مجلة حكمة

كلود ليفي ستراوس: رجل خالد – ترجمة: سعيد بوخليط

سعيد بوخليط
غلاف الكتاب

I ـ مفكر القرن :

هو، أنثروبولوجي وإثنولوجي، أستاذ شرفي بكوليج دوفرانس، عميد الأكاديمية الفرنسية، صاحب أطروحة الفكر البدائي، ثم آخر ممثلي قرن أساتذة التفكير… مات بباريس يوم 3 أكتوبر 2009.

28 نوفمبر 1908، ولادة ليفي ستراوس بمدينة بروكسيل، بين أحضان أسرة تتكون من الفنانين. 1909، ترك بلجيكا لكي يستقر بفرنسا، باريس أولا ثم فيرساي. 1918، عودته إلى باريس ودراساته الثانوية بمدرسة : Janson-de-Sailly. 1935، نال شهادة التبريز في الفلسفة، تدريسه للسوسيولوجيا، بساوباولو، وتجليات أول اتصالاته بهنود الأمازون. 1940، ذهابه إلى نيويورك، وبعد أن انضم إلى فرنسا الحرة، درَّس بالمدرسة الحرة للدراسات العليا. 1949، أصبح نائب مدير “متحف الإنسان” بباريس، دفاعه عن أطروحته : [الأبنية الأولية للقرابة]. 1960، (5 يناير)، ألقى الدرس الافتتاحي بكوليج دو فرانس، كما أسس مختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعية. 1961، إصدار أول إعداد مجلته “الإنسان”. 1973، انتخابه لعضوية الأكاديمية الفرنسية. 1983، سفره الثالث إلى اليابان. 1984، زيارته لإسرائيل. 1985، بمناسبة إقامة رسمية للرئيس فرانسوا ميتران بالبرازيل، فقد شكل ذلك فرصة سانحة أمام ليفي ستراوس ليعثر ثانية على البلد الذي غادره منذ خمسين سنة، هيأت له جامعة ساو باولو استقبالا حماسيا. 1989، معرض “أمريكيو ليفي ستراوس” بمتحف الإنسان. 2006، دشن الرئيس جاك شيراك متحف “الفنون الأولى” معبرا عن تقديره الشديد ل ستراوس. 2008، وُضِعت مؤلفاته ضمن قائمة ما تتضمنه المؤسسة النفيسة : Bibliothèque de la pléiade . 28 نوفمبر 2008، احتفال بعيد مولده المائة، زاره الرئيس ساركوزي في بيته، كي يعبر له عن امتنانه ويشكره باسم كل الوطن.

إذن عن عمر يناهز 101 سنة، ودعنا ليفي ستراوس أحد الرموز الأساسية للثقافة الفرنسية في العالم، بعد أن جسد العلم الحديث برفعة وبساطة لا يضاهيان. سيتردد صدى رحيله من “هارفارد” إلى “يال”، وفي البرازيل وكذا داخل كل مدرجات جامعات العالم، بنفس الحدة كما هو الحال في باريس. لقد، كان ربما آخر مفكر فرنسي  بأبعاد كونية جد واسعة.

كلود ليفي ستراوس
كلود ليفي ستراوس

سيعرف ليفي ستراوس عالميا، بكونه قد كرس ذاته للتعميم، حينما أدخل البنيوية إلى الأنثروبولوجيا. فأعمال مثل “البنيات الأولية للقرابة”، “الأنثروبولوجيا البنيوية”، أو “الفكر البدائي”، أضحت الآن خالدة. نجد أيضا في الريادة كتاباته عن “النيئ والمطبوخ” أو “أصل طرق المائدة”، حيث فتنت جمهورا واسعا. أما، دراسته المعنونة ب “المدارات الحزينة” وبدءا من أولى مقاطعها الرائعة : ((أكره الأسفار والمستكشفون))، فقد شهدت نجاحا كونيا.

رؤية ليفي ستراوس المتقاطعة إلى الحضارات، غيرت بعمق فكرة الثقافة ذاتها، إنه رجل للحاضر والأبدية. من أتاح لهم الحظ فرصة التعرف إليه عن قرب، اكتشفوا ستراوس أكثر لباقة ودماثة وتواضعا، اعتقدوا معها محاوروه دائما ـ خطأ ـ بأنهم أنداد له. استثنائي كذلك على مستوى ثقافته الأدبية، وكذا ذاكرته، فلا أحد مثله يلم ب لا فونتين وبودلير، وحتى آخر أيامه ظل يستشهد بهما بفتوة مدهشة. سيشكل رحيله، حزنا حقيقيا للذين أضمروا له إعجابا دائما.

احتفى به العالم قاطبة. دُرِّس في كل الجامعات الأوروبية والأمريكية، كما تُرجِم إلى أربعين دولة. لكن، كلود ليفي ستراوس يصر بشيء من التأنق على رفضه بطاقة أستاذ للفكر. عندما، استحضرنا معه ذلك، داخل شقته المتواجدة بحي باسي Passy، والتي تتزاحم فيها الكتب والذكريات، أكد ستراوس بأن صفة كهاته تثير لديه الانقباض والرفض. يقول : ((أثناء مراهقتي، ربما حلمت بدور أستاذ للتفكير، لكن هذه الرغبة تلاشت)).

صاحب “سلالة وتاريخ”، الذي ولج الأكاديمية الفرنسية سنة 1973 يفضل تعريف ذاته مثل حرفي يشتغل في العمق على أسئلة محددة : ((لا أبالي كثيرا بما يأتي من دماغي))، يكرر على غرار ديكارت. هذه السخرية المستمرة والعلنية ثم اليقينية ، مثلت واحدة من السمات المميزة لعقله. ستراوس، الذي امتلك النكهة والأسلوب، لا يترك أي شخص غير مكترث. نتذكر، جملته المتهتكة التي افتتح بها “المدارات الحزينة” : ((أكره الأسفار ورواد الاستكشاف))، العرض التأسيس الصادر سنة 1955، يشكل مع ذلك واحدا من الكتب الاستكشافية الكبرى خلال القرن العشرين.

ولد كلود ليفي ستراوس بمدينة بروكسيل يوم 28 نوفمبر 1908 وسط عائلة، تتألف من رسامين وموسيقيين فرنسيين. مفكر، رفض البقاء عند حدود مركز معين، بالتالي لم يشعر قط بالرغبة في توجيه فكره نحو بؤرة معينة. وفضل حفيد حاخام مدينة فيرساي، الارتقاء المتمرد صوب موضوع بحثه.

سلسلته “أساطير” : النيئ والمطبوخ (1964)، من العسل إلى الرماد (1967)، أصل طرق المائدة (1968)، والإنسان العاري (1971)، مجموعة إشارات واقعية للإثنولوجي، انتهت بتقديم خلاصات دقيقة جدا للفيلسوف. مع ذلك، بعد مضي ربع قرن على إنجاز هذه الرباعية التأسيسية، تحدث كلود ليفي ستراوس عن مأساة للبنيوية نظرا لتحجرها بين ثنايا نظرية فلسفية. على امتداد، حياته، أظهر صاحب الفكر البدائي عن مهارة في المراوغة، مما أضفى على مغامراته الذهنية فنا للمعنى.

يحب كلود ليفي ستراوس التذكير، بأن كل شيء بدأ ذات يوم أحد من خريف 1934، حين تلقى اتصالا هاتفيا من مدير المدرسة العليا للأساتذة، لكي يقترح عليه منصب أستاذ السوسيولوجيا بجامعة ساو باولو. حصل، ستراوس على الإجازة في القانون والتبريز في الفلسفة سنة 1931، ثم بعد دراسات بالسوربون، انتقل لممارسة التدريس بثانوية “Laon”. شاب مرتاب، يعشق في الآن ذاته الجيولوجيا، الموسيقى، الأدب، الرسم، التنجيم، الفنون الغرائبية، وكذا الأعمال الاقتصادية لماركس، تبين له استحالة رفضه لاقتراح المدير، لذلك سيعبر المحيط الأطلسي سنة 1935 رغبة في اكتشاف البرازيل : ((إنها التجربة الأكثر أهمية في حياتي))، صرح سنوات بعد ذلك.

غداة الهدنة، وبعد سنة من عودته إلى فرنسا، لم يجد ثانية مقعدا للتدريس، حيث اصطدم بتشريعات فيشي Vichy المعادية للسامية، فتحول إلى “طريدة داخل معتقل”. ترك، فرنسا مرة أخرى، متوجها إلى نيويورك للاستقرار فيها بين سنوات 1941 -1944، إلى جانب حشد من المفكرين والفنانين المنفيين. هناك، وضع لبنات مرحلة مفصلية أخرى في حياته، بمؤسسة : [New Scool for social Research]، وكذا المدرسة الحرة للدراسات العليا. بمدينة نيويورك أيضا، حيث وقع التزما مع القوى الفرنسية الحرة، واصل ليفي ستراوس الدفاع عن مسألة استقلال رجل العلم عن السياسي. يسترجع فترات الحقبة تلك بتأثر : ((كان مكسبا رائعا بالنسبة إلي، أن يقبلني فجأة هؤلاء العلماء… وفرصة لاكتشاف اللسانيات مع رومان جاكبسون)).

سنة 1947، رجع ليفي ستراوس بصفة نهائية إلى فرنسا، ليشغل وظيفة نائب مدير “متحف الإنسان” (1949)، والذي أثراه قبل الحرب بتحف برازيلية. لقد جمع بوفرة، محتويات اثنوغرافية، قبل أن يحتك بنظريات المدرسة الأمريكية. لكن، حان الوقت كذلك قصد إضفاء الانسجام على متنه الفكري، ذلك ما قام به سنة 1949 مع أطروحته بخصوص : [البنيات الأولية للقرابة]، بين من خلالها أن الالتزام عند مجموعة اجتماعية فيما يتعلق بإعطاء النساء أو الحصول عليهن وحظر ارتكاب المحرّم، أسس للثقافة في قلب الطبيعة. بفضل ستراوس، إذن عثر الإثنوغرافي على موقع جديد داخل علوم الإنسان.

في السنة الموالية، أصبح كلود ليفي ستراوس مدير الدراسات ب “المدرسة التطبيقية للدراسات العليا”، ثم التحول إلى كرسي الأنثروبولوجيا الاجتماعية الذي وُضع خصيصا له سنة 1959 بمعهد كوليج دو فرانس. فهذا : “العارف الفلكي بالمجموعات الإنسانية”، وقد أخذ بعين الاعتبار كل نتاجات النشاط الاجتماعي، أدوات، موضوعات، طعام، أناشيد، رقصات، أشكال سحرية، مهووس بقراءة الثقافات كأنساق رمزية.

على امتداد خمسين سنة الماضية، جسَّم ستراوس الأستاذ والفنان قطبا علميا، فقد أرسى مرتكزات مشروع يتداوله كل العالم. حظي بهالة داخل فرنسا ووضع اعتباري متميز. انتمى إلى عدة أكاديميات أجنبية، كما تُوِّج بدكتوراه فخرية من طرف جامعات أكسفورد ويال وكولومبيا. من جانب آخر، تعرض ستراوس، للتشنيع حينما آخذ عليه البعض، إعطاؤه لوجهة نظر فلسفية حول الإنسانية نظاما علميا.

بقي ستراوس، منفتحا هاته السنوات الأخيرة، كي لا ينخدع بالمستقبل الزهيد، الذي يتضمنه وقتنا الراهن. الذين زاروه، أفصح لهم عن تعلقه بالحياة بناء على إحساس كوني أكثر منه روحي. يجيب، على الرسائل التي يتلقاها، ويتابع الإصدارات الحديثة، كما يتواصل باستمرار مع رواده الفرنسيين وغيرهم. ستراوس مع تواضعه، هو صاحب نزعة إنسانية، منح نفسه امتياز أن يعيش اللحظات المتبقية من عمره في تألق لا نهائي.

II ـ عالِم في البرازيل.

لا ندرك اليوم جيدا، تأثير الفكر الفرنسي على أمريكا اللاتينية قبل الحرب. بجامعة ساو باولو، التقى ستراوس ثانية مع المؤرخ “فيرناند بروديل”، والجغرافي “بيير مونبيغ”، وكذا السوسيولوجي “روجي باستيد”، وحاضر باللغة الفرنسية أمام طلبة ينتمون للأوليغارشية المحلية. مثل، مسافري منطقة النورمندي إبان القرن 16، الذين افتتن بحكاياتهم مونتين، لن يتردد ستراوس كي “يصير برازيليا”، وهو يخضع الثقافة الأوروبية التي كان ممثلا لها، إلى الرؤية النقدية. فبدأت حقبة التفكيك البنيوية والتأويلات المتعددة الاختصاصات، لكن تكرارها الميكانيكي عند تلامذة غير مؤهلين، شكل خيانة لمسار كلود ليفي ستراوس : ((أعشق تلك الظواهر المهملة جدا، لتحريك الانفعالات الإنسانية، لكنها قد تصير أحيانا موضوع معرفة دقيقة)).

انعدم كليا وجود هذا العلم بالمتعدد المتناهي، والذي تمكن الأستاذ الشاب من الاشتغال عليه، لحظات أسفاره الإثنوغرافية إلى القبائل الهندية “ماتو غروسو” (Mato Grosso) والأمازون بين سنوات 1935-1939.

أساطير، عادات، فنون، لغات، قواعد القرابة، دين، مؤسسات، كل شيء يسحر عند هنود : كادوفيو Caduveo، بورورو Bororo، نامبيكوارا Nambikwara، توبي – كاواهيب Tupi- Kawahib. بجوارها، استوعب ستراوس “الفكرة البدائية” وفحص بنيته الباطنية : ((مع هنود أمريكا،  أحببت الانعكاس، بل هو عابر هناك. خلال حقبة كان فيها النوع عند مستوى عالمه، يصرُّ على علاقة متماثلة بين ممارسة الحرية وعلاماته)).

 

III ـ ثلاث كتب أساسية :

* المدارات الحزينة : [Tristes Tropiques].

العمل الذي أعطى شهرة لكلود ليفي ستراوس، صدر سنة 1955 ضمن سلسلة “الأرض الإنسانية” التي أشرف عليها آنذاك الكاتب والإثنوغرافي “جون مالوري”. وبقدر قابليته للتناول، فقد التصق الكتاب أيضا، أكثر من العناوين الأخرى بذاتية ستراوس، البالغ من العمر آنذاك 47 سنة. يمزج بين القصد السير ذاتي والتحليل الأنثروبولوجي، يتجول القارئ مع ستراوس بين القبائل التي زارها بالبرازيل والبنجاب، ثم باكستان. ويكشف معه، كيف أصبح الرجل عالما بالإثنولوجيا ؟ واستماتته مدافعا عن قضية البدائيين ضد رؤية للحضارات متمركزة إتنيا.

* الفكر البدائي [La pensée Sauvage].

ظهر سنة 1962، فضح ستراوس بين صفحاته، ما نهمشه من تعقيد عند الشعوب، الموصوفة بأنها “بدائية”. كما رفض عبره أيضا، وجودية سارتر، وهو ما سيشكل موضوع جدالات ظلت مأثورة، بعد ذلك وبالأخص قضية التطور في التاريخ.

* كوكبة الخالدين [La Pléiade].

في السنة الماضية، كان ليفي ستراوس أول أنثروبولوجي، تضمه مصنفات “مكتبة المشاهير”. كذلك، نادرا ما تصدر المكتبة إنتاج رائد ما وهو لا يزال على قيد الحياة. احتوى هذا العمل على ما كتبه ستراوس خلال نصف قرن. لاشك، ستحقق المكتبة نجاحا غير معهود وهي تخرج إلى القارئ فكرا من هذا الطراز.

PHO9b517ec2-5817-11e3-b8fb-5c86c71493d8-805x453

IV ـ البنيوية في أربعة أسئلة :

1 ـ ما هي البنيوية ؟

نظرية، تؤكد عدم إمكانية ضبط الكائن الإنساني، إلا في إطار شبكة علاقات رمزية، والتي بقدر ما هي بنيات يساهم فيها بشكل لا واعي. استلهمتها أبحاث الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا واللسانيات، مما أدى إلى تطور مفهوم البنيوية بعيد الحرب العالمية الثانية.  في دراسته الأولى المهمة : [البنيات الأولية للقرابة] (1949)، وضح ستراوس أهمية منع ارتكاب المحرَّم في العلاقات بين الرجال والنساء عند هنود الأمازون. شبكة من العلاقات، سنقف عليها في عمله : [المدارات الحزينة]. من خلال كل ميادين الحياة الاجتماعية، وكذا التمظهر الفني، كما هو الحال مثلا مع روايات بروست أو فاغنر، سعى ستراوس إلى تبيان القواعد التي تهيكل عناصر النتاج الإنساني وتمنحه المعنى. اعتُبر، كواحد من اللذين تمثلوا هذا الهاجس البنيوي، إلى جانب أعمال فلاسفة كميشيل فوكو، لوي ألتوسير، ولسانيين مثل رومان جاكبسون، أو مختصين في التحليل النفسي حيث يحضر اسم جاك لاكان، الذي أمكنه الجزم وهو يقتفي أثر ستراوس، بأن “اللاوعي مبنين مثل اللغة”.

2 ـ هل يعتبر ستراوس مبدع البنيوية ؟

بالطبع، يرتبط عمل ستراوس بموجة واسعة من الأفكار تجلت سنة 1960، سُميت بالبنيوية. وعلى الرغم، من احتفاظه دائما بمسافة أمام هذه التسمية التي استفادت من انتشار واسع لنموذجها، يمكننا أن ننظر إلى ستراوس، باعتباره المحرك الجوهري لهذه الكيفية الجديدة في التفكير.

3 ـ ما هو الأثر، الذي خلفه ستراوس في تلك الفترة ؟

لقد قام بدور محوري في فرنسا وخارجها، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه قاوم الوجودية التي هيمن عليها رمز جان بول سارتر، والذي استمر في الاعتقاد بأن الإنسان كائن ذات، مسؤول عن مصيره. موقف، وضعه ستراوس جذريا موضع مساءلة، متهما إياه ب “السذاجة”.

4 ـ كيف تدرك البنيوية اليوم ؟

مثل تيار فكري، كشف عن حدود الحرية الإنسانية، لكن أيضا حركة تحولت أحيانا إلى دوغماطيقية عويصة. يضاف إلى هذا، أن مفكرين لا معين مثل إيمانويل  ليفيناس، اختلفوا مع ليفي ستراوس، لأنه أهمل أهمية الشخصية الإنسانية.

– Le Figaro, Mercredi 4 Novembre 2009