مجلة حكمة
حيث تقود الوحدة

حيث تقود الوحدة – سامانثا روز هيل / ترجمة: نوره الفرحان


“أرجوك أن تكتب لي دائماً وإلا فإنني سأموت هنا”. لا تبدأ حنة آرنت رسائلها إلى زوجها عادةً على هذا النحو ولكنها وجدت نفسها في ربيع 1955 وحدها في الخلاء. فبعد صدور كتابها “أصول الشمولية”، تمت دعوتها كأستاذ زائر في جامعة كاليفورنيا، بيركلي. لم تستهوها الأجواء الثقافية. افتقر زملائها لحس الفكاهة، وجابت سحابة المكارثية في سماء الحياة الاجتماعية. قيل لها أن فصولها ستضم ثلاثون طالب. إلا أنها وجدت مئة وعشرون طالب في كل فصل. طالما كرهت اعتلاء منصة المحاضرة كل يوم: “أنا، وبكل بساطة، لا أستطيع الظهور على الملأ خمس مرات في الأسبوع، أي عدم مبارحتي عيون المتفرجين. أشعر أن علي الذهاب للعثور على نفسي”. الواحة الوحيدة التي وجدتها في خلاءها كانت لدى عامل أرصفة أصبح فيلسوف من سان فرانسيسكو، هو إريك هوفر. لكنها لم تحسم أمرها حياله أيضاً، قالت لصديقها كارل جاسبرز أن هوفر كان “أفضل ما لدى هذه البلدة لتقدمه”، وقالت لزوجها هاينريش بلوشير أن هوفر كان “ساحراً جداً ولكنه لم يكن لامع”.

لم تكن نوبات الوحدة غريبة على آرنت. فمنذ سنٍ صغيرة راودها إحساس بأنها مختلفة، دخيلة، منبوذة، وغالباً ما تفضل البقاء لوحدها. توفي والدها إثر مرض الزهري عندما كانت في السابعة، ادعت كل أنواع المرض لتتجنب الذهاب إلى المدرسة والبقاء في المنزل، تركها زوجها الأول في برلين بعد حريق الريشتاج، وبقت بدون جنسية لما يقارب العشرون عاماً. ولكن، كما تدرك آرنت، الوحدة هي جزء من الحالة الإنسانية. جميعنا نشعر بالوحدة من وقت لآخر.

الكتابة عن الوحدة غالباً تكون في موضعين: المذكرات المفرط كتابتها أو الطب العقلاني الذي يعالج الوحدة كشيء يمكن علاجه. كِلا المقاربتان يجعلون القارئ يشعر بالوحشة. أحدهم يغرق في الوحدة بينما يحاول الآخر أن يمنع حدوث ذلك. ويحدث ذلك جزئياً إذ يصعب التواصل مع الوحدة. في اللحظة التي نتحدث فيها عن الوحدة نكون نحول إحدى أعمق التجارب التي يمر بها الإنسان إلى غرض تأملي وموضوع منطقي. تخذلنا اللغة في وصف الوحدة إذ مصطلح “الوحدة” هو مصطلح فضفاض يصف تجربة محددة. الجميع يجرب الوحدة، ولكن بشكل مختلف.

ككلمة، “الوحدة” جديدة على اللغة الإنجليزية. أحد أول استخدامات هذه الكلمة ورد في مسرحية ويليام شيكسبير “هامليت” والتي كتبت حوالي سنة 1600. في مناشدة بولونيوس لأوفيليا: “طالعي هذا الكتاب ففي انشغالك بتلاوة الصلوات ما يبرر وحدتك”. (إنه يقدم المشورة لها بأن تقرأ من كتاب صلاة لكي لا يتشكك أحد من كونها وحدها، والدلالة هنا ليست بعدم كونها مع الآخرين بل بكونها تتمنى ذلك).

في القرن السادس عشر، غالباً ما كانت تُستَحضَر الوحدة في المواعظ كوسيلة لترهيب رواد الكنيسة من الخطيئة، كان يُطلَب من الناس أن يتخيلوا أنفسهم في أماكن تسودها الوحدة كالنار أو القبر. ولكن في القرن السابع عشر، نادراً ما كان يتم استخدام الكلمة، أي “الوحدة”. في 1674، أدرج جون راي – الإنجليزي المعتنق للمذهب الطبيعي – كلمة “الوحدة” في قائمة الكلمات الغير شائعة الاستخدام، معرفاً المصطلح بأنه يصف الأماكن والأشخاص “البعيدون عن الجيرة”. بعد ذلك بقرن، لم يطرأ تغيير يُذكر على الكلمة. في كتاب صاموئيل جونسون “معجم اللغة الإنجليزية” (1755)، وصف النعت “وحيد” بكونه الحالة التي يكون بها المرء وحيداً (الثعلب الوحيد)، أو بكونه مكاناً مهجوراً (الصخور الوحيدة)، تماماً مثل استخدام شيكسبير للمصطلح في مثال “هامليت” أعلاه.

كانت الوحدة، حتى القرن التاسع عشر، توصَف بكونها فعل (عبور عتبة البداية أو الارتحال إلى مكان خارج المدينة) وكانت بالكاد لها علاقة بالمشاعر. أوصاف الوحدة والهجر كانت توقظ رعب اللاوجودية لدى البشر، تجعلهم يتخيلون العزلة المطلقة، وقطع صلتهم بالعالم وحب الله. يبدو ذلك منطقياً من ناحية معينة. فأول كلمة سلبية قالها الله عن خلقه جاءت في سفر التكوين بعد أن خلق آدم: “وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ».” (سفر التكوين 18:2)

في القرن التاسع عشر، في غمرة الحداثة، فقدت الوحدة صلتها بالدين وأنشأت صلتها بمشاعر الغربة العلمانية. تزايد استخدام المصطلح بشدة بعد سنة 1800 مع ظهور الثورة الصناعية، وظل يتزايد حتى 1990 حيث توقف عن التزايد ليتصاعد مرة أخرى في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين. جسدت الوحدة الشخصية والقضية في كل من كتاب هيرمان ميفيل “بارتلبي النساخ” (1853)، لوحات إدوارد هوبر الواقعية، وقصيدة ت. س. إليوت “أرض الخراب” (1922). كانت محفورة في المشهد السياسي والاجتماعي، وظهرت في الرومانسية والشعر والرثاء.

ولكن في منتصف القرن العشرين، تناولت آرنت الوحدة بشكل مختلف. فبالنسبة لها كانت الوحدة تحتمل أن تكون شيئاً يمكن فعله وشيئاً يمكن تجربته. في 1950، وبينما كانت تحاول كتابة كتاب عن كارل ماركس في ذروة المكارثية، بدأت تفكر بالوحدة وصلتها بالآيديولوجيا والإرهاب. تظن آرنت أن تجربة الوحدة نفسها تحورت تحت الظروف الشمولية.

ما يهيأ الناس للهيمنة الشمولية في عالم لا شمولي هي حقيقة أن الوحدة قد غدت تجربة يومية للجماهير المتنامية في قرننا.

وجدت الشمولية لنفسها طريقة لكي تبلور تجربة الوحدة من كونها عارضة إلى حالة وجود دائمة. وخلال استخدام العزلة والإرهاب قامت الأنظمة الشمولية بخلق ظروف للوحدة ومن ثم أغروا الناس بها عبر الدعاية الآيديولوجية.

قبل أن تذهب آرنت للتدريس في بيركلي كانت قد نشرت مقالة في “الآيديولوجيا والإرهاب” (1953) تتناول فيها موضوع العزلة، الوحدة، والخلوة في كتاب تذكاري لعيد ميلاد جاسبر السبعون. إلى جانب كتابها “أصول الشمولية”، أصبحت هذه المقالة السبب الرئيسي لتجاوز اكتتاب مادتها في بيركلي، “الشمولية”. قُسِّمَت المادة إلى أربعة أجزاء: اضمحلال المؤسسات السياسية، نمو الجماهير، الإمبريالية، وظهور الأحزاب السياسية كآيديولوجيات مصالح مشتركة. بدأت محاضرتها الافتتاحية بتوضيح كم مُشَكِّكةً هي العلاقة بين النظرية السياسية والسياسة في العصر الحديث. جادلت بأن هنالك رغبة عامة ومتزايدة في التخلص من النظرية في سبيل مجرد آراء وآيديولوجيات. تقول آرنت: “يظن الكثير أن بوسعهم الاستغناء عن النظرية تماماً، مما يعني، بالطبع، أنهم يريدون نظريتهم الخاصة مضمنينها بتصريحاتهم الخاصة لكي يتم قبولها كحقيقة لا يرقى إليها الشك”.

كانت تشير آرنت إلى الطريقة التي يتم فيها استخدام “الآيديولوجية” كرغبة في فصل التفكير عن الفعل. نشأت كلمة “آيديولوجية” من الكلمة الفرنسية “idéologie” وتم استخدامها للمرة الأولى خلال الثورة الفرنسية ولكن لم تكن شائعة الاستخدام حتى صدور كتاب كارل ماركس وفريدريك إنجل “الآيديولوجيا الألمانية” (الذي كُتِب في 1846) وبعده كتاب كارل مانهايم “الآيديولوجيا واليوتوبيا” (1929) والذي راجعته آرنت في مجلة المجتمع في 1930.

في 1958، أُضيفت نسخة مُراجَعة من “الآيديولوجيا والإرهاب” كخاتمة جديدة للطبعة الثانية من “أصول الشمولية”.

يقع كتاب “أصول الشمولية” في 600 صفحة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء هم معاداة السامية، الإمبريالية، والشمولية. وفي الأثناء التي كانت آرنت تكتب فيها الكتاب، تغير النص بمرور الوقت من أجل أن يضم المعلومات الجديدة عن هتلر وستالين التي ظهرت من أوروبا. عكست الخاتمة الأولية التي نشرت في 1951 فكرة أنه حتى ولو سقطت الأنظمة الشمولية، ستظل عناصرها باقية. تكتب آرنت: “قد تنجو الحلول الشمولية من سقوط الأنظمة الشمولية على هيئة إغراءات قوية والتي ستظهر حينما يبدو تخفيف البؤس الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مستحيلاً”. عندما أضافت آرنت “الآيديولوجيا والإرهاب” إلى “أصول الشمولية” في 1958، تغيرت موسيقى العمل. كانت عناصر الشمولية عديدة، ولكنها وجدت جوهر الحكومة الشمولية في الوحدة والإرهاب.

لماذا ليست الوحدة بديهية؟

تجيب آرنت هذا السؤال بلأن الوحدة تقتطع الناس من التواصل البشري جذرياً. عرَّفَت الوحدة كنوع من الخلاء حيث يشعر المرء بأنه مهجور من الدنيوية والرفقة الإنسانية حتى حين يكون محاطاً بالآخرين. الكلمة التي استخدمتها بلغتها الأم لوصف الوحدة كانت verlassenheit – الحالة التي يكون بها المرء مُتَخلَياً عنه، أو التخلي. تقول عن الوحدة أنها “من بين أكثر تجارب الإنسان راديكالية وقنوط”، وذلك لأننا في الوحدة لا نقدر أن ندرك قدرتنا الكاملة على التصرف ككائنات بشرية. فعندما نخوض الوحدة، نحن نفقد القدرة على الخوض في أي تجارب أخرى، وفي الوحدة نكون غير قادرين على بدء بدايات جديدة.

ومن أجل أن توضح لماذا الوحدة هي جوهر الشمولية والأرض المشتركة للإرهاب، فرقت آرنت بين العزلة والوحدة وبين الوحدة والخلوة. تقول أن العزلة ضرورية أحياناً للعمل الإبداعي. فحتى مجرد قراءة كتاب تتطلب نوعاً من العزلة. يتحتم على المرء أن يدير ظهره للعالم عمداً ليفسح المجال لتجربة الوحدة، إلا أنه حين يكون وحيداً يكون بوسعه دائماً العودة من الوحدة.

تختلف العزلة عن الوحدة. إذ أستطيع أن أكون معزولاً (وذلك في موقف لا أستطيع التصرف فيه لأنه لا يوجد أحد ليتفاعل معي) دون أن أكون وحيداً. وأستطيع أن أكون وحيداً (وذلك في موقف أشعر فيه أنني مهجور كشخص من الرفقة البشرية جمعاء) دون أن أكون معزولاً.

تستخدم الشمولية العزلة لكي تحرم الناس من الرفقة البشرية، جاعلة التصرف في هذا العالم مستحيلاً بينما تدمر مساحة الوحدة. العصبة الحديدية للشمولية، كما تطلق عليها آرنت، تدمر قدرة الانسان على التحرك والتصرف والتفكير بينما تحول كل فرد في عزلته ضد الآخرين وضد نفسه. يغدو العالم خلاءًا حيث لا يمكن للتجربة ولا التفكير أن يحدثان.

تستخدم الحركات الشمولية آيديولوجية لتعزل الأفراد. تعزل بمعنى “أن تتسبب بأن يصبح المرء أو يبقى وحيداً أو بعيداً عن الآخرين”. كرست آرنت الجزء الأول من “الآيديولوجيا والإرهاب” لتحليل “وصفات الآيديولوجيات” إلى مقاديرها الأساسية لتخلص إلى أن:

– الآيديولوجيات مفصولة عن عالم التجربة، وهي تمنع احتمالية حدوث تجربة جديدة

– تعنى الآيديولوجيات بالتحكم والتنبؤ بمد التاريخ

– لا تفسر الآيديولوجيات “ماهية” الشيء، لكنها تفسر “ما سيغدو”

– تعتمد الآيديولوجيات على الاجراءات المنطقية في التفكير والتي هي مفصولة عن الواقع

– التفكير الآيديولوجي يصر على “واقع أكثر حقيقية” والذي يختفي في ظل عالم الأشياء المحسوسة

طريقتنا في التفكير حيال العالم تؤثر على علاقاتنا بالآخرين وبأنفسنا. فعبر تلقيم معنى سري في كل حدث وكل تجربة، تجبر الحركات الآيديولوجية على تغيير الواقع وفقاً لادعاءاتهم حينما يملكون السلطة. وذلك يعني أن المرء لا يستطيع بعد الآن أن يثق بحقيقية تجاربه الخاصة في العالم. بل يتم تعليمه عدم الثقة بنفسه وبالآخرين، وأن يعتمد دائماً على آيديولوجية الحركة التي يجب أن تكون صحيحة.

ولكن من أجل أن تجعل الأفراد سريعي التأثر بالآيديولوجية عليك أولاً أن تفسد علاقتهم بأنفسهم وبالآخرين وذلك بجعلهم متشككين ومتشائمين لكي لا يستطيعوا الاعتماد على أحكامهم الخاصة بعد الآن.

مثل ما أن الإرهاب هو شكل استبدادي يدمر كل العلاقات بين الناس، فالإكراه الذاتي على التفكير الآيديولوجي أيضاً يدمر كل العلاقات بالحقيقة. ينجح الاعداد للشمولية حين يفقد الناس صلتهم ببعض بالقدر الذي يفقدون فيه صلتهم بالواقع، إذ دون هذه الصلات يفقد الناس قدرتهم على التجربة والتفكير. فالتابع المثالي للحكم الشمولي ليس النازي ولا الاشتراكي المقتنع بالآيديولوجيا بل أناس قدرتهم على التفريق بين الحقيقة والخيال (حقيقة التجربة) والتفريق بين الصواب والخطأ (معايير التفكير) لا يعود لها وجود.

تقود الوحدة المنظمة التي ولدت من الآيديولوجيا إلى التفكير الاستبدادي، وتدمر قدرة المرء على التفريق بين الحقيقة والخيال وإطلاق الأحكام. لا يقدر المرء في الوحدة المضي في محادثة النفس، وذلك لأن قدرة المرء على التفكير مخترقة. يبعدنا التفكير الآيديولوجي عن عالم التجربة المعاشة، يجوِّع المخيلة، ينكر التعددية ويدمر المسافة بين الناس التي تتيح لهم أن يتصلوا ببعضهم بطرق منطقية. في اللحظة التي يترسخ بها التفكير الآيديولوجي، لن تحتمل التجربة والحقيقة التفكير. بل ستتكيف التجربة مع الآيديولوجيا في التفكير. وذلك يفسر لماذا حين تتحدث آرنت عن الوحدة لا تتحدث عنها فقط بكونها تجربة مؤثرة للوحدة، بل تتحدث عنها كطريقة تفكير. تبرز الوحدة حين يُفصَل التفكير عن الحقيقة، حين يتم استبدال العالم عبر استبدادية المطالب المنطقية القسرية.

نحن نفكر عبر التجربة، وحين لا يعود لدينا تجارب جديدة في العالم لنفكر عبرها، نفقد معايير التفكير التي تقودنا في التفكير حيال العالم. وحين يخضع المرء إلى الإكراه الذاتي على التفكير الآيديولوجي، يكون قد تنازل عن حريته الداخلية على التفكير. فهذا الخضوع لقوة الاستدلال المنطقي “يهيأ كل فرد في عزلته ضد الآخرين” للاستبداد. تم استبدال الحركة الحرة في التفكير بالتيار الفردي المندفع للتفكير الآيديولوجي.

في إحدى مذكراتها الفكرية، تسأل آرنت: “Gibt es ein Denken das nicht Tyrannisches ist?” (هل هنالك طريقة تفكير غير استبدادية؟) تتبع السؤال بجملة تفيد بأن الهدف هو مقاومة انجرافك مع المد بشكل إطلاقي. ما الذي يسمح للناس بأن ينجرفوا؟ تقول آرنت أن الخوف الضمني الذي يجذب المرء للآيديولوجيا هو الخوف من التناقض الذاتي. فهذا الخوف هو ما يبرر خطورة التفكير نفسه، لأن للتفكير قوة على اقتلاع جميع معتقداتنا وآراءنا حيال العالم. يمكن للتفكير أن يزعزع إيماننا، معتقداتنا، ومعرفتنا. يمكن للتفكير أن يزيح كل ما نتمسك به بقوة، نعتمد عليه، ونسلم به يوماً بعد يوم. للتفكير قوة على جعلنا غير مُنجَزين.

لكن الحياة فوضوية. فبين الكركبة والشك في الوجود الإنساني، نحن بحاجة إلى حس المكان والمعنى. نحن بحاجة إلى جذور. والآيديولوجيات، مثل كائنات السيرين في أوديسة هومر، محببة لنا. ولكن أولئك الذين خضعوا لأغنية التفكير الآيديولوجي السيرينية يتحتم عليهم أن يبتعدوا عن عالم التجربة المعاشة. وبذلك لا يستطيعون أن يواجهوا أنفسهم في التفكير لأنهم إذا فعلوا ذلك، يجازفون بتقويض المعتقدات الآيديولوجية التي منحتهم حس المكان والمعنى. لنبسط ذلك: الناس الذين يؤيدون الآيديولوجيا لديهم أفكار ولكنهم غير قادرين على التفكير لأنفسهم. وهذا العجز عن التفكير، الحظوة برفقة، وخلق معنى لتجارب المرء في العالم، هو ما يجعلهم وحيدين.

جدال آرنت حول الوحدة والشمولية لا يسهل هضمه كونه يتضمن تطبيع النزعات الشمولية التي تجذب الوحدة، إن لم يرضك الواقع، إن تخليت عن الجيد دائماً لتطالب بالأفضل، إن لم تكن راغباً في مواجهة العالم كما هو، إذاً ستتأثر سريعاً بالتفكير الآيديولوجي. ستتأثر سريعاً بالوحدة المنظمة.

عندما كتبت آرنت إلى زوجها: ” أنا، وبكل بساطة، لا أستطيع الظهور على الملأ خمس مرات في الأسبوع، أي عدم مبارحتي عيون المتفرجين. أشعر أن علي الذهاب للعثور على نفسي”، لم تكن تتذمر عبثاً حيال الأضواء. فالتعرض الدائم للجمهور جعل خلوتها بنفسها مستحيلة. لم تقدر أن تعثر على مساحتها الخاصة الذاتية اللازمة للتفكير.

إنها إحدى مفارقات الوحدة. العزلة تتطلب أن تكون وحيداً، بينما يشتد الشعور بالوحدة حين تكون برفقة الآخرين. فبقدر اعتمادنا على عالم المظاهر العام، نحن نحتاج عالم العزلة الخاص لكي نكون وحدنا مع أنفسنا لنفكر. وهذا ما افتقدته آرنت حينما فقدت المساحة التي تجعلها وحيدة مع نفسها. تقول: “ما يجعل الوحدة لا تطاق هو فقدان المرء لذاته والذي يمكن ملاحظته في العزلة…”.

في العزلة، يكون المرء قادراً على أن يكون برفقة نفسه، أن ينخرط في محادثة مع ذاته. في العزلة، لا يفقد المرء اتصاله بالعالم، لأن عالم التجربة دائم الحضور في تفكيرنا. أقتبس آرنت، التي تقتبس شيشرون: “لا يكون المرء أكثر نشاطاً مما يكون حين لا يفعل شيء، ولا يكون أقل وحدة مما يكون حين يكون لوحده”. هذا ما يدمره التفكير الآيديولوجي والتفكير الاستبدادي، قدرتنا على التفكير مع أنفسنا ولأنفسنا. هذا هو أساس الوحدة المنظمة.

المصدر