مجلة حكمة
حوار بين إدغار موران وجان ميشيل بلانكير: كيف نغير المدرسة؟

إدغار موران: أصدقائي وعلاقاتي وأفكاري – حاوره: جان-فرانسوا دورتيي / ترجمة: ياسين إدوحمو


بمناسبة صدور كتابه الذي يحمل عنوان (les souvenirs viennent à ma rencontre)، قمنا بزيارة إدغار موران، وناقشنا الأحداث واللقاءات التي شكلته والأفكار والمعارك التي يتشبث بها، بل وتحدثنا كذلك عن المستقبل والمشاريع التي يُخطط لها هذا الشاب الخالد صاحب الثمانية والتسعين ربيعا.

يجب أن أعترف أنه في الآونة الأخيرة، في كل مرة أذهب للقاء إدغار موران، أقول لنفسي : “قد تكون هذه آخر مرة.” ولأنه لا تنقصه روح الدعابة والسخرية، أجابني ذات يوم قائلا : “هذا أمر طبيعي، فأنا مرحلة ما قبل الوفاة.” غير أنني في المرات الأخيرة، أخرج مستفيدا لدرس حول الحيوية. فلو كان المرء مثل إدغار موران، يبلغ من العمر 98 سنة، فبإمكانه عيش حياة حافلة وخلاقة. التقيته في نهاية شهر غشت 2019، بمنزله الجميل الكائن بمونبولييه، حيث كان قد عاد من جولة محاضرات ألقاها في البرازيل، معرجا كذلك على مدينة روما التي التقى فيها بالبابا فرانسيس (“لدي مشروع معه“)، كما حدثني عن مذكراته التي ستصدر قريبا. لذلك رتبت مع المفكر موعدا، وبعدها ببضعة أسابيع، رأيته مجددا بشوشا وصافي الذهن، حيث تحدثنا عن الأدب والسينما وعلم الإنسان. عندما وصلت إلى منزله، خشيث رؤية رجل ميت يمشي، لكني رأيت  ذلك الرجل المحب للحياة الذي كان قد أعطاني  سابقا هذا الدرس الجميل حول الحيوية : ” كلما لا يتجدد تتدهور حالته” (La Vie de la vie, t. II, La Méthode). أخبرني كذلك أنه يعتزم الصعود على خشبة المسرح لأداء بعض الأغاني التي أثرت فيه، من بينها أغنية La Varsovienne، وهي أغنية ثورية تعود لنهاية القرن التاسع عشر. ودون أن يُطلب منه، بدأ في الغناء، فقمت بتوثيق اللحظة باستعمال هاتفي الذكي. مقطع الفيديو متوفر على موقع مجلة  Sciences Humaines.

يُقدم هذا الكتاب –Les souvenirs viennent à ma rencontre– نفسه على أنه كتاب “ذكريات” وليس كتاب “مذكرات”. ما الفرق؟

تُقدم الذكريات نفسها عموما على أنها سيرة ذاتية يتبع فيها المؤلف تسلسلا زمنيًا؛ كما أنها تنطوي على عملية توثيق لتاريخ الفرد لإعادة صياغة مسار حياته، حتى لو كانت إعادة الصياغة هذه مزيفة جزئيًا.  لقد كتبت هذا الكتاب والذكريات تأتي إلي، إذ لم يتم عرضها حسب ترتيب زمني، أي إنها هذه ذكريات “تحضر لملاقاتي” كما يقول العنوان. أعطيت الأمر لغرض النشر، لكنني أردت أن أبقي هذا الزخم الأولي وأن أركز انتباهي على الأشخاص واللقاءات والأحداث التي كانت الأكثر أهمية بالنسبة لي، والتي كونت شخصيتي.

إن التسلسل المواضيعي له في الواقع الأسبقية على التسلسل الزمني. ومن ثم فإن المواجهة مع الموت، والتي قد يتوقعها المرء أن تأتي في الفصل الأخير، نجدها منذ البداية:  بقصة صبي صغير، يواجه في وقت مبكر جدًا، موته الوشيك.

بالفعل، فقد صادفت الموت في وقت مبكر جدا، منذ المرحلة الجنينية. كانت والدتي تعاني من مرض في القلب وكان هناك قلق من أن قلبها لن يستطيع التغلب على الولادة. عندما وجدت نفسها حاملاً، تناولت بعض  الأدوية في محاولة لإجهاضي، غير أن ذلك لم ينجح: لذلك كنت على أعتاب الموت لأول مرة. لقد كانت ولادتي مواجهة ثانية مع الموت، حيث وُلدت وأنا مخنوق بواسطة الحبل السري، وتطلب الأمر عدة دقائق لإعادة إنعاشي. وكما يذكر والدي، لم ينعشني الطبيب إلا في اللحظة الأخيرة. بطبيعة الحال لم يترك حضور الموت أي أثر لذكريات واعية؛ بالمقابل، كانت وفاة أمي عندما كنت في سن العاشرة فاجعة كبيرة : هذه الخسارة المطلقة أجبرتني على العيش دون المطلق. في وقت لاحق، كنت على وشك الموت عندما كان عمري بين العشرين والخامسة والعشرين أثناء المقاومة. لهذا السبب إذن تبدأ هذه القصة بالموت، إذ يطاردني شبحها منذ وقت مبكر جدا. لقد أدركت أن ثمة صلة بين الحياة والموت لا تنفصم عراها.

إن الموت هو كذلك الثيمة التي يتمحور حولها  أحد كتبك الأولى :”L’Homme et la Mort” (1951).  تتجلى واحدة من أطروحاته أنه في جميع الحضارات، كوَن البشر صورة خيالية حول الحياة الآخرة، بحيث ينكرون الموت من خلال أساطير وخرافات حول خلود النفس البشرية.

نعم. لقد ساعدني الخيال من قبل على الصمود بعد وفاة والدتي، حيث انشغلت بقراءة الروايات والسينما، ثم اكتشفت، أثناء تأليف كتاب L’Homme et la Mort، الدور المحوري الذي يلعبه الخيال في تاريخ البشرية. وهكذا أبعدت نفسي عن الرؤية الماركسية التي تجعل من الأفكار “بنية فوقية” ترتفع فوق بنية تحتية مادية. إن الخيال جزء متأصل من الوجود الإنساني، وذلك بطرق شتى: فأولا، يُسعد الخيال الحياة ويُضفي عليها طابعا شعريا، كما أنه مرتبط ارتباطا مباشرا بالحياة من خلال أحلام اليقظة والتوقعات والآمال والمشاريع والطوباويات؛ وأخيرا، يعد الخيال، من قبيل المفارقة، منفذا للوصول إلى المعرفة. إن الروايات والسنيما قصص خيالية، غير أن بعضها يمتلك هذه المقدرة على جعلنا نستكشف عوالم يتعذر علينا تصورها  بشكل مباشر في الواقع.

يتناول أحد الفصول في كتاب  Souvenirs الكتب التي ميزت فترة شبابك والتي “غيرت حياتك”.

نعم، فقراءة الروايات كانت وسيلة لاستكشاف حقائقي الخاصة، إذ من خلال Anatole France  و Montaigne اكتشفت شكوكي. إن الأعمال التي تترك في المرء أثرا هي تلك التي توضح للمرء أشياء  موجودة في داخلنا دون أن نعرف كيفية التعبير عنها، حيث وجدت الإيمان عند تولستوي أو دوستويفسكي. في الواقع، قبل فترة قصيرة أعدت قراءة رواية الحرب والسلم، التي هي من الروائع الأعظم على الإطلاق، وغمرتني نفس الأحاسيس التي انتابتني عندما قرأتها لأول مرة.

هذه الذكريات هي أيضًا ذكريات العديد من الالتزامات السياسية التي تم التعهد بها على مدار السنين: المقاومة، ثم الشيوعية، فحرب الجزائر وأحداث ماي 1968، واليسار والمناخ والنضال من أجل “السياسة الحضارية”.

لا تعجبني كثيرا كلمة “التزام”، إذ تحمل مدلولا حزبيا بل وحتى عسكريا؛ حيث “يلتزم” المرء داخل حزب ما كما يلتزم في الجيش. بيد أنني لم انظم للحزب الشيوعي سوى لبضع سنوات، حيث رويت قصة خروجي منه في كتاب Autocritique. بخلاصة، كنت طوال حياتي، منغمسا كثيرًا في الأحداث التاريخية التي شاركت فيها ، و شعرت بالانغماس في المغامرة الإنسانية.

لقد قادتك هذه المعارك لإقامة معارف جدد، مع مفكرين وشخصيات. يمكن قراءة هذا الكتاب وكأنه معرض لوحات لأشخاص معروفين أو مجهولين : حيث إننا نصادف أساتذتك القدامى ومقاومين، ومفكرين وكُتاب تركوا بصمة في حياتك.

لقد كانت النية الأولى هي تأليف كتاب حول “أصدقائي وأبطالي”، بعضهم أبطال أدبيون أو مفكرون والبعض الآخر شخصيات استثنائية، وهو الحال بالنسبة لـ Michel Cailliau أو Pierre Le Moign، هذا “البطل صاحب الابتسامة الحلوة”، أو Wilebaldo Solano الذين كانوا  رفقاء درب في فترة المقاومة. هؤلاء الأشخاص يعتبرون في نظري أشخاصا استثنائيين جديرين بالإنسانية.  وخلال المقاومة أيضا، التقيت بFrançois Mitterand، الذي كان قائد الشبكة التي شاركت فيها.

لقد منحني تأسيس لجنة المثقفين الفرنسيين ضد استمرار الحرب في الجزائر، التي شاركت فيها، الفرصة لمقابلة André Bréton، وهي مقالبة خلفت في تأثيرا كبيرا. في ثمانينات القرن العشرين، اقترحت على Francois Mitterand، إنشاء مشروع “Palais du surréalisme” الذي لم ير النور لسوء الحظ النور (المشروع مرفق مع كتاب Souvenirs).

نجد كذلك في هذا الكتاب وصفا لأشخاص استثنائيين مثل Jeanne Blum، زوجة Léon Blum.

لقد تعلقت بـ Jeanne Blum التي قابلتها في خمسينات القرن الماضي. إذ من خلالها، تمكنت من جمع شهادات مؤثرة وحميمية حول Léon Blum نفسه، حيث كانت شخصا أبهرتني بنُبلها وصراحتها وكرمها. وهي من بين الأشخاص المهمين لأنها تعطيكم وجه الكرامة الإنسانية، فقد كانت تتسم بالإنسانية. ذات يوم، اتصلت بي لتودعي : حيث أبلغتني أنها “ذاهبة لسويسرا”، غير أنني لم أفهم الرسالة الضمنية. ذهبت إلى سويسرا لإنهاء حياتها، حيث رأت أنها قد عاشت ولم تُرد أن تكون عبأ على الآخرين. إن Jeanne Blum أحد أولئك الأشخاص المجهولين الذين ظلوا في الخفاء والذين أردت الإشادة بهم.

كل هذه اللقاءات مرتبطة بأماكن ولحظات مميزة للغاية. نجد إدغار موران الشاب عام 1946 ببرلين، في  مدينة مدمرة ستدور فيها قصة جديدة قريبا، بعدها في باريس المثقفة التي تنبض بأفكار جديدة في الخمسينات، وفي كاليفورنيا في الستينات التي تشهد انبثاق الثقافة المضادة. نسافر أيضا إلى اسبانيا وإيطاليا وأمريكا اللاتينية إلخ..

إن الأفكار التي يصيغها المرء حول العالم تعتمد على الأماكن التي يعيش فيها، وثمة فصول مخصصة لهذه الأماكن التي تُعد كذلك أماكن معرفة وأماكن تتشكل فيها مجتمعات وصداقات، وتتشكل فيها طرق لفهم العالم والإحساس به. إن مغامرة الأفكار هي أيضا قصة أماكن وثقافات.

على مدار العقود، تغير المناخ الفكري تغيرا كبيرا: في فترة ما بعد الحرب، سادت الوجودية، من ثم الماركسية، فالتحليل النفسي، فالبنيوية قبل أن تكتسب نظريات الكائن الزخم. لم تعتنق أبدا هذه المذاهب التي كانت رغم ذلك قوية خلال زمنها.

لقد استفدت من تأثيرات عديدة، غير أن شيئا بداخلي منعني من الانغماس فيها. بعض نصوص جان بول سارتر Jean-Paul Sartre مثل كتابه حول الخيال تركت أثرا في كتابي حول السينما والرجل الخيالي، غير أنني لم أكن أبدا وجوديا. وبالمثل، أعجبت بكتاب “Tristes tropiques” لمؤلفه Claude Lévi Strauss وكذا بعض كتابات Roland Barthes، الذي كنت أعرفه جيدا، لكن دون أكون من أتباع البنيوية، إذ إن هذه الأخيرة تقترح رؤية مبسطة للغاية عن الكائن البشري. لقد تأثرت بالهيجلية-الماركسية، أو بالأحرى الرؤية الديالكتيكية للمسعى الإنساني عوض الماركسية المادية التي تنظر إلى التاريخ الإنساني بوصفه نتاجا للقوى الاقتصادية والصراع الطبقي. لقد كانت ماركسيتي متفتحة قادتي إلى ميتاماركسية ثم إلى تجاوز، وهذه كانت الحالة بالنسبة لماركسيين قدماء مثل Cornelius Castoriadis و Claude Lefort و Kostas Alexos  و François Furet وآخرين ممن عاشرتهم. شكلت مجلة Arguments  التي أطلقناها سنة 1957 حدثا مهما في خروجي من الماركسية (فهرس هذه المجلة مرفق بالكتاب)، ليصبح بعدها شعاري هو التعقيد.

لقد كانت هذه المقدرة في عبور الحقب والأنماط الفكرية دون الخضوع لأي منها علامة على الاستقلالية، بل يمكن أيضا النظر إليها على باعتبارها شكلا من أشكال الأنانية، إن لم نقل النرجسية. تمزج العديد من كتبك حياتك مع الأفكار والأحداث التي تُحللها.

صحيح، غير أن هذا الرابط بين حياتي والأفكار كان بالنسبة لي أمرا لا مناص منه في ظل الأوقات المضطربة التي عشت فيها. إضافة إلى ذلك، فإننا نُسقط دائما تصوراتنا على العالم، وتلك فكرة مهمة تعلمتها مبكرا من Georges Lefebvre، مؤرخ الثورة الفرنسية العظيم الذي كان أستاذي بجامعة سوربورن. خلال فصله، كان يشرح أن جميع القراءات المتتالية التي تم إنجازها على الثورة كانت تحكمها الانشغالات السائدة في زمنها، حيث اقترح Jean Jaurès  قراءة شيوعية للثورة متمحورة حول الحركات الشعبية والقوى الاقتصادية، في حين أن Albert Mathiez، الذي كان شيوعيا، مجد Robespierre  وعهد الإرهاب. وفيما بعد، لم تتزعزع الظاهرة. فالفوضوي Daniel Guérin رأى في الثورة حركات تمرد عفوية، وبعدها في سبعينات القرن العشرين، اقترح François Furet، الذي كان قد غادر الحزب الشيوعي واستنكر الستالينية، قراءة مابعد ماركسية للثورة. من قبيل الوهم أن يعتقد المرء أنه يُمكنه التحرر من ذاتيته للوصول لموضوعية مطلقة في معرفة الإنسان. في الكثير من الأحيان، ما تفعله الموضوعية المُعلنة هو سوى إخفاء الآراء المسبقة التي يحملها المرء، ولهذا السبب في الواقع سعيت لكشف جانب من حياتي في مذكراتي (في Journal de Californie  و Le Vif du Sujet على سبيل المثال( التي أروي فيها قراءاتي ولقاءاتي وأعبر فيها عن الشكوك التي تراودني والمشاكل التي تعترضني وكذا تساؤلاتي. وإذا ما اعتُبرت هذه الذاتية نرجسية – رغم أن الحديث بصدق عن الذات ينطوي كذلك على الكشف عن نقاط الضعف- فإن ذلك حتمية ابستيمولوجية. يجب على المراقب أن يراقب ذاته من أجل تحديث افتراضاته الخاصة وتأثيراته وتحيزاته، حيث يتعين على الدارس أن يكون أيضا موضوع الدراسة، وهذا جانب مهم من منهجيتي المعقدة : وهي أنني أتسمك بالذاتية.

وعلينا ألا ننسى، كما قال Montaigne، أن “كل إنسان يحمل في داخله الطبيعة البشرية”. فعبر الإفصاح عن جزء حميمي من الذات، يمكننا كذلك التواصل مع أولئك الذين يعانون نفس الأشياء ويُحسون بها. أعتقد أن André Gide، الذي قالها بطريقته الخاصة : “كلما كنا متميزين كنا عالميين.”

كيف ينظر المرء إلى المستقبل في سن الثامنة والتسعين؟

أولا وقبل كل شيء، أنا أهتم بمستقبل الإنسانية، إي إن العالم وتطوره القادم يُؤرق بالي، على الرغم من أنني لن أرى الكثير. إن غياب مستقبل شخصي أو بالأحرى، أفقي الزمني القصير للغايةـ لا يمنعني من التفكير في مستقبل البشرية التي أعد جزءا منها. وبالتالي فإن المستقبل حاضر بقوة في داخلي.

على الصعيد الشخصي، كيف أرى مُستقبلي؟ عند بلوغي لسن 80، أدركت أنني سأموت عما قريب: ربما بسبب أزمة قلبية أو سكتة دماغية… في ستينات القرن الماضي، توقعت عرافة أنني سأموت واقفا، بضربة واحدة. وفي عمر الثمانين إذن عودت نفسي على فكرة الموت القريب. بعدها بلغت سن 90  وبعدها 91 و 92 وأنا الأن في سن 98. لم يأت الموث بعد، فتعودت على البقاء حيا !

المصدر : مجلة العلوم الإنسانية – نونبر 2019، عدد 319.