مجلة حكمة

الإثنوغرافيا المختلطة: البيان التأسيسي – سايبا فارما، تشيكا واتانابي، جوكتشا جونيل / ترجمة: عبدالله سامي أبولوز


  • مقدمة

يعاني العمل الميداني في الأنثروبولوجيا “التقليدية” من إشكاليات جوهرية. ولذلك، يشكك العديد من الإثنوغرافيين، منذ مدة، في العديد من الأسس الي يقوم عليها العمل الميداني؛ وذلك من قبيل: الانفصال بين منزل الباحث وميدانه البحثي، والافتراضات “الذكورية” عن قدرة الباحث/ـة على التواجد والاستعداد الدائم لأي مستجدٍ في الميدان، والتركيز الدائم على المستضعفين  في الدراسات الأنثروبولوجية (Anjaria and Anjaria 2020; Robbins 2013). نَبَعَت الشكوك الإثنوغرافية من عدة معطيات: ظروف العمل في الجامعات النيوليبرالية، ونزعة تأنيث الأنثروبولوجيا، والموازنة بين الحياة والعمل، والمخاوف البيئية، والنقد النسوي، ونقد مدرسة تفكيك الاستعمار. أنتجت الشكوك أيضًا مطالباتٍ حية بإعادة التفكير بالعمل الميداني المبني على قضاء وقت طويل في مكان بعيد عن منزل الباحث. لقد أضحى البحث الميداني الوجاهي، طويل الزمن، أقرب للمستحيل لنفرٍ كبير من الباحثين. وتعَلَل الاستحالة بمجموعة من الأسباب الموصومة، والمكروه ذكرها، كالتزامات الباحث العائلية، وقلة الدعم المادي، وغياب الاستقرار الوظيفي، وأضيف إليها مؤخرًا ظروف جائحة كوفيد-19. لقد تسببت الجائحة بإلغاء العديد من الخطط البحثية. حيث تبدو الاحتمالية مستبعدة، لاستمرار البحث الإثنوغرافي مستقبلًا، بنفس الوتيرة والخصائص. فقد أشارت ثلة من الأطباء المختصين في العلوم الصحية إلى احتمالية عدم العودة المطلقة لنمط الحياة السابق (الطبيعي). مما يشي باستحالة الرجوع للعمل الميداني “التقليدي” طويل الزمن. لطالما كَيَّفَ الإثنوغرافيين طرقهم البحثية مع التحديات والمصاعب التي واجهوها في الميدان. فابتكروا البحث الافتراضي، والإثنوغرافيا الذاتية، والعمل الميداني متعدد المواقع، ومصاحبة المبحوثين في نطاقاتهم الخاصة، وسماتهم المختلفة، سواءً أكانوا في حركة تنقل دائمة، أو أشخاصًا مقربين، أو خبراء مختصين في مجالٍ البحث المراد (Harrison 1991; Marcus 1995; Gupta and Ferguson 1997; Amit 2000; Burawoy 2000; Faubion 2009; Faubion and Marcus 2009; Nagar 2014; Papacharissi 2015; Huang 2016). كل هذه الإبتكارات، اجترحها الإثنوغرافيون بناءًا على حيثيات البحث والمبحوثين. لقد أشار نفرٌ قليل من الإثنوغرافيين إلى تَكَيفَات وتشكل الممارسة الإثنوغرافية بحسب حيوات وظروف المبحوثين، واستجابتها لالتزامات الباحث الشخصية والمهنية. وتترواح الالتزامات ما بين رعاية الأطفال والمخاوف الصحية، إلى التزامات الباحث المادية، والبيئية، والسياسية، وقيود البحث الزمنية، حتى تصل إلى أشد تفاصيل حياتنا الحميمية في بيوتنا، بما يشمل ما تلقيه علينا عرضًا الموضوعات البحثية.

يدعوا البيان التأسيسي لـ الإثنوغرافيا المختلطة إلى الاعتراف بالإبتكارات الإثنوغرافية، ودمجها في جسد عمليات البحث التي يمارسها الأنثروبولوجيين بحكم الاضطرار، ولكنها بقيت حبيسة الأدراج. بني البيان على إرث تنظيري نسوي وما بعد إستعماري، يستوعب داخل العملية البحثية، التداخل ما بين النظري والمنهجي، وما بين الشخصي والمهني.

بالرغم مما أثراه النقد النسوي من تأنيثٍ للعلوم الاجتماعية، وحقول الدراسات الإنسانية، أي جعلها حقولًا ملائمة لعمل المرأة. ما يزال العمل على المستوى المنزلي والبحثي نطاقًا مجندرًا. لذلك، يغَض الطرف عن العمالة المنزلية (النسائية)، التي تسمح بوضع التنظير النقدي في محله (Ahmed 2006). لقد سلط النقد النسوي الضوء على الصحة النفسية والافتراضات التي تقوم عليها عملية الإنتاج الأكاديمي، ووقْعهَا على عمليتي الكتابة والبحث (Pollard 2009; Cvetkovich 2013; Pinto 2014; Johnson 2016; Platzer and Allison 2018). كذلك، نظِرَ في أثر الخلافات الناشئة بين الحياة العائلية والجامعية على إنتاجية الباحث (Bothwell 2018; Lundquist and Misra 2015).

أيضًا، نوقشت قضايا العبأ غير المتكافئ في الخدمات الملقاة على عاتق أعضاء هيئات التدريس الأكاديميين من الكويريين وغير البيض. إضافةً، أبرزت النقودات عاقبة الأجواء السياسية المشحونة والتعينات الدائمة المكروهة وترويج توجيهات تنتقص من قيمة الأنثروبولوجيا العامة والحقوقية على الإنتاج الأكاديمي (McGranahan 2006). كل الثراء النقدي آنف الذكر، لم يتناول طرائق الابتكار الأنثروبولوجي الأداتية والمعرفية (الإبستيمية)، المعنية بالتعامل مع المخاوف الحميمية والشخصية والسياسية والمادية التي تعتري الباحثين أثناء فعلهم الإثنوغرافي.

  • الإثنوغرافيا المختلطة

من هنا، وجدنا أنفسنا ملزمين بالعمل على توفير مقاربةٍ مفهومية جديدة لإطار منهجي ونظري للإثنوغرافية، وسميناها: الإثنوغرافيا المختلطة. تستهل الإثنوغرافيا المختلطة مفاهيمها بتسليمها بوجوب توحيد “المنزل” و”الميدان” كنطاقي بحثٍ يشكلان امتدادٍ لبعضهما، وخصوصًا في ظل ظروف الجائحة الحالية. وتحيل إلى عمليات وبروتوكلات مصممة خصيصًا لتستخدم في الزيارات الميدانية القصيرة، بحيث يتم استخدام بيانات مجزأة وموزعة لكن منضبطة ودقيقة. كذلك، تحيل إلى الابتكارات الأنثروبولوجية التي ترفض الشمولية والثبوتية واليقينية المطلوبة في علميات النشر الأكاديمية. ينبغي التنبه أن الإثنوغرافية المختلطة لا تقصد الزيارات القصيرة، محدودة الزمن، المعمول بها لدى الاستشاريين، وما ينتجه ذلك من علاقات ذات طبيعة شديدة المهنية. بل تؤكد على الجهود البحثية التي يتسم بها البحث الميداني التقليدي، بما يشمل المحافظة على العلاقات طويلة الأمد، والإتقان اللغوي اللازم، والفهم السياقي، والتفكير المتأني (Faubion 2009; Pigg 2013; Adams, Burke, and Whitmarsh 2014). في المقابل، تدرك الإثنوغرافيا المختلطة أن التغيرات الطارئة على ظروف العيش والعمل تؤثر على نحوٍ جوهري في الإنتاج المعرفي. وترفض المطالبات برفع إنتاجية وكفاءة الباحث لمواجهة المتطلبات الخارجية. ولذلك، تتسم الإثنوغرافيا المختلطة بكونها طريقة فعالة لإجراء البحوث، ولكن بشكلٍ ألطف وأعدل، بسبب توسيع مدى القبول للمواد والأدوات والمواضيع المستخدمة في عمليات البحث التحليلية.

بدعم من مؤسسة وينر غرين، سنقوم بعقد مؤتمر في بدايات عام 2021، يجمع ثلة متنوعة من الأنثربولوجيين لمناقشة قضايا مختلفة تتعلق بالظروف المهنية للحياة والعمل، تبني على الأفكار النسوية والمابعد استعمارية المشار إليها أعلاه. حيث ستناول التزامات الباحثين المختلفة لا كقيود، بل سنحاول توصيف أشكال المعرفة والمناهج البحثية التي تولدها حياة والتزامات الباحثين. إن ابتكارات الإثنوغرافيا المختلطة المنهجية تعيد فهم الفعل البحثي، بما يوظف العراقيل، والتغرات، والمعرفة الجزئية، والالتزامات المختلفة التي تتسم بها كل عمليات الإنتاج المعرفي (Haraway 1988; Cerwonka and Malkki 2007).

تحاول مقاربتنا تقديم فهم لكل مراحل الفعل الإثنوغرافي، ومسائلة تأثير مستجدات الواقع على الفعل ومراحله. أولًا، نعيد التفكير في مفهوم الذهاب أو السفر إلى ميدان البحث. ثم نسأل عن كيفيات التعامل مع القيود الشخصية أو الاقتصادية أو السياسية، عن آليات تحديد المواقع وتنظيم زياراتهم للميدان لدى الباحثين في ظل القيود؟ كيف يمكن تأكيد السفر إلى الحقول البحثية الميدانية؟ وماذا يجب على الباحث فعله عندما يصبح السفر مستحيلًا؟ كيف يعاد تعريف مفهومي “الحقل” و”المنزل” بفعل القيود والضغوط الناشئة عن استحالة السفر؟ إن هدف الإثنوغرافي التقليدي الأساسي هو “الذهاب في وسط المجهول، ومواجهته، وإحكام رصده، وتقديمه في صورةٍ قابلة للفهم”(Howell 2017, 18) . من هنا، نحاول معرفة الإضافة التي يمكن للإثنوغرافيا المختلطة أن تقدمها؟

ثانيًا، نعكف على دراسة الحاجة الماسة لتقديم أشكال جديدة من “التواجد في الحقل” عندما يتعذر الوصول إلى الميدان: فنسأل عن أشكال الفعل البحثي في زيارات ميدانية سريعة خاطفة أو عن بعد؟ كيف نتعلم عن مجتمع البحث في خضم ظروفٍ كهذه؟ كيف نحافظ على علاقاتنا المبنية خلال فعلنا البحثي؟ كيف نعالج الفراغات في النتائج؟ ثالثًا، نعرج على التقاطع بين حياتنا والتزاماتنا البحثية، وما يفرضه ذلك على طرق جمع البيانات: ماهي نوعية الأرشفة اللازم بناؤها عندما يكون الفعل البحثي على طريقة الإثنوغرافيا المختلطة بشكلٍ مجزأ؟ وكيف تتأثر نوعية الأرشفة عندما تكون حالة مجتمع الدراسة تفرض على الباحث إتصالًا زمنيًا متقطعًا، وجمعًا مجزءًا للبيانات، وغياب المبحوثين اضطرارًا باستمرار (كحالة مجتمعات البحث في مناطق الصراع والحروب أو دروب الهجرة العابرة لحدود الدولة القطرية)؟ وما هي أساليب التحليل والتمثيل التي يجب اتباعها للتعامل بدلًا من الالتفاف وتجنب هذه المعضلات؟ رابعًا، كيف يمكن للإثنوغرافيا المختلطة أن تعيد التفكير في قضية زمنية تحليل وجمع البيانات؟ فنمط الكتابة التقليدي يفرض على الباحثين تتابعًا زمنيًا خطيًا عند الكتابة [أي يجمع الباحث البيانات من الميدان ثم يقوم بعملية التحليل ثم يقوم بعملية الكتابة]. لكن، بسبب ضغوط النشر، يقوم أغلب الباحثين المعاصرين بالتحليل أثناء عملهم الميداني (Cerwonka and Malkki 2007). أخيرًا، ماهي الالتزامات والإنخراطات الجديدة التي ستفرض علينا في عصر التقشف الليبرالي والقيود العمالية، الذي تزيد فيها الأعباء الإدراية والتدريسية على الباحثين، بما يتضمن التحول “الاقتصاد-سياسي في المعرفة” (Nagar 2014)؟ ما هي النماذج والقوالب المنبثقة من الإثنوغرافيا المختلطة التي يمكن تقديمها للطلاب والمهتمين بمنهجيتنا؟

تقدم الإثنوغرافيا المختلطة دربًا جديد نحو المعرفة يوظف كل تعقيدات الباحثين الحياتية في تشكيل الإنتاج المعرفي. من هنا، نجادل بوجوب حدوث تحول في شكل الإنتاج المعرفي الأنثروبولوجي. ولذلك، نعتقد بجدوى الإثنوغرافيا المختلطة على توضيح وتمحيص المعرفي عما هو ليس من جنسه، والبحثي عما هو دونه، بما يسمح لنا بتحويل ما يوصف بـ”القيود” و”الحدود” الواقعية إلى فواتحٍ نحو آفاق معرفية جديدة. نأمل أن تقدم دعوتنا درعًا نظريًا ومنهجيًا لمن يبتدأ مشروعه البحثي، ولمن يشعر بوصول بحثه إلى أفقٍ مسدود بسبب ظروفٍ مادية أو شخصية أو عملية. إن الإثنوغرافيا المختلطة لا تستجيب للعوامل الخارجية من العالم بمطالبة الباحثين بالمزيد من الروح الإنتاجية. بل تسعى نحو إزالة التصورات السابقة المتصلبة الفاصلة بين ما هو شخصي ومهني. بما يجعلها موردًا جديدًا لعالمٍ مختلف بعد الجائحة.

المصدر


المراجع (الاثنوغرافيا المختلطة):

  • Adams, Vincanne, Nancy J. Burke, and Ian Whitmarsh. 2014. “Slow Research: Thoughts for a Movement in Global Health.” Medical Anthropology 33, no. 3: 179–97.
  • Ahmed, Sara. 2006. “Orientations: Toward a Queer Phenomenology.” GLQ: A Journal of Lesbian and Gay Studies 12, no. 4: 543–74.
  • Ahmed, Sara. 2012. On Being Included: Racism and Diversity in Institutional Life. Durham, N.C.: Duke University Press.
  • Amit, Vered. 2000. “Introduction: Constructing the Field.” In Constructing the Field: Ethnographic Fieldwork in the Contemporary World, edited by Vered Amit, 1–18. London: Routledge.
  • Anjaria, Jonathan Shapiro, and Ulka Anjaria. 2020. “Mazaa: Rethinking Fun, Pleasure and Play in South Asia.” South Asia: Journal of South Asian Studies 43, no. 2: 232–42.
  • Bothwell, Ellie. 2018. “Work-Life Balance Survey 2018: Long Hours Take Their Toll on Academics.” Times Higher Education, February 8.
  • Burawoy, Michael. 2000. “Grounding Globalization.” In Global Ethnography: Forces, Connections, and Imaginations in a Postmodern World, edited by Michael Burawoy, Joseph A. Blum, Sheba George, Zsuzsa Gille, and Millie Thayer, 337–50. Berkeley: University of California Press.
  • Cerwonka, Allaine, and Liisa H. Malkki. 2007. Improvising Theory: Process and Temporality in Ethnographic Fieldwork. Chicago: University of Chicago Press.
  • Cultural Anthropology, ed. 2018. “Academic Precarity in American Anthropology: A Forum.” Fieldsights, May 18.
  • Cvetkovich, Aann. 2013. Depression: A Public Feeling. Durham, N.C.: Duke University Press.
  • Faubion, James. 2009. “The Ethics of Fieldwork as an Ethics of Connectivity, or The Good Anthropologist (Isn’t What She Used To Be).” In Fieldwork Is Not What It Used to Be: Learning Anthropology’s Method in a Time of Transition, edited by James Faubion and George Marcus, 145–64. Ithaca, N.Y.: Cornell University Press.
  • Gupta, Akhil, and James Ferguson. 1997. “Discipline and Practice: ‘The Field’ as Site, Method, and Location in Anthropology.” In Locations, Boundaries and Grounds of a Field Science, edited by Akhil Gupta and James Ferguson, 1–46. Berkeley: University of California Press.
  • Haraway, Donna. 1988. “Situated Knowledges: The Science Question in Feminism and the Privilege of Partial Perspective.” Feminist Studies 14, no. 3: 575–99.
  • Harrison, Faye Venetia, ed. 1991. Decolonizing Anthropology: Moving Further Toward an Anthropology for Liberation. Washington, D.C.: Association of Black Anthropologists/ American Anthropological Association.
  • Howell, Signe. 2017. “Two or three things I love about ethnography.” HAU: Journal of Ethnographic Theory 7, no. 1: 15–20.
  • Huang, Mingwei. 2016. “Vulnerable Observers: Notes on Fieldwork and Rape.” The Chronicle of Higher Education, October 12.
  • Johnson, Alix. 2016. “Affect, Attention, and Ethnographic Research: Thoughts on Mental Health in the Field.” Savage Minds, March 30.
  • Lundquist, Jennifer, and Joya Misra. 2015. “Breaking It to Your Family.” Insider Higher Ed, December 4.
  • Marcus, George. 1995. “Ethnography in/of the World System: The Emergence of Multi-Sited Ethnography.” Annual Review of Anthropology 24: 95–117.
  • Matthew, Patricia. 2016. “What Is Faculty Diversity Worth to a University?” Atlantic, November 23.
  • McGranahan, Carole. 2006. “Introduction: Public Anthropology.” India Review 5, nos. 3–4: 255–67.
  • Nagar, Richa. 2014. Muddying the Waters: Coauthoring Feminism across Scholarship and Activism. Chicago: University of Illinois Press.
  • Papacharissi, Zizi. 2015. “Affective Publics and Structures of Storytelling: Sentiment, Events and Mediality.” Information, Communication and Society 19, no. 3: 307–24.
  • Pigg, Stacy Leigh. 2013. “On Sitting and Doing: Ethnography as Action in Global Health.” Social Science and Medicine 99: 127–34.
  • Pinto, Sarah. 2014. Daughters of Parvati: Women and Madness in Contemporary India. Philadelphia: University of Pennsylvania Press.
  • Pollard, Amy. 2009. “Field of Screams: Difficulty and Ethnographic Fieldwork.” Anthropology Matters 11, no. 2.
  • Robbins, Joel. 2013. “Beyond the Suffering Subject: Toward an Anthropology of the Good.” Journal of the Royal Anthropological Institute 19, no. 3: 447–62.