مجلة حكمة
تاريخ الورق قصة الورق

قصة الورق وتاريخه في العالم الإسلامي – عبد الله البريدي

قصة الورق و تاريخ الورق
د. جوناثان بلوم، بروفيسور دراسات الفن الإسلامي، ومؤلف كتاب (قصة الورق: تاريخ الورق في العالم الإسلامي قبل ظهور الطباعة)

توفر الورق في العالَم الإسلامي شجع على ازدهار الكتب والثقافة المكتوبة على نحو لا يُقارن بازدهار الكتب الذي عرفته أوربا قاطبة بعد اختراع المطبعة من طراز الأحرف المتحركة في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي .. ولم يعرف العالَم ثقافة احتلتْ فيها الكتابةُ الموقعَ الذي احتلته من الإسلام، اللهم إلا باستثناء قليل من الثقافات الأخرى. ويشير انتشار الكتابة في الحضارة الإسلامية إلى أن مسلمي القرون الوسطى كانوا أكثير ميلاً إلى التعليم، جوناثان بلوم، 191-192


يستعرض هذا النص السِفْر النفيس لمؤرخ الفن والعمارة الإسلامية والآسيوية البروفيسور الأمريكي جوناثان بلوم (خريج جامعة هافارد والأستاذ في جامعة بوسطن)، والذي جاء بعنوان:   – Paper Before Print

The History and Impact of Paper in the Islamic World, Yale University Press, 2001

وقد أحسن المترجمُ المكين الدكتور أحمد العدوي في التصرف بالعنوان حيث جاء بقالب رشيق موحٍ: “قصة الورق – تاريخ الورق في العالَم الإسلامي قبل ظهور الطباعة“. هذا النص الفاخر مضموناً وورقاً، هو من مطبوعات “دار أدب” في المملكة العربية السعودية (الطبعة الأولى، 1442/ 2021)، ويعد هذا العمل إسهاماً عالي القيمة للفكر العربي وأدبياته الرصينة، وهو ضمن مبادرات مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء). هذا العمل المترجم برهان على أن بيت القصيد في الترجمة، إنما هو نابع أساساً من اختيار النص الجدير، ويُكمل ذلك ويثمِّره أن يعهَد للمترجم القوي الأمين، وقد كانه، حيث وجدنا المترجم أحمد العدوي يبرز النصَ بروح عربية مبينة، متجاوزاً الترجمة الحرفية القاتلة، مع تلبسه بأدبنة تلقائية مُشرقة، لا عسر فيها ولا تكلفاً، مما جعله يتخطى حدود الترجمة إلى أن يكون شريكاً مع المؤلف من جهة معاونته على نقل المعنى الرئيس كما هو، وشريكاً مع القارئ من جهة غرس المعنى في تربته الأصلية، فجاء النص كما لو كان مؤلَفاً، لا مترجماً، وذلك في أكثر أجزائه، وهذا لعمري هو الحد المائز بين المترجم المُجيد وغيره.

قصة الورق تاريخ الورقفور وقوع هذا الكتاب القيم في يدي، عاجلني “بلوم” بإيراد بعض المعلومات عن حوامل المعرفة الأولى: الرَّق (الجلد – انظر الصورة الأولى) وأوراق البردي (الصورة الثانية)، وراح يعرفني برفق ببعض خصائصها وإيجابياتها وسلبياتها وكأنه يقول لي: ألا تذكر رسالة جميلة تلقيتَها من صديق مصري لك قبل نحو 12 عاماً، وقد نقشها بخطه العربي الفاتن على ورق البردي، والمزينة بطوابع فرعونية، وهم أحد أبرز من برَع في استخدام تلك الأوراق، فلِمَ لا تنهض وتتفحصها، وترينا إياها، فقلتُ له دون إبطاء: هاته الرسالة فخذها، وتفحصها أنت، ومن معك من القراء. لقد بدا عليها -كما ترون- تصدعاتُ في رأسها من جهة اليسار، وهي تعاني من تشققات سفلية أيضاً، على أنني سعيتُ للمحافظة عليها بشكل جيد، فلم أعرضها لشمس محرِّقة، ولا برودة مجمِّدة، مما يؤكد أن ورقة البردي عالية الحساسية، وأنها بحاجة إلى عناية فائقة.

وهنا، يعود إلينا بلوم ليذكِّرنا ببعض عيون البردي، حيث يقول: “حواف ورق البردي سريعة التآكل، كما تعرض الورق للتلف بسبب فتح الدفتر وإغلاقه، بعبارة أخرى: بسبب الطي المتكرر. وكان الورق في كلا النقطتين أكثر مرونة من البردي قصة الورق الإسلامي وتاريخهعلى نحو ملحوظ” (ص 117-118). وملاحظته تلك كانت بخصوص ورق القرون السالفة، وهذا ما يجعلنا ندرك قيمة الورق القوي المرن الفخم الناعم الصافي الذي نجده مستخدماً في كتب اليوم، غير أننا نجهل قصة الورق للأسف، فلا نعرف شخوصها، ولا أبطالها، ولا أحداثها المفصلية، ولا سرديتها الصينية الوليدة، ولا حبكتها الإسلامية، ولا منعطفاتها الأوربية، وهو ما سنتعرف عليه عبر هذا العمل الموسوعي، بقدر من الاستعراض التحليلي التفصيلي، عبر عنوانات متضافرة. بعد قراءتي لهذا السفر الماتع، شعرتُ بالخجل، إذ كيف كنتُ أقرأ الكتب منذ عقود، وأنا على هذا الجهل المطبق بالورق، مادة وتصنيعاً وتأثيراً؟!

بالمناسبة، كان المؤلف شغوفاً بالورق منذ الصغر، وربما يفسر هذا سر تميز هذا النص، حيث يقول: “يمكنني إرجاع أصول شغفي بالورق وبصناعته إلى طفولتي في الخمسينيات من القرن المنصرم، وذلك عندما شاهدتُ برنامجاً علمياً في التلفاز كان يقدم للأطفال، ويدعى راقب السيد ويزارد (Watch Mr. Wizard). شرح فيه السيد ويزارد –باستفاضة- كيف يمكن صنعُ الورق عن طريق إذابة ورق الحَمَّام في حوض الماء، ثم جمع اللُّب المُذاب ونشره على غربال سلكي صغير. ووجدتني متحمساً لإجراء تلك التجرِبة، وذلك على الرغم من أنني نشأتُ في شقة ضيقة من مدينة نيويورك. وبعد أن قمتُ بإذابة نصف لِفافة كاملة .. نجحتُ في استخلاص معظم اللب المذاب في الماء من الحوض، وقمتُ بنشره على باب نافذة سلكية، ووضعتها قلقة غير مستقرة .. ما لبثتْ أن سقطتْ من فورها في الهُوة المُتربة المحصورة بين مكيف الهواء والجدار. وليت الخسائر اقتصرت على ذلك! فقد أنسد أنبوبُ صرف الماء في حوص الحمَّام .. وهكذا بات لزاماً عليَّ أن أشرح تجربتي العلمية أمام أبوين ساخطين أولاً، ثم توجب عليَّ أن أعيدها بحذافيرها أمام مشرف المبنى -غير المتعاطف- لاحقاً” (ص 29).

 

  • فلسفة كتاب (قصة الورق: تاريخ الورق في العالم الإسلامي) وتركيبته

في إشارة لافتة، يشدد المترجم العدوي -في مقدمته الضافية- على “أن مؤرخ الفنون لديه دائماً رواية أخرى للتاريخ، لا أثر فيها لصهيل الخيول ولا لقعقعة السيوف، ولا لمؤمرات البلاط، ولا للصراعات على الحكم. ولا ترى فيها إلا تجليات الحضارة الإنسانية في أروع صورها .. إن أحداً لم يعتن بدراسة أثر الورق في الحضارة الإسلامية كما فعل بلوم في هذا الكتاب ..” (ص 9). أحسب أن القارئ للكتاب يجد عموماً مصداق ما ذهب إليه المترجم.

الكتاب الجيد ليس هو الذي يبهرك في معلوماته بالدرجة الأولى، وإنما في فلسفته ومنهجية بنائه وتركيبة مباحثه، وهذا ما فعله هذا المؤلف بكل اقتدار. لقد قرر أن يصبغ الكتاب بطلاء السردية التلقائية الماتعة العابرة للتخصصات، التي تخلط الجغرافيا بالتاريخ، وتراوح بين الديني والسياسي، والاقتصادي والتقني، والأثري والثقافي، وذلك من أجل “الجمع بين الحقائق المتنوعة في إطار رواية واحدة تمتاز بالتماسك” (ص 26)، معتقداً أن تفعيل الدراسات البينية كفيلُ بجعل الباحث يرى الغابة، وليس مجرد الأشجار، كما هو حال كثير من المؤرخين الغربيين، وقد استثنى البعضَ من ذلك الوصف، وعلى رأسهم ألفريد فون كريمر Alfred von Kremer.

من جهة ثانية، شغَّل بلوم الجسارة المنهجية، فتخلَّص من الهوامش المرجعية والحواشي السفلية، وراح بـ “روح جاحظية” يزيل الملل ويكنس السآمة من جادة القارئ، فيملأ روحه بمعارف شتى، وقد يكون كثير منها جديداً على غير المتخصص في الفن وصناعة حوامل الكتابة، ويزين عينه بمصورات جانبية، تعكس أبعاداً فنية في الموضوع الرئيس للنص، وهو الورق من جهة تصنيعه وإعداده وأنواعه ومقاساته وتمظهراته واستخداماته وتأثيراته، فجاءت كل صورة كما لو كانت معلِّقاً بارعاً في إنارة هذه الزاوية المعتمة أو تلك، كما أنه استغل بعض المساحات أو الصناديق الجانبية معرفياً، فحشاها بمعلومات ذات طابع فني أو تاريخي صرف، مما يجعل القارئ الشغوف يتابعها وينهل منها بنهم، دون إرباك إو إملال، وهذه استراتيجية تأليفية ذكية.

ولم يكتفِ بلوم بذلك، بل تمرد على عرف منهجي في الكتابة، والمتمثل في الإحالة التفصيلية على المراجع في مواضعها، حيث حسم الأمر بعدم إفساد القالب السردي بذكر المراجع أثناء الفصول، تاركاً هذه المهمة لجزء جاء بعض فصول الكتاب السبعة، وقد جاء بعنوان: قضايا ببليوجرافية (في 41 صفحة)، وفي هذا الجزء أحال على جملة من المراجع في عدد من القضايا الكبيرة التي راها تستحق ذلك، هامساً للقارئ بأن “عدداً كبيراً من مصادر بحثي غير معروفة للقارئ العام، ومن ثمَّ فإنني أوجه القارئ بكل سرور إلى مجموعة من المراجع القديمة المطبوعة ..” (ص 402)، ثم ذكر طرفاً منها كمعجم الفن The Dictionary of Art ومعجم القرون الوسطى The Dictionary of the Middle Ages. وبعد ذلك، سرد المراجع في 21 صفحة، مستفتحاً بـ 12 مرجعاً عربياً، ومستضيفاً من بينهم: الإدريسي، ابن بطوطة، ابن حوقل، الثعالبي، ابن خلدون، وابن النديم. وقد نكأ المؤلفُ بلطف جرحَ النصوص الرصينة، في مقدمته الخاصة للنسخة العربية، قائلاً:

وعلى الرغم من أن كتابي هذا قد تناول الدور المحوري الذي لعبه الورق في تطور الحضارة في العالم الإسلامي –والكيفية التي نقل المسلمون المعرفة بالورق وصناعته من شرق آسيا إلى غرب أوربا في القرون الوسطى- فإن عموم القراء في المنطقة التي تناولها بالدراسة لا يكادون يعرفونه! وذلك على الرغم من صدور ترجمة تركية للكتاب في عام 2003 .. ويحدوني الأمل في أن تصبح هذه الترجمة العربية متاحة على نطاق واسع لجمهور القراء العرب .. وأن تلهم جيلاً جديداً منهم تقدير الدور الذي لعبته المجتمعات الإسلامية في الحضارة الإنسانية، عندما استخدمت الورق وسيلة للتواصل البشري” (ص 7). ولعل هذا الاستعراض للكتاب يعين على نشره لدى شريحة أوسع، فنكون بذلك – كاتب هذا النص وناشره- شركاء في ذلك.

ولعل من أهم ما يثير القارئ العربي أن المؤلف لا يتمرد فقط على منهجية الكتاب بمنهجية يراها هو -ونحن معه- سائغة، وإنما يثور أيضاً على “المركزية الأوربية” المقيتة وبالأخص تجاه الحضارة العربية الإسلامية (وقد التقطها المترجم ببراعة في مقدمته في أكثر من موضع)، حيث يجابهها بلوم بكل شجاعة وثبات وشفافية، ومن ذلك قوله: “قد يعود تجاهل الغرب للدور الإسلامي في تاريخ الورق جزئياً، إلى ميل خبيث، يرمي إلى تجاهل الإسهامات الرئيسة للحضارة الإسلامية، ولا سيما في حالتنا هذه- بوصف هذه الحضارة وسيطاً لنقل الأفكار، حيث يفضل أصحاب هذا الميل البحث عن أصول صناعة الورق في مكان آخر في التحليل الأخير“، مشيراً إلى أن التطويرات الإسلامية للورق هي التي أسهمت في جعل اختراع يوهان جوتنبرغ للطباعة ذا جدوى، لأنه -كما يقول- لو “افترضنا أن السيد جوتنبرغ كان مجبراً على طباعة كتبه على الرَّق فحسب، فإن تكلفة الطباعة على الرق ستكون مماثلة تقريباً لكلفة النسخ عليه بخط اليد، ولما كان حرياً أن تحل محل المخطوطات، وربما استغرق الأوربيون وقتاً أطول بكثير لكي يدركوا فوائد الطباعة” (ص 55، وانظر أيضاً ما قاله في ص 229).

وفي هذا الاتجاه، يستدعي بلوم المؤرخَ ج. م. روبرتس J. M. Roberts صاحب كتاب “تاريخ أوربا” (قد يحسن النظر في ترجمته)، القائل: “كان تأثير العالم الإسلامي على الحضارة الأوربية أكبر بكثير من تأثيره على أي مكان آخر” (ص 55). هنا، ابتلع ريقي المر، حينما أتذكر أن ثمة من مثقفينا من يتبنى آراء ربما أكثر تطرفاً من تلك النزعة الغربية المجحفة تجاه حضارتنا، أولئك الذين أسميهم بـ “المثقفين الكارهين ذواتهم“. 

 

  • مما يصنع الورق منه؟

عبر إحصائيات دالة، يقرر بلوم أن البشر قد “انقضى نحو 99.9% من تاريخهم ولم يقرأوا أو يخطوا بأيديهم قط، وظل الأمر جارياً على هذا المنوال حتى عرفوا الكتابة قبل خمسة آلاف عام .. فانتقلتْ المجتمعاتُ البشرية إلى آفاق أخرى” (ص 65)، حيث مكَّن الورقُ الإنسانَ من نقل المعرفة ومراكمتها، فمن أين جاء الورق وكيف يصنع؟

 

يسهب بلوم في إيضاح الكثير من الجوانب الفنية والتقنية من جهة المواد الخام التي يصنع منها الورق، كما أنه يقدم معلومات تفصيلية عن الحوامل المنافسة للورق مثل: الرَّق وأوراق البردي. وفي صندوق جانبي، ينفحنا بلوم بمعلومات تفصيلية ذات طابع فني عن الورق من جهة المواد الخام والعمليات التصنيعية الأولية للورق في مراحل متسلسلة (هذه الصورة لمصنع حديث للورق)، وهي جزء من فهم سردية الورق وعظمة عمل الأوائل، وهي جديرة بأن تسكب في قلوبنا تقديراً وافراً للورق الذي بين أيدينا ولأسلافنا الذين تعبوا من أجل صناعته وتطويره، الذي بات يُستخدم في أكثر من 400 استخدام متنوع وفق الدليل القياسي لصناعة الورق في أمريكا عام 1996م (ص 39)، علماً بأنه قد وصلت الاستخدامات إلى نحو 200 استخدام بحلول 1908 (ص 46)، حيث يقول بلوم:

تغمر أليافُ [السليولوز Cellulose‏] في الماء ثم تُرسَّب على لوح بهدف إزالة المياه الزائدة، وبعد التجفيف تستحيل الألياف ورقة متماسكة. ويمكن استخلاص ألياف [السليولوز‏] الموجودة في جدران الخلايا النباتية، إما مباشرة من اللحاء أو الأخشاب، أو على نحو غير مباشر من خلال الخِرق أو نفايات النسيج، مثل وبر القطن .. ويدين الورق بصفاته المميزة من القوة والمرونة إلى الصفات الكيميائية والفيزيائية  [للسليولوز‏] (C6H7O2 [OH]3) الذي تصنعه النباتات من الجلوكوز (C6H12O6)، وهو سكر بسيط ينتج أثناء عملية التمثيل الضوئي. ويربط النبات جزئيات الجلوكوز، والتي تكون على شكل حلقات مفرغة، بذرات الأكسجين في شكل نمط تبادلي، ونظراً لأن كل حلقة تصبح مقلوبة عند اتصالها بالحلقة الأخرى، فإن جزئ [السليولوز‏] يحتوي على شحنة موجبة وأخرى سالبة بالتبادل على طول كل وجه على حدة، وتسمح هذه  الشحنات بتجميع الجزئيات معاً لتشكل آلياف دقيقة وألياف عادية. ويؤدي الاتصال الوثيق بين جزئيات [السليولوز‏] إلى حدوث ترابط هيدروجيني، وتجاذب بين ذرات الأكسجين ذات الشحنة السالبة وذرات الهيدروجين ذات الشحنة الموجبة، التي تعطي الشكل والقوة للألياف. ويشكل [السليولوز‏]، وهو العنصر الأكثر وفرة من بين جميع المركبات العضوية الطبيعية، نحو 33% من جميع المواد النباتية (نحو 90% من القطن و50% من الخشب). ويمكن تحرير ألياف [السليولوز‏] من المواد النباتية عن طريق: الرطوبة أو الحرارة أو الخفق، أو مزيج من تلك العمليات معاً. فتوضع سيقان نبات الكتان في المياه، وتخمَّر (حتى تصبح عطنة) وتجفف، ثم تُخفق لتحرير الألياف، التي قد تُغزل خيوطاً من الكتان أو يُصنع منها الورق” (ص 39-40).

وحتى يكون الورق نافعاً في نشاط الكتابة، فثمة شيء آخر يلزم توفيره، وهو كما يعرف بالعربية “المِداد”، والمداد الأسود يحضِّره “الكتبةُ من محلول سُخام المصابيح المربوط بالصمغ النباتي” ، وهو مناسب “للكتابة على سطح ورق البردي، بيد أن سطح الرَّق كان أمنع من أن يخترقه هذا النوع من المداد، فكان يميل إلى التكتل ثم إلى التقشر من على سطح الرَّق. وكانتْ المصاحف العتيقة بالخط الكوفي تُنسخ على نحو طبيعي على الرَّق بالحبر البني .. وكان مصنوعاً من أحماض التانات المعدنية (metal tannates) المخلوطة بالعفص (gallnuts) .. ولكن إن استخدم هذا الحبرُ على الورق، نتجَ عن الخليط من الأملاح المعدنية والتانات والعفص [أحماضُ] كانت تؤدي في النهاية إلى تآكل الورق. وعلى النقيض من ذلك، لم يكن للمداد المصنوع من الكربون تأثير كيميائي يُذكر على السطح الذي يكتب به عليه، أياً كان. وكان المِداد الكربوني هو مادة الكتَّاب والنسَّاخ المستخدمة عادة في الكتابة على ورق البردي والورق” (ص 216). لم ينتهِ الأمر هنا، حيث بقي شيء ثالث لإتمام الكتابة، وهو: القلم. عدَّد المؤلفُ أنواعَ الأقلام المستخدمة، ومنها “قلم القصب” الذي كان يستخدمه الخطاط المشهور “ابن مقلة” (ص 217).

 

  • بين الحفظ والتدوين: رحلة الورق!

يعالج بلوم مسألة الانحياز إلى الحفظ في الحضارة الإسلامية وإعلاء شأنه في سياق التعلم والتعليم ومراكمة المعارف لدى المتعلمين، مشيراً إلى أن ثقافة الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت مؤسسة على “السماع والحفظ والمشافهة إلى حد كبير. وعلى الرغم من أن العرب عرفوا الكتابة، إلا أنها لعبتْ دوراً هامشياً .. ومثلَتْ القصيدةُ الشكل الأسمى للكلمة المسموعة في الثقافة العربية قبل ظهور الإسلام .. ولم تُكتب المعلقات وقصائدُ الشعر الجاهلي العظيمة إلا بعد بضعة قرون من نظمها. بيد أن العرب استخدموا الكتابة قبل الإسلام، فقد عثر الآثاريون في اليمن على نقوش عربية جنوبية تعود إلى تاريخ موغل في القدم قبل الميلاد” (ص 195-196).

بخصوص أول آية قرآنية  “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” (العلق: 1 )، يجادل بلوم أنها إنما تعني بالدرجة الأولى قراءة القرآن بصوت جهوري مسموع، حيث “تمثلت وسائل الفهم الرئيسة في نقل الوحي وحفظه .. سماعاً ثم حفظاً.. وطور المسلمون -الذين أرادوا حفظ نص القرآن سليماً- علماً عرف بالعربية باسم علم القراءات” (ص 197). وفي إشارة ذات معنى، يقرر بلوم أن القراءة تعد “نشاطاً عقلياً صامتاً بالكلية في مفهوم المتعلمين المحدثين في أيامنا هذه، وأينما وجدوا. ولكن حتى وقت قريب، كانت القراءات في جميع الثقافات نشاطاً صوتياً وبدنياً، كما كان الاستماع إلى القراءة بصوت جهوري وسيلة الأميين ايضاً للوقوف على النص المكتوب. وكان معظم المتعلمين يفضلون الاستماع إلى النص بدلاً من قراءته مكتوباً. وتؤكد الوثائق العربية العائدة إلى القرون الوسطى استمرار وجود الرواية الشفوية في المجتمع الإسلامي آنئذ” (ص 198)، مع كون المسجد مركزاً للتعليم ونشر الكتب والمعرفة في مختلف المجالات الدينية والعلمية والأدبية (ص 225). 

وفي جانب معزز لثقافة الحفظ، يذكر بلوم أنه “من المفترض –وفي جميع المجتمعات الإسلامية- أن يكون حفظ القرآن شرطاً رئيساً للتعليم العالي، ومن ثمَّ، كان ترويض الذاكرة سمة ثابتة للتعليم في الإسلام .. وغالباً ما كان العلماء الذين تمتعوا بذاكرة مذهلة موضوعاً للحكايات الشعبية ..” (ص 200-201). ثم يعقب بالقول: “وعلى الرغم من أن العلماء المسلمين أكدوا أهمية الحفظ، إلا أنهم كانوا يعتقدون أن للكتابة دوراً مهماً في نقل المعرفة والحفاظ عليها .. وأكد المؤرخ والفيلسوف الكبير ابن خلدون .. على قيمة الكتابة في المجتمع الإسلامي، وذكر أن العلماء والكتَّاب ركزا على الدقة في المنقول كتابة من خلال أسانيد الكتب التي انتهت بمصنفاتها ..” (ص 202)، ثم نقل اقتباساً لابن خلدون يؤكد فيه على المعنى السابق ويشدد على أهمية الأمانة العلمية في العزو إلى المراجع بكل دقة، فيقول ابن خلدون: “هكذا كان شأن أهل العلم وحملته في العصور والأجيال والآفاق، ضبط الدواوين العلمية وتصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها وواضعيها، لأنه الشأن الأهم من التصحيح والضبط، فبذلك تسنَد الأقوالُ إلى قائلها ..” (ص 202). وفي تحليل يحتاج إلى تفحص وتأمل أكثر من جهة أصله ودواعيه وحدوده وانعكاساته، يشير بلوم إلى أن الفقهاء المسلمين لم يثقوا بالوثائق المكتوبة إلى حد كبير، بسبب قدرة البعض على التلاعب بها، وقد تتعرض أيضاً الوثيقة عَرَضاً للخرم أو ما إلى ذلك (ص 203).

وبالقراءة المتفحصة، نظفر بصيد استنتاجي جيد، مفاده أن القرآن الكريم لعب دوراً مهماً في تاريخ الورق، أي أنه استحال إلى أداة للتأريخ يُعول عليها، وهذا أمر مدهش في حقيقة الأمر، ومما جعلنا نخلص إلى ذلك، ما أشار إليه بلوم: “فإن كثيراً من أوجه معرفتنا بالكتاب الإسلامي في القرون الوسطى وصناعة الكتب مستقى من النسخ المخطوطة التي وصلتنا من المصاحف” (ص 194). وقد سرد المؤلف عشرات المقاسات من الورق المستخدم في كتابة المصاحف على الورق وغيره، طيلة القرون السابقة.  

 

  • مَنْ اكتشف الورق؟ ومتى؟ وما دور المسلمين في تاريخ الورق وتطويره؟

في مدخل الكتاب يبادرنا بلوم بالقول: “اخترع الورقُ -وهو أكثر المواد انتشاراً بحياتنا اليوم- في الصين قبل قرن أو قرنين من ميلاد المسيح. ومع ذلك فقد انقضى ما يقرب من ألف عام قبل أن يستخدم الأوربيون الورق للمرة الأولى، بل لم يصنعوه بأنفسهم إلا في القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. وتعلم النصارى الأوربيون صناعة الورق من مسلمي الأندلس، الذين حكموا إسبانيا، وأسسوا هناك أول مصانع لصناعة الورق في أوربا قاطبة، حيث قام صناع الورق المسلمون في هذه المصانع بتحويل خِرق الكتَّان وألياف النفايات الأخرى إلى مادة قوية ومرنة صالحة للكتابة، وذاك عن طريق خفق الألياف أولاً، باستخدام المطارق الثقيلة (Trip-hammers) التي تعمل بقوة دفع تيار الماء، ثم جمع اللُّب الرطب الناتج عن عملية الخفق، ونشره على الألواح يدوياً، ثم تجفيفه في الأخير” (ص 37-38).

 

قصة الورقفي مقاربة سوسيودينية، يشير بلوم إلى أن الدين تسبب في انتشار الورق من عدة زوايا، ومن ذلك على سبيل المثال أن الصين لعبتْ “الدور الرئيس في انتشار البوذية في جميع أنحاء آسيا في الألف الأول بعد الميلاد، وكان التبشير بالبوذية هو الوسيلة التي انتشر بها الورق أيضاً في جميع أنحاء آسيا، حيث سعى جميع الطلاب الذين درسوا الديانة البوذية إلى تعلم الحِرف والصناعات الصينية التقليدية من صنع الفرس والمِداد والورق لنشر تعاليم البوذية على نحو أكثر كفاءة .. وكلما كانت تلك البقاع أقرب إلى مراكز البوذية في الصين .. عرفتْ تلك البقاعُ الورقَ وصناعتَه في وقت أبكر قياساً بالبقاع الأبعد نسبياً عن الصين” (ص 100-101). وبالمثل، يربط بلوم بشكل مباشر بين: انتشار الورق في العالم الإسلامي والدين الإسلامي، وترسخه وأنشطته وإطاره المعرفي (ص 115 وفي مواضع كثيرة أخرى).

مرتدياً نظارة المؤرخ المنقِّب في الروايات والناقد لها، ينسف بلوم رواية “أن العالَم الإسلامي عرف الورقَ عندما سبَى جنُد المسلمين بعض صنَّاع الورق الصينين في معركة طلاس [جنوب كازاخستان حالياً] في عام 134هـ/751م” (ص 107)، مشيراً إلى أنها مجرد حكاية يقوم الدليل على خلافها، وقد سردها الثعاليُ بعد قرابة ثلاثة قرون من وقوعها في “لطائف المعارف” (ص 108). وبعد ذلك، يؤكد بلوم انتشار صناعة الورق في جميع أرجاء آسيا الوسطى بحلول القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، ويقرر بأنه “استخدم الورق في سمرقند، وربما صنع هناك قبل عقود من معركة طلاس. وبصرف النظر عن الرسائل القديمة، والتي كانت إحداها موجهة إلى سمرقند قبل بضعة قرون، فقد اكتشف عدد كبير من الوثائق المدونة على الورق في منطقة سفح جبل موغ (Mugh) في حصن جبلي بالقرب من بنديزيكنت (Pendzhikent) أو (بانش Panch) في طاجيكستان ..” (ص 109-110).

ولعل بلوم يصبح أكثر قوة تحليلية نقدية حينما يرتدي قبعة التقني، فهو يقول: “أما الحجة الأكثر إقناعاً في تفنيد الدور المفترض لصنَّاع الورق الصينيين في تعريف سكان آسيا الوسطى بالورق، فهي حجة تقنية، فقد صنع الورقُ في غرب الصين بحلول القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي في المقام الأول من ألياف لحاء التوت، وورق التوت، والرَّامي مجتمعة أحياناً مع القنَّب، وخِرق الكتَّان وخِرق الرامي. وكان صناع الورق [الصينيون] يقدمون الألياف الخام دائماً على الخِرق. ولم تعدُ خِرق الكتان أن تكون مجرد مكمل في هذه الصناعة، ولم تشكل قطُّ المادة الخام الرئيسة .. فحص الأوراق الإسلامية يبين أنها غالباً ما صُنعتْ من ألياف خِرق الكتان، مع خليط من الألياف الخام أحياناً. ولو كان صنَّاع الورق الصينيون هم أول من أدخلوا صناعة الورق في سمرقند، فلم يكن بمقدور أهل سمرقند إتقان استخدام الألياف المستخرجة من الخِرق بهذه السرعة وفي هذه المدة الزمنية القصيرة. والأقرب للتصور أن صناع الورق قد نشطوا في آسيا الوسطى لبعض الوقت، حيث تعلموا استخدام الخِرق بدلاً من الألياف الخام بوصفها مواد أساسية في المقام الأول. وكانت المساهمة الرئيسة لصناع الورق الذين عملوا في ظل حكم العرب هي إتقان صناعة الورق من خِرق الكتان، من خلال تحسين تقنيات ضرب الألياف، وتجهيز سطح الورقة للكتابة عن طريق تغريته باستخدام النشا” (ص 110-112).

وفي تحليل تاريخي شامل، يومئ بلوم إلى أن التقدم الحضاري العربي الإسلامي أسهم في تشجيع أنواع جديدة من العلوم والأدب، فتشققتْ الحقولُ المعرفية، وراحت الدولة تشجع “المؤلفين على التصنيف في إدارة شؤون الدولة من منظور شرعي، كما دفعهم الفضول العام أيضاً إلى وضع مصنفات في الشعر والفلسفة والجغرافيا والملاحة والرياضيات والعلوم التطبيقية، فضلاً عن علوم الفلك والتنجيم والطب والكيمياء. وفي نفس الوقت شهدت تلك الحقبة إقبالاً عظيماً على تجميع مجموعات من القصص وغيرها من أساطير الأقدمين باللغة العربية .. وثمَّ نوع آخر غير اعتيادي تمتع بشعبية كبيرة، وهي الكتب التي وضعت في فن الطبيخ ..” (ص 222)، ولقد أدت كل هذه الاشتغالات الكتابية المتنامية إلى رفع الطلب على الورق، ورفع جودته، وتنويعه، وتخفيض أسعاره، وجعله الحامل الرئيس للمعرفة حينها “أضحى الورق الوسيط الرئيس للذاكرة” (ص 25). وهذا مفصل تاريخي بامتياز.  

 

  • اكتشف المسلمون الطباعة ولم يستخدموها، فلماذا؟

في معلومة غير مطروقة، يشير بلوم إلى أن المسلمين مارسوا طرقاً عديدة لاسكثار النسخ  “أو الطباعة باستخدام الطباعة بالقالب ( block printing) في وقت مبكر من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي” (ص 387)، وفي موضع آخر كشف عن طبيعة استخدام تلك القوالب: “ استخدموها في بعض الأحيان في صناعة التمائم الرخيصة، أو لتزيين المنسوجات القطنية، إلا أن طباعة الكتب دخلتْ إلى العالَم الإسلامي بعد ألف سنة كاملة من تاريخ دخول الورق في أواخر القرنين الثاني والثالث الهجريين/الثامن والتاسع الميلاديين” (ص 54).

وفي تحليل صناعي اقتصادي، يذكُر بلوم أن الورق أضحى “أرخص بالفعل من أوراق البردي في منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي” (ص 169)، وذلك بعد أن تطورت الصناعة وزاد الطلب، مما مكَّن الصنَّاع من استخدام أدوات وتقنيات جديدة، وربما مواد خام أفضل، وهذا يشبه ما بات يُعرف بـ وفورات الإنتاج الكبير Mass Production، حيث تتضافر عوامل كثيرة على كثرة الإنتاج، وتخفيض كلفته مع رفع جودته؛ وفق مستويات مستهدفة.

ضمن تحليل متين، يكشف بلوم النقاب عن عبقرية إسلامية في مجال: (1)  صناعة الكتب، (2) توثيق المعرفة ، (3) ونشرها، (4) بطرق خلاَّقة على نطاق واسع، حيث يقول المؤلف: “ولم يكن من الممكن عدُّ نسخة من الكتاب نفيسةً ما لم يكن صاحبُها مجازاً من قِبل المؤلف. وكما استندتْ صحةُ الحديث إلى سلسلة رواته، فإن صحة نسخة الكتاب استندت إلى سلسلة من الإجازات كانت تعود إلى المصنف نفسه رأساً .. وقد يستبين للمرء -في ضوء حرص المسلمين على قراءة النسخ ومعارضتها على نسخ أصلية- سببُ احتواء المخطوطات الغربية في القرون الوسطى -متى قيست بنظيرتها الإسلامية- على هذ الكم الهائل من الأخطاء التي وقعتْ من قِبل الأجيال المتعاقبة من النُسَّاخ. وربما تكمن أصول هذه الظاهرة في تقليد نقل القرآن رواية .. أدى هذا النظام في العالم الإسلامي في القرون الوسطى -وبمجرد توفر المواد والنصوص اللازمة- إلى ظاهرة انفجار الكتب. وعلى النقيض من الوضع في العالم النصراني القروسطي، حيث قام مصنفُ واحد بنسخ نسخة واحدة من كتابه على مخطوطة من الرَّق على المنضدة أمامه، كان يسع نظيرُه في العالم الإسلامي أن يستخرج عشرات النسخ المدونة على الورق في قراءة واحدة فحسب، وكل واحدة من تلك النسخ المجازة، يمكن أن تولَّد عشرات النسخ الأخرى في جلسة قراءة واحدة أيضاَ. وفي خلال جيلين من القراءة، يمكن أن يتجاوز عدد النسخ مئة نسخة من الكتاب نفسه أو تزيد. وكان هذا النظام العبقري فعالاً على نحو استثنائي في زيادة تداول الكتب، بل إنه يشرح لنا كيف أمكن للمكتبات الإسلامية في القرون الوسطى أن تحتوي على عدد هائل من الكتب في مجتمع لم يعرف الطباعة قط” ( ص 228-229).

ولعل في الملمح الأخير من تحليله، تفسير مقنع لسر ضخامة المكتبات الإسلامية، حيث يتقبل بلوم ذلك بعقلانية واطمئنان، وذلك بخلاف كثير من المؤرخين الأروبيين المتورطين بداء المركزية الأوربية، مع أنهم يتقبلون في المقابل: “الروايات التي تقضي بأن مكتبة الإسكندرية القديمة اشتملت على عدد يتراوح بين 100 ألف إلى 700 ألف كتاب في وقت ما. وتتفق جميع المصادر على أن مكتبات العالَم النصراني في القرون الوسطى كانت صغيرة بصفة عامة، فقد اشتملت مكتبة دير سانت غال (monastery of St. Gall) في سويسرا على نحو 400 مجلد في عام 227هـ/841م، وكانت مكتبة دير بوبيو (monastery of Bobbio) في إيطاليا في مستهل القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي تحتفظ بـ 650 مجلداً فحسب..بل إن الحال استمر يجري على المنوال نفسه في أعقاب اختراع المطبعة، فظلتْ الكتب نادرة أيضاً، فقد سجل جرد أجري في دير كليرفو الكبير (monastery of Clairvaux) في عام 912هـ/1506م وجود 1788 مخطوطة، وثلاثة كتب مطبوعة فقط” (ص 229). 

في المقابل، يُذكِّرنا بلوم أن “جد اللغوي الأندلسي أبي عبدالرحمن عبدالله بن محمد بن هاني الأندلسي، كان لديه مكتبة خاصة كبيرة، إلى حد أن ابن هاني أفرد لها داراً مستقلة. واستضاف فيها طلابه وأعطاهم الورق لينسخوا لأنفسهم ما شاءوا من مجموعته الرائعة من الكتب. فلما توفي، بيعت كتبُه بمبلغ 400 ألف درهم، الأمر الذي يشير إلى أن عدد الكتب يتراوح بين 400-4000 كتاب، إذ بلغ سعر الكتاب العادي نحو 10 دراهم، فإذا كان قيماً ربما تجاوز ثمنه عشرة أضعاف هذا المبلغ” (ص 231)، وأشار المؤلف إلى مكتبة ضخمة قوامها 400.000 كتاب، شيدها الخليفة الأموي الثاني في الأندلس الحكَم المستنصر (خلافته 350-366هـ/961-976م)، واشتغاله على طلب العلم والقراءة في الوقت ذاته (ص 235)، مع إشارته لمكتبة الوزير الفاطمي ابن بدر الجمالي البالغة 500.000 كتاب، واشتمال مكتبة الخليفة الفاطمي في عام 567هـ/1171م على 1.600.000 كتاب (ص 227-228). انتشرتْ المكتبات العامة بشكل واسع، ومارستْ عمليات إعارة الكتب لمرتاديها، كما في مكتبة قرطبة، ووظِّف النساخُ والمترجمون والوراقون في سياق معرفي تكاملي (ص 236).

 

  • تحليلات سوسيواقتصادية وسوسيوتقنية

في تحليل سوسيواقتصادي، يضع بلوم أضواء كاشفة على أن ازدهار صناعة الورقة في العالم الإسلامي آنذاك شجع على توليد الوظائف، بل ظهرتْ “مهن جديدة، إذ ارتزق الناس من نسخ الكتب تجارياً في أسواق الوراقين، والتجارة في الورق أو الكتب أو التجليد، وما يجري مجرى ذلك .. ” (ص 229)، ويقدر عددُ دكاكين الوراقين بنحو 100 دكان جنوب غرب بغدد في مطلع العهد العباسي، ونال الورق البغدادي أعلى درجات الجودة (ص 121)، ونشطتْ دمشقُ هي الأخرى في هذا المسار، وصارتْ تصدِّر الورقَ إلى مصر خلال القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي (ص 134).

ومما يدل على التفنن في صناعة الورق في مسارات عديدة، قول بلوم: “شكَّل المجلدون الفرس أغلفة الكتب الجلدية الفارسية المعاصرة باستخدام قوالب معدنية منحوتة نحتاً دقيقاً. ومن ثمَّ يمكن القول: إن العالم الإسلامي عرف كثيراً من تقنيات الطباعة قبل أن يولد جوتنبرغ نفسه” (ص 389). وقد أفلح الورق في توليد حقول إنتاجية جديدة أو تعزيزها، ومن ذلك المنسوجات، حيث تطورتْ تطوراً هائلاً، وذلك لكون الورق قد أتاح التصميم الدقيق، فضلاً عن الطباعة على المنسوجات عبر القوالب وغيرها (ص 314)، ويدخل في ذلك أيضاً صناعة الخزف، حيث استخدموا الورق المقوَّى (الكرتون)، مما ساعدهم في تطوير تصاميمهم والتحليق عالياً بإبداعهم (ص 61)، فضلاً عن تعزيز الفن عبر الكتب المصورة، حيث طور الرسامون الصور التي زينتْ بعض الكتب، سواء على أغلفة الكتب أو في الصفحات من أجل إنارة النص (ص 324 وما بعدها)، وفي هذا يقول بلوم: “فإضافة إلى الرسائل العلمية والتقنية التي وضحتْ برسوم بيانية وخرائط، ظهرتْ دواوينُ الشعر والأعمال الأدبية بمُنمنمات احتلتْ .. صدور الكتب” (ص 325)، كما في الصورة الموضحة، وهي من كتاب المقامات للهمذاني (المتوفى 395هـ/1007م).

وحين سحب بلوم تحليله الذكي إلى المرحلة التي تلتْ اكتشاف المطبعة، وجلبها إلى الدولة العثمانية، حيث إن “المطبعة لقيت مقاومة عنيدة في الدولة العثمانية، فلم يتوجس العثمانيون منها خيفة فحسب، بل حظروها بالكلية .. ” (ص 391)، ومن الأسباب الوجيهة التي رشحها بلوم لتفسير ذلك الموقف الغريب، نجد من بينها مقاومة جماعة الوراقين والنساخين ومن لفَّ لفهم، حيث وصل عددهم إلى نحو 80 ألف وذلك في حدود عام 1093هـ/1682م، حيث “تمتع النساخون والوراقون بسلطة اقتصادية وسياسية كبيرة” (ص 393). وهذا ملمح مفيد في تحليل المجتمع العلمي والجماعة العلمية، وتأثيرات الأفراد والكيانات المنتمية إليهما على حركة المعرفة وتوجهاتها في سياقها المجتمعي الكبير.

وضمن تحليله السوسيواقتصادي، يؤكد بلوم أن البعد الاقتصادي والسلوك النفعي عاون في تقبل كثيرين للورق، ومن ذلك ما أبداه التجارُ الإيطاليون حيث بادروا باستخدام الورق كما بادروا  أيضاً باسخدام “الأرقام العربية بطريقة منظمة في أعمالهم التجارية” (ص 259)، ولا يدعنا بلوم دون أن يسطِّر هذه المفارقة العجيبة: “وأضحى الورق أداة حسابية في البنوك الإيطالية، ويبدو أن التجار الأوربيين الذين تاجروا في غرب آسيا والمغرب قد أسهموا في تعريف شركائهم من التجار المسلمين بفوائد النظام الذي عرفه علماء الرياضيات المسلمين واستخدموه في إجراء حساباتهم. ومع ذلك فإن قلة من التجار المسلمين عرفوا هذا النظام واستخدموه لعدة قرون تالية” (ص 260).

ويتوغل بلوم في الجانب الاقتصادي أكثر، فيشير إلى أن صناعة الورق لدى المسلمين، ساهم في تعزيز التنمية الاقتصادية، وبالأخص ما يمكن أن يوصف بـ الاقتصاد الائتماني، حيث كانت “معظم تجارة الجملة بل والتجزئة أيضاً .. تتم على نحو أساسي من خلال الائتمان بالدين المسجل على وثائق من الورق. وكانت العمليات التي انطوت على الدفع عاجلاً ونقداً نادرة، وعادة ما كافأ البائعُ المشتري نقداً بخصم قياسي تراوح بين 2 إلى 4% من إجمالي الثمن الكلي” (ص 263). ومن مظاهر الائتمان ظهور ما كان يعرف بـ “السفتَجة” وهي “خطاب ائتمان بتعبيراتنا المعاصرة” (ص 264).

ولم تسهم صناعة الورق في هذا الاتجاه فقط، بل أسهمت في توليد قوالب اقتصادية وتجارية جديدة، ومن ذلك إصدار وثائق ورقية تسهَّل التحويلات المالية، حيث مكَّنتْ الناس من عدم المخاطرة بنقل أموال كبيرة، ويدخل في ذلك أيضاً إصدار “الرقعة” وهي ما يعرف حالياً بـ الكمبيالة، “حيث عدَّ التجارُ الرِقاعَ الصادرة من الصيارفة الثقات كالنقد تماماً” (ص 266). هذه النظرات المعمقة التي تولد تحليلات تشابكية تبرهن مجدداً على أهمية تعزيز الدراسات البينية أو العابرة للتخصصات، وهو ما نفتقر إليه في أدبياتنا العربية.

وفي تحليل سيوسيوتقني موازٍ يدل على نجاعة الدراسات البينية، يأخذنا بلوم برشاقة في سرديته الماتعة إلى لقطة على العالم النصراني، حيث يشير إلى أنه وعلى الرغم من انتشار الورق في العاصمة العباسية بغداد، ووجود اتصالات دبلوماسية واسعة مع البيزنطيين في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، إلا أن هؤلاء البيزنطيين لم يستفيدوا البتة من صناعة الورق، فلم يستخدموه في القسطنطينة لكونهم يتوفرون على قدر كافٍ مما أسماه بلوم بـ “رهاب التقنية” Technophobia، “ولذا لم يُستخدم الورق في الدولة البيزنطية قبل القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي” (ص 360-361).

 

  •  السياسة بوصفها رافعة معرفية

يتضمن الكتاب في بعض أجزائه تحليلات سوسيوسياسية وسوسيوثقافية، مما يعين على فهم حبكة الورق والمعرفة من زوايا عديدة متضافرة، ومن ذلك إشارته إلى الخلافة العباسية في بغداد وقرارها السيادي بتطوير الدواوين، وما يتطلبه ذلك من استخدام أفضل أنواع الورق وأكثرها قوة ومرونة وأمانة على حفظ الوثائق والمعلومات بمختلف أنواعها (ص 116-117)،  وقد مر معنا كيف لعب الورق في تنمية الحقول المعرفية والفنون والاقتصاد من زوايا عديدة، ويضع بلوم القارئ في سياق تحليل تاريخي للأسبق من الساسة من جهة الأمر باستخدام الورق في الفضاء الحكومي الرسمي، هل كان هو: أبو جعفر المنصور أم هارون الرشيد؟ لافتاً النظر إلى ما قرره ابن خلدون في ذلك، حيث أشار إلى أن الفضل بن يحيى البرمكي وزير الخليفة هارون الرشيد هو من أمر بصناعة الورق واستخدامه، وذلك نظراً لسلبيات حوامل الكتابة الأخرى (ص 119).

وللتأكيد على دور الدولة في الصناعات المعرفية، يذكر بلوم أن صناعة الورق في بغداد أصيبتْ بالضعف الشديد بعد سقوط الخلافة العباسية، إلى أن وصلتْ إلى حد الانهيار التام بحلول عام 756هـ/1335م (ص 130). على أن الترس السياسي يكون أحياناً مشغِّلاً للمكنة الاقتصادية، حتى لو كان في بعض مساراته من باب التزين والبذخ، ومن ذلك استخدام الفاطميين للورق “بإسراف لمراسيمهم ووثائقهم، مثلهم في ذلك مثل الخلفاء العباسيين في بغداد” (ص 168).

وتعقب بلوم ابن خلدون في مسألة تفضيل الورق على حوامل الكتابة الأخرى، حيث يقرر بأنه قد “أهمل في ذكر سبب مهم من شأنه شرح انحياز كتَّاب الدواوين للورق على حساب الرَّق أو أوراق البردي، وهو أن الورق كان يمتص المِداد، فيصعب محو الكتابة مِن على سطحه دون أن يترك ذلك المحو أثراً، ولذلك كانت الوثائق المدونة على الورق أقل عرضة للتزوير من تلك التي دونتْ على أوراق البردي والرَّق بما لا يقاس” (ص 119-120).

جدير جداً بالملاحظة، أن المتتبع لمسار الكتب المصورة في العالَم الإسلامي عبر مشاهد بلوم المتكاثرة، يلحظ الزيادة الكبيرة في أشكال هذه الكتب، والتزويق المُبالغ فيه، وظهور النسخ الفخمة والمصاحف الكبيرة الشكلانية، وقد تعززت تلك الزيادة بشكل واضح في أواخر الخلافة العباسية، ونما هذا السلوك الشكلاني بشكل مطرد في عهد المغول والممالك الفارسية بمختلف تجلياتها السياسية الفكرية (ص 324-333 وأجزاء أخرى من الكتاب)، حيث طغى الشكلُ على المضمون، ولقد كان ذلك مؤشراً على انحطاط معرفي، وهو جدير بدراسات مُنقبة أكثر تفصيلاً وعمقاً.

ومن الأبعاد التي تظهر خطورة العامل السياسي في الجوانب المعرفية والاقتصادية، ما ذكره بلوم من حادثة تضييق المرابطين (448-541هـ/1056-1147م) والموحدين (525-668ه/1130-1269م) على بعض المسلمين “ومن جملتهم صناَّع الورق، وأدى هذا الاضطهاد إلى هجرات واسعة من جانب المسلمين الذين فضَّلوا الاستقرار في ممالك الشمال النصرانية .. أنشأ أولئك اللاجئون مصانع جديدة للورق في مناطق مثل كتالونيا .. وبلباو .. في وقت مبكر من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي“، ولقد انتقلت هذه الصناعة تحت حكم هولاء النصارى من كونها حِرفة شخصية أو مدنية، إلى كونها حرفة “معممة”، أي تحت “سيطرة التاج مباشرة” (ص 367)، وهذا له دلالاته المستحقة للنظر والتحليل.

في سياق استعراضي لهذا العمل المميز، لم يكن المجال متسعاً لعرض ملاحظات نقدية على هذا الكتاب، وإن كانت محدودة على كل حال، وذلك وفق قراءة أولى من قارئ عام غير متخصص. وضمن الملاحظات، التي يمكن تدوينها بعجالة، أن المؤلف يُعالج قصة الورق ضمن العالم الإسلامي، أي أنه يتعاطى مع الشخصية المسلمة، أياً كان بلدها وعرقها، وهذا جيد للغاية، إلا أنه يضيق ذلك ويخرج عنه في أجزاء كثيرة، حينما يكون العزو للشخصية المنتمية للإطار الثقافي أو الجغرافي أو العرقي “الفارسي”، وفي هذا إشكالات بحثية عويصة كما يعلم المتخصصون، مما يوقع المؤلف في الخطأ حينما يعزو شخصية بعينها إلى هذا الإطار بشكل غير دقيق على سبيل المثال، ومن ذلك عزوه لبديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات إلى الإطار الفارسي، مع أن المشهور أنه عربي، مولود في بلاد ما وراء النهرين، وهذه الملاحظة تستدعي من المؤلف إعادة النظر.

صحيح أن هذا الاستعراض جاء تفصيلياً في بعض أبعاده، بيد أنه لا يغني البتة عن القراءة المترسلة لهذا السفر البديع، والسردية الماتعة، مع إزجاء شكري الجزيل للمؤلف على الجهد الكبير المبذول في التأليف، والتجديدية والابتكارية في المنهج والأسلوب، والموضوعية والتضافرية في المعالجة، ونغلق استعراضنا هذا، بما أغلق به بلوم نفسُه نصه، حيث استدعى مرة أخرى ألفريد فون كريمر، ليذكِّرنا بأن: “ازدهار النشاط الفكري الذي أتاحه الورق قد افتتح عهداً جديداً للحضارة الإنسانية” (ص 400). ولكي ندرك قدراً من العنت الذي تحمله أسلافنا في الرحلة الشاقة لصناعة الورق وتطويره، يمكنكم مشاهدة هذين المقطعين، حيث يصوران مراحل تصنيع الورق، مع مراعاة أنهما يعكسان هذه الصناعة في ظل التقدم العلمي التقني الهائل:

بقيتْ كلمةُ شكر مضاعفة للمترجم وللناشر معاً، فقد أبلوا بلاء حسناً، ترجمة ونشراً. هل ما زلنا نملك شيئاً ذا بال تجاه الورق نفسه، وما في الورق، وما بعد الورق؟ عموماً، السردية في عالمنا الراهن لم تنتهِ بعدُ، فثمَّ مَنْ يعمل على حوامل المعرفة، صناعة وتحشية وتطويراً وتسويقاً!