مجلة حكمة

الشرط ما بعد-الليبرالي

ما بعد-الليبرالي
الكاتب بارام ايدين
ترجمةصفوان داؤد

في أواخر شباط فبراير، عندما كانت حرب بوتين على أوكرانيا قد بدأت لتوها وبدا أن التوقعات الجيوسياسية للعالم تتغير كل ساعة، عدت إلى مقال كتبه سيغموند فرويد بُعيد اندلاع الحرب العالمية الأولى. «أفكار حول اوقات الحرب والموت [] Thoughts for the Times وينقسم إلى جزأين. في بداية جائحة كوفيد COVID العالمية، انتقلت إلى الجزء الثاني من المقالة، “موقفنا من الموت”، في محاولة للتصالح مع ما قد يعنيه الموت بالنسبة لنا اليوم. الآن، غدوت مهتماً أكثر بالجزء الأول، “خيبات أمل الحرب”.

أردت منظورًا تاريخياً وتجريبياً حول وضعنا. أردت أن أعرف ما هو ذلك الشعور أن يقف الشخص المؤسس للتحليل النفسي والحرب الشاملة تندلع أمام عينيه وأن أرى مفهومه للإنسانية يتحول بل يتعثر. لم يكن في نيتي إجراء مقارنة، لأنني أتعاطف مع اقتراح فرويد بأننا ”نتأثر بشكل غير متناسب بشرور هذه الأزمنة ولا يحق لنا مقارنتها بشرور الأزمنة الأخرى التي لم نعشها”. لكني كنت آمل أن يساعدني فرويد في قراءة الأوقات – زماننا – وقياس تداعيات الأحداث الجارية على السياسة والمجتمع.

منذ عامين، لم يعطني أي إجابات محددة. مثلما لم أحصل على إجابات حول العيش في ظل جائحة في رواية لينغ ما [] Ling Ma  الرائعة «Severance» «القطيعة» عام 2018؛ لا شيء عن أشكال جديدة للسلطة من عمل شوشانا زوبوف [] Shoshana Zuboff: «The Age of Surveillance Capitalism» «عصر الرأسمالية المشرفة» عام 2019؛ لا شيء يتعلق بالعيش فيما اعتدنا تسميته الرأسمالية من عمل ماكنزي وارك McKenzie Wark: «Capital is Dead: Is this Something Worse?» «الرأسمالية ميتة: هل هذا الشيء الاسوأ؟» عام 2019؛ ولا شيء كذلك عن النشاط المناخي والكارثة المناخي في كتاب كيم ستانلي روبنسون Kim Stanley Robinson: «The Ministry for the Future» «وزارة المستقبل» عام 2020. في الواقع، لم أحصل على إجابات من أي من المقالات والنظريات والأعمال الروائية الرائعة التي قرأتها خلال العامان الماضيان، مثلما كان نسيج المجتمع يتلاشى، والاستجابة المنسقة لمكافحة فيروس مستوطن تدفع السياسات المؤسساتية لإكمال مسارها النيوليبرالي ووضع معايير هيكل مجتمعي جديد يتجاوز الرأسمالية كما نعرفها. 

لكن بالطبع، سبب القراءة ليس مجرد العثور على إجابات. الانخراط في (اللا) خيال السردي دائما ما يتمفصل على عدة مستويات. هناك هروب من الواقع: طالما أنني أقرأ، لست مضطرًا لكتابة أفكاري الخاصة وأثبُت نفسي في أي موقع محدد. ربما ينطبق هذا على تفاعلنا مع كل تمثيل مكتوب نواجهه. هناك أيضًا إنتاج المعرفة: مع كل فقرة جديدة ثمة وعد بمنظور جديد، وفهم أعمق للأشياء التي تهمنا، والإمكانية في حدوث تحول. ومن ثم هناك موقعية القارئ: بعد كل فقرة، هناك فرصة للتوقف للحظة والتركيز نحو السرد والأفكار التي تم تناولها.

عندما يعمل الهروب من الواقع وإنتاج المعرفة والموقعية في انسجام تام، فإن القراءة توفر منظوراً للهروب نحو التاريخ البديل للينغ ما، حيث أصابت عدوى فطرية خيالية غالبية البشرية وتسببت في سقوط الناس في حالة من الشلل، كنت قادرا عندها استيعاب خطورة جائحة عالمية. وعلى نحو ما فإن متابعة الشخصية الرئيسية كانديس تشين في نزهاتها الانفرادية وسط مدينة نيويورك قد أعطت عمقًا لحالتي. 

مكنتني زوبوف كذلك من الاعتقاد بأن التنظير لأشكال جديدة من السلطة أمر صعب ولكنه ضروري.  عملت مقالة ماكنزي وارك التأملية مثل الاستبيان الذي يستحثني التفكير في الحاضر، وأخذ احتمالية أننا ربما انتقلنا إلى ما هو أبعد من الرأسمالية نحو شيء أسوأ. وتقريباً جميع أعمال كيم ستانلي روبنسون، ليس أقلها روايته الأخيرة «وزارة المستقبل» (2020)، تستحث رؤى حول ما يعنيه إحداث التغيير الاجتماعي من خلال استيعاب أن الصواب والخطأ متشابكان مع بعضهما البعض بقدر الاحتمال الممكن والمستحيل.

مع فرويد، أدهشني انعدام الأمن الوجداني وخيبة الأمل العميقة التي يظهرها في الصفحات الأولى من مقالته. ويظهر أن هناك شكوكا حقيقية في تحليله للحالة. إنه نوع من الشك وانعدام الأمن الذي يمكن أن أتعاطف معه. لقد اختبرت نفس المشاعر ونفس الشكوك وانعدام الأمن عندما واجهت طوفان الكوارث السياسية والاجتماعية والبيئية في العقد الماضي أو نحوه.  يكتب فرويد أن ”الفرد الذي ليس هو نفسه مقاتلا وبالتالي لم يصبح ترسا في آلة الحرب العملاقة، سوف يشعر بالارتباك في رؤيته وفعاليته”. أصبح الارتباك، واستحالة الحصول على تأثير حقيقي، والإحساس بفقدان القوة السياسية للفرد سائدا مرة أخرى.

شيء واحد تعلمناه من كوفيد، بقدر ما تعلمناه من تداول المعلومات (المضللة) على وسائل التواصل الاجتماعي والاستخراج المستمر للبيانات، هو أننا جميعا بطريقة أو بأخرى عالقون في آلية الحياة الاجتماعية الرتيبة والقابلة للعدوى. لكن المخاوف مختلفة هذه المرة.  حيث لا يزال فرويد يعتبر نفسه مراقباً نزيهاً، لم يعد يبدو هذا خياراً في الجغرافيا السياسية والسياسات سريعة الانتشار كذلك الأمر في سياسات وسائل التواصل الاجتماعية اليوم. قد نحمل في داخلنا نفس الارتباك الذي عبر عنه فرويد في بداية الحرب العالمية الأولى، لكن لا يمكننا إنكار تواطؤنا غير الطوعي. نشعر بأننا عالقون في شبكة متعددة الطبقات تدور وتدور في كل اتجاه. أكثر ما يزعجنا هو أننا تلك التروس التي تجعلها تدور. حتى أننا نتساءل عما إذا كنا لا نزال رعايا بعد الآن.

وفي شبكات وسائل التواصل الاجتماعية، نستخلص معطيات ونؤمن مضيفين محتملين من أجل معلومات مضللة توضع بعناية لخدمة تداعيات سياسية بعيدة المدى. على الرغم من إدراكنا تماماً كيف أن هذه العملية المزدوجة من الاستخراج والمعلومات المضللة تسير بلا هوادة، إلا أننا نشعر بأننا مضطرون للانخراط إلى ما لا نهاية في ابتداع أشكال من التصميم الذاتي الرقمي، وخلق شخصيات تتعارض حتما مع شعورنا تجاه أنفسنا وكيف نود الانخراط والتفاعل مع الآخرين.

يُقدم لنا هذا كمشروع مفتوح، بمعنى أن جزءا منا لا يزال متمسكاً بفكرة أن الإنترنت مليء بالوعد الاجتماعي والإمكانات السياسية. ويُترك تأثير النت والاعتراف الاجتماعي دائماً وعداً لقادم الايام. كنا نعلم في أعماقنا أنه خلف الظروف الحالية لصناعة السخط عبر الإنترنت وتجميع البيانات، أن مطلب الانخراط في المجال العام الرقمي يعمق فقط الشجون الخفية للفراغ الوجودي، معززا بثبات أملنا بالتفريج النفسي أمام الاستياء ويغوينا بالمُثل الفاشية. والنتيجة هي أننا لسنا حزينين بالتصميم فقط، كما يقول جيرت لوفينك، ولكننا أيضًا تم اسرنا، استعمارنا، تطويقنا، واستخلاصنا، وتجريدنا من إمكانياتنا وإفراغنا – اجتماعياً وعقلياً وسياسياً.

أصبحنا خلال السياسات سريعة الانتشار للجائحة العالمية، أشبه بتروس تسمح للمرض بالانتشار داخل المجتمع.  على مضض وغالبًا عن غير قصد، نحمل فيروس كوفيد وننقله إلى الأشخاص الذين نتواصل معهم.  نحن لا نجعل الآلة تعمل فقط، غدونا نحن الآلة. ومع ذلك يبدو أننا لا نملك السيطرة عليها.  إذا كان هناك شعور واحد اليوم يحدد موقفنا، فهو هذا الرابط المزدوج: شعورنا بالعجز والمسؤولية الكاملة. كأفراد، نشعر أننا مجردين من أي قوة سياسية حقيقية.  لكن في الوقت نفسه، أعاد كوفيد الوعي بأن كل إجراء نتخذه، وكل إيماءة صغيرة نقوم بها، يمكن أن يكون لها عواقب بعيدة المدى. يبدو من الصعب الجمع بين هاتان الإدانتان بنجاح، وهذا ما يفعله معظمنا.  إنه شكل نادر من الرياضة العقلية، تُرهقنا حتى النخاع.

وبشكل لا يختلف عما هو في وسائل التواصل الاجتماعي.  هناك أيضًا شعورنا بالعجز والمسؤولية. عنوان «القطيعة   ملتبس بشكل مذهل.  تشق كانداس تشين طريقها عبر مجتمع يستسلم ببطء لحمى «شين. نظرا لعدم وجود أقارب لها في الولايات المتحدة، فإنها تبقى في نيويورك وتقوم بعملها في شركة لنشر الكتاب المقدس. تدور أحداث القصة في نسخة بديلة من عام 2011، حيث لا تحدث حركة «احتلوا وول ستريت» [] أبداً وظروف التوظيف أكثر إجحافاً، وتدور القصة أيضا حول صعود وسائل التواصل الاجتماعي ومن خلال مدونتها «شبح إن واي» «Blog NY Ghost» تتخيل كانديس انهيار المجتمع من خلال تصوير المتاجر والشوارع المهجورة. 

في وقت لاحق، عندما غادرتْ نيويورك وانضمت إلى مجموعة من الناجين، بقيادة مشاكس من الغرب الاوسط يدعى بوب، انخرطت المجموعة في مناقشات طويلة حول ما فعله الإنترنت وفيسبوك بنسيجنا الاجتماعي.  يقول بوب خلال إحدى محادثاتهما الليلية حول نار المخيم: “إن التواجد على الإنترنت يعادل العيش في الماضي”. بالكاد يتم ذكر كلمة “القطيعة” نفسها، لكن جميع شخصيات لينغ ما تكافح من أجل القطيعة عن ماضيها.

كانت كانديس نفسها تكافح من أجل انفصالها عن الصين، حيث عاشت طفلة حتى هاجر والداها إلى الولايات المتحدة.  قرب نهاية الرواية، حيث تستسلم مجموعة من الناجين ببطء لحمى «شين»، تفترض كانديس أن العدوى قد تكون ناجمة عن الحنين إلى الماضي. مع تقدم القصة، يبحث الناجون الآخرون بقلق عن ملاذ داخل ماضيهم.  ولكن عندما وجدت نفسها حاملًا، فإن حياة كانديس تمتد إلى المستقبل، مما يمكّنها من المقاومة.

”القطيعة” هو ما يحدث أثناء جائحة عالمية في مجتمع تم تفكيكه بالفعل من قبل الدولة النيوليبرالية. عبر عزلنا داخل عوالمنا الخاصة، فصلنا عن القوام المجتمعي الغني والمعقد الذي يتيح الحياة المشتركة، يتم الآن ترحيل مهمة التنظيم الاجتماعي بالكامل إلى الدولة النيوليبرالية. خلقت تلك الدولة النيوليبرالية نفسها التبعات القانونية والسياسية لشركات التكنولوجيا الكبرى لتصبح دولة داخل دولة، أو بشكل أكثر دقة دولة ما بعد الدولة تغتصب حياتنا الاجتماعية عن طريق ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي. نحن حالياً منفصلون عن بعضنا البعض ونعمل بسلاسة داخل شبكة هائلة من آليات استخلاص البيانات والسياسات السريعة الانتشار والمعلومات المضللة المُهيكلية.  مرة أخرى، هذا الربط المزدوج. أدت العاصفة المثالية للسياسة سريعة الانتشار والشبكات الاجتماعية الرقمية المملوكة من شركات التكنولوجيا الكبرى متعددة الجنسيات إلى عملية تحول في كل من الرأسمالية والمجتمع. لقد استنفدت النيوليبرالية مجراها والفاشية عائدة مع الانتقام. وها هو الحنين إلى الماضي يطل ويزدهر.

في «عصر رأسمالية المراقبة» (2019)، تعبر شوشونا زوبوف عن رؤية مماثلة ابتداءً من موقف ديمقراطي ليبرالي. تمثل شبكات التواصل الاجتماعي نمطاً مختلفاً من القوة في العمل في المجتمع. وكتبت أن “القوة الأداتية تهدف إلى تنظيم المجتمع ورعايته وضبطه لتحقيق احتشاد اجتماعي متماثل، حيث يحل ضغط المجموعة والسياقات المبرمجة محل السياسة والديمقراطية، ما يطفئ الواقع المحسوس والوظيفة الاجتماعية للوجود الفردي”[]. 

عند قراءة هذه السطور الآن، بعد عامين من الوباء، تبدو أن محاولة زوبوف لتحليل الظرف الحالي دون الوقوع في شرك الانقسام الخاطئ بين الفاشية والليبرالية قد واجهت تحدياً جديداً. نعم، نوع جديد من السلطة يعيد هيكلة المجتمع. ونعم، يعد الاحتشاد الاجتماعي جزءا من الاسلوب الذي تعيد به شركات التكنولوجيا الكبرى إعادة هيكلة الحياة الاجتماعية، مسترشدين بإمعان رغبتهم في الاستخراج الخوارزمي. لكن في ظل الظروف الحالية، قد يكون الوقت قد حان لوضع وجهات النظر الليبرالية حول الديمقراطية والفردية على المحك.

في حاضرنا ما بعد الرقمي سريع العدوى، لست متأكدا من أنه يمكننا الاحاطة بنجاح بما حدث من الاعتماد على الفكرة الليبرالية أن “الإنسان [كذا] ذو كينونة تقدمية”، وفق تعريف جون ستيوارت ميل الكلاسيكي لليبرالية في كتابه «On Liberty» (1859)، بدلا من ذلك، نجد أن الفاشية قد تكون استوطنت الليبرالية، وتلعب على المقدمات المنطقية لها، وتحرضها بشكل هزلي ضد مثلها الديمقراطية.

بصرف النظر عن الاحتشاد الاجتماعي، فإن شبكات التواصل الاجتماعي، بمساعدة السياسات سريعة الانتشار المُدارة من قبل الدولة والمستمرة، بارعة بشكل لا يصدق في تأجيج الخلافات. في هذا السياق، فإن القلق من أن المجتمع يتم “تنظيمه وتوجيهه وضبطه” بواسطة وسائل الإعلام الكبيرة يأخذ معنىً جديداً. وقد استحوذت عليه الحركات الفاشية حول العالم في الوقت المناسب، في الوقت الذي يزيد الكثير منها القلق بشأن فقدان حضور الفردية، فقط لدمجها مع مشيئة هوياتية تنتجها بنفس القدر وسائل التواصل الاجتماعي وهذه لمفارقة أخرى. إنه يستحوذ بشكل هزلي على إمكانيات شبكات التواصل الاجتماعي ويستخدم إمكاناتها كسلاح لنشر المعلومات المضللة لإثارة السخط والشعور الزائف بالفردانية (العنصرية) وسراب الطائفية السوية (والعنصرية بنفس القدر). إنه لأمر رائع ومخيف أن نتبع العقدة المستعصية التي تربط الليبرالية بالفاشية.  وأنا لست متأكدا أنها محض صدفة.

يبدو أن المثالية الليبرالية للفردانية السياسية تتعارض تماماً مع رغبة الفاشية العنصرية داخل الجماعة، لكن تاريخ الليبرالية السياسية يشير إلى خلاف ذلك. وبعيداً عن الحقوق التي يُفترض أنها غير قابلة للتصرف للفرد الليبرالي، كان هناك دائماً صراع حول من وما الذي يمكن أن يدّعي الحق في أن تؤخذ في الاعتبار كموضوع سياسي وأن يتم تضمينها فيما يسمى بالمجتمع. تم دفع النباتات والحشرات والأشجار والحيوانات والفطريات والهواء والماء والتربة والغالبية العظمى من البشرية إلى ما وراء خط ترسيم الذاتية السياسية واختزالها إلى مادة خام – مادة ميتة لقمة سائغة في الحرب ضد الطبيعة. هذا هو جانب الاستعمار البيئي المظلم لليبرالية.

على المستوى القصصي يتجلى ذلك في حياة وعمل جون لوك (١٦٣٢-١٧٠٤). يمكن القول إنه أحد الشخصيات المؤسسة لليبرالية السياسية، في عمله «الأطروحة الثانية عن الحكومة» «Second Treatise on Government» (1689)، أعرب لوك عن عقيدة الليبرالية الرسمية، وهي أن العبودية “ضد حقي في حريتي”. لكنه كان أيضاً سكرتيراً للوردات الملاكين في كارولينا وكان يمتلك أسهماً في شركات تجارة الرقيق. يجادل بدهاء في طريقه للخروج من هذه المفارقة الظاهرة، ويقول في أطروحته أن الأشخاص المُستعبدين هم “أسرى تم أسرهم خلال حرب عادلة” وبطريقة ما ماتوا بالفعل، بعد أن “فقدوا حياتهم”. إنهم ببساطة “لا يمكن ان … يعتبروا أي جزء من المجتمع”. على نفس المنوال تم دفع المادة الميتة إلى ما وراء خطوط ترسيم الحقوق الفردية غير القابلة للتصرف، في حرب استعمارية بيئية تتجاوز الحريات الفردية.

أضفت الفاشية طابعاً عنصرياً على هذا التفسير. مع تحول جائحة كوفيد إلى جزء مستوطن داخل المجتمع، وسعت الفاشية معركتها نحو الولوج إلى السياسات سريعة الانتشار، وحشدت ضد حملات التطعيم ونظمت تداول المعلومات المضللة حول الصحة الشخصية والعامة. لكن هذه الفاشية الهزلية (وإن كانت قاتلة) أصبحت ممكنة فقط لأن الدولة الليبرالية قد اقتطعت مساحة استثنائية لشركات التكنولوجيا الكبرى، مما سمح لها بشق طريقها إلى الحياة اليومية وإعادة صياغة نسيج التفاعلات الاجتماعية. في ظل هذه الظروف، تتغير نظرية المعرفة الاجتماعية لدينا. والحقيقة قد عفا عليها الزمن.

كما اقترح صديق لي، الفيلسوف الفرنسي فرانك شوراكي Frank Chouraqui، في محادثة حديثة، يصبح الأمر مسألة “تشبع الأفق المعرفي” لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بأي معلومات (مضللة) مناسبة.  ويتم ذلك ضمن حالة غير جدية، من خلال التركيز على مشاركة المستخدم لبناء عالم داخل الوسط نفسه، وليس من خلال مراجع واقعية أو صادقة. في هذه العملية، يصبح الأفراد نقاط استخراج للبيانات. عند هذه الحد، تكون المُثل الليبرالية متاحة للاستيلاء عليها، وتشغيلها من قبل الفاشية ما بعد الرقمية.

ربما هذا شيء جديد حقاً. ربما يكون حتى شيء أسوأ بكثير، كما تدعي ماكنزي وارك في كتابها «رأس المال ميت؟» «Capital is Dead?» تتفق وارك مع لينغ ما على شيء واحد على الأقل: النضال الحقيقي هو “العيش في عصرنا”، كما تقول وارك في الفصل الختامي من كتابها. في ذلك الوقت – وهذا ما يقال في عصرنا – قد يكون هناك قوة أداتيه تعمل. ولكن بقدر ما هو قمعي، بقدر ماهي غير جدية، مُستخدمة إمكانيات وسائل التواصل الاجتماعي لدفعنا ببطء إلى ما وراء الرأسمالية الليبرالية نحو شيء آخر.

ما يجعل مقال فرويد عن الحرب والموت يستحق القراءة ليس فقط أنه منفتح على شكوكه الخاصة. إنه قادر على تعبئة شكوكه من أجل “تدمير الوهم”، على حد تعبيره. يشعر فرويد بأنه مضطر لإعادة النظر في فهمه للأفراد والمجتمع. ويلاحظ أن افتراض التنوير بأن البشر نبلاء وصالحون لم يعد قائماً، كذلك الافتراض بأن الحضارة تقدمية بطبيعتها.   

أين يتركنا ذلك؟ هل هناك أي أوهام للتدمير؟ وما الذي قد يعنيه عدم قبول الشك وانعدام الأمن كجزء من وضعنا الحالي، وإنما استخدامه فعلياً كنقطة انطلاق للتخلص من بعض المفاهيم الخاطئة؟ كان المجتمع السياسي الليبرالي قائما على فكرة أن الطبيعة هي الآخر. أكثر من ذلك، على وجه الدقة، لم تكن محسوبة حتى على نسق الحضارة، بالتالي لا يمكن توريثها أياً من الحقوق. على هذا المنوال، تم تصور الطبيعة على أنها عامل خارجي يمكن من خلاله طرح إمدادات لا نهاية لها من المواد الخام. مع كارثة المناخ المتفاقمة وتفشي جائحة كوفيد، لا شيء يبدو ذو مصداقية أقل من ذلك.

 بعيداً عن الخيال الفاعل للموضوع الليبرالي، تظهر أشياء أخرى كثيرة كعوامل سياسية: الفيروسات والحشرات والممرات المائية والمعادن والجزيئات. واحدة من أكبر الأوهام التي دمرها كوفيد والوباء العالمي هي فكرة أن المجتمع منفصل عن النظام البيئي الذي يتداخل فيه. نحن بحاجة إلى طريقة مختلفة للعيش معا، حيث تأخذ العوامل غير البشرية دورها في المجتمع، مثلها مثل العوامل السياسة البشرية التي هي حاضرة بالفعل.  

وسوف يتطلب ذلك منا إعادة تصور الوكالة السياسية على النحو الذي يربط بين قضايا اضطراب المناخ، والسياسات سريعة الانتشار، والقوة الأداتية؛ لنبقى دائماً على اطلاع على نقاط التحول غير المتوقعة، كي نتمكن من كبح النموذج الليبرالي وازدواجيته الفاشية.

ما قد تبدو عليه إعادة التصور هذه يتم استكشافها في عمل كيم ستانلي روبنسون «وزارة المستقبل» « Ministry for the Future» مُركّب من أوراق السياسة الخيالية ، والتاريخ البديل ، وتكنولوجيا الخيال العلمي الخضراء، ومقالات قصيرة وقصص حول تدمير المناخ والتأثير المدمر لشركات التكنولوجيا والطاقة متعددة الجنسيات ، تركز الرواية في المقام الأول على الحياة المهنية لماري ميرفي ، وزيرة خارجية أيرلندا السابقة التي تتولى منصب رئيس وزارة المستقبل ، منظمة فوق وطنية مقرها في زيورخ تم تكليفها بتنسيق الجهود الدولية للتخفيف من حدة الكوارث المناخية والتكيف مع المناخ.

كواحد من جهودهم المركزية، تقوم الوزارة بإنشاء عملة مشفرة، عملة الكربون. وفي جهد آخر، تطور المنظمة بديلاً لمنصات التواصل الاجتماعي الخاصة القائمة. نظامهم الجديد، الذي بدأته وزارة المستقبل، يسمى YourLock . إنه يضمن نزاهة البيانات الكاملة كما يعمل أيضاً كمنصة للمعاملات المالية، متكاملة مع عملة الكربون المشفرة. على أرض الواقع، ستحتاج المنصة والعملة المشفرة الى معجزة حتى ينطلقان، لكن هذا خيال وحقيقة أنها تعمل في وزارة المستقبل ليست سبباً لانتقاد الرواية. على العكس من ذلك، يجب أن تكون سبباً للنظر بتمعن لماذا استطاعت العمل. لكي يضرب سوق عملة الكربون، تحتاج ماري ميرفي إلى مساعدة البنك المركزي الصيني، والتي تحصل عليها بفضل الفرص الجيوسياسية. يبدو أن الوزارة محظوظة كي ينجح YourLock بسبب تعطل وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة الرئيسية لبضعة أيام، يبدأ المستخدمون في الانتقال إلى YourLock ، الانتقال جاذ أيضا بسبب تسهيلات حقيقة ناجمة عن أن المنصات تسمح لك بإجراء المعاملات المالية. 

هل هو الحظ؟ لإدراك الأهمية السياسية لوزارة المستقبل، من الأهمية بمكان الانتباه إلى ما لا يتم سرده، ولكن يتم التلميح إليه فقط. إلى جانب سياسة ماري ميرفي، هناك زيادة في النشاط المناخي الذي يحد من الإرهاب، ومعظمه من قبل مجموعة تسمى ”أبناء كالي”. مراراً وتكراراً، يشير السرد إلى أن المجموعة قد تكون على اتصال وثيق مع الرجل الثاني في قيادة ماري، بادم.

في مرحلة معينة، تقترح ماري أن الوزارة تحتاج إلى جناح أسود للعمليات السرية. لا يبدو أن شيئا يأتي منه، ولكن منذ تلك اللحظة تزداد حركات التمرد الإرهابية. وتشمل القرصنة والقضاء على منصات التواصل الاجتماعي الخاصة في اللحظات الحاسمة. ثم هناك ربط السياسة المدنية، مع الانتهازية المالية، مع تحولات في الجغرافيا السياسية، وعلى الأرجح، مع العمليات السوداء. من المؤكد أن مورفي وفريقها يسجلون عددا من النجاحات الحاسمة. والنتيجة هي أن “المستخدمين قد يكونون في طور التحول إلى نوع جديد من مواطني العالم. جنسية «غايا»، أو ماذا لديك. مواطن الأرض، عضو مشترك، مواطن عالمي. كوكب واحد. أمنا الأرض”.

النقطة التي تحاول وزارة المستقبل توضيحها هي أننا لسنا بحاجة إلى التفكير في كل شيء عند البحث عن شكل مختلف من المواطنة أو الوكالة السياسية. بدلاً من ذلك، بدءاً من تعقيد وضعنا، يبدو حاسما الربط غير الجدي للقضايا التي نواجهها: تأثير منصات التواصل الاجتماعي على نسيجنا الاجتماعي، والتحولات الجيوسياسية، واضطراب المناخ والسياسات سريعة الانتشار. نحن بحاجة إلى طريقة للخروج من هذا، دون التصرف كالفاشية والاستسلام لها. هذا واضح جدا.

نشرت هذا المقالة على موقع «مؤسسة الثقافة الاوربية» «Eurozine» بتاريخ 27 مايو آيار 2022. المصدر