مجلة حكمة
جوهر الإله وجود الإله ابن ميمون

جوهر الإله عند ابن ميمون وأدلة وجوده الكونية – كينيث سيسكن


  • وجود الإله

عرض موسى بن ميمون عدة أدلة على وجود الإله، وكلها نسخ من الحجة الكونية (GP 2.1). فبدلا من البدء بتعريف الإله ومحاولة بيان أن ماهيته تفضي إلى وجوده، بدأ بوصف العالم كما نعرفه، محاولا إظهار أن ذلك ينطوي على وجود الإله. وفقا لواحدة من حججه، نحن نفترض أن الأجرام السماوية منخرطة في الحركة الأبدية. ثم ندرك بعدها أن من المستحيل أن يكون هناك جرم أبدي أو رقم لانهائي لأجرام أبدية. لذا، كل شيء مادي ومحدود. وإذا كان محدودا، فإنه يحتوي على قدر محدود من القوة، ويمكن أن يفسر الحركة على فترة زمنية محدودة. لأن الأجرام السماوية في حركة دائمة، والأمر الوحيد الذي يمكن أن يفسر تلك الحركة هو القوة اللانهائية. لأن القوة اللانهائية لا يمكن أن تكون مضمنة في شيء محدود، ولا يمكن أن تكون مادية. وإذا لم تكن مادية فإنها لا تخضع للتقسيم والتغيير. إذا رأينا أن قوتها لا نهائية، فلا يمكن أن تستمد قوتها من شيء آخر. بالتالي، فإن الطريقة الوحيدة لتفسير حركة الأجرام السماوية هو وضع وجود الكائن الذي ليس بجرم أو قوة داخل جرم.

رغم أن ابن ميمون يعتقد أن هذه الحجة تقدم لنا أسسا كافية بـ وجود الإله، إلا أنها لا تقدم لنا أسسا حول ماهيته. ولمعرفة سبب ذلك، علينا أن ندرك أن الإله واحد لا مثيل له: شخص واحد، رقم واحد، فكرة واحدة. وفقا للدليل 1.51:

 ليس هنالك وحدانية إطلاقا باستثناء الإيمان بأن هناك جوهر واحد بسيط، ليس فيه تعقيد أو تعدد للمفاهيم، بل مفهوم واحد، لذلك، من أي زاوية أو وجهة نظر تراها، سوف تجد أنه واحد، لا ينقسم بأي طريقة كانت إلى مفهومين.

إذا كان ابن ميمون على حق، فليس هناك تعدد للقوى، والقواعد الأخلاقية، أو الصفات الأساسية لدى الإله. حتى القول بأن الإله يملك المعرفة، الخير، القوة المطلقة هو بمثابة إضفاء تعددية عليه، إذا كانت الوحدانية هكذا فعلى هذا النحو تكون هذه المزايا صفات منفصلة. هذا يطابق قولنا إن الإله مركب من مادة وشكل، له نوع وفرق محدد، أو جوهر وحادث. كلها بمثابة إدخال تعددية لا يمكن التسامح معها.

.

  • جوهر الإله

بغض النظر عن الاعتبارات الدينية، تُرفض التعددية لأنها لا تقبل التسوية مع منطقية الأولوية. إذا كان الإله مركب من ف و ج، يجب أن توجد بعض الأسباب لتفسر جمعهم وإبقائهم مع بعضهم. باختصار، إذا كان الإله مركب يجب أن يكون سبب سابق للإله، وهو مناف لـ العقل (GP 2. Intro., premise 21). لنفس السبب، لا يمكن أن يصنف الإله تحت فئة، كما يصنف الإنسان تحت فئة الحيوانات (GP 1.52). عندما يدخل الإله تحت نوع من الجنس، فإن ذلك يعني وجود سابق له أو أكثر شمولا منه، وكلا هذين القولين ينافيان العقل. من دون نوع لجنسه أو أدنى تشكيل لتركيبته، فلا يوجد إمكانية لتعريفه، وبالتالي ليس هناك إمكانية في معرفة ماهيته. حتى صيغ التفضيل لا تقدم أي مساعدة، فالقول بأنه الإله هو أحكم أو أقوى ما في الوجود يبقى تصنيفا له تحت وصف أوسع.

الأسوأ من ذلك، أن القول بأنه أحكم وأقوى يمكن أن يكون فيه موازاة للقوة والحكمة التي نتمتع بها. وهذا ما ينكره موسى بن ميمون بشكل مطلق (GP 1.56–57). القوة التي تتجسد في متجسد هي قوة محدودة، ويمكن قياسها بواسطة قدم/باوند. مهما كانت قوتها، فبالإمكان أن نتخيل بسهولة أن هناك أقوى منها. وما هو أقوى، إذا كنا نتحدث عن قوة متجسدة، فمن المنطقي أن نسأل من أين تستمد قوتها، أو كيف ترتبط قوتها بشيء آخر، على سبيل المثال جودتها. ولا شيء من هذا ينطبق على الإله. بالتالي، يخلص ابن ميمون إلى أن (GP1.56) القول بأن قوة الإله أعظم من قوتنا غير صحيح، وأن حياة الإله مستمرة أبدية أكثر منا، وأن معرفة الله أوسع منا، أو أن أرادة الله أشمل من إرادتنا، إذا كان ذلك يعني أن الإله يمكن أن يوضع في سلم مقارنة مع شيء آخر، أنه الأكبر، الأقوى، النسخة الأفضل في النظام المُنشأ،

هل يعني ذلك أن عبارات مثل “حياة الإله” أو “قوة الإله” غير منطقية؟ الإجابة نعم، إذا أصر الإنسان على تفسيرها على أنه قوى ذاتية عادية. لكنها يمكن أن تفهم إذا حاول المرء أن يحللها على أنها نفي مقنّع. أي أن “قوة الإله” يجب أن تؤخذ على أنه “غير مفتقر إلى القوة”. يُساء غالبا فهم ابن ميمون في ميله للنفي (GP 1.58)، لأن النفي المزدوج في الحديث العامي يلمح دائما إلى إثبات. فلو قلت إن كلبا ما لا يفتقر إلى قوة البصر، سيكون من السائغ أن تخلص إلى أنه يستطيع أن يرى لسبب بسيط وهو أن قوة البصر مرتبطة في طبيعة الكلاب. وما كان في ذهن ابن ميمون هو أبلغ من النفي. بالتالي، “الإله قوي” تعني “أن الإله لا يفتقر إلى القوة، ويمتلكها على نحو يجعلها مماثلة لشيء آخر.” هل يمكن للإله أن يحرك شيئا مثل كتاب على الرف؟ نعم، إلى درجة أن الإله لا يفتقر إلى القوة، ولا، إلى درجة أن الإله ليس مرغما على تحريك عضلة، أو استجماع طاقة، أو الحصول على إمداد من غذاء أو وقود. قوته في خلق كون بأكمله هي أبعد بكثير من مجرد تحريك كتاب على رف، وهذه المقارنات من شأنها المساعدة في التضليل فقط لا أكثر.

من وجهة نظر معرفية، فإن بيانا مثل “قوة الإله” غير مقبول إذا ألمح أننا نملك بصيرة حول جوهر الإله. ميزة هذه الصيغة السلبية أنها لا تلمح إلى شيء من هذا القبيل. فالقول بأن الإله لا يفتقر إلى القوة أو يمتلكها بطريقة تضاهي الآخرين، هو بمثابة القول بأن قوته فوق إدراكنا. وبالمثل في حياة الإله، حكمته، وحدته، أو إرادته. بالتالي، معظم المصطلحات التي نستخدمها لوصف الإله مبهمة تماما، مثلما الذي بيننا وبينه. من ثمّ، لا يوجد سبب يدعونا للتفكير بأن في كل مرة نمجدّ الإله، فنحن نحدد جزءا منفصلا من الشخصية الإلهية، ونقارنها بشيء آخر.

بقدر ما كانت حجة ابن ميمون متينة، إلا أنها لم تكن كافية. رغم أن النفي كان مفضلا للإثبات، لكن النفي المزدوج يقبل الاعتراض إلى درجة أنه يفضي إلى التعقيد: فالإله ليس بهذا أو ذاك. ما العمل إذن؟ كان جواب ابن ميمون (GP 1.58) إلى أنه في النهاية ستخذلنا كافة التعبيرات اللفظية. فبدلا من تقديم تفسير ميتافيزيقي دقيق لطبيعة الإله، فإن غرض الخطاب اللاهوتي هو الكشف: أي “يقود العقل إلى أقصى ما يمكن أن يدركه الفرد”. لغة اللاهوت مهمة إلى درجة أنها تلغي الخطأ وتبين لنا الطريق لإدراك سمو الإله. مالم يتحدث المرء بشأن الإله، فمن الممكن أن يسقط في فخ الاعتقاد بمادية الإله. لكن في النهاية، سيتبين لنا أمر واحد، وهو أن الإله فوق كل شيء. بالتالي (GP 1.59)

 اعلم أنه حينما تصدر إثباتا يسند شيئا آخر له، ستكون أبعد عنه من ناحيتين: الأولى أن كل شيء تثبته هو الكمال، مع إشارة لنا. أما الثانية فإنه لا يملك شيئا غير جوهره…

يعلم ابن ميمون (GP 3.32) أن الدين المبني بأكمله على انعكاس صامت لن ينجح، ويصرّ على أن الصلاة اليومية الإلزامية (MT 2, Prayer, 1.1). كان رأيه بأن الميزات المذكورة للصلاة إما نفي أو أوصاف لآثار النشاط الإلهي، ولا تقدم بأي حال من الأحوال معرفة بماهيته. لإيضاح هذه النقطة، يسألنا أن نعتبر في أثر النار على عدة أشياء يمكن أن تكون قبله. يمكن أن يليّن الشمع، يجعل الطين صلبا، يسوّد السكر، ويبيّض العديد من الأشياء. هذا لا يعني أن النار لينة، قاسية، أو تسوّد وتبيّض معا، بل إن لها هذه التأثيرات على عدة أشياء.

حينما نُطّبق هذا التشابه على الإله، يمكننا أن نقول إن الإله رحيم إلى درجة أن نظام الطبيعة (الذي خلقه الإله) يحمل سمات الرحمة والغضب إلى درجة أنه يقسو نحو الأشياء التي لا ترعى نفسها بشكل لائق. هذه النقطة لا تعني أن الإله يملك مشاعرا تشابه مشاعرنا، لكن أثر أفعاله يشابه أثرنا. يشير موسى بن ميمون إلى هذه الميزات كصفات للفعل ويطابقها مع الخير الذي كشفه الإله لموسى في الخروج 33. في هذا النص، يرفض الإله أن يُطلع موسى على الوجه السماوي (والذي يحدده ابن ميمون على أنه جوهري)، لكنه أتاح له أن ينظر له من الخلف (والتي حددها ابن ميمون مع عواقب أو آثار خرجت من الإله). بالتالي، يمكن أن نثني على الإله طالما أننا ندرك أن مثل هذا الثناء غير مباشر، ويترك جوهر الإله غير موصوف وغير معلوم.