مجلة حكمة
شذور شجية

شذور شجية

الكاتبالعربي القاسي

      الكتابة صدر دافئ يشعرني بأنني ما زلت موجودا رغم عكرتة الزمن.. أحيانا أحسها امرأة منكسرة تنتحب. لكن هي تعرف كيف تصنع من الدمع بحرا يهديها أجمل الأصداف. إنها كل العالم وغير العالم ! فهلا طاوعني القرطاس والقلم فقط لأرسم سطورا على بساط هذه اللوحة الإبداعية الساحرة.

   .. وأنا أمعن الطرف في ثنايا هذا البستان القصصي اليانع الماتع، إذا بأحداث جلّى تنتصب أمام سبيل الأحلام الوردية وسط صخور الحياة القاسية العاتية.. فقد تعاظمت أرزاء الدهر وأهواله، واستشرت حيل الدجل والدغل والطغيان والفجور والمداراة كأنها العملة الرائجة المنعشة لسوق أهله المتغوّلين.. ومن ثم سمج وجه الحياة، وتكدّر صفو العيش الكريم، وكفىء إناء القيم السمحة.. ليتم بذلك تحقّق نبوءة الأتقياء الملهمين السابقين.. كيف لاوقد” أخذ الباطل مآخذه، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطاغية، وقلّت الداعية، وصال الدهر صيال السبع العقور، وهدر فنيق الباطل بعد كظوم، وتواخى الناس على الفجور، وتحابوا على الكذب، وتباغضوا على الصدق. فإذا كان ذلك كان الولد غيظا، والمطر قيظا، وتفيض اللئام فيضا، وتغيض الكرام غيضا. وكان أهل ذلك الزمان ذئابا، وسلاطينه سباعا، وأوساطه أكّالا، و فقراؤه أمواتا…”(1)

   هكذا نلفى هذه المبدعة اليافعة قد لامست عين الفتنة التي ترجف بالجميع فوق أديم الأرض، وعايشت تقلبات هذا الزمن العنود الذي نهد فيه الأشرار الطّغام، وعاثوا فيه فسادا ودمارا لم يأمن غائلته أحد.. بل إن كيد هذه الأخطار الماحقة يتعاظم شره في كل حين وآن بشكل يصعب كبحه وإلجامه.. وهذا ” لأن الزمان قد استحال عن المعهود، و جفا عن القيام بوظائف الديانات وعادات أهل المروءات (..) وقد كان الناس يتقلبون في بسيط  الشمس، أعني الدّين فغربت عنهم، فعاشوا بنور القمر، أعني المروءة  فأفل دونهم، فبقوا في ظلمات البرّ والبحر، أعني الجهل وقلّة  الحياء. فلا جرم أعضل الداء، وأشكل الدواء، وغلبت الحيرة، وفقد المرشد، وقلّ المسترشد، والله المستعان”(2). وبالمثل، عاينت هذه الشابة – الطموحة للأعالي- فجائع الموت وذاقت مرارة اللوعة والفراق لأحبّة وأصدقاء أعزاء رحلوا عنا على حين غرّة إلى مستقرّ الأرواح الخالدة. فأعقبها ذلك عبرات وحسرات حرّى ممزوجة بتأملات عميقة في حقيقة الحياة الدنيا مادامت” منزل قلعة، وليست بدار نجعة.. خيرها زهيد، وشرّها عتيد. وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب. فما خبر دار تنقض نقض البناء، وعمر يفنى فناء الزاد، ومدة تنقطع انقطاع السير. اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبكم، واسألوه من أداء حقه ما سألكم. وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعوا بكم..”(3).

   أمام هذه الأمواج المتلاطمة في مسرح الوجود، انغرست في نفسيتها المرهفة قناعات فلسفية عميقة مستمدة من مدرسة الحياة القاسية السائرة وفق نواميس القيادة الإلهية العلوية.. وأكسبتها رؤية إشراقية استشرافية بعيدة الغور.. بعدما عركتها الأيام وحنكتها تجارب الزمان.. لذلك اصطحبت القلم في حلّها وترحالها، بل اتخذته الموئل الآمن والحميم الملازم الكاشف لدياجير الشجن العميق المنحفر في أخاديد الذات المشروخة.. فلا بدع إن جاشت خواطرها وفاضت من خلجاتها نفثات وجدانية طافحة متناغمة وجلال المواقف المريعة والمشاهد الحياتية المذهلة، علها تجد بلسما يخمد جذوتها الملتهبة. وعليه استوت تقاسيم إفاضاتها على النحو التالي:

 – “صهيل الروح”: قصص يعكس مواقف وجودية مستترة حقا مشفوعة بنظرات تأملية عميقة في ملكوت الأكوان، وكأن رانيا- ذات القلم الملهم – قد قبست من أنوار العرفان حتى ارتفعت بها إلى الإيقان بصانع الموجودات بعدما خبرت بعضا من أسرار الحي الباقي الذي قهر العباد بالموت. فجبروته الذي أودى بالخالة الحنونة على حين غرة وخلّف براعم بريئة (خمس بنات وابن كسيح صغير) بلا رحمة قد حدا بها إلى إثارة تلك المعارف الكامنة، وإبراز تلك الأسرار الباطنة بعد انقشاع غيوم الأوهام واختراق حجب الخيال. فكل امرئ عاقل، سليم البصيرة، نقي السريرة.. يعيش لحظات عميقة صادقة مع الذات التائهة في مدلهم الحياة الصاخبة. فيناديه حينئذ ذاك المنبّه الوجداني الباطني كي يتورع وينزجر عن التمادي في مذاهب الغي والضلال، ويردع تلك الخوانس التي يجرفه تيارها إلى غياهب الهلاك ويعقبه الحسرة والندم على ما مضى وانقضى. ف”كم واثق بها فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي أبهة قد جعلته حقيرا، وذي نخوة قد ردته ذليلا. سلطانها دِوَل، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبِر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام. حيّها بعرض موت. وصحيحها بعرض سقم. ملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وموفورها منكوب، وجارها محروب (…). أفهذه تؤرثون أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟ فبئست الدار لمن لم يتّهمها ولم يكن فيها على وجل منها. فاعلموا-وأنتم تعلمون – بأنكم تاركوها و ظاعنون عنها”(4)

– “الوحشة” :  ثمة حضور سافر لتلك اللمسات الوجدانية العارمة المتمثلة في اجتياح مشاعر الوحدة والوحشة والانكماش الشديد، فضلا عن طعنات الأنام اللئام بخنجر الخيانة المسموم: “.. لماذا دائما أنا كبش الفداء الذي يتلقى الطعنات؟ لماذا يا ربي.. لم أعد أتحمل، أريد الرحيل نحو عالم جديد، عالم لا أعرف فيه أحد سواك يا رحمان، عالم تنتهي فيه مأساتي..“. و من ثم مولد رغبة دفينة في أن تبرح المدينة المسكونة بالوجع والفجع والضجر و الرتابة، مدينة تخيم عليها غرابيب التشاؤم والضيق الشديد. لذا فإن النفوس المقروحة الملدوغة بهذه السموم الناقعات تتوق دوما إلى الفرار من شبح الموت المعنوي البطيء. فتشرئب حينئذ إلى العويل والصراخ في منتدح الفيافي والفلوات “.. أود في بعض الأحيان أن أقصد الصحراء للصراخ فقط، هل هذا جنون؟..أحس بالملل، بالتكرار، لاجديد..”، بل إلى الاستغاثة برحمة البارئ الرحيم كي يكلأها و يشملها بذخائر رحمته وكنوز رأفته بدل التوجه إلى معادن الخيبة ومواضع الريبة.. فهذه النفثات الصوفية الوجدانية نابعة من قلب مفؤود برّح به الأسى. فلم يجد غير النوح والبوح فوق بساط القرطاس والقلم كي يستضئ بأضواء حكمته وتنجلي سحب التيه والعمى عن مملكته..

 – “اليأس” : كلمة قاتمة قاتلة للمعنويات ونابعة من مملكة النفس الباطنية المضطربة (” نيأس لأننا آمنا به وبالفشل.. فاليأس يأتي من داخلنا ثم ينمو و ينمو حتى يكتسح المجال كله.. فعند اختفاء بريق الأمل، عند تزايد حدة الضباب ،عند اختفاء القطرات التي في قلبها نبض مليء بالحياة، نيأس. ألهذا السبب نيأس فعلا؟؟). ومبعث سيطرته هو سيادة الأمراض المعنوية الموبقة: الوصولية، الاستبداد، الانتهازية المقيتة، الأنانية البغيضة… كما أن أسبابه تختلف باختلاف الأقدار الإلهية العظيمة كاليتم الذي سرق بهجة الحياة من الطفلة الصغيرة البريئة برحيل والديها مبكرا، ونضب بعدهما معين الحب والحنان والأمان.. رغم محاولات صاحبة اليراع البارع التخفيف من وطأته..”عند تذكر حالتها، أحس فعلا بمأساتها”. وبالجملة، فمأتاه من قتل نعيم الأحلام والآمال واغورار ماء الحياة.

– “أمطار” : لوحة فنية سنيّة غاية في الإيحاء والجمال الأخّاد.. صورة مزركشة بألوان حزينة معذّبة متعطشة لأشعة بيضاء علها تكشف مكامن الألم ولحزن العميقين لتحل محله نسائم الغبطة والانشراح والسرور والحبور..

   هكذا انتشت الأنفس المكروبة بشلال الخيرات الإلهية العميمة (الأمطار المتهاطلة بغزارة) لتمسح مخايل اليأس والقنوط عن جبين الوجود الحزين. إلا أن مملكة هذا القلب اللطيف لم تتخلص بعد من توابع القلق المبرح. فقد ظل متربعا على منصة التأمل والتفكر في تقلبات الزمان وعجائب الأيام التي لا تعبأ بأحزان الولاّه والحيارى البرءاء التائقين دوما إلى زمن الصفاء والنقاء والسؤدد والشِّيم الحميدة ” فيالك من أيام متقلبة تبحثين عن شخص تحطين فوقه الرحال . بعد فينة وأخرى يتغير الحال، وينقلب الكبر لأيام الصغار..”. بل إن فضاعة اللؤم والخبث المنغرس في سجايا النفوس المريضة بحب الجاه والسلطة والرياء وحب الظهور تحت الأضواء أفضت إلى تهشيم مرايا الكينونة الوجدانية الباطنية وأورثتها مشاعر الحسرة واليأس المريع (“مراكب أحزاننا ثائرة. فنحن مسافرون من دون حقيبة. فقدنا نبضات الابتسامة.. أيام الزهور بيعت عندما بعنا أيام طفولتنا. فقد جرح فؤادنا وهدمت أبراجنا العالية التي بنيناها حجرة حجرة كي لا تقع. إلا أنها ضاعت من بين أيدينا.”). فلا غضاضة إذا في شجب أشباح الأحداث المتناسلة لأنها أرواح جوفاء فقدت شرفها ونصاعتها بما اجترحته أيادي البشر السابحة في عالم الماديات إذ لا ترعوي عن تدبير المآمرات الخسيسة التي تحيكها أفاع خبيثة تغلي أحشاؤها بسم زعاف يفتك بالضعاف المعوزين بلا رحمة ولا هوادة “مالك و مالنا يا أحداث؟ دعينا و شأننا…).

 -“ريح وسحاب”: أضمومة تحمل في طياتها أسئلة ممضّة مترعة بالإحباط المريع والتشاؤم المنضغط عقب تمكن نوازع اليأس والتعاسة والكآبة ولعنة الفشل المطارد للقسم النموذجي المتفرد” الثانية باك فيزياء”. كتلة متماسكة مشتعلة حماسة وتجلدا وجدا دؤوبا يستقي دائما من منهل العلم والعمل. إنها كلمات معزية لجراحات الفصل الدراسي المفؤود. قسم يضم تلك النجوم الشقية التي تلملم جدائل البدر وتمتطي وميضا يحلق بأجنحة من حلم يتثاءب في نشوة ومرارة، ويخط ّ بأنامله على رمال الذاكرة كلمات مضمّخة بالأمل والتحدي الوهاج “نحن لسنا قلقا، أو توترا، أو فشلا، أوعجزا أو خمولا.. نحن أمل و إصرار، رغم تأزم الأمور، وعقدة الأحوال..”.  

    موازاة مع ذلك، فان هذه النفس الملهمة تستمد قوتها الباطنية من تربة الحياة الاجتماعية المباشرة. فتلقائيتها وحيويتها العذبة مرآة حية لتلك التفاعلات الاجتماعية بين الأفراد والأسر والجماعات قريبة كانت أو قصيّة. فهي مجلى صاف لما يصدر من سلوكات متباينة. لكنها محكومة في معظمها بأخلاق فجّة ممجوجة تجتويها الطباع السليمة.. فلم تعتم أن رسمت بريشتها ملامح الصراعات الاجتماعية والمماحكات الفردية الجارية التي تطفو على السطح بشكل يومي..

      في هذا الصدد، نقشت في ذاكرتها لوحةٌ فنية حزينة تنبعث منها تباريح اللوعة والأسى. ومن أفنانها يصدح أثير سيمفونية قلقة نابعة من الأعماق المحمومة.. مؤدى ذلك سديم أسف وشجو على سلوكات قصّرت في حقوق الأبوين السمحين اللذين حدبا على العش الأسري الصغير.. عش يأوي عصافير مغرّدة بأعذب الأصوات ناظرة إلى سماء السناء والمجد والفضيلة، إذ تتكئ على وسائد الجد والكد والعمل الدؤوب.. وحفاظا على ديمومة كينونته الشمّاء، بادرت صاحبة القلب الطاهر إلى استعطاف الأم الرؤوم وطلب الصفح عن تلك العبرات الحزينة الحرّى متحملة ألم الجفاء والعناد من فلذة كبدها “أعلم أن بداخلي طفلة صغيرة حساسة لطيفة… إلا أنني أحاول إخفائها. لا أعلم لماذا؟..”.وبالمثل لم ينبس الأب الحنون ببنت شفة تعكر صفوها، بل أسلس القياد إذ يحمل بين جنبيه معاني الفضيلة والصداقة واللطافة والوقار والأخوة الحقة… فضلا عن تلك المناوشات العابرة التي تنشب بين أخويها “انتصار” و “يوسف”، الفتى المذلل لكونه آخر عنقود غضّ طريّ (“آسفة”).

     ووعيا منها بضرورة إقامة بنيان الكيان الاجتماعي على أركان صلبة متينة قوامها تعظيم الأمومة وصيانة عرض الأنوثة من أسباب الضعة والمهانة، فإنها لم تلبث أن أصدرت صرخة مدوية لرفع الظلم عن المرأة المقموعة واستعادة معنى آدميتها وأنوثتها الفطرية في زمن صال فيه السبع اللّكع العقور صولته وأوقعها في مداحض الرذيلة والمهانة والاستغلال البشع. ذلك أن المرأة نواة المجتمع وعماد بنيانه ومرآة كينونته ومحضنا جامعا لمعاني الصبر والنضال والكفاح والعصرنة.. خدمت الإنسانية جمعاء منذ انبلاج فجر البشرية الأولى. ولايزال حالها كذلك (“المرأة”). كما لم يفت صاحبة الأدب الجمّ  مناسبة عيد الميلاد الغالية  إذ ودّ فيها القلب الطاهر استمطار شآبيب البهجة والسرور على اليوم العظيم الذي رأى فيه نور الوجود(الميلاد)، وأن يقدح زناد البصيرة المستنيرة، المجلّلة هيبة وحكمة، والمبددة لهواجس الغباوة والعمى..عسى أن تظل هذه الأماني البهية والكلمات البيانية عرفان الجميل وتذكار الدليل(قصيدة “عيد ميلاد سعيد”).

    وأمام صنوف الضغط النفسي الرهيب الذي يغشى إنسان اليوم، والذي يعصف بأسباب سعادته وهنائه إذ يعيش في وطأة تغيرالأحوال، وتبلبل البال، و تزاحم الأشغال.. نجد مبدعتنا أيضا ولهانة مخمورة بسحر الفضاءات الرحيبة المترامية اللامتناهية. نفس حالمة ميّالة إلى السفر في الأجواء البعيدة عبر رحلة ممتدة بعيدة الآفاق، رافلة منتشية بظلال الحرية الوارفة (أرافق كل الطائرات في الفضاء.. أحلق هنا و هناك، وغايتي إيجاد مقصوص الجناح..اختفى لونه البراق و شكله الدائري، اختفت النجوم من سماء “حلمي”) كي تسعف الكائنات الضّعاف:  الطيور المرضى المرتعشة ( مقصوص الجناح بين الطيور..). وفي ذلك رَوْحٌ للرُّوحِ المنهكة، وخلاص لها من أثقال الهموم والغموم التي أرخت بسدولها الشفيقة على كل مكان.. ومن ثم الانغماس في بحبوحة العيش الهنيء حيث الدعة ومنتهى السكينة والطمأنينة ” انتهى الليل المخيف، الظلام الحالك والهدوء الجميل.. الضوء الساطع والدفء الباهر، البحار، البقاع، السماء الزرقاء،القرى،المدن..”(قصيدة “حلمي).

      وبالمثل، فإن ما تفيض به كلماتها الشعرية الرقيقة من حرارة صادقة تشي برغبة متوهجة في العودة إلى ينابيع الفطرة الصافية الخالصة من أوضار النفاق والرياء والخذلان و البهتان.. فطرة طبعية حيث الشمائل الحميدة ومكارم الفضيلة: التناغم والانسجام والوئام والأمن والسلام والود والإخلاص وصنائع المعروف كلها.. عناوين سمحة مثالية مغروزة في السجايا، في السيرة النقية الأولى التي جُبِل عليها معشر الخلائق قاطبة. ذلك ما تنبس به اللازمة “اشتقت”، المكرورة على طول القصيدة بشكل لافت يستوقف النظر.. وتوحي به أيضا مؤثثات الطبيعة المادية الملموسة المكشوفة للعيان(الزيتون، الطين، المنبع، الهضاب، الجبال…). وهذا يضمر رغبة عميقة في الانعتاق من أسر العادات الاجتماعية المهيضة التي أفسدت الحرث والنسل، وخدشت بسببه نضارة الطبيعة وغضارتها المنسابة.. فهلا هجرتِ دهاليز الشؤم والسأم والوحشة، ورحمتِ أنفاسك الطاهرة المترنحة تحت معاول الضيق النفسي الشديد !. ( قصيدة شعرية: روحي). ذلك أن هذه الذات الفتية قد ضاقت درعا بين ظهراني الناس، وظلت لردح طويل تائهة في سراديب التناقضات الاجتماعية المعتمة المحيّرة.. لكن لن تنهار البتة إذ تحمل في بواطنها بذور الممانعة والمقاومة والعدّة اللازمة الخليقة بتحقيق ما تصبو إليه (قصيدة ” أنت “).

   ومهما جدّ الجد واشتد الخطب، يظل القلم الملهم – ترياق النفوس الملهمة المكلومة- خير مسلّ ومعزّ لها مما ينزل من كرائه الأمور وحوازب الخطوب. ومن ثم تنخرط في مواصلة درب الحياة، الحافل بالشدائد والمتاعب، حيث شلال التأوهات العميقة يتدفق مغزارا تناغما وهول المشاهد الوجدانية المؤثرة (آه آه آه..).قلم مسلّ عن غياب الخلّ الوفيّ، وخفوت أنسه ولطفه- إن لم نقل خذلانه وإحجامه-  سطعت أنواره ليكشف أدغال النفس الفتية المترعة بخوالج فسيفسائية عديدة: الإلهام، الإصرار، معانقة الأمل الهارب للعيش في أكنافه، كاشفا بطاقة الهوية الوجدانية، وواصفا ما يعتريها من هواجس وخلجات متنوعة.. فأحيانا يبسطها في حلة متغيرة بالليل إذ يسرع إليها الذبول والخمول.. وأحيانا أخرى يقدمها وهي تنتشي بصدى الأحداث الماضوية المفعمة حيوية وحركية وإقبالا على الحياة والعمل بجذل  وبهجة عظيمين (روعة السنة الماضية، واستعادة شريط الصبا الجميل بفاس..). وعليه اكتسبت مناعة قوية يغديها ألق اليفاعة المشفوعة ببصيرة ثاقبة وحكمة صادقة من خلال إدامة التأمل العميق  في ملكوت الحياة الحافل بالأسرار والألغاز العصيّة.. فلا غرو إن اتقدت في أنفاسها براكين الحماس الفولاذي الوهاج واشتعل في جنباتها عطش معرفي فريد لا يحدّه حدود، ولا تحتويه سدود.. وهو يتوق بقوة جبارة إلى تسلق القمم الشمّاء بإصرار سيزيفي قاهرلا يعرف الملل أو الكلل(أنا قادرة. و يمكنني فعل المستحيل..لا يستطيع أحد..إلا أنني سأفرض نفسي كما أني.. حتى لو تطلب هذا جهدي بأكمله.. فأنا إن شاء الله سأصل إلى حيث أريد، سأحقق أمنياتي ..بحلاوتها)(وتجلّدي). إنه فوران وجيشان ضارٍ يتلجلج في مملكتها الوجدانية الأبية.. ويفيض حبا وودا وإخلاصا وصفاء تجاه الخلائق جميعا. كيف لا وهو ينهل من سلسبيل الذكر الحكيم: “وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه، وبيت لا تُهدَم أركانه، وعزّ لا تهزم أعوانه (…) هو الناصح الذي لايغش، والهادي الذي لا يضلّ، والمحدث الذي لا يكذب.. فاستشفوه  من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم. فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر و النفاق، والغيّ والضّلال..”(5)

    هكذا نلفى، في خضم هذه الضميمة السردية المثيرة، نلفى أنفسنا أمام فلسفة وجودية حية خبرت حقيقة الحياة الملغزة، واكتوت بنار مرارتها المتأججة.. فما ينبغي أن يستبد بنا الوهن والكدر والقنوط أو أن نسير في سرب المغالين في التشاؤم المبالغين في النقمة على الوجود. ف”ما دامت الدنيا غلابا، فكن أنت الغالب. وما دام الموت قضاء لا مفر منه، فلا يهممك أمره وليهممك أن تنال من الحياة أقصى ما ينال فلان، يدركك الموت سيدا خير من أن يدركك مَسُودا.”(6) لذلك يتحتم أن تكون أرواحنا وأعمالنا مسكونة دوما بنغمة الرجاء والأمل المشفوعة بالجد والعمل حيث تنتشلنا من بين نيوب اليأس والبُسر والطالع النكد. إنها الشريان الحيوي الذي يحيي موات الهمم الخاملة، ويفتق نسمة التفاؤل في دواخلنا، بل ويستحثنا دوما على التشبث بأهذاب الحياة ومباشرة العمل بعزيمة لا تلين ولا تستكين. ففي هذا الزمن المتعفن، زمن الكل يلعب فيه دورا فوق خشبة الحياة. ومن لا يتقنع بالنفاق والخداع يرمى إلى مقاعد المتفرجين وينادم أطياف الحزن والألم. فيه بدت هذه النغمة المفقودة اليتيمة كنجمة لامعة تتوسط كبد السماء وتسري في الليالي المدلهمة لتضع الأحلام اللذيذة تحت وسائد الأطفال وتوزع عليهم باقات ورد مزيّنة بجدائل القمر.. وما أبلغ قول أحدهم مناديا:” أيها الرجاء! ما أحوج الناس إليك وما أسهل طريقك إليهم، كذلك عهدنا بألزم حاجات الأحياء: الهواء والماء والضياء. ولعمري أن حاجتهم إليك لأكبر، وأن طريقك إليهم لأسهل وأيسر. لقد تخطيت بهم سدود الموت فمددت لهم من ورائها رواقا رحيبا ينعمون بانتظاره قبل أن ينعموا بجواره، وفتحت لهم أبواب السماء فغمرها الإنسان بأحبابه وأنصاره، واتجه إليها بصلواته وأفكاره، واستأنست له أعالي الكون وأسافلها فكأنما هو منها في قرارة داره. و كأنما أنت الأثير المفروض لا يخلو منه فضاء، بل أنت أثير الروح لولاك لما أشرق عليها ضياء، ولما جال في نواحيها جمال السماء (…) فحيث يسود القنوط فهناك عذاب أليم وشيطان رجيم. و حيث يقيم الرجاء فهناك جنة نعيم، ووحي من الله وتسليم.”(7)

    وأخيرا، وليس آخرا، تم ترصيص هذه المعاني الجليلة في قوالب لغوية سمحة ثرة، إذ عمد هذا اليراع البارع إلى انتقاء تعابير بيانية غاية في الوضوح والسلاسة والانسيابية التي تنسجم وجلال المشهد النفسي المؤثر، قيد التوصيف والتكشيف. فالعبارات على براءتها ونصاعتها و انسيابها حُبلى بمعان عميقة تميط اللثام عن أسرار الأيام وأفاعيل الأنام التي لا يهدأ لها بال.. إنها لغة شاعرية يغديها الخيال الخصب الذي يجعل الأفكار والمعارف تنداح وتسبح في فيض زاخر من  الدلالات المتنامية(عدت لك يا ورقتي، أنت الصدر الحنون الذي يضمني. أنت من يفهمني ولا يرهقني.. متي سينتهي عذابي؟ ظلم، ألم، عذاب../ .. هيا يا قلمي، حان وقت ضمك بين أناملي../ ..إلا أنني أملك قلمي، يكتم أسراري و يواسيني ويشجعني. أحكي له همومي و يجيبني بحبره البراق. فقدت القلم وذهب معه كل شيء ../ .. إننا نصوغ الأيام والليالي أسرارا نؤكد الكآبة بين سطور وفواصل الأفكار. إنها أمواج الحياة، مد وجزر الحياة. مركب مثقل بالاعتقادات يسبح فوق المياه الزرقاء، وتلتهم الأسماك حروفها الصغار، طحالب تكبر بقدرة الرحمان. تستفيد منها أضعف الكائنات../..عندما تمنّيت حلمت. وعندما حلمت نمت في أعماق الأوهام. وعند النوم تحرك اللاشعور، واللاشعور أوهام. فانتظرت الأوهام، والأوهام منبع اليأس. إذا لماذا نيأس؟…). من هنا نجد هذه الأنشودة الشجية ذات المباني البهية الأخاذة زاخرة بالمجازات والكنايات والتشابيه.. وتلك لعمري مقدرة جديرة بالاحترام والتشجيع لأنها تكشف حقا تشرب قريحتك المتحفزة للصور البلاغية الرشيقة، وكذا القدرة على تطويعها للمقامات الدلالية التي تبتغي التعبير عنها بكيفية وافية شافية. وهذا مطمح نبيل ينشده كل طالب متعلم إذ يحتاج ذلك إلى كد وجهد جهيد دؤوب لتداركه وتملُّك ناصيته.

    فهنيئا لك على نبوغك الشاعري المبكر، ومزيدا لألمعيتك وعبقريتك من التشظي والتألق المرموق في محافل الكلمة المقدسة !


 

ملاحظة:

  • * إن العناوين الموضوعة المكتوبة باللون الأحمر بين قوسين أو بين ” ” هي عناوين للقصص والأشعار المبثوثة داخل المتن.
  • * الفقرات المستشهد بها مقتبسة من المتنين القصصي والشعري للمؤلفة ذاتها.
  • [1]) ” نهج البلاغة “، ج (1) شرح الشيخ : محمد عبده، ط: صيدا بيروت لبنان. ص150.(الشرح اللغوي:الفنيق: الفحل من الإبل/كظوم: إمساك و سكون. غيظا: لشبوبه على العقوق/قيظا: لعدم فائدته. فإن الناس منصرفون عن فوائدهم والانتفاع بما يفيض الله عليهم من خير إلى إضرار بعضهم ببعض. ما أشبه هذه الحال بحال هذا الزمان /تغيض : تغور)
  • (*)هذا العنوان من وضعي الخاص لمجموعة  قصصية ألفتها إحدى المبدعات اليافعات رانيا شقيقار. وقمت بدراسة مضامينها دراسة تحليلية متفحصة.
  • 2)”الإمتاع و المؤانسة“، أبو حيان التوحيدي، الطبعة الأولى (لونان)، بيروت- لبنان  197 .ص: 199-198
  • 3) “نهج البلاغة“، ج (1) شرح الشيخ : محمد عبده، ط: صيدا بيروت لبنان. ص:158.(الشرح اللغوي: قلعة: من لا يثبت على السرج، من يزل قدمه عند الصراع، أي هي منزل من لا يستقر/ النجعة: طلب الكللأ في موضعه، أي ليست محط الرحال ولا مبلغ الرمال /عتيد: حاضر.
  • 4)” نهج البلاغة “، ج (1) شرح الشيخ : محمد عبده، ط: صيدا بيروت لبنان. ص157 -156.(الشرح اللغوي: فجعته: أوجعته بفقد ما يعز عليه/ أبهة: عظمة/ النخوة: الافتخار/ دول: جمع دولة، هي انقلابالزمان / رنق: كدر . أجاج: ملح شديد الملوحة / الصبر: عصارة شجر مر / سمام:  هو من المواد إذا خالط المزاج أفسده فقتل صاحبه / رمام: جمع رمة. وهي القطعة البالية من الحبل، أي ما يتمسك به منها فهو بال منقطع / موفورها : ما كثر منها /منكوب : مصاب بالنكبة ، وهي المصيبة، أي في معرض لذلك / محروب : إذا ساب ماله .)
  • 5)” نهج البلاغة “، ج (1) شرح الشيخ : محمد عبده، ط: صيدا بيروت لبنان. ص:  226-180.(الشرح اللغوي: اللأواء: الشدة)
  • 6) عباس محمود العقاد“الفصول”، مجموعة مقالات أدبية واجتماعية وخطرات وشذور، ط: بيروت- صيدا، ص: 14.
  • 7)عباس محمود العقاد“الفصول”، ص:243.
  • المراجع:
  • -“المتن القصصي” للمؤلفة رانيا شقيقار:”صهيل الروح” / “أمطار”/”المرأة” / “اليأس” / “آسفة”  /  “وتجلدي”..
  • -“المتن الشعري” للمؤلفة رانيا شقيقار:” روحي” / “أنت” /”عيد ميلاد سعيد”/ “حلمي”..
  • – ” نهج البلاغة “، ج (1) شرح الشيخ : محمد عبده،ط: صيدا بيروت لبنان.
  • – “لإمتاع والمؤانسة”، أبو حيان التوحيدي، الطبعة الأولى (لونان)، بيروت- لبنان 19.
  • – “الفصول”، عباس محمود العقاد، مجموعة مقالات أدبية واجتماعية وخطرات وشذور، ط: بيروت- صيدا.
  • ملاحظة:
  • * إن العناوين الموضوعة المكتوبة باللون الأحمر بين قوسين أو بين ” ” هي عناوين القصص والأشعار المبثوثة داخل المتن.
  • * الفقرات المستشهد بها مقتبسة من المتنين القصصي والشعري للمؤلفة ذاتها.