مجلة حكمة
دودة الغريب

دودة الغريب: عن صناعة الغريب الثقافية وروائحه – محمد الضامن

يستثير وضع الغريب في الثقافة بكونه غريبا العمل على إدماج روحه من خلال محاربة أشكال التطرف في الثقافة، وإنتاج أشكال حضور أوسع للظاهرة البشرية، وعملية التواصل الإنساني. لقد ظهرت فكرة التآخي مثلا في التاريخ الإسلامي العربي عبر توسيع فكرة العيش المشترك دينيا من خلال ترميز فكرة الأفضلية دينيا، وستعبر الآية:

(يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر، وأنثى وجعلناكم شعوبا، وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) 

عن لحظة تبدل للقيم التفاضلية في سياق صراع على القيمة، والمكانة في المجتمع، حيث كان العرب رافضين لفكرة مساواة عبيدهم، ومواليهم بهم. غير أن آية أخرى ستجعل من النقاش حول المساواة في المجتمع المسلم في حالة إشكالية حين نقرأ الآية (٣٢) من سورة الزخرف:

(أهم يَقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون). 

تدور سورة الزخرف حول نقاش عقائدي مع مجتمع مكة، وتتعرض في هذا السياق لجدل المكانة في المجتمع حيث تعقب الآية التالية:

(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون). 

هذا الجدل القرآني يحيلنا على الظاهرة كما نقرأها في المروية التراثية حيث صعد النقاش طوال قرون تأسيس الثقافة الإسلامية. فمن الروايات التي تحيل على العصر الصحابي الذي اعتمد كمصدر تأسيسي للعقيدة والثقافة الإسلامية ما يروى عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله لسلمان الفارسي بعد إسلامه، وهي من مرويات ابن اسحاق في سيرته:(لقد رضينا بك عبدا لله) فقال له سلمان: إذن زوجني ابنتك. لكن الخليفة أشاح بوجهه عنه ولم يرد عليه جوابا!.

وكذلك حديث:(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). 

يعبر عن عمق هذه الفكرة في سياق صراع جدلي لقيمة الهوية بعد دخول قوميات زاحمت العرب في الإسلام!. وأيضا حين يجادل أبو حنيفة من هذا المنطلق على أن الأعجمي العالم أفضل من العربي الجاهل حتى لو تفاضل العربي في النسب. يعطينا هذا التشكل المختلف للفكرة ملمحا عن ظروف تاريخية، واجتماعية كانت مقلقة أدت إلى إنتاجها، تارة في لباس تهدئة؛ كالتعارف كما تشير الآية، وتارة في ترميز الأفضلية في مكتسبات رمزية كان الغريب يعمل على تشييدها، وتعزيز قيمتها في الحياة؛ كالتقوى، والعلم. فهذه الأفكار تم إنتاجها في سياق كان العرب مارسوا فيه عنفا طبقيا تجاه الفرس، وغيرهم من غير العرب. نقرأ صدى ذلك الصراع بين فضيلة العلم، والنسب على لسان ابن جني أحد رموز النحو العربي، وأول شارح لديوان المتنبي، والمتحدر من أصول رومية يقول  ـ عن معجم الأدباء للحموي ـ مفتخرا بنسبه للعلم:

فإن أُصبح بلا نسبٍ     فعلمي في الورى نسبي

إن استحضار ذلك المشهد وردات الفعل العنيفة التي تشكلت فيه ظاهرة(الشعوبية) على ذلك الطرد، والنبذ سيعطينا ملمحا عن الظرف الاجتماعي، والتاريخي الذي ربت فيه هذه الفكرة. فتحت هذا العنف الرمزي في غالب الوقت، سيعمل الغرباء على ضخ القيمة الرمزية للتمسك، وممارسة التدين في الحياة، كما عبر البروز، واكتساب فضيلة العلم، والتقوى. وقد أنتج هذا بدوره رغبة العرب في إعطاء نسبهم لمواليهم حين يبرزون في علم، ويُذاع اسمهم في الناس بغية الرفع من شأن القبيلة بعد تغير قيم التفاضل، ونشوء مكتسب جديد في الحياة الاجتماعية المتبدلة التي كان يدفع بها الغرباء؛ لإزاحة قيم القبيلة العربية المتعالية عليهم، والرافضة لحضورهم. وما أكثر العلماء الذين تذكر سيرهم بأنهم موالي تنسبوا للقبائل التي دخلوا فيها، فيما يعرف في التراث الاخباري (بالموالاة) حيث يرجع هذا التنسب غالبا إلى وقوع آبائهم، أو جدهم الأعلى في الأسر منذ الفتوحات وعلى رأسهم ابن اسحاق صاحب المروية النبوية الأساس!.

لذا سيأتي في سياق الإسلام كمنظومة ثقافية مشيدة الحدود تأكيد المتصوفة ـ وهم غرباء مطرودون من قبيلة الفقه ـ بأنهم يدينون بدين الإنسان مهما كانت ديانته من كونه نابعا من واقع تغربهم عن التقاليد العامة للمجتمع، في مسلك الحياة كما في طريقة اتباع الدين، والتفكير فيه. لذلك يؤكدون على وحدة الأديان من حيث هي تدعو، وتتوجه لحقيقة واحدة، وأن هذه الحقيقة مكنوزة في قلب كل إنسان والتي تعمل التقاليد الصوفية على تهيئة الإنسان على إدراكها. وهذا أحد أسباب طردهم من منظومة الإسلام بوصفهم مارقين، ومشركين!. لقد صرح ابن عربي في أبيات شهيرة كيف أنه كان لا يقبل صاحبه المخالف لدينه، لكنه توصل لأن يدين بدين البشرية الذي هو دين الحب!. يقول ابن عربي عن ذلك:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي      إذ لم يكن ديني إلى دينه داني

وقد صار قلبي قابلا  كل  صورة       فمرعى  لغزلان   ودير   لرهبان

وبيت  لأوثان    وكعبة     طائف       وألواح  توراة  ومصحف  قرآن

أدين  بدين  الحب  أنى توجهت       ركائبه  فالحب  ديني وإيماني

لقد اتخذ من من موضوعة التوفيق بين الدين، والعقل جسرا لبناء هوية لا ترتكز على انتماء الدين لعرق ما وهذا ما يبرز في صنيعة الفارابي. الفلسفية. وهذه كانت سيرة الغزالي أيضا الذي جمع بين الفقه، والتصوف حيث يقول عنه إدريس شاه في كتابه (المتصوفون) نقلا عن البروفيسور حتي: (أن محمد الغزالي ودون أحد سواه، هو الذي تمكن من التوفيق بين المحمدية (الإسلام) وبين العقل…وأرسى أحكام العقيدة الإسلامية، تلك التي تتوجه إلى البشر كافة). يتحدر الغزالي من أصول إيرانية، مما يحيلنا للتفكير في الخلفيات اللاواعية لغربته التي كانت وراء توجيه ظهور التفكير نحو التوفيق بين الإسلام الذي هو ديانة عربية في الأساس، وبين العقل الذي هو غريزة في كل إنسان!.

كان الغزالي كما يخبرنا إدريس شاه يتمتع بقدرات ذهنية عالية لذلك: (كان قادرا على أن يقيم الدليل على الحقيقة الجوانية للديانة والفلسفة بطريقة محببة لأتباع أي معتقد). هذا الصنيع هو ما يكمن وراء الأيقونة اللقبية التي علقت على اسم الغزالي: حجة الاسلام، ومحجة الدين. إن التأكيد على أن الإسلام جاء للبشرية ما هو إلا إحالة رمزية على التوسع العربي مع الفتوحات في القارات الثلاث. فحيثما شُم غربة هذه الثقافة التي احتلت الثقافات مع الفتح أعيد انتاجها؛ لتكون تعبيرا عن انتماء الشعوب الجديدة. وهذا ما وضع مرويات العرب، وثقافاتهم في امتحان إعادة التأويل، أو الإدانة بوصفها نموذجا للضلال!.

 من هذا السياق يمكننا الذهاب لسياق فكري آخر؛ لتفحص الفكرة في عمل إدورد سعيد النقدي، بعد اشتغاله على تفتيت العنصرية الغربية المركزية، ورفضه للأصوليات الثقافية من منطلق أن كل ثقافة من الثقافات التي نعرفها في العالم هي نتاج خليط من الثقافات قامت، ونشأت في التاريخ بفعل الاحتكاك الحضاري بالثقافات الأخرى. من هذا المنطلق سيسعى سعيد لرفض التقوقع على الذات، وذلك بوصفه غريبا مهاجرا عربيا في أمريكا، سيحلم دائما بالعيش المشترك، والمتواصل حضاريا عبر نقده لكل تمركز على الهوية، وسيشكل نقده اللاذع لطروحات صموئيل هنتجتون حول صراع الحضارات ذروة دفاعه عن التعايش وتوسيعه مقابل صراع الهويات. إنه يدافع عن حضوره أيضا كغريب في المجتمع الامريكي. سيقر إدورد سعيد في مقال لافت بعنوان ( أفكار حول أمريكا ضمن كتابه: خيانة المثقفين) بعد ماعرف في أمريكا، والعالم بأحداث ١١ سبتمبر، بشعوره بعقدة الطرد كغريب. يقول سعيد: (لا أعرف عربي أمريكي واحد، أو مسلم أمريكي لا يشعر بأنه لا ينتمي إلى معسكر العدو، وكوننا في الولايات المتحدة في هذه اللحظة يمدنا بتجربة مزعجة من الاغتراب ويوسع العداء المستهدف بشكل دقيق). تحت هذا الهاجس المزعج الذي تشكل بفعل الملاحقة الأمنية لكل عربي، أو مسلم في أمريكا، ومورست كافة أشكال الطرد، والسجن سيستعيد إدورد التذكير بالمبادئ الامريكية التي تأسس عليه الدستور ـ وهو دستور مهاجرين ومغتربين في الأساس ـ مذكرا نخبة التيار المحافظ، واليميني ـ بوش، رامسفيلد ـ بأن هوية أمريكا هي هوية مهاجرين، قاطعا المزايدة، والحرب على الامريكيين العرب، والمسلمين!. هذه الاستعادة للذاكرة الدستورية التي حفظت التعايش بين المهاجرين من الحروب بعد شبه الإبادة للسكان الأصليين التي أسسها (المهاجرون لا الرب) كما يقول سعيد هي واحدة من نقاط الارتكاز التي يستنفر بها الدفاع عن نفسه كغريب في تلك اللحظة، لكن إدورد سعيد يعيش الشعور بالطرد في سياقين، فهو يحمل قضية شعبه المطرود من أرضه فلسطين أولا، وأخرى أمام الهجمة الشرسة التي مارسها الحزب المحافظ على العرب، والمسلمين بعد الحادي عشر من سبتمبر. لذا سيجد نفسه يحارب أشكال الأصولية الثقافية في تنظيراته النقدية، والتأكيد على علمانية النقد، وتوسيع أفق الحوار بين الحضارات مؤكدا على هجنة كل ثقافة!.

من هنا يمثل أدورد سعيد أكبر مدافع عن حقه كغريب؛ فخطابه مبني على وعي نافذ، وعميق لوجوده كمنفي وعابر، وذلك من خلال صلاته العميقة مع الغرباء؛ كجوزيف كونراد الذي يمثل بالنسبة له كاتبه الأعمق، والأفضل حيث يقول عنه في كتابه (السلطة والسياسة والثقافة) ردا على سؤال:(لماذا تعد كونراد أحد كتابك المفضلين؟!:(لطالما شعرت بصلة روحية هائلة بيننا لأنه كان بولونيا، وغادر بولونيا عندما كان في السادسة عشرة من العمر، وعاش فترة وجيزة في سويسرا وفرنسا، وتعلم الفرنسية،… وتعلم الإنجليزية، وعاش في انجلترا). ولأنه كما يقول سعيد: (تمتع بوعي المنفي الغريب نوعا ما) لذلك يقول سعيد:(أشعر بالصلة الروحية معه). مع أنه يُنبه في الجواب ذاته قائلا:(لا أدعي أن اهتمامي به مقتصر على كون خلفيتنا شبيهة بتاتا) إلا أنه يؤكد: (أن الصلة الأخرى بيننا نابعة من كونه يكتب الإنكليزية كشخص ليست الإنكليزية لغته الأم، وأجد ذلك ساحرا جدا). هذا السحر هو سحر الغريب في الثقافة!.

وارتباطه الحميمي كذلك بأستاذه اليهودي الذي درَّسه الموسيقى في بدايات شبابه، واختياره العيش في مدينة كنيويورك متعددة الإثنيات  ـ وهذا المديح قاله سركون بولص جلجامش العصور الحديثة عن سانفرانسيسكو كمدينة يكمن جمالها في خليط شعوبها ـ بحيث لن يعرفك أحد بانتمائك لعرق ما كما يمتدحها سعيد _ في حواره مع طارق علي ت أحمد عثمان _ وتأتي إشارته اللافتة بكونه (اليهودي الأخير) في الحوار ذاته إلى ارتباطه التاريخي بأسطورة اليهودي التائه والمنفي أبدا أي الغريب الأبدي!. لكن جيوبه مليئة بالكنوز مثلما يقول جوزيف كامبل عن أسطورة اليهودي التائه في كتابه(البطل بألف وجه) :(محتقر، غير معروف مع ذلك في جيبه لؤلؤة لا تقدر بثمن). بهذه العبارة كان كامبل يتحدث عن الأبطال البسطاء الذين يسوحون بثيابهم الرثة غرباء متسخي الملابس؛ لكنهم يحضون بهيبة في الوجدان الشعبي، والحكايات العجيبة عن القديسين المهملين، بوصفهم يصدرون عن المقدس، ويبعثون الخير، والاستنارة!. وفي هذا السياق تتجلى أسطورة اليهودي التائه!.

ومن هنا يتبلور خطاب سعيد من بصيرته بصنيعة الغريب العابر، واللامستقر الذي يجعل من متاهة عبوره غير المستقر؛ كغريب مساءلة لكل منجز القوميات التي يحكمها نظام ثابت من القيم بوصفها منجزا ضد الإنسان!. والإنسان هنا ذلك الغريب المهاجر أبدا الذي يستعيده سعيد، ويمثله، ويعيشه واقعا بوصفه منفيا ومهاجرا، حين يستعيد أمثولة(اليهودي الأخير) كمشاكسة فكرية للخفية الثقافية اليهودية التي يعيش معها مواجهة سياسية وثقافية بشكل يومي!. فهو يؤكد أمثولته كغريب عبر هذه الإشارة الرمزية لوضعه الحساس سياسيا؛ لكنه هنا ليس كحال تلك الصورة الشعبية التي يصفها جوزيف كامبل، فإدورد سعيد تياه في أقانيم العالم بأناقة، حيث يضع الأناقة؛ كإشارة على جديته كمثقف. وهو كما يقول طارق علي لم يكن ليتنازل عن أناقته!. هذه الأناقة الإنجليزية تأتي متقنة؛ كإتقانه لغة الآخر التي دافع عبر إتقانه أناقتها الأدبية عن النظرات المشوِهَة لثقافة العالم الذي يتحدر منه!.

من طريقة الوعي المعيش هذه التي يمارسها إدورد سعيد كغريب حيث يدرك عبر الحساسية المفرطة تجاه الخصوصيات، والهويات أنها طاردة لكل غريب بوصفه بلا هوية، وعابر للقوميات حيث يعيش غريبا عن كل هوية يعلن في أحد حواراته في كتابه (السلطة والسياسة والثقافة) بأن :(عهد الإخلاص للهويات القومية الأساسية والاهتمام بها انتهى) وهي إحدى نتائج كفاحه؛ كغريب ضد الهويات الطاردة، والساعي لترسيخ التعايش، والاختلاف من حيث كونه يبجل أيقونة الاختلاط كأساس للثقافة ضد نقاء الأصول الثقافية للقوميات!. فإدورد سعيد مشغول بالصراع بين الثقافات بحكم كونه غريبا، لذلك يعرف نفسه في الحوار ذاته بأنه:(مخلوق تعتمد اهتماماته على الصراع بين الثقافة التي ولد فيها والثقافة التي يعيش فيها حاليا). أما طبيعة هذه الظاهرة فيصفها سعيد بكونها:(ظاهرة غريبة من نوعها). هكذا تتبلور نظرة سعيد لظاهرة الثقافة، والوضع الإنساني بحكم وضع الغريب الذي يعيشه!. فالغربة تعيد صياغة الانتماء بوصفه امحاء لكل حدود حيث تعمل الغربة؛ كترحل مستمر ضد عدم الشعور بالمكان؛ إلا كمحطة عابرة. فالشعور بالانخلاع هو الندبة العميقة التي تضل الذاكرة تستجليها باستمرار حيث هي مظلتها الوحيدة في فضاء لا محدود للهويات!.

وفي سياق هذا التمركز القاتل للهويات كما سيسميها أمين معلوف معنونا أحد كتبه: (الهويات القاتلة) سيدفع أمين معلوف العربي الغريب، والفرنسي الفرانكفوني إلى المساهمة في نقد الهويات، وسيستعرض في كتابه تاريخها الدموي والعنيف، مبجلا عبر هذا النقد فكرة التعايش!. وقبل أمين معلوف بعقود ظهر في الساحة الفرنسية إبان الثورة الفرنسية البارون، والكاتب أناشارسيس كلوتس _ راجع عنه فصل الأمة والقومية من كتاب تودروف(نحن والآخرون) _ الذي سيتحمس للثورة، ويقود ناديا، وتجمعا للغرباء دعما للثورة. فقد كان كلوتس يلقب نفسه بسفير (أو خطيب) الجنس البشري، حيث سيؤيد شمولية أفكار الثورة لكل الانسانية. فمن مقولاته ذات الدلالة ما سيكتبه في كتابه:(الجمهورية الشمولية):(أتحدى أن يستطيع أحد أن يظهر لي بندا واحدا في إعلان الحقوق غير قابل للتطبيق على كل البشر، وفي كل المناخات). هذا التطرف في الإيمان بمبادئ حقوق الإنسان الناتجة عن الجمهورية الجديدة نابع من كونه (غريبا) لذلك يقول عنه تودروف في كتابه: نحن والآخرون: (رغم أنه أجنبي الأصل، يبدو كلوتس غالبا أكثر تطرفا في وطنيته من الفرنسيين)!. ممكن أن نغامر مع الحالة التي يعبر عنها كلوتس، ومن وضعه كغريب بالقول؛ بأن الثورة الفرنسية وجدت في الغرباء أكبر مناصر لقيامها، وتعزيزها بوصفها صورة خلاصية من هوية فرنسية إلى هوية بشرية كما يروج كلوتس.

لقد استحوذت مشكلة علاقة الأنا بالآخر الغريب على تودروف نفسه بحيث شكل معظم نتاجه المعرفي للبحث فيها، والتنظير لواقع إنساني متعايش. فهو الغريب البلغاري في فرنسا الذي قدم عبر عمله (نحن والآخرون) عرضا تاريخيا لظاهرة ازدراء الآخرين، واحتقارهم؛ كإدانة معرفية. وهو ما سيؤكد عليه حين يكتب كتابه عن (غزو أمريكا ومسألة الآخر) وكتابه الآخر عن (الخوف من البرابرة) وكتابه حول (تنوع الإنسان) إضافة لكتابه (أعداء الديمقراطية الحميميون) حيث الأعداء الحقيقيون هنا هم أعداء الداخل، وهو مايشير لقلق تهديد داخلي من صعود الشعبويات _ كما يسميها _ المحلية التي تعمل على تهييج العداء للغريب. كل هذا تحت هيمنة نظرة الغريب الذي يمثله حيث يعيش قلقا مستمرا من عودة مايسميها سلافوي جيجيك في (سنة الأحلام الخطيرة): (عودة العرقية البغيضة) التي تستحضر بشكل لا واع لدى كل غريب عقدة الطرد، والرفض؛ لذلك لا توجد عودة للعرقية، أو كراهية الغريب مادام هناك غريب دائم عند الأبواب؛ فثمة حضور دائم للحذر والتوجس، وما يقال عن العودة ما هو إلا ترف في الوهم عن زوال الغريب من فعل الذاكرة!.

 من هذا الحضور الدائم للغريب ندرك انكباب تودرف على التنظير للتنوع الإنساني. فعبر استحضار هذه الذاكرة العنيفة نحو الآخر يتجلى قلقه الذي يحاول لجمه باستحضار ذاكرة كانت تمارس عليه النبذ، والطرد. إن القلق اللاواعي لكل غريب تجاه الثقافة التي تبناها تأخذه إلى تأمل الوضع البشري في أقسى امتحاناته في العيش، والذي يشكل الغريب الذي يكونه تعبيرا مأساويا؛ لتأزم العلاقة البشرية، هو القلق الدائما من عنف النبذ، والطرد اللذين يكتنفان كل ثقافة اتجاه الغرباء. إن الاحتضان الذي ستشهد عليه الكثير من النماذج والذي أنتج أجمل الإبداعات، وأحدث التجديد في كثير من الثقافات لا يحمي الثقافة، ولا الغرباء من هاجس الخوف من الغريب!. إن اللاوعي الجمعي إن اردنا التحدث بلغة يونج يخفي واحدا من أعمق الأفعال التي اكتسبتها الشعوب منذ طفولتها البدائية، وهو فعل تحريم التعامل مع الغرباء كما يسمي هذه الظاهرة جيمس فريز في (الغصن الذهبي). وكذلك بوصف كل غريب عدوا كما هو سائد في ثقافات العالم منذ القدم، وكذلك في عالم الحيوان!. هذا الفعل يتفجر حتى في أوروبا التي سنت قوانين حقوق الإنسان، فالأحزاب اليمينية هي التعبير الأمثل عن عنف الثقافة الاوروبية اتجاه الغرباء؛ فكلما برز الغرباء على سطح الثقافة، والمجتمع صعدت الأحزاب اليمينية، والمحافظة، مما قد تتسبب بعمليات قتل جانبية.

 إن الأديان السماوية ستحتفظ بهذا الفعل البدائي عبر إعادة قولبته من خلال تحريم التعامل مع الكفار، وذلك بوصفهم أعداء للأمة، والدين ومخربين، وفاسدين، ولا يكمنون إلا الشر. في اليهودية سيوضع تحت مسمى (الأغيار) وسيحاط الأغيار بذات الفكرة الرمزية عن الغريب الحامل للشر، والفاسد، وستحافظ التوراة على رمزية تحريم التعامل مع الغرباء في الكثير من أسفاره، حيث تعد هذا التعامل خيانة للأمة، أوالقبيلة.

يرد في سفر عزرا مثلا:(إننا قد خنا إلهنا واتخذنا نساء غريبة من شعوب الأرض). وفي أخرى من نفس السفر يرد جواب عزرا الكاهن: (فقام عزرا الكاهن وقال لهم: (إنكم قد خنتم واتخذتم نساء غريبة لتزيدوا على إثم إسرائيل) فيأتي الأمر لتصويب مسار الجماعة:(وانفصلوا عن شعوب الأرض وعن النساء الغريبة). وفي سفر أشعيا ترد الإشارة التالية:(ولا يشرب بنو الغرباء خمرك التي تعبت فيها) وستكون محبة الغرباء خزيا كما يشير مقطع من سفر إرميا يخاطب إسرائل:(احفظي رجلك من الحفاء وحلقك من الظمإ. فقلت: باطل! لا! لأني قد أحببت الغرباء ووراءهم أذهب. كخزي السارق إذا وجد هكذا خزي بيت إسرائيل).

يعبر هذا الرفض للتعامل مع الغرباء بحسب التوراة من خوف التغير الذي قد يحدثه هذا اللقاء لقيم، وديانة الجماعة. وهذا مايعلنه مقطع من سفر الملوك عن الملك سليمان:(وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون: موآبيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: (لا تخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم، لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم). ونجد في اللحظة الإسلامية مع دعوة الرسول حضور هذا التصور حيث اتهمت قريش الرسول بأنه يأخذ دينه من غلام نصراني غريب كان بمكة، وبه كان يريد أن يغير دين آبائه (انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام جواد علي ج٦).

وبسبب هذا الغمز سجلت الآية (١٠٣) من سورة النحل هذا الجدل:(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يُعلِّمه بشر لسان الذي يُلحدون إليه أعجمي وهذا لسانٌ عربيٌ مُبينٌ). إن عمق حضور هذا الفعل في الذاكرة الجماعية للشعوب لا يكمن حضوره في الرمزية الدينية فقط باعتبار أنها علامة هوية الشعوب الثقافية الأساسية التي تستبطن حكاياته الرمزية والأسطورية عن العالم، بل تحضر أيضا في ركيزتي الحياة المعاصرة وهما الاقتصاد، والسياسة كما يشير لذلك مارتن بوبر في كتابه: أنا وأنت، حين يتساءل:(هل يمكن تصور أن ركيزتي هذه الحياة_ وهما الاقتصادي والسياسي_ في اتساعهما الحالي، في تطورهما الحالي، يمكن أن يتأسسا إلا على رفض كل علاقة مباشرة بل وحتى على رفض قاطع، وصلب وعازم، ومعارض لكل مقام غريب لم يتولد على أرضيتهما الخاصة؟).

هذه الالتفاتة التي يشير لها بوبر تأتي في سياق تأمل بوبر للوضع الإنساني الحديث، والذي سيعمل من خلال هذا النقد على التفكير في علاقة الأنا بالغريب من خلال تأمل أزمة الكائن الحديث الذي حولته الدولة، والاقتصاد إلى كائن منعزل فاقد للعلاقة الحقيقية في الحياة التي تقوم بحسب بوبر عن طريق الدخول في العلاقة، والحوار الذي يكتمل كحقيقة في صورة: أنت، أو بعبارة بوبر:(إني أصبح أنا عند قولي أنت). فهي الوجه الآخر الذي يشكل حقيقة، وتحقق وجود الأنا حيث:(كل حياة حقة هي لقاء) كما يقول بوبر، بينما الدولة الحديثة حولته إلى شيء مهمته الاندراج في مشروعها، وعقيدتها، وهو ما سيؤكده غاستون باشلار في مقدمته لكتاب بوبر: أنا وأنت بقوله:(في عصرنا حيث كل شيء يفقد شخصيته، حيث لم يعد العامل يوقع على عمله، وحيث الإنسان المأخوذ المسحور بالرسوم الفوتوغرافية السينمائية المتكررة لم يعد يصنع وجهه ولا يخترع تعابيره، كم هو غريب وعميق وقع الأبيات البوبرية).

في سياق هذا النظر الذي ينشئه بوبر في بدايات القرن العشرين، وفي ذروة صعود هتلر ورغبته في بناء دولة قوية قام على إثرها بتحويل الشعب إلى آلات لخدمة طموح الدولة التي هي فكرته، والتي شهدت ذروة تفجر المسألة اليهودية في أوروبا وما عانوه من طرد، وهجرة قسرية جراء عنف الدولة وايديولوجيتها.

 من هنا، نفهم تلك الحرائق التأملية التي شيدها بوبر ـ ولفيناس الذي بات يعرف بفيلسوف الغيرية سأتحدث عنه لاحقا ـ كيهودي غريب في المانيا عانى الطرد، والتهجير. في كتابه هذا سيعزز فكرته من خلال انفتاحه على رموز من خارج اليهودية. هكذا مثلا سيستحضر غيتة الألماني الذي يحضى بمكانة كبرى كرمز ثقافي في الثقافة الالمانية، كذلك ايكهارت اللاهوتي، والمتصوف الألماني مع أن بوبر كيهودي يتحدر ثقافيا من حركة صوفية يهودية(الحسيدية) وقد تأملها في كتابه: (الحسيدية والإنسان المعاصر) إلا أنه في كتاب: (أنا وأنت) لا يستحضر رموزا يهودية سوى إشارة عابرة لعبارة من التوراة، كما سيكثر من حضور مصطلحات الديانات الهندية كالكارما، وملحمة الاوبنشياد التي سيذكر قصصا منها، وسيؤكد حين يفكر بتحقق الأنا في العالم على أفكار بوذا.

كما سيدل استحضاره لرمزية يسوع باعتباره مجسدا لحضور، واكتمال الكلمة، والإلهي في البشري، عملية تواصل يفتح بها بوبر كغريب باب التعاطف الثقافي الذي يمكن أن يستثيره في القارىء الذي ينتمي لفضاء الانجيل المسيحي الذي يقيم تاريخيا معه العداء كيهودي مسؤول عن صلب المسيح!. ينحدر بوبر من ديانة عاشت دائما كديانة مهمشة، ومعزولة عن العالم، وعاش أفرادها كغرباء في المجتمعات التي تواجدوا فيها؛ فمن أمثلة عنف الطرد في العصر الحديث مثلا مايذكره هابرماس في كتابه: (الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي) في عبارة عن أرنست يونغر رددها عام١٩٣٠، حيث يقول:(بقدر ما تتشكل الإرادة الألمانية وتشحذ، سوف يتضح أكثر؛ فأكثر أن وهم اليهود بأن يصبحوا ألمانيين في ألمانيا غير قابل للتحقق، وسوف يواجهون خيارا نهائيا، وهو إما أن يكونوا يهودا في ألمانيا أو أن لا يكونوا).

لذا هذا التأكيد الذي يستحضره بوبر كغريب من خلال تشييده لعمارة تنفتح على العالم، وتتأمل وجود الأنا في العالم، وشرط تحققها حين تكتمل في (الأنت) يأتي لفك عقدة العزلة، والغربة التي يعيشها كيهودي، ومن ثم تقويض ثقافة الآخر التي تحيط نفسها بالخوف من الغريب، وبسبب هذا الصنيع كما سيشير هابرماس في مقال حول المثالية الألمانية وأعلامها اليهود في كتابه: (الفلسفة الالمانية والتصوف اليهودي) استطاع اليهود من إنقاذ الفلسفة الألمانية من الانهيار حين وصلت إلى طريق مسدود بعد هيغل.

لقد عاش المفكرون اليهود عقدتي طرد بحيث وجدوا أنفسهم يواجهون جبهتين ثقافيتين: واحدة مع الثقافة الألمانية، والأوروبية لكونهم يهودا، وأخرى من قبل الثقافة الدينية اليهودية التي كانت تحيط نفسها بسياج حديدي عن ثقافة (الأغيار) والانفتاح الذي أبداه اليهود على العلوم الحديثة. فقد كان موسى مندلسون مثلا يخبِّئ عن محيطه اليهودي انفتاحه على الأدب الألماني!. هذا الوضع المقلق الناتج عن الطرد والتدمير سيعبر عنه مارتن بوبر بوعي نافذ حين يقول (نقلا عن مقالة هابرماس السابقة):(أدى تدمير الجماعة اليهودية إلى إضعاف المواجهة الروحية المعنوية، وذلك لأن القوة الروحية لم تعد تتكثف إلا لحماية الشعب من التأثيرات الخارجية، أي لإحكام الطوق على الداخل والحؤول دون اختراق التيارات الغريبة).

أمام هذا الطوق سيعمل المفكرون والمثقفون اليهود من أجل الانفتاح على الآخر، وكسر الحواجز التي رسختها الجماعة الدينية حول أفرادها على الدخول على المعرفة التي تلبي شروط الغريب إلى الانعتاق. وهذا ما يشير له هابرماس بقوله أن:(الابستملوجيا ونظرية المعرفة اللتان تخيلتا نفسهما خارج التاريخ ومتحررتين من أي مسلمة، تلبيان فعليا طموحات اليهود الذين اضطروا إلى التخلي عن تراثهم للحصول على حرية الفكر. ولم تستطع هذه الأجيال الآتية من الغيتو الوصول إلى مستوى من الثقافة المنعتقة إلا مقابل القطع مع الالتزام التراثي والقفز وسط تاريخ كان غريبا عنهم). هذا الاضطرار الذي يشير له هابرماس هو قلقل الوجود الذي يعيشه الغريب من أجل أن يكون؛ لذا ومع هذا القلق سيشتبك اليهودي في تلك الفترة من الزمن الأوروبي المقلق حيث يعاني من الحروب، ومن أزمة معرفية للإنسانية الأوروبية كما اصطلح على تسميتها. من هنا سينفذ عمل الفيلسوف اليهودي هوسرل مؤسس الظاهراتية في طموح يرغب في تقديم علم يحل أزمة الإنسانية الأوروبية، كما يقر هابرماس بصنيعه:(أنه حاول…رسم مخطط كبير أو المخطط الأخير، الذي يمكن من فهم وتخطي أزمة العلوم الاوروبية).

سيتبع هابرماس في مقالته تلك دور الكثير من المفكرين، والمثقفين اليهود في تأسيس العلوم الحديثة: فرويد في علم النفس، وهوسرل في الفلسفة، وموس في علم الاجتماع، وفغتنشتاين في فلسفة اللغة، واينشتاين في الفيزياء، وآخرين يصعب تتبع منجزهم. مايلفت في تأمل هذه الظاهرة هو أن هذا الدور الذي لعبه اليهودي؛ كغريب يعاني عقدة الطرد عَمَل كمنجم معرفي للجماعة كان هذا الانفجار طموح الجماعة المكتوم، والمنغلق، والذي في هذا الوقت يخاف على نفسه من انفجاره؛ لأنه كما يبدو على مستوى الجماعة أن الحفاظ على ذاتها يشكل العصب الأساس لاستمرارها. لذا فإن قلق المغامرة يضعها تحت رهبة الامّحاء؛ لكن التوتر المستمر الذي تعيشه الجماعة سيطلق باستمرار طموحات أفرادها؛ لكسر العزلة الواقعة تحت استفزاز الغربة، والانفتاح على الآخر، والتأسيس لأفق آخر؛ لكن الفرد سيبقى بشكل ما متأملا في جماعته؛ ليعطيها عبر تأويلات مستحدثه القدرة على التواصل، والبقاء، والاستمرار في محيط ثقافي جديد؛ لكنها ستصبغ الثقافة الأوروبية الحديثة بروح ذاكرتها الصوفية، كما يقر هابرماس بذلك. هكذا يؤسس الغريب روائحه!.

يؤول إريك هوبزباوم المؤرخ اليهودي البريطاني ظاهرة انفجار الطاقة اليهودية في المعرفة، والابداع بعد منتصف القرن التاسع عشر، وذلك في كتابه:(أزمنة متصدعة) على أنه فضيلة عصر الأنوار الأوروبي الذي أسس للانفتاح على الثقافات الإنسانية، وساهم في تدشين حقوق الإنسان؛ لذلك أعطى انتشار الأفكار هذه لدى النخب الأوروبية مساحة من التسامح، وقبول الآخر مما هيأ لليهودي الغريب أن يحضر ثقافيا في المجتمع غير أن هذا القبول، والحضور سطحي، واشبه بالتبرج الثقافي بحسب ما تراه حنة ارنت الفيلسوفة اليهودية، إذ تشير إلى أن اليهود سُمِح لهم بالحضور، والمشاركة في مجتمع الصالونات الثقافية الفرنسية لكنهم ممنوعون من إعلان هوياتهم، أو التعبير، والتلميح عما يشير إلى منابتهم الثقافية.

فاليهودي إذا رأى يهوديا آخر في لقاء ثقافي عام فإنه يتواصل معه بصمت بحيث لا يبرز ما يدل على أي حميمية لثقافتهما المشتركة. هذه الملاحظة نجدها ماثلة في حدث تاريخي بالنسبة للشعب الغجري في إسبانيا. فقد أدخل الملك الإسباني كارلوس الثالث روح الأنوار، والحركات الإنسانية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. ومن نتائج هذا التوجه الملكي تخلص الغجر من وصمة كونهم مجرمين حيث أصدر الملك مرسوما عام ١٧٨٣م يعطي فيه حقوقا، واعترافا بمن يسمون ب(الغجر) إذ استبدل لهم هذا المسمى الذي يُستعمل كاسم تحقيري بمسمى(القشتالي الجديد) ليكون في وسعهم إدخال أبنائهم في التعليم، وحصولهم على العلاج، وحرية الاستقرار في المكان الذي يريدون؛ لكن كل هذا كان مشروطا ب:(ترك طريقة ملبسهم وألا يستعملوا لغتهم في الأماكن العامة…والاستقرار وهجر حياتهم المتنقلة) كما يخبرنا خابير آسينسيو غارثيا في مقدمته ل(حكايات غجر إسبانيا الشعبية).

إن الحداثة التي رافقت حركة الأنوار وأصبحت بصمتها الماثلة حتى الآن وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت لها هي واحدة من صيغ مواجهة الغريب!. فالثقافة من الداخل تعيش قلقا مستمرا حيث الغرباء ماثلين على أراضيها، ويتداولون معهم الحياة التي هي بحسب الثقافة ملك لأبنائها؛ لذا تأتي هذه الحقوق؛ لتعيد ترتيب وضع الغريب، ليس من أجله بل لوضع حد لقلق أهل الثقافة!. هكذا يفحص زيغمونت باومان عالم الاجتماع اليهودي المعروف هذه العلاقة بين أهل الثقافة، والغريب في سياق مايعرف بالحداثة مبينا كيف أنها ومن خلال سنها لهذه الحقوق الإنسانية التي بات يتمتع بها الغريب داخل الثقافة تعمق الفصل، وتعين الحدود الجديدة التي تبقي الغريب ماثلا على سطح الحياة بدلا من بقائه متوارٍ، ومثيرا لمزيد من القلق اللاواعي لشر الغريب!. يبقى باومان في حدود القرون التالية لفكر الحداثة حين يتناول في تحليله علاقة الحداثة بالإبهام الذي يمثله أفضل تمثيل (الغريب) في كتابه(الحداثة والابهام). إنه يحلل الظاهرة ممعنا النظر في تاريخه كغريب مع الحداثة دون أن تمتد بصيرته للظاهرة في كونها منذ البدء ملازمة لكل ثقافة!. وبتعبير من الثقافة العربية فإن الغريب كما يقول الشاعر امرئ القيس مهما كان شكل التواصل، والقرابة يبقى غريبا:

فإن تصلينا فالقرابة    بيننا           وإن تصرمينا فالغريب غريب

حين نتفحص اليهودية كديانة ممثلة بالتوراة؛ فإن عالمية اليهود كغرباء على الرغم من واقعها التاريخي كما يتحدث عنها باومان في كتابه السابق الذكر لا صمد من حيث كون الغريب الحالم بوضعية الغريب العالمي الذي يمثل القيم الإنسانية الجوهرية أمام الإشارات الكثيرة في التوراة التي تنتقص من الغرباء غير اليهود. ومن الملفت هنا أن التوراة قد تكون من الكتب الدينية القليلة التي تكثر من الحديث عن الغرباء كما نتيبن من نموذج الأمثلة السابقة!. إن حديث باومان عن اليهود كغرباء عالميين يعيد بشكل ممنهج التماثل مع روح التوراة، وذلك حين تضع اليهودي التائه سيدا للنجاة، ومثالا للبشر؛ لكنه لا يخص إلا الجماعة اليهودية، فالآخرون يبقون محرومين من نعيم الإله القومي، ومع ذلك ممثلا عالما!.

هذا يحرضنا على القول بأن عالمية اليهود كغرباء لايمكنها أن تكون ممثلة لقيم إنسانية منفتحة، وهي تنضوي تحت تاريخ عريق من الصراع مع الغرباء، ووضع الحدود القصوى بينهم!. مما يحيلنا لتذكر اللحظة التي عرفت في التاريخ الأوروبي الحديث ب(المسألة اليهودي) التي لم يفت على كارل ماركس من التعليق عليا رابطا بين علاقة اليهود بالمال بوصفه الرب؛ هكذا يجعل من المال الرب العالمي الذي يعمل على إظهار اليهود كممثلين عالميين حين يتعلق الامر بسلطة المال!. في تلك اللحظة التي طرحت فيها المسألة اليهودية في منتصف القرن التاسع عشر حيث كتب الألماني برونو باور بهذا العنوان الذي ضل متداولا حتى بعد منتصف القرن العشرين، ومن أشهر من تناولها جان بول سارتر كاتبا كتابه:(تأملات في المسألة اليهودي).

لقد واجه باور مطالب اليهود بالتحرر السياسي، والعيش كمواطنين ليس من أجل تقديم صورة للانعتاق البشري، والتحرر من القيود. فالألمان كما يقول باور أيضا ليسوا أحرارا؛ لذا يجعل باور من المطالبة مجرد تأكيد على كون اليهود مختلفين عن غيرهم. يقول باور:(اليهودي أيضا لا يستطيع أن يقف من الدولة إلا موقفا يهوديا، هذا يعني أنه يقف من الدولة موقف الغريب، بأن يضع قوميته الوهمية مقابل القومية الحقيقية ويضع قانونه المتوهم مقابل القانون الحقيقي بأن يظن أن من حقه أن يتمايز عن البشرية، بأن يحجم مبدئيا عن المشاركة في الحركة التاريخية، بأن يطمح في مستقبل لا يجمعه بالمستقبل العام للإنسان شيء، بأن يعتبر نفسه عضوا في الشعب اليهودي ويعتبر الشعب اليهودي الشعب المختار) عن (كارل ماركس حول المسألة اليهودية. ت. نائلة الصالحي).

بعد كل ما قيل من مداولات، وطوال قرن ونصف من الصراعات الفكرية برز خلالها المفكر الغريب اليهودي، ونقول: (غريب) ليس لانتمائه لليهود كغرباء، بل كخارج عن الجماعة. في وصفه الدقيق لوضع الغريب لا يعطينا باومان في (الحداثة والابهام) تمييزا واضحا بين هذين الوضعين؛ لأن تفكيك القيم القومية، والعمل على تأسيس واقع إنساني الذي كان يشك باور أن يكون اليهود يعملون من أجله هو عمل دؤوب ليهودي تاه من جديد بين عالمين؛ ليكون الغريب الجديد مفارقا أهلا، ومفارقا الجماعة التي معها يعيش تحت مضلة دولة واحدة!.

يمثل باومان واحدا من فرقة عزف كبيرة عملت تحطيم رموز الاستقرار القومي سواء للديانة اليهودية، أم الثقافة الوطنية المهيمنة للدولة من كارل ماركس، مرورا بفرويد الذي يعيد تفكيك الديانة اليهودية في تأمله للأب المؤسس لليهودية في (موسى والتوحيد) مذكرا بكونه ليس يهوديا! حتى تفكيكات جاك دريدا للميتافيزيقا الغربية التي يستند عليها العقل الغربي كما سنوضح تاليا، وعمل باومان يختزن إنجازات كل هؤلاء الغرباء. إنهم يدافعون عن حقوق التائه بين عالمين!.

 إن تقديس واقع الغريب كممثل وحيد للحرية، والإنسانية يكمن في صلب توصيفات باومان التي تجعلنا نربطها بإرث طويل من تقديس اليهود لواقعهم المتفرد كغرباء!. يبرز ملمح هذا التقديس في حديثه عن كافكا كنموذج للغريب العالمي:(لقد كان كافكا غريبا عالميا، وربما كان أكثر الغرباء العالميين قدرة على استبصار الأمور، ولذا استطاع أن يكشف، وأن يعبر عن السمات العالمية لوضعية الغريب، وهذه الوضعية هي بطل جميع أعماله الأدبية، وهي البط الحقيقي والوحيد..). إنها أنشودة غريب يتغنى بواقعه من واقع إطار علماني؛ لكنه يهرب بها بعيدا؛ كأن أغنية جماعته باتت من حقه؛ لأنه صار الممثل الأبرز لوضع الغريب في العالم!. فباومان يتحدث عن نفسه كغريب فيما يوصف واقع الغريب العالمي باعتباره النموذج، والخيار الأمثل للحرية!. هكذا يقوم بالتنظير للرؤية الأشمل، والعالمية من منظور غربته، ومنتميا لسلالة الغرباء!.

إن روح الغريب حين تؤكد على انتمائها للانسانية فهي تحيل ذاتها إلى كيان بلا وطن، كيان يحيل هويته على تأسيس ميتافيزيقي بحيث يتعالى عن كل إدانة تتمثل في وصمة الانتماء إلى عرق أو أمة. إنه يفكر بهوية بلا هوية. هوية لا تشبه؛ إلا غربته في العالم التي يغمرها بالعطف اللا محدود للكائن الذي يمثله!. هوية تمثل الانسانية كنموذج يستحيل تجاوزه إلى ما عداه؛ إلا بوصف ماعداه خارج الانسانية!. هكذا سنفكر في الغريب العالمي الذي يطرحه باومان حول شخصية اليهودي كمغترب منذ البدء!.

 هذه الظاهرة كما يلاحظ هابرماس ستجعل اليهودي يفهم المعنى العميق لتمظهر الإنسان على مسرح المجتمع بأقنعة مختلفة، ويلمح إلى أن اليهود هم من أطلقوا، وعمّقوا فكرة:(الحياة كمسرح) وما الناس سوى ممثلين. يجعل هذا الوضع المتوتر، والحساس اليهودي كغريب في المجتمع من شحذ عينه على النظر، وذهنه على الملاحظة والفهم، وقلبه على تفجير حساسياته في مواجهة الظواهر الاجتماعية، والثقافية. فالغريب ذو عين انثروبلوجية مستيقظة أبدا في دفء التفاصيل!.

سنمتحن فكرتنا في سياق آخر بحيث نرى كيف يقدم مرتشيا إلياده عبر عمله كمؤرخ للأديان نموذجا حيا في النظر للأديان، والثقافات بذهنية متفتحة، وعلى النظر في مسألة لقاء الغريب كأمر شيق ومجدي(على الصعيد الثقافي) كما يخبرنا في كتابه(البحث عن التاريخ والمعنى والدين) لأن اللقاء مع الغريب كما يقول:(لا يمكن اختزاله إلى صنف المقولات المألوفة). وهذا مايبين تطور نظرته للآخر من واقع غربته الأمريكية مثلما سنرى. ومن هنا إلحاحه على وحدة التجربة البشرية للمقدس، وذلك على العكس مما كان أكد عليه قبله عالم الأديان روبرتسن سميث في كتابه (ديانة السامين) حيث يقول عن طقسنة العلاقة مع الآخرين في المجتمعات البدائية:(كل الآخرين بالنسبة للإنسان البدائي يصنفون إلى فئتين، فئة من كانت حياته مقدسة بالنسبة لهم وفئة من كانت حياته غير مقدسة عندهم. والفئة الأولى هم قومه، والأخيرة هم الغرباء والأعداء ولا مجال لعقد رباط لا ينفصم معهم إلا إذا دخلوا الدائرة التي كانت لحياة كل فرد فيها قدسية بالنسبة لكل رفاقه). فإذا كانت وحدة التجربة البشرية للمقدس التي يسعى إليادة لاكتشافها، وترسيخها هي نابعة من التشابه بين الطقوس الدينية في العالم كطقس القربان المقدس الذي يتواجد في كافة الديانات؛ إلا أن هذه التجربة أيضا أسست للتفريق بين أفراد القبيلة الذين يرتبطون مع إلههم برباط مقدس، ويشكل ماعداهم غرباء يحق لهم الاعتداء عليهم. فطقس القربان نفسه يعمل على توحيد المشاركين في تناول طعام (المائدة القربانية) كما يسميها سميث بينما يصبح غير المشاركين غرباء. يقول سميث في طبيعة المشاركة في تناول القربان:(فالمشاركون في تناول اللحم متحدون في كل السلوكيات الاجتماعية؛ ومن لا يطعمون معا غرباء عن بعضهم البعض ويفتقرون إلى الأخوة الدينية والواجبات الاجتماعية المتبادلة). مع ذلك فمن خلال هذه النظرة الواسعة يقدم إليادة تصوره للتجربة الإنسانية التي يتجاوز من خلالها التصورات الضيقة للتصنيفات الهوياتية للتجربة الدينية.

إن منظور إليادة يفرزه وضعه كمهاجر غريب إلى الولايات الأمريكية عانى من عقدة الانتماءات؛ فتحت هذه التجربة تجد تصوراته عن الأبعاد الإنسانية المشتركة الذي يعزز من خلالها حق العيش المشترك؛ فحياته في أمريكا وتجربته الهندية أثناء دراسته تجيب عن وضعه كمشتت جرب الحياة كغريب. إن عمله الموسوعي الفذ الذي يبين من خلاله التقارب العميق للرموز الدينية لمختلف الشعوب، والحضارات كانت مقاربة يلوح من خلالها هواجسه كغريب قد يدان لاختلاف انتمائه، كما أن عمله يأتي جوابا على ظاهرة عودة الأصوليات، وسياسات الهوية التي أفرزها العصر الحديث، حيث ابتدأت الظاهرة منذ القرن التاسع عشر، أو قبله حين انتشر الهوس كما يشير إليادة نفسه في كتابه(البحث عن المعنى والتاريخ في الدين) بالبحث عن الأصول. كما يعمل على نزع الاهتمام بدراسة الشعوب، والأديان البدائية؛ لأنها تثير الفضول بسماتها الغريبة!. يدفع إليادة في كتابه هذا بوصفه عالم أديان تاريخ الأديان:(للقيام بدور مهم في الحياة المعاصرة). هذه المهمة ضرورية كما يقول إليادة :(لأن فهم الأديان الغريبة والغابرة من شأنه أن يوفر مساعدة قيمة للحوار مع ممثلي هذه الأديان…وبشكل خاص لأن السعي الحثيث لفهم الأوضاع الوجودية التي تعبر عنها الوثائق التي يدرسها مؤرخ الأديان تمكنه من الوصول إلى معرفة أعمق بالإنسان).

أما كيف سنواجه نزعة الثقافات المحلية الضيقة؛ فيشير علينا إليادة أن ذلك سيكون :(عبر هذا الفهم بالذات لمثل تلك الأوضاع غير المألوفة و” الغريبة” يمكن لنا إن نتجاوز تلك النزعة الثقافية المحلية). إن التنبه المفرط للنزعة الثقافية المحلية لا يلتقطها إلا الغريب حيث يمتلك خبرات استشعارية عالية الحساسية للتميزات!. من هنا يلتقطها إليادة الذي عاصر ظهور النزعات العنصرية، والقومية، وجربها كمغترب روماني في أمريكا. تأخذ دعوته لدراسة الأديان بشكل موسوعي لا لزيادة (معرفتنا بالإنسان زيادة كمية سكونية) بل لأن هذه المعرفة هي الطريق للالتقاء بالآخر يقول إليادة الذي لا تخلو نظرته من الافتتان بالغرائبي وهي النزعة التي سادت أوروبا منذ عصر الاستعمار:(فالأمر الشيق والمجدي على الصعيد الثقافي يكمن في الالتقاء والتلاقي مع ” الآخرين” – مع كائنات بشرية تنتمي إلى أنماط شتى من المجتمعات الغابرة والغريبة). هكذا وتحت هذا الدافع الشيق للالتقاء بالكائنات، والمجتمعات الغريبة يدشن إليادة عبر هذه المتعة الغرائبية رؤيته الإنسانية من خلال طرح (مذهب إنساني جديد) كما يعبر أحد عناوين كتابه سابق الذكر الذي يتحدث فيه عن مهمة عالم الأديان أمام النزاعات العنصرية التي أفرزها القرن العشرون، وتمثلت بشكل متطرف في توجهات النازية العرقية التي دعمت الأبحاث العلمية الخاصة بالبيولوجيا الوراثية لتدعيم العقيدة العرقية النقية، والمتفوقة الجرمانية!. ومن خلال عرضه، ومناقشته لهذه المهمة سيقدم نفسه كأنموذج أخلاقي يتجاوز مشكلة الثقافات المحلية عبر استعراض تأويلي لوحدة (الجنس البشري). يقول إليادة:(إن وحدة الجنس البشري هي أمر مسلم به واقعيا، في عدد من فروع المعرفة الأخرى، مثل الألسنية والأنثروبلوجيا وعلم الاجتماع. لكن مؤرخ الأديان يمتاز بإدراك هذه الوحدة في مستوياتها الأرفع- أو الأعمق – وبأن من شأن هكذا تجربة أن تغنيه وأن تغيره). من هنا سيبشر بأن :(التاريخ يصبح اليوم للمرة الأولى تاريخا جامعا حقا، وأن الثقافة بالتالي هي في طريقها لأن تصبح شاملة الكرة الأرضية بأسرها). لقد ظهر كتاب إليادة (البحث عن التاريخ والمعنى في الدين ت سعود المولى) _ توجد ترجمة عربية أخرى له بعنوان الحنين إلى الأصول _ في عام ١٩٦٩ وهو في منفاه الاختياري بأمريكا حيث ترك رومانيا منذ سنة ١٩٤١م، متنقلا بين فرنسا، والبرتغال حتى حطت به الرحال في أمريكا. كان عاش تجربة هندية حين حصل على منحة لدراسة اللغة السنسكريتية من قبل مهراجا مدينة (قاسم بازار) في البنغال حيث عاش تجربة غرامية مع (مايترايي ديفي) ابنة معلمه العلامة (سورندراناث داسغوبتا) وكانت هذه (التجربة الهندية الحاسمة) في حياة إليادة كما يشير الدكتور سعود المولى في مقدمته السيرية لكتاب إليادة. قام إليادة بتسجيلها في رواية بعنوان (مايترايي) أو (الليلة البنغالية) التي تحدث فيها عن علاقته الجنسية بابنة معلمه. لكنها ستنكر حدوث ذلك في كتابتها رواية ترد فيها على مزاعم إليادة بالنكران. هذا مايثير لدينا المغزى الذي جعل إليادة يتخيل عيشه لغرام شرقي فاتن حيث يشي برغبة سردية نحو إعلان مفاخره بممارسة الجنس مع امرأة تعبق ب (سحر الشرق)!. على الرغم من هذه التجربة الحاسمة؛ إلا أنها لم تشهد تحولا فعليا في تفكير إليادة القومي حيث مارس الكتابة بعد عودته لرومانيا (في المجلات القومية المتطرفة) على الأخص. يقول سعود المولى عن تلك الفترة:(شارك في تأسيس حلقة فكرية حول أفكار ناي أيونسكو التي كانت مزيجا من الوجودية، ومن التقليدية المحافظة، والمعتقدات اليمينية الجديدة(ماعرف لاحقا باسم اليمين الجديد). وعلى الرغم من دفاعه عن الحداثة بوجه منتقديها إلا أنه كان أقرب إلى اليمين القومي، والديني منه إلى العلمانيين، والتقدميين، الأمر الذي يفسر دعمه لمنظمة الحرس الحديدي، وهي منظمة قومية فاشية معادية لليهود والهنغار قامت على أسس مسيحية رومانية أورثذكسية، وعرفت أولا باسم” كتيبة الملاك ميخائيل”، ثم صارت تعرف لاحقا باسم حركة الكتائب…). أما نقاد إليادة فقد رأى كثر منهم :(أن أفكاره القومية والدينية كانت قد ظهرت واضحة منذ كتابه الأول مسار روحي الذي نُشر عام١٩٢٧ على حلقات متسلسلة في إحدى الصحف القومية المتطرفة). وكان إليادة وقتها يدعو الشباب للعودة للكنيسة، ويرفض الليبرالية التي هي العمود الفقري للنظام الأمريكي. فقد رأى في الثورات الشعبية من (قبيل التقليد الببغائي للغرب الأوروبي، وصولا إلى رفضه الديمقراطية نفسها باعتبارها أنها تعمل على سحق كل نهوض قومي). هذا الخطاب بلاشك لا ينسجم مع التطور اللاحق الذي يستعرضه في (مذهبه الإنساني الجديد) حيث الانفتاح على الثقافات، والبحث عن الوحدة البشرية في التجربة الرمزية للمقدس؛ لكن التجربة الأولى للمنفى لم تأخذه لهذه المسارات!. لقد كانت كما يبدو غربة مؤقته حيث سيعود بعهدها لأرض الوطن؛ لذا مارس غريزته الثقافية القومية كما يحلو لطموح أن يلم غرائز أمته على بعضها. أما في التجربة الأمريكية فيواجه إلياده وجهَ الغريب الأبدي الذي يبحث عن غرائز لا يُشم منها روائح أمه، وأبيه، وأهل بيته!. في منفاه الأمريكي قدمت السلطات الشيوعية الرومانية عرضا له كي يعود لأرض الوطن، وذلك في السبعينات القرن العشرين فقد :(اتصل به مبعوثون من طرف الرئيس تشاوشيسكو عارضين عليه الرجوع إلى رومانيا على أساس تدعيم الموقف القومي الروماني الداعي إلى الاستقلال عن الكتلة الشرقية). تعرض بعد هذا العرض لضغط آخر مارسه عليه الكاتب القومي الرسمي أوجين باربو، والأديب قسطنطين نويكا صديق إليادة الشخصي حين قاما بزيارته في شيكاغو ليقنعاه بالعودة لبلاده. كانت لهذه الزيارة أثرها؛ لكن أصدقاءه المعادون للشيوعية أقنعوه بالبقاء، ولاحقا وقّع على (بيان للمثقفين الرومانيين في المنفى يدين حملة القمع التي قام بها تشاوشيسكو في العام١٩٧٧). مارس النظام الشيوعي بعد ذلك حملات تشهير، وإرهاب(استهدفته بتهمة معاداة السامية والانتماء إلى الفاشية والنازية، تعرض خلالها لشتى أشكال الضغط والإرهاب الفكري، الامر الذي أنهكه نفسيا وأسهم في تدهور صحته حتى وفاته). بعد هذه الحملة احترق مكتب إليادة وقيل أنه (كان مفتعلا). كان النظام الروماني يدرك معنى أن تتعرض لتهمة معاداة السامية في بلاد العم سام ـ انظر رواية فليب روث الوصمة البشرية فهي مثالية في هذه المسألة ـ وهذا يحضنا على التفكير بأن  الانهيار النفسي الذي أصاب إليادة ما هو إلا نتيجة لحمى هذا المعنى!. فهل أعادت هذه التهم لذاكرة إليادة ماضيه القومي، وانتمائه لمنظمة الحرس الحديدي التي كانت تعادي اليهود!؟. هذه العودة للذاكرة، واستحضارها في بلاد تجرم العنصرية، وعلى الأخص معاداة السامية إضافة إلى أن هذا الماضي لم يعد منسجما مع خطابه الإنساني الجديد الذي بدأ بصياغته، والتنظير له، وهو في منفاه الأمريكي كغريب يسعى للتصالح مع العالم وتجاوز (الثقافات المحلية) هي بمثابة فضيحة معرفية؛ لغريب يسعى لتقديم مذهب إنساني جديد للمشكلة البشرية التي هي علاقة الأنا بالآخر كما يحب أن يعبر المعلم كريشناموراتي. فغريزة الغريب الثقافية تتحسس من الماضي إذا كان فيه مايفضح حياته الراهنة التي تقع ضمن شروط حياتية تجرم النكهات المحلية المحملة بروائح قد توصم بالعنصرية!. فالغريب الساعي للصعود في الطبقات الاجتماعية في الغالب وهو قادم من طبقة متواضعة، أو تميزها طبقته الجديدة كطبقة مرذولة. هذا ما نلحظة مثلا في قبول صالونات باريس الثقافية بدخول المثقفين اليهود إليها؛ لكنه كان دخولا مشروطا، بقناعين: أن يتستر اليهودي على هويته وديانته، والآخر أن هذا القبول بدخول الغرباء اليهود للصالونات هو من أجل الانسجام مع موضة (المثقف التقدمي والحداثي)!. وهي القيمة التي كانت رائجة. وقد استخدمتها والدة (لور) في الفلم الفرنسي (seril bad) _ سأتحدث عنه في مقال آخر _ حين اتهمت زوجها بالفاشي والرجعي؛ لأنه لا يتصرف على نحو متحضر، وكتقدمي مع العائلة الأفريقية التي ستناسبهم!. من هنا فالماضي القومي لإليادة، ومحليته الثقافية لم تعد تنتمي للفضاء الثقافي الجديد لوجه إليادة الغريب، والمنظّر لمنظور بشري يتسع لمختلف الظواهر الدينية للتجربة البشرية وفق مايسميه: وحدة المقدس!. وهو خطاب ينسجم مع تمظهره كغريب يسعى للعيش مع ثقافات لا تنتمي لغريزته الثقافية الماضية المرتبطة بخصوصيته القومية، والدينية!.

عودة إلى المفكرين اليهود سنجد أن فكر الاختلاف _ يرفض بحسب عبدالسلام بن عبدالعالي مفكرو الاختلاف مصطلح فلسفة الاختلاف كتسمية لهذا التوجه _ الذي برز في القرن العشرين ورسخ جاك دريدا علما من أعلامها، وعرف بفيلسوف الاختلاف الذي دشن عبر فكر الاختلاف مصطلحه الأساسي(الارجاء والمغايرة) وهو مصطلح يشر الكثير من الباحثين بصعوبة فهمه، وإدراكه. وأظن أن ذلك راجع لحركية المصطلح إذ يسعى عبره دريدا لمحاولة وصف واقع لا يستقر في هوية ثابته بل كل هوية في حالة تغير، وتحول مستمر كلما حدث، وامتلكت معناها. فحركية التاريخ تحيل هذا المعنى للهوية للتحول من خلال التفاعل مع الآخر (الغريب) _ راجع كتاب الكتابة والاختلاف لجاك دريدا ترجمة كاظم جهاد حيث سيشرح دريدا في حوار مع المترجم صعوبة المصطلح _ وكذلك التفكير في الآخر بوصفه شريكا في تكوين الذات، وحل مشكلة التصادم، والصراع بينهما بتحويل عملية الاشتباك إلى اشتباك معرفي.

هذا الاشتباك هو اشتباك، وحضور فلسفي؛ لأسطورة الغريب غير المصرح بها في وعي مفكري الاختلاف الذين نظّروا لعلاقة الذات بالآخر الغريب. إنها تحضر بعمق ما تشكله من ترسبات، وتقاليد في الذهن، والذاكرة البشرية عن علاقتها بالعالم. فالاشتباك بها، وحضورها في هذا الشكل الفلسفي هي محاول لزعزعة تلك الطاقة التي مازالت تتحكم، وترسم علاقة الإنسان، والأعراق بالغرباء الآخرين، محاولة لترسيم مبادئ اعتراف وقبول، واحترام لاختلاف الغرباء، وذلك إذا وضعنا في الحسبان أن تلك العلاقة الأسطورية بالغريب مشبعة، ومحملة بكم هائل من احتمالات العنف والحروب؛ لذا شكلت فلسفة الاختلاف مايشبه مدرعة ردع وحقن لتلك الحمولات المختزنة في حضور أسطورة الغريب في العالم المحملة باحتمالات الصراع. فالذين قاوموها، أو حاولوا تفهم حضور الغريب في الذات بهذا التفلسف حول الآخر، والمصالحة، والتسامح، وبروز مصطلح الذاكرة ـ انظر كتاب بول ريكور الذاكراة التاريخ النسيان ـ وسياساتها كانوا جربوا، وعايشوا ويلات الحربين العالميتين في القرن العشرين. ومن الملفت أن المؤسسين لهذا التفلسف غرباء _ المفكرون من اليهود مارتن بوبر ولفنياس ودريدا لقد تعرض دريدا لتجربة الطرد من المدرسة بسبب انتماء أسرته لليهودية في فترة الحرب العالمية الثانية _ حيث تم التعامل معهم كذلك في التاريخ الأوروبي.

ومن واقع حياة دريدا فقد كان يعيش غربة مستمرة في فرنسا، ومع الثقافة الفرنسية حيث الشعور بالطرد، والرفض كان ملازما له، وهو اعتراف يرويه على لسانه الشاعر المغربي محمد بنيس في مقال يستذكر لقاءاته به، وحواراته بعد وفاة دريدا بعنوان:(لقاءات جاك دريدا/ منشور في جريدة الحياة ٢٠٠٤/١٠/٢٢). يعترف فيه دريدا بواقع غربته يقول بنيس:(مرة، ونحن نتكلم عن الوضع الثقافي في فرنسا وعن وضعيته الشخصية، ذكر لي أنه غريب وقد قضى زمناً طويلاً من الغربة في فرنسا. كان يعيش ويدرّس وينشر في فرنسا على أن الفرنسيين لا يعترفـون به، لا يهتمون بما يكتب. أكثر من ذلك، كانوا يتجاهـلونه).

هذا الاعتراف كان على أثر نكبة من الحزن انتابته، وهم في سهرة دبلوماسية كان أعدها على شرفه السفير الفرنسي في الرباط مما جعله ينبه بنيس بضرورة الخروج من الحفل، والتجول به في المدينة حتى انتثر الكلام المخنوق على لسانه!. هكذا هي الخلفية النفسية الثقافية التي أسس عليها دريدا فكره حول الاختلاف!. إن اللحظة الثقافية التي باح بها دريدا لبنيس عن حالته كغريب كانت فرنسا تفاخر بعد قرنين تقريبا من الثورة الفرنسية بأنها رائدة حقوق الإنسان!. في هذا السياق يضعنا اعتراف دريدا أمام واقع كون الثقافة الفرنسية تعاني من جرح الاعتراف بالآخر الغريب، ويبدو كتاب دريدا (لغة الآخر الاحادية) تفكرا في هذه المسألة!. وأمام طبيعة هذا الاعتراف الذي من الممكن أن يمثل قلق الغريب المترسب، وقد ظهر في لحظة كئيبة من لاوعي عاش شعور الغربة، والطرد، ولا يمثل الشعور بتجاهل الفرنسيين له إلا إسقاطا لشعور الغريب عن الثقافة، والمجتمع!.

 لكن كل هذه المنظورات عن العلاقة بالآخر الغريب لم تؤسس عمليا في واقع السياسة إلا لحل الإشكال داخل أطر الثقافة الأوروبية بحيث أن العنف غير المنظور، والمحتمل مع الغرباء يتم تصريفه خارج المجتمع  والدولة؛ لكنه واقعيا يعزز أسطورة الغريب المحمل بالشر. نلحظ ذلك في تنامي الحملات المعادية للإسلام، والمهاجرين في أوروبا العصر الحديث بحيث يحمّل المهاجرين مسؤولية المشكلات الاقتصادية، كما في سلوك الولايات المتحدة. فسلوك عنفها بعد حروبها الأهلية الدامية تم توجيهه للخارج!. هكذا بنت، واستعادت أسطورة الغريب الجالب للشر في القرن العشرين في وجود الإرهاب. فبقدر مايتم نشر فكرة التعايش داخل الوطن، وبين أفراد الشعب وحل موضوع العنف الداخلي عبر مجموعة القوانين التي تنظم تصريف العنف داخل المجتمع نرى تعزيز لمخيلة الشر القادم من الغرباء تارة على شكل كوكب، وكائنات غريبة من الفضاء الخارجي في الأفلام السينمائية، ومرة من خلال تضخيم حضور صورة الإرهاب الذي سيدمر المجتمع، والذي سيتم عبره تبرير سياسات العنف نحو الخارج، وتشريع الحروب على الغرباء الهمج الراغبين بالشر للعالم المتحضر!.

لقد ارتبط الاختلاف في الفلسفة القديمة من أرسطو، وافلاطون بفكرة السلب بحيث كان الاختلاف نفيا للهوية بما هي اكتمال الذات لذا تقوم في تعارض مع أي غيرية، واختلاف. هذا المعنى هو ما يقلبه فكر الاختلاف، وقبلها مع مارتن بوبر في (الأنا والانت)، وليفنياس في (الزمان والآخر) حيث يقولون بأن هوية الأنا لا تكتمل، ولا معنى لها إذا لم تكن في علاقة مع الآخر بوصفه المرآة الغريبة التي تعطي للأنا معنى هويتها!. بينما سيشير مصطلح دريدا (الارجاء والمغايرة) إلى عدم اكتمال أي هوية؛ فهي في حالة تشكل؛ وتحول دائمين. وهذه فكرة سارتر حول هوية الأنا؛ إلا أنه أخذ موقفا حادا من الآخر باعتباره شرا، وإن كان أخضعه لشروط!.

من هنا ربما يحاول دريدا معارضة كل ادعاء للهويات باعتبارها أيقونة ثابتة من القيم مما يجعلها تقف في تطاحن مع كل هوية غريبة. دريدا هنا يحاول فك النزاع داخل التباس هويته التي عانت عبر التاريخ من الصراعات، والنبذ. وقد أسست جراء ذلك هوية مغلقة، وتعيش خوفا دائما من كل هوية غريبة. وبالعودة للخطاب الذي يوجهه لِفيناس نحو (الآخر الغريب) نجد أنه نابع من أزمته الثقافية باعتباره يهوديا، ومولودا في منطقة على هامش أوروبا. فليتوانيا التي يتحدر منها من الدول الحديثة التي بزغت بعد الحربين العالميتين. فمما يمكن أن توحيه لنا هذه الخلفية الثقافية، والجغرافية الهامشية هو أن هذا الخطاب يتشكل تحت ضغط تاريخي؛ لأزمة ثقافية عانت خلالها الثقافة التي ينتمي لها لفيناس من الطرد، والتهميش الدائم داخل الثقافة الأوروبية؛ لذا هو يبني خطابه لحل هذا الإشكال الثقافي في سياق التاريخ الثقافي، والحضاري لأوروبا من الحساسية من اليهود؛ كغرباء داخل الثقافة الأوروبية!.

يحمل عنوان كتاب ليفنياس (الشمولية، واللامتناهي) دلالة على معنى مواجهة لفيناس الأخلاقية حيث يقف بالضد من النظرة الشمولية التي تأخذها القيم المرتبطة بالأمة؛ ليفتحها على اللامتناهي. وذلك حين نضعه في سياق اللحظة السياسية المقلقة بعد الحربين العالميتين وأثنائهما. كذلك حين نضع نظرية أينشتاين (النسبية) في اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها ذات النزعات القومية، والعرقية الشمولية، والتي مثلتها (النازية) الهتلرية في أقسى شكل من العنف يتبين لنا أن ظهورها لدى أينشتاين ليس مرتبطا بالتفكير في فهم نظام الطبيعة الخالصة؛ وأنه نتاج انهماك في حل مسألة عويصة في العلم. إذ اللحظة التاريخية، والسياسية والخلفية الدينية (خلفية الغريب) التي يتحدر منها أينشتاين هي المحرك؛ لهذا الشكل من التفكير حيث اكتسحت الأفكار الشمولية الحياة، وتحت هذا الضغط كانت حياة أينشتاين مهددة بالدمار فجاءت نتيجة بحثه عن حل لهذه الشمولية من داخل معبد العلم الذي بات العالم الغربي يخضع له تحت سلطة العقل الممثل الرمزي للإيمان الحديث بالتقدم والحضارة! . فلم تكن النسبية موضوعا جديدا ابتكره أينشتاين كما يوضح أورتيغا دي غاسيت في كتابه (موضوع زماننا) فقد عرفها الفكر الإغريقي، كذلك يقلل عبدالرحمن بدوي من قيمتها العلمية في موسوعته الفلسفية حين يتحدث عن انشتاين مذكرا بنظرية الكم التي كانت ردا عليها؛ لكنها لم تحض بهذه السمعة مما يحيل بدوي سبب انتشارها إلى المكينة الإعلامية التي أحاطت انشتاين واستعملته للترويج للدولة الاسرائلية المحتلة!.

من هنا يمكن القول أن أينشتاين استدعى الفكرة، وحشد لها كامل طاقته العلمية؛ ليقدمها في صيغة من المعادلات؛ كي تكون بعيدة عن أي منزع بلاغي يمكن أن يأخذها إلى صلب التحيزات القومية، والدينية!. هكذا عبر هذه الصيغة الرياضية للنسبية يمكن إثبات بطلان الشمولية الفيزيائية بوصفها قانونا تخضع لها الطبيعة؛ فما بالك إذا قيست بالوضع البشري!. إذا صحت هذه الفكرة فإن أنشتاين لم يحافظ على فكرته المقاومة للقومية حيث تشهد تنظيراته وبياناته بشأن الدولة اليهودية الموعودة في تلك اللحظة الحساسة والمتفجرة فقد تحمس لها، ونظر لها بوصفها اللحظة التاريخية الموعودة للم شمل يهود العالم ـ انظر كتاب كيف أرى العالم ت. عبدالكريم غريب ـ في وطن قومي على الرغم من تنبيهاته الخجولة من احترام التعامل مع العرب وبحذر كي لا تتفجر العداوات يقول مثلا في واحدة من مقالاته:(إن استعمار فلسطين الذي باشره زعماء مخلصون وحذرونيقصد هرتزل الذي يصفه بالعظيم ـ مع صعوبات لا جدال فيها؛ قد بدأ يعطي نتاج جيدة لدرجة أنه لم يعد بإمكاني التشكيك في نجاحه النهائي.

وبالنسبة ليهود العالم بأسره، تتضح الأهمية البالغة لهذا العمل؛  إذ أن فلسطين ستكون بالنسبة لجميع اليهود فضاء للثقافة، وبالنسبة للمضطهدين ملاذا، وللأفضل من بيننا مجالا للعمل. بالنسبة ليهود العالم برمته، ستجد فلسطين مثلا للوحدة ووسيلة للإنبعاث الداخلي). وفي مقطع آخر يحدد رؤيته للوحدة القومية فيقول:(من المهم أن نستعيد نحن اليهود الوعي بوجودنا كجنسية، وأن نكتب من جديد عزتنا الضرورية لحياة ناجحة. ومن جديد، يتعين علينا أن نتعلم كيف نهتم باستقامة أسلافنا وبتاريخنا؛ كما ينبغي لنا كشعب أن نأخذ على عاتقنا مهام من شأنها تقوية شعورنا الجماعي). ولتفادي الصبغة القومية المتصلبة يصوغ الملاحظة التالية:(لا يكفي أن نشارك كفرد، في التقدم الثقافي للإنسانية؛ إذ ينبغي كذلك مواجهة هذا النوع من المشاكل التي هي شأن الجماعات القومية؛ وهذا هو الحل من أجل يهودية جديدة ذات طابع اجتماعي)!. هذه الملاحظات ذات الطابع الحماسي للوطن القومي لا تحميها هذه الملاحظات التي توصي؛ بأن يكون الوطن اجتماعي يكسر حاجز العزلة عن العالم، والدخول معه في علاقة اجتماعية تخالف ما عرف عن عزلة اليهود الاجتماعية من العنصرية، والتعصب!.  

وفي عودة للفيناس في هذا السياق نلحظ أن وجودية هايدغر في تحليلها لوجود الإنسان تضع الوجود في الزمن من أجل الموت؛ لذا بنى لفيناس وجوديته في علاقة جدال مع وجودية هيدغر. فهو يجابه هذا التأويل الفلسفي الظاهراتي بوصفه الممثل الرمزي ثقافيا لمن أخذهم الموت النازي؛ فيقول بحسب ما يوضحه لنا بول ريكور في كتابه(الذاكرة، النسيان التاريخ) بالوجود رغم الموت، وبالوجود ضد الموت!. هكذا يؤسس لفيناس وجوديته تحت عنوان عريض: من الموجود إلى الغير؛ ليجعل هدف الوجود هو التعرف على الغريب؟.

لكن الغريب بالنسبة للفيناس الذي يتوجه نحوه بهذا الخطاب الفلسفي داعيا إياه بالانفتاح على أناه الثقافية هو الأوروبي صاحب الخطاب المركزي المتعالي على الثقافات الأخرى. يأتي لفيناس كيهودي كما أشرنا من منطقة جغرافية هامشية. وقد كانت تلك المناطق بالنسبة لبعض الدول الأوروبية الكبرى؛ كألمانيا مثلما عبر عنه مشروع هتلر مجرد مكان لتفريغ العمالة لخدمة الدولة المتقدمة صاحبة العرق الأقوى، والأنقى كما أشاعت العقيدة النازية. فهذا التحدر من الهامش الذي نُظِر إليه بازدراء دائم عامل تحريك لبناء، وخلق هذا الخطاب نحو إيجاد علاج فلسفي يليق أيضا بالسياق الحضاري الذي يتحدر منه الآخر الغريب، لتلك العلاقة المتوترة عبر التاريخ بالآخر الغريب الذي يمثله هنا الأوروبي خصوصا بعد انتقال لفيناس للعيش في دولة مركزية كفرنسا  ـ يقيم لفيناس في فرنسا منذ سنة ١٩٢٣ لأنه رفض من الجامعات الألمانية بسبب يهوديته انظر كتاب لفيناس من الموجود إلى الغير. ت. علي بو ملحم ـ تتمتع بخطاب فلسفي، وثقافي عريق داخل الحضارة الأوروبية. هذا الانتقال إلى عمق أوروبا جعله يتماهى مع النظرة المركزية الأوروبية في خطابها الاحتقاري اتجاه الشعوب الأخرى، باعتبار أوروبا هي الحضارة ومنبع الإنسانية!.

هكذا يتماهى لفيناس كغريب مع خطاب سيده الذي يتوجه له بخطاب فلسفي أخلاقي يُجِلُّ من خلاله اكتمال الأنا عبر معرفة الآخر لإيجاد حلول فلسفية تتجذر في الوعي الثقافي الأوروبي الذي عانى من أزمات حضارية، ومعرفية في العصر الحديث، ومن ضمنها العلاقة المتوترة بين اليهودي، والأوربي صاحب القوة الحضارية التي مارس عليه بكل عنف رمزي ومادي التهميش، والاحتقار، كما يدل عليه كتاب قديم لمؤسس النزعة اللوثرية، والذي عُد مجدد الخطاب اللاهوتي للمسيحية البروتستانتية الألماني مارتن لوثر في كتابه (اليهود وأكاذيبهم ت: د محمود النجيري). يدلنا هذا الكتاب على عمق الصراع اليهودي المسيحي. فهو يعيد مشكلة البدايات حول مسؤولية اليهود عن دم المسيح، وذلك في العصر الحساس الذي يعرف بالعصور الوسطى المظلمة، ولكن في سياق مختلف من تطور تبادل العداء الديني. في ذلك الوقت كتب لوثر كتابه الذي يقول فيه عن اليهود:(اليهود هم على الحقيقة المنافقون، وسفاحو الدم بلا مراء). وفي مقولة أخرى يحذر المسيحي:(فاحذر اليهود كل الحذر، واعلم أن مدارسهم في أي مكان ماهي إلا عش إبليس، حيث يكثرون من التبجح والإدعاء، واجترار العجب والخيلاء، وحبك حبال الكذب، والتجذيف على الله، والخداع لخلقه). وتتصاعد لهجة لوثر في مواقع أخرى؛ فيعلن للمسيحي حقائقه عنهم؛ فيقول:(اعلم ياعزيزي المسيحي، أنه ليس بعد الشيطان عدو أكثر سما ومكرا من اليهودي المحض، الذي يجهد أن يراك قد تهودت واتبعته. ولعل فيهم قوما ليست معتقداتهم تفوق مافي البقرة أو الإوزة من غرائز).

إن خطاب ليفيناس الفلسفي يواجه كل هذا التاريخ الازدرائي له كيهودي غريب داخل الثقافة الأوروبية داعيا الأوربي لإقامة علاقة مع الآخر اليهودي؛ كي يكتمل، وذلك بوصف الأنا كما يقول لفيناس لا تكتمل، وتتحقق، وتنوجد إلا عبر التعرف على الآخر الغريب. فعبر هذا الخطاب  يمارس ليفناس أيضا عنصريته باطمئنان جراء تماهيه مع القوة المركزية الأوروبية، وذلك بوصفه أوروبياً!. فالآخر الغريب بالنسبة له الذي يستحق هذه العلاقة هو الأوروبي، وليس أي إنسان آخر في العالم. هكذا تتبين لنا طبيعة خطابه النابع من أزمته كغريب داخل المجتمع الأوروبي. تتضح لنا هذه الصورة من تصريحاته الواضحة، فهو ينظر لأوروبا كمكان وحيد لنموذج تعايش البشرية، وبالتالي كمكان صالح لتنظيره للتعايش مع الآخر الغريب الأوروبي الذي عاش معه في صدام، وانعدام العيش الآمن. يقول ليفناس _ أقتبس هذه الشواهد من مقال حميد دباشي (سلافوي جيجيك وهاروم سكاروم) ضمن كتابه: هل يستطيع غير الأوروبي التفكير _:(عندما أتحدث عن أوروبا، فإنني أفكر في اجتماع البشرية. لايمكن للعالم كله أن يجتمع سويا إلا بالطريقة الأوروبية… ويمكن من هذا المعنى اعتبار أن البوذية سوف تكون بالجمال نفسه، باللغة اليونانية). هكذا تفتقد البوذية جزءا كبيرا من الجمال؛ لأنها لم تكتب باليونانية!. يتماهى لفيناس هنا مع الثقافة الأوروبية التي تتخذ من اليونانية لغتها المركزية الكلاسيكية!. فلفيناس يتحدر من اللغة العبرية، والثقافة اليهودية التي لا تشكل اليونانية فضاء ثقافيا مشتركا، حيث مارست المسيحية الرومانية منذ بداياتها قمعا لليهود حتى ظهور الإسلام، ومعروف عن العزلة اليهودية عبر التاريخ للحفاظ على الهوية الدينية!.

وفي شاهد أكثر وضوحا نتبين منه هذا التماهي الذي يعلي من الثقافة الأوروبي، وربط سياقها الحضاري بالعلاقة المشتركة بين الكتاب المقدس والحضارة الإغريقية بوصفها الإنسانية الوحيدة!. يقول لفيناس:(أقول _ في كثير من الأحيان (ليس مرة واحدة، أو مرتين، بل في كثير من الأحيان) على الرغم من كونه أمرا خطيرا؛ لِيُطرح على العلن، أن الإنسانية تتكون من الكتاب المقدس والحضارة الإغريقية. وكل ماتبقى _ وجميع الأفكار الغريبة الأخرى _ مجرد رقص)!. عبر هذا التماهي يمتد ليفيناس داخل الثقافة الأوروبية؛ كأوروبي لبث خطابه التصالحي مع التاريخ العنيف ضد الثقافة اليهودية بوصفه غريبا، فهذه هي صنيعة الغريب الثقافية، كنتيجة لطبيعة السياق الثقافي الذي يكونه كغريب مجبر على التماهي مع ثقافة الآخر مرات، وينتقدها مرات كما نلحظ لدى تزفيطان تودروف حين يكتب منتقدا النظرات الازدرائية للشعوب الأخرى في كتابه(نحن والآخرون). وكذلك جاك دريدا حين يفكك الهوية المركزية للعقل الأوروبي وهو نقد يعمل على هدم الهويات المستقرة، والمنغلقة، والتأسيس لهوية غير مكتملة، وجاهزة بل تتشكل باستمرار عبر الانخراط مع الآخر، وذلك ليمنع انبثاق التحيز الثقافي ضد هويته كغريب الذي تمارسه كل هوية مستقرة، وثابتة في التاريخ. إنه يذهب في نقذه للهوية نحو عدم هوياتي بوصفه المنطقة الخالية من شكل معروف، وبالتالي قادر على فعل التمييز ضده كهوية ناجزة، وواضحة ضد غموضه في التاريخ كغريب!.

لذلك فإن الغريب بوصفه المنفي، والمطرود الأبدي، والمُمَثّـِل منذ البدايات للشر، يؤسس على مر الوقت لقيم لا تستنفذ. إنه يحاجج دفاعا حضوره في الحياة بتأسيس أخلاق مجردة لا تخضع، وتتعالى على شروط زمن الأمة، والعرق. هكذا هي محاججة ليفيناس الأخلاقية؛ لكننا نجد في محاججة دريدا رغبة أعمق في إيجاد قيم لا تتواطأ مع الهوية الثابتة؛ لذلك هو يفكك استراتيجية القيم في انسجامها مع الهوية بغية تحريرها في الزمن من تواطئها مع الهوية ضد روائح الغرباء باعتباره يؤسس للاختلاف، وذلك بكون الاختلاف كما يراه دريدا هادما للهوية القارة حين يُضمِّن الاختلاف معنى الارجاء. من هنا هو يهدم كل تصور لهوية الأمة والعرق التي تعلي قيمها مقابل كل غريب؛ فاضحا زيف إنسانيتها حين يواجه الغريب الممثل لقيم مفارقة في حياة الأمة!.

وهذا السياق الثقافي للغريب يضعنا أمام هذا السؤال: كيف يعيد الغريب تمثيل ثقافة الآخر بين القلق والفتنة!؟. القلق منها، والافتتان بها!.