مجلة حكمة
شكسبير الطاعون

صور الطاعون في مسرحيات شكسبير – ستيفين غرينبلات / ترجمة: أثير الأحمد


في 26 أبريل سنة 1564 للميلاد، في مدينة ستراتفورد البريطانية، وتحديداًدفي كنيسة الثالوث الأقدس، بدأ سجل الرعية بتعميد ولادة شكسبير ؛ حيث سجل النائب جون بريتشغيردل اسم الرضيع: (وليام ابن جون شكسبير) وبعد بضعة أشهر في نفس السجل، لاحظ الكاهن وفاة أوليفر غون وهو خياط متدرب، وفي الهوامش المجاورة لهذه العبارة خربش عبارة (هنا يبدأ الطاعون). في تلك الأيام أودى الوباء بحياة حوالي خُمس سكان المدينة ولحسن الحظ نجى الرضيع ويليام شكسبير وعائلته من الطاعون، إلا أنه عاش طيلة حياته في ظل اجتياحات الوباء المتكررة.

وبسبب الحجر الصحي الصارم وتغير الطقس، تضاءل الوباء ببطء في ستراتفورد، واستأنفت الحياة مسارها الطبيعي، ولكن بعد بضع سنوات عاد الطاعون بشكل مفاجئ بلا مقدمات في جميع أنحاء المملكة،، وتفشى بشكل مخيف، كان الضحايا يستيقظون من الحمى والقشعريرة كانوا يشعرون بالوهن والضعف مع الإسهال والقيء والنزيف، وتورم الغدد الليمفاوية وفي كثير من الأحيان يأتي الموت بعد كل هذا العذاب.

اقترحت البلديات تدابير وقائية لا حصر لها، معظمها غير مجدية ومؤذية، مثل قتل الكلاب والقطط بلا سبب خصوصاً أن المرض كان ينتشر عن طريق البراغيث في وبر الفئران، وقد انتشر اعتقاد أن دخان إكليل الجبل المجفف أو اللبان أو أوراق الغار المحترقة في سخان يساعد على تطهير الهواء من العدوى، وحتى لو لم تكن هذه المكونات متوفرة بسهولة؛ أوصى الأطباء بحرق الأحذية القديمة، ومن هذه المعتقدات الوقائية، سارع الناس للخروج إلى الشوارع لاستنشاق البرتقال المحشو بالقرنفل، لعله يقيهم من العدوى. وعلى الرغم من أن الناس في أيام شكسبير لم يكن لديهم فهم للسبب الحقيقي لـ الطاعون، لكنهم أدركوا أن الوباء ينتشر بسرعة أكبر بسبب الحشود المتجمعة، فكانت المسارح بالتحديد تعد بؤراً خطيرة لنشر المرض.

كان معدل الإصابات في القرى أقل بكثير منه في المدن المكتظة بالسكان؛ حتى أن بعض المدنيين هربوا إلى العزلة في الريف، مع أنهم غالبا مايعودون بالعدوى معهم. وقد اتخذ المسؤولون المدنيون تدابير ما نسميه الآن التباعد الاجتماعي، بعد أن جمعوا البيانات من سجلات الأبرشية، وتعقبوا بعناية الوفيات الأسبوعية المرتبطة بـ الطاعون ، وعندما تجاوزت تلك الوفيات الثلاثين، حظروا التجمعات، والأعياد، ومسابقات الرماية، وغيرها من أشكال التجمع الجماهيري إدراكاً منهم أن العدوى تفاقمت مع ازدياد الحشود.

ولم تدرج خدمات الكنائس ضمن الحظر، فلا يمكن أن تكون زيارة الكنيسة والصلاة سبباً في العدوى، وإن لم يُسمح للمصابين بالحضور، ولكن المسارح العامة في لندن التي جمعت بشكل روتيني ألفين أو ثلاثة آلاف شخص في مكان مغلق، أغلقت وقد استغرق الأمر عدة أشهر قبل أن تنخفض نسبة الوفيات بما فيه الكفاية حتى تسمح السلطات بإعادة فتحها مجدداً.

أما شكسبير فقد كان يتعرض لهذه الإغلاقات بشكل متكرر طوال مسيرته المهنية، وفي مجد أيامه و ازدهار ملكته الإبداعية وفقاً لما يقوله الكاتب ج. ليدز بارو حينها كتب أهم وأعظم مسرحياته (الملك لير) و (ماكبث) و (أنطونيو وكليوباترا ) وتعامل مع هذه الإغلاقات المدمرة اقتصاديًا ككاتب ورئيس للفرقة وممثل مسرحي.

بناءاً على ما لخصه المؤرخ المسرحي ج. ليدز بارول الثالث، فـ الطاعون جائحة لم تزول، تكررت باستمرار وعلى مدى سنوات متتالية بدأً من عام 1582، 1592، 1593و من ثم 1603، 1604، 1606 وحتى 1608-1609 للميلاد. وحين قام بالتدقيق في سجلات الأبرشية الباقية بين عامي 1606 و 1610 فمن المرجح أن المسارح في لندن لم تبقى مفتوحة لأكثر من تسعة أشهر متواصلة. ومن المثير للانتباه أن شكسبير في مسرحياته وقصائده لم يكتب عن الطاعون بشكل مباشر مثل غريمه المعاصر الكاتب توماس ناشي، كما في قصيدته “ترنيمة في زمن الطاعون”:

أيها الرجال الأغنياء، الإخلاص ليس في الثروة

الذهب لا يمكنه أن يشتري لك الصحة

الدواء متلاشي لا محالة

كل الأشياء المصنعة تفقد بريقها

الطاعون بسرعة يتفشى

أنا مريض يجب أن أموت

يا رب ارحمنا

الجمال ليس سوى زهرة

سرعان ماتفقد سحرها

يتدرج  مع الضوء في الهواء

حين تموت الملكات في ريعان الشباب

مثل الغبار الذي أغلق عين هيلين*

أنا مريض يجب أن أموت

يا رب ارحمنا!

أتاح وباء الطاعون مخزوناً قوياً من الاستعارات الدرامية في أعمال شكسبير ، فأصبح خلفية ثابتة تتضح في خطابات شخصياته المسرحية، وأكثر وضوحًا في تعبيراتها المجازية عن الغضب والاشمئزاز. عندما أصيب صديق ميركوتشيو بجروح قاتلة في الحرب بين عائلة جولييت وعائلة روميو، دعى عليهم “ليهبط الطاعون على بيوتكم” و “لتتقرحوا بدمامل الطاعون” وفي مسرحية الملك لير يقول لابنته “قرحة الطاعون والدمامل منقوشة في دمي الفاسد”وتيمون الانطوائي من أثينا يشجع ضيفه “كن كطاعون كوكبي، عندما يفيء على سماء المدينة الفاسدة وينفث سمومه في الهواء” ودعوة كوريولانوس على الرجل الروماني :

“فلتحط عليك عدوى الهواء الجنوبي، أنت عار على روما”

ويبصع كيرولانس على الرومان

“أترى تلك الدمامل ؟!

أترى جسمك المغطى بها؟!

إنها دمامل الطاعون الكريهة

حتى لو تباعدنا أميالاً عكس الرياح

فالعدوى ستنتقل ما بيننا “

كما يمكن أن تتحول إلى تعبير ساخر، كما سخر بيتريس من طريقة صداقة بيندكت:

“ياإلهي! سوف يعلق به كالمرض

و قريبا سيشتعل من الطاعون

والخاطف يركض بجنون الآن

الهي ساعد كلاوديو النبيل

إذا اشتعلت بنديكت

سوف يكلفه ألف جنيه قبل علاجه”

ويمكن حتى أن تستخدم لقتل البهجة، كما هو الحال عندما تعجبت الدوقة أوليفيا من سرعة وقوعها في الحب في مسرحية “الليلة الثانية عشرة” :

“كيف حصل ذلك؟

حتى بهذه السرعة قد يصاب المرء بالطاعون؟

أشعر بكمال هذا الشاب

مع اقترابه خلسة

ليتسلل في عيني

 حسنا، فليكن”

العدوى التي استمرت في إزهاق الكثير من الأرواح تحولت إلى صورة سعيدة للوعة الحب في الكلمة الأخيرة: “حسنا، فليكن” هكذا كان قبول الطاعون كسمة لا مفر منها في الحياة العادية، وماهي إلا علامة الألفة العميقة لتقبل وجود الوباء.

أما عن ظهور الطاعون كحادثة حقيقيّة بارزة في واحدة من مسرحيات شكسبير ، فكانت في مسرحية «روميو وجولييت»، التي كتبها بعد انتهاء تفشي الطاعون عام 1593 مباشرة، فإن الراهب الذي كان من المفترض أن يخبر روميو بأن جولييت ليست متوفاة حقاً وإنما تتظاهر بذلك، منع من نقل رسالته لأنه كان قيد الحجر الصحي مع قس زميل كان يقدم المساعدة للمرضى. وفي النهاية، لا يتلقى روميو الرسالة قط ويقتل نفسه قبل أن تستفيق جولييت.

“خرجت باحثاً عن أخ حافي القدمين

طلبي الوحيد، أن يساعدني

ها هو هنا في المدينة يعود المرضى

عندما عثروا عليه حراس المدينة

شكوا في أننا كنا في الدير معاً

حيث تسود عدوى الوباء

أغلقت علينا الأبواب ولن يسمح لنا بالمغادرة

حتى أن زيارتي إلى مانتوا تعرقلت”

الفرنسيسكان، الذين لم يتبعوا الأوامر خرجوا إما حافي القدمين أو مرتدين الصنادل، حيث كانت من قواعد السفر كثنائي. ومن ثم كان على الرسول تحديد موقع فرنسيسكان آخر في مدينة فيرونا لمرافقته (“طلبي الوحيد،  أن يساعدني”). ووجد هذا الرفيق يزور المرضى، والمشتبه في  تعرضهم للعدوى. ونتيجة لذلك تم وضعهم في الحجر الصحي “حراس المدينة” – أي موظفي الصحة العامة – حبسوهم وإغلقوا الأبواب عليهم.

وبعد إنتهاء الحجر الصحي يعود الراهب لورانس إلى السؤال الرئيسي – “من الذي يوصل رسالتي إذن إلى روميو؟” – ويتلقى إجابة مفزعة:

“لم أتمكن من إرسالها – ها هي مرة أخرى –

لم احصل على رسول لإحضاره،

كانوا مرتعبين من العدوى”

ليست فقط الرسالة التي لم تصل إلى روميو في مانتوا، ولكن الراهب المحصور أيضاً لم يتمكن من الحصول على أي شخص حتى لإعادة الرسالة إلى الراهب لورانس وتحذيره من المشكلة. وقد ضاعت الآن الفترة الزمنية الحاسمة، ولن يتلقى روميو اليائس كلمة مفادها أن جولييت ليست ميتة بل نائمة فقط. هذا التشابك في الظروف المؤسفة يؤدي إلى انتحار كل من روميو وجولييت. إن الطاعون الذي لا يكاد يمثل في المسرحية، لا يتسبب في وفاتهم ولكن الاضطراب الاجتماعي العميق الذي يجلبه في أعقابه – والذي نقله في اندفاع التفاصيل التي تبدو غير مرتبطة بشكل مباشر – لعب دورًا مهمًا بشكل غريب، فتسبب الحجر الصحي في الوقت المحتوم من حرمان العشاق من أن يجمعهما القدر بل أودى بهم إلى مصير مأساوي.

في ربيع عام 1606 عرضت مسرحية شكسبير (ماكبث) لأول مرة بعد أن اندلع الطاعون في الصيف وأجبر المسارح على إغلاق أبوابها لمدة سبعة أو ثمانية أشهر، وكان هناك مقطع واحد في المسرحية ينقل بوضوح كيف يكون الشعور عند سقوط جميع سكان المدن في قبضة الموت الأسود (الطاعون) خاصةً أن الذكريات لا تزال قريبة من الوباء الرهيب الذي حدث خلال العامين 1603-04م ، حيث بدأ في وقت ما بعد وفاة إليزابيث الأولى فدفع خليفتها الملك الاسكتلندي جيمس إلى تأخير دخول لندن وتأجيل الاحتفالات العامة لتتويجه.

تستعرض سطور شكسبير بلداً مصدوماً بالكاد يعرف نفسه، حيث الابتسامات الوحيدة كانت على وجوه أولئك الذين لم يتبعوا الأخبار بطريقة أو بأخرى، وكان الحزن يجتاح العالم :

“يا للهول، مسكينة هذه البلاد

خائفة .. وبالكاد تعرف نفسها

لا يمكن أن نسميها أمنا.. إنما قبرنا

حيث اللاشيء ..حيث العدم

الجاهل وحده من تراه يبتسم

حيث يتنهد ويأن ويصرخ مزمجراً في الهواء

يبدو الحزن العنيف حاضراً بلا مقدمات

صوت ناقوس الرجل الميت، نشوة حديثة

هل هناك صعوبة في طلب حياة جيدة

تنتهي قبل الزهور في قبعاتها

تموت أو بالكاد تمرض “

في لغة شكسبير ، كانت كلمة “حديثة” تعني شيئًا مبتذل كما هي شخصية المسرحية (العبرة بالخواتيم )

القائلة “قيل أن المعجزات تمضي، لدينا فلسفتنا في جعل الأشياء العصرية والمألوفة أشياء خارقة للطبيعة ومن ثم فإننا نصنع تفاهات من الرعب، ونخرط أنفسنا في معرفة ظاهرية، في حين ينبغي أن نخضع أنفسنا لخوف مجهول”

أما “النشوة” تعني درجة متطرفة من الشعور، حالة وجود متوازية مع الذات

لذا بالنسبة لشعب مصاب بـ الطاعون ، الحزن العنيف يأتي ليبدو عاطفة شائعة “نشوة حديثة” لقد أصبحت المعاناة الشديدة مألوفة لدرجة أنها مبتذلة – وهي تسكن تماماً في الأوبئة المتكررة التي لاحظناها من خلال الكثير من أعمال شكسبير .

الكلمات هي التقاط لمعنى تجربة العيش في وجود لا مفر منه من مرض وبائي، والاستماع باستمرار لأصوات مشؤومة من أجراس الكنيسة، ولكن الشيء الغريب في سطور مسرحية “ماكبث” هو أنها لا تهدف إلى وصف بلد في قبضة الطاعون الشرير، وبدلاً من ذلك تصف بلداً في قبضة حاكم شرير. وقد سُئلت شخصية روس التي تلقي هذه الأسطر عن كيفية وقوع فارس اسكتلندا تحت قيادة ماكبث، الذي هو اسمياً ملك البلاد الشرعي، ولكن كانت الشكوك من اكتسابه شرعية المُلك على شفاه الجميع، فهو وصل إلى مكانته الممجدة من خلال طرق ملتوية: “أخشى أنك لعبت بشكل شيء”

وقد أثبتت الأحداث أسوأ الشكوك في منصب ماكبث، فقد طارد أعدائه بلا رحمة وخان أصدقاءه، بعد تشجيع زوجته وأفكارها الشيطانية.

يبدو أن شكسبير قد شارك غريمه”ناشي” الشكوك في إيجاد أي حل طبي لـ الطاعون ، ومن خلال ما نعرفه عن علوم عصره كان هذا التشاؤم مبرراً، لذلك ركز شكسبير اهتمامه على طاعون مختلف، طاعون أن يحكم زعيم مخادع، مفلس أخلاقيا، غير كفء، غارق في الدم، وفي نهاية المطاف قائد مدمر للذات.

المصدر


*هيلين في إلياذة هوميروس هي أجمل نساء الأرض قاطبة خطب ودها جميع ملوك الإغريق وتسابقو للفوز بقلبها