم يهتمّون فقط بمن يقدّم لهم أفضل سعر لمنتجاتهم، تجدهم يصلون إلى أشخاص يجهلونهم تمامًا، فيحسّنون مستوى حياة هؤلاء على نحو أفضل بكثير ممّا كانوا ليحسّنون به حياة جيرانهم” (Hayek 1978b, 60).

إنّ رفض هايك للعدالة الاجتماعية باعتبارها (سرابًا) يعدّ تطرّفًا لا مسوّغ له في التعبير عن رؤيته الفعلية؛ لكنّ الدافع لهذا الرفض يمكن فهمه: فهو يتلخّص تحديدًا في خشيته من احتمال الترخيص لمسؤول حكومي بمهمّة العدالة بما يتيح له التدخّل للتأكّد من عدالة الأسعار، فيحرف مسار عملية التبادل التجاري التي تخلق الثروة ضمن مجتمع يعمل في إطار حكم القانون. ويمكننا أن نعيد صياغة ما قاله مايكل مونگر في هذا الشأن (Munger 2013) على النحو التالي: إنّ أقرب ما يمكننا أن نصل إليه من وظيفة المخطّط الاجتماعي العالم بكلّ شيء هو أن نستعين بالقوّتين التوأم (العرض والطلب)، لكنّ هاتين القوّتين لا تتكلّمان مع الناس إلّا بلغة الأسعار. وعندما تجرّم الدولة سعرًا يتحمّله السوق فإنّها بذلك تخرس الصوت الوحيد الذي يمكنه أن يمنح الناس نصيحة موثوقة وآنية.

وعلى سبيل المثال: “إذا كان هنالك أزمة شحّ بالمرطّبات الباردة، وإذا كان المتلاعبون بالأسعار أحرارًا في طلب أيّ سعر للثلج يتحمّله السوق، فعندها سيخسر من يريد الثلج لا لشيء سوى تبريد كأس من المرطّبات أمام سعر أعلى يعرضه مشترٍ آخر يقيّم الثلج بقيمة أعلى منه، فمن يريد الثلج لتبريد حقن الأنسولين أو حليب الأطفال سيزايد بالسعر حتّى يصل إلى مستوى يؤمّن تزويده بالثلج من خلال الامتناع عن تزويد شارب المرطّبات. وفي الواقع، سيختفي الثلج المبرّد للمرطّبات (الذي يباع بدولارين) من السوق، ويبقى التزويد مستمرًّا بالثلج الذي ينقذ حياة الناس (الذي يباع باثني عشر دولارًا) بكمّيات كافية. وفي المقابل، إذا كان سعر الثلج يمنعه القانون من الزيادة على دولارين، فعندها يحدث أمران، لا أمر واحد: (أوّلًا) ينخفض المعروض من الثلج، وفقًا للنموذج النيوكلاسيكي المعياري، لأنّ المزودين لا يقدّمون الكثير من الثلج بسعر أدنى، و(ثانيًا) إذا وضع سقف (دولارين) للسعر فإنّ المشترين الذين يريدون الثلج لتبريد المرطّبات وحسب (سيظلّون في السوق)، إذ سيستمرّ شاربو المرطّبات على استهلاكهم للحصّة نفسها من الكمّية المعروضة النادرة التي كان السعر العائم الحرّ ليحتفظ بها لمستخدمي الأنسولين التي يحتاجونها أكثر. وإذا نظرنا لمثلّث الخسارة في النموذج الكلاسيكي المعياري، وهو نموذج ليس فيه إلّا ما يعيق، فلن نلاحظ التأثير الثاني” (Schmidtz 2016b، وفيه تجد تحليلًا مرفقًا بالأشكال البيانية).

إنّ النموذج الكلاسيكي المعياري يفترض أنّ المشترين الذين يقيّمون السلعة بأدنى قيمة هم من يستبعدهم السعر الذي يجري التحكّم به؛ لكن من النتائج القوية القابلة للتكرار في تجارب المزادات التي تحدث في صفوف الدراسة أنّ المجال التجريبي لكارثة ضوابط الأسعار أكبر من المجال الذي تتنبّأ به النظرية النيوكلاسيكية؛ والفرق بينهما يجب أن يتعلّق، كما قد يرى هايك، بالمعرفة التي جرى تضمينها بفعّالية في الأسعار وليس في غيرها. فإذا وضعنا سقفًا لسعر الثلج عند الدولارين فسنضمن حينها أنّ زيادة الأسعار لن تطلق للمستهلكين الذين يقيّمون الثلج بقيمة منخفضة إشارة مفادها بأنّ هنالك ظروفًا خاصّة جديدة قد منحتهم سببًا خاصًا يدعوهم للتنازل عنها للمستهلكين الذين يقيّمون الثلج بقيمة عالية. إنّ الحدس يدفعنا إلى دعم وضع ضوابط للأسعار انطلاقًا من الاعتقاد بالعدالة الاجتماعية، وكأنه سيكون من الظلم ترك مستخدمي الأنسولين يزايدون على شاربي المرطّبات بشراء الثلج عندما ينقص المعروض؛ لكنّ حدسنا هذا لن يجتاز اختبارات المراقبة، فالحالة النموذجية لضوابط السعر تقبل التطبيق عندما يقع الاقتصاد، بشكل ما، تحت الحصار ويثبت المعروض (أو يصبح في حالة غير مرنة)؛ وفي هذه الحالة، وهي أقواها، هنالك مشكلة في التوزيع. ويمكننا أن نقول على نحو تجريدي بأنّنا نظنّ بأنّ النفاذ المتساوي (أي: حصول شاربي المرطّبات في نهاية المطاف على حصّة مساوية لحصّة الآخرين من الثلج) هو أمر عادل بشكل ما. وإنّ مظهر العدالة هذا ليس إلّا سرابًا.

إنّ هايك لا يشكّ مطلقًا بحاجتنا إلى التشريعات أحيانًا، لكنّه يعتقد بأنّ هدف التشريع يجب أن يكون: جعل الأشياء أفضل، لا أكثر عدالة؛ وأن تكون الأشياء أكثر إنتاجية، لا أكثر مساواة؛ وأن يوجَّه التفكير الابتكاري باتّجاه خلق الثروة، لا حبسها. وفي الحقيقة، يدعو هايك إلى أعراف للعدالة الإجرائي الصافي، وقد يتّفق في نهاية المطاف مع القائلين بوجود شيء اسمه النزاهة، إذ قد يقول هايك حينها بأنّ النزاهة الحقيقية تتعلّق بالحرص على فوز الجميع كلًّا بحصّته. ولقد كان هايك يعتبر المجتمع الحرّ هو الذي يجري فيه تقييم الجميع وفقًا لمستوى جودة الأداء، وليس بحسب اجتهادهم بالمحاولة، أي: وفقًا لإنتاجهم، وليس وفقًا لنواياهم.


بيبليوگرافيا

النصوص الرئيسية (بقلم هايك)

  • 1944, The Road to Serfdom, Chicago: University of Chicago Press).
  • 1945, “The Use of Knowledge in Society,” American Economic Review, 35: 519–30.
  • 1948, Individualism and Economic Order, Chicago: University of Chicago Press.
  • 1958, “Freedom, Reason, and Tradition,” Ethics, 68: 229–45.
  • 1960, The Constitution of Liberty, Chicago: University of Chicago Press.
  • 1969, Studies in Philosophy, Politics, and Economics, London: Routledge.
  • 1973/76/79, Law, Legislation, and Liberty, in 3 volumes, Chicago: University of Chicago Pres).
  • 1978a, “Coping with Ignorance,” Imprimis, 7: 1–6.
  • 1978b, New Studies in Philosophy, Politics, Economics, and the History of Ideas, London: Routledge.
  • 1988, The Fatal Conceit: The Errors of Socialism, W. W. Bartley III (ed.), Volume 1 of The Collected Works of F. A. Hayek, Chicago: University of Chicago Press.

النصوص الثانوية

يضاف إلى المراجع الواردة أدناه، مرجع عام هو (Review of Austrian Economics).

  • Boettke, Peter J., 1995. “Hayek’s Road to Serfdom Revisited: Government Failure in the Argument Against Socialism,” Eastern Economic Journal, 21: 7–26.
  • Buchanan, James M., and Gordon Tullock, 1962. A Calculus of Consent, Ann Arbor: University of Michigan Press.
  • Burczak, Theodore, 2009. Socialism After Hayek, Ann Arbor: University of Michigan Press.
  • Caldwell, Bruce J., 2004. Hayek’s Challenge: An Intellectual Biography of F.A. Hayek, University of Chicago Press.
  • Critical Review, 1997. Special Issue on F. A. Hayek, 11: 1.
  • Feinberg, Joel, 1970. Doing & Deserving, Princeton: Princeton University Press.
  • Feser, Edward (ed.), 2006. The Cambridge Companion to Hayek, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Gaus, Gerald, 2007. “Social Complexity and Evolved Moral Principles,” in Liberalism, Conservatism, and Hayek’s Idea of Spontaneous Order, Peter McNamara (ed.), London: Palgrave Macmillan, 149–76.
  • Gaus, Gerald, 2016. The Tyranny of the Ideal: Justice In a Diverse Society, Princeton: Princeton University Press.
  • Gray, John, 1984. Hayek on Liberty, Oxford: Basil Blackwell.
  • Hoy, Calvin, 1984. A Philosophy of Individual Freedom, Westport: Greenwood.
  • Machlup, Fritz (ed.), 1976. Essays on Hayek, Hillsdale: Hillsdale College Press.
  • Munger, Michael, 2013. “They Clapped: Can Price-Gouging Laws Prohibit Scarcity?” See below, under “Other Internet Resources”
  • Nozick, Robert, 1974. Anarchy, State, and Utopia, New York: Belknap.
  • Pennington, Mark, 2011. Robust Political Economy, Northampton, MA: Edward Elgar.
  • Rawls, John, 1955. “Two Concepts of Rules,” The Philosophical Review, 64: 3–32.
  • –––, 1971. A Theory of Justice, Cambridge: Harvard University Press.
  • Schmidtz, David, 2006. Elements of Justice, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2008. Person, Polis, Planet, New York: Oxford University Press.
  • –––, 2016a. “Adam Smith’s Theory of Freedom,” in Adam Smith: A Princeton Guide, Ryan Hanley (ed.), Princeton: Princeton University Press.
  • –––, 2016b. “Are Price Controls Fair?” Supreme Court Economic Review, 23: 221–33. See entry at com
  • Shearmur, Jeremy, 1996. Hayek and After: Hayekian Liberalism as a Research Programme, London: Routledge.
  • Smith, Adam, 1790. Theory of Moral Sentiments, Indianapolis: Liberty Fund, 1984.
  • Tebble, Adam, 2015. Epistemic Liberalism: a Defense, London: Routledge
  • Zwolinski, Matt, 2008. “The Ethics of Price-Gouging,” Business Ethics Quarterly, 18: 347–78.

مصادر أخرى على شبكة الإنترنت

[1] Schmidtz, David, “Friedrich Hayek”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/win2017/entries/friedrich-hayek/>.

[i]     كان هايك يعلم بأنّ مشاكل (الوكيل المسؤول) يمكنها أن تصيب، وهي تصيب فعلًا، البيروقراطيات في القطّاعين الخاص والعمومي؛ وفي كلتا الحالتين يقامر الوكلاء بأموال الآخرين عندما يستطيعون ذلك، ويسعون إلى “الإنقاذ المالي” عندما لا تؤتي مقامراتهم منافعها المرجوّة. وهنا يبرز سؤال نظريّ وعمليّ حول ما إذا مجلس إدارة الشركة الخاصّة أقدر من دافعي الضرائب على احتواء الضرر الناتج عن نزوات الوكلاء والحدّ منه.

[ii]    على الرغم من أنّه يقول: “النظام التلقائي والتنظيم لن يكفّا عن التعايش، لكنّه يبقى من غير الممكن مزج مبدأي النظام هذين كما نحبّ ونشتهي” (Hayek 1973, 48).

[iii]    إذا كانت السلعة متاحة فعلًا في السوق الرسمية فلا بدّ أن السبب يعود لسعرها الباهظ الذي حدّده المخطّط المركزي، والاستثناء الوحيد يحدث عندما يكون المخطّط على قدر جيّد من الاطّلاع يفوق الحدود البشرية إلى الدرجة التي تمكّنه من وضع سعر يتطابق تمامًا مع السعر الذي قد يضعه السوق إذا تركه المخطّط وشأنه. ثمّ يطلق المنتجون إنذارهم: (لا أحد يرغب بسلعتنا!)، فيستجيب القائمون على التخطيط المركزي بدعم السعر، ويشترون بأنفسهم السلعة غير المرغوبة، ثم يتخلّون عنها بأسعار مدعومة للمواطنين الذين أحجموا عن شرائها بالسعر الرسمي. لكنّ المواطنين ينتهي بهم الحال وهم يدفعون السعر الرسمي على الرغم من ذلك، وبشكل إجباري، على هيأة ضرائب تموّل دعم السعر؛ وهكذا فإنّ المواطن لا يبلغ مآربه (كزبون) ويتعرّض للإفقار (كدافع للضرائب) (Hayek 1945, 527).

[iv]   على الرغم من أنّ هايك لا يشدّد أبدًا على هذه النقطة أكثر، فقد يشعر المرء بأنّ هايك كان ينظر إلى هذا التعلّم باعتباره تعلّمًا أخلاقيًا، وليس مجرّد تعلّم اقتصادي. وأنا أشكر أحد المراجعين للفت انتباهي إلى هذه الفكرة.

[v]    للاستزادة حول معايير پاريتو، راجع ما كتبه دان هاوسمان حول فلسفة الاقتصاد، أو ما كتبه برونو ڤيربيك وكريس موريس حول الأخلاق ونظرية الألعاب.

[vi]   أحد الذين راجعوا هذه المادّة الموسوعية سأل عمّا إذا كان هايك يفترض أنّ الهدف من القانون هو حماية حقوق الملكية التي يُعتقد بأنّها سابقة للتشريع. ولست متأكّدًا ممّا إذا كان ذلك صحيحًا، لكنّ هايك لا يطرح هذه الحجّة على حدّ علمي؛ وإن المحاججة ضدّ أيّ افتراض حول الحقوق الطبيعية عند هايك يستند إلى أنّ معاداته لإعادة التوزيع موجّهة بشكل خاصّ ضدّ أيّة عملية إعادة توزيع ضمنية من خلال ضوابط الأسعار.

[vii]   وهكذا فإنّ هايك كان من المحتمل أن يقبل، وربّما تأثّر، بالتحليل الذي جاء به جيمس بوكانن وگوردون تولوك. فالنظام السياسي لا يمكن أن يتطوّر ضمن النوع الصائب من البيئة الملائمة، وذلك لأنّ الريادية السياسية مكرّسة بشكل كبير للتلاعب بهيأة البيئة نفسها، وذلك لخدمة مصالح شخصية. وإنّ التكيّف مع البيئة الملائمة للريادية السياسية يتكوّن من التحوّل إلى مفترس أفضل في لعبة يضع المفترسون قواعدها. ولا شكّ في أنّ السياسي يتعلّم التعاون، لكنّه في الأساس تعاون مع زميل مفترس. وإنّ النظام السياسي ذا التطوّر المستمرّ هو نظام تتزايد فيه هيمنة الشركاتية (أو ما يعرف بمصطلح ازدرائي هو رأسمالية المحاباة، حيث يقوم المدراء التنفيذيون الذين يحابيهم السياسيون باكتساب سلطة فرض الضوابط التنظيمية على منافسيهم)، وهو نشاط ريادي من النوع المدمّر. ونجد لدى بيتكي (Boettke 1995) تفصيلًا لنظرية الخيار العمومي التي وردت بشكل ضمني في كتابات هايك.

[viii]  ليس هذا هجومًا ضدّ فلسفة سياسية كما قد يبدو (Shearmur 1996, 138).

[ix]   يقرّ هايك، ببساطة، بأنّه ليس لديه إلّا القليل ليقوله للمنادين بـ(مساواتية الحالة النهائية) أكثر من أنّه يتوجّب عليهم الاختيار بين (مساواتية الحالة النهائية) من جهة وبين الحرّية والازدهار من جهة أخرى.

[x]    لنفترض بأنّ ليلى تجلس في مطعم تلقّت فيه خدمة ممتازة، في بلد تظنّ بأنّ النادل فيه يحصل على أجره من الإكراميات، ولهذا يجب عليها أن تدفع إكرامية لأنّ النادل قد أدّى ما يستوجب جدارته بالحصول عليها. هنا نتكلّم عن مال لا جدال في أنّ ليلى مخوّلة به، لكنّها مضطرّة لدفعه للنادل الجدير به، لكنّ هذه الحقيقة بشأن ما ينبغي على ليلى فعله لا ترخّص لأيّ مسؤول جدارة أن يقوم بإعادة توزيع المال من ليلى إلى النادل. والأمر الذي يعنينا بشأن واجب ليلى بإعطاء المال المخوّلة به إلى نادل جدير به هو: أنّ القرار قرارها، والحكم لها؛ فهي ينبغي عليها أن تعطي المال، لكنّها وحدها من ينبغي أن يقوم بذلك، لأنّها هي من كان النادل جديرًا باعترافها بخدمته. وحتّى في هذه الحالة فإنّ المبادئ تفرض نفسها، لا بـ(ترجيحها) على تخويل ليلى بمالها، بل بوضعها أمام واجب غير مثالي.

[xi]   يلاحظ تيبل أنّ الخيار بين نظام سوقي والتخطيط المركزي ليس خيارًا بين اللامساواة والمساواة، بل بين نوعين من اللامساواة (Tebble 2015)؛ والفرق بينهما هو أنّه في ظلّ التخطيط المركزي “لا تتحدّد أوجه اللامساواة هذه من خلال تفاعل المهارات الفردية في عملية لاشخصية، بل من خلال قرار السلطة المرجعية الذي لا يقبل النقض” (Hayek 1976a p. 83).

[xii]   لم يكن رفض هايك للضرائب رفضًا للضرائب في ذاتها قطّ، بحدّ علمي، لكنّه كان يبدي قلقًا عامًّا حيالها؛ فالضرائب تعيق الاقتصاد بدرجة ما، وفقًا لأيّ تحليل نيوكلاسيكي قياسي. أمّا أكبر دواعي القلق لدى هايك فينشأ من أنّ تحوّل الضرائب إلى لعبة كرة قدم سياسية (أي: نتيجة غير مستقرّة لصراع مستمرّ) أسوأ من عدم وجودها، إذ يحفّز هذا التحوّل على استثمار موارد ثمينة في معركة مستمرّة صفرية الحصيلة تهدف إلى تغيير المعدّلات باتّجاه ما (وهذه المعركة تصبح أكثر وحشية عندما تنطبق هذه المعدّلات على شرائح مختلفة للدخل)، وهي تضعف قدرة أرباب العمل على اتّخاذ قرارات مطّلعة حول ما إذا كان ينبغي توظيف عاملين لديهم. واللايقين يؤدّي إلى انخفاض الاستثمار، ونتيجة لذلك تبتعد الدورة الاستثمارية عن التشذيب الذي تتعرّض له في ظلّ عملية الضبط الدقيق الكينزية، وتصل إلى أعماق أبعد وأطول أجلًا ممّا عليه حالها في ظلّ أيّ منظومة لحكم القانون.

[xiii]  لا شكّ في أنّ هنالك نموذج اقتصادي بديل؛ فوفقًا لأحد النماذج الماركسية يوجد مشترٍ أوحد للعمل يمكنه إملاء سعر العمالة وخفض الأجر إلى مستوى الكفاف، وذلك ما لم تنظّم العمالة صفوفها وتحتكر بيع العمل فتؤسّس بذلك سلطة مساومة مساوية لربّ العمل.