مجلة حكمة
تاريخ العلوم في المشروع الإبستيمولوجي الباشلاري

تاريخ العلوم في المشروع الإبستيمولوجي الباشلاري

الكاتبمحمد اليزناسني

تمهيد

“الحقيقة هي بنت النقاش، وليست بنت التعاطف” (1)

باشلار

إن قولة باشلار أعلاه والمقتبسة من كتابه “فلسفة الرفض” كافية مبدئيا لتحديد الخاصية الأساسية لفكر باشلار. فالحقيقة في تصوره ليست ممكنة إلاَّ عبر “النقاش” وبالتالي فليس هناك في المعرفة سوى أخطاء أولية وليس حقيقة أولية.(2) فالحقيقة ليس لها معنى تاما إلاَّ في تعبيرها عن “الجدال”.

فما دلالة مفهوم “النقاش” إذا كانت “الحقيقة” و “الخطأ” ينسجمان، بحيث أن الخطأ له أولوية على الحقيقة، و أنه ليس شرا؟ يقول باشلار في كتابه “تكوين العقل العلمي”: “ولنتمتم بدورنا مستسلمين كليا للحياة العقلية: أيها الخطأ لست شرا.”(3)  

هل يمكن اعتبار مفهوم “النقاش” كلحظة من لحظات المعرفة العلمية أم مجرد لحظة من لحظات المنهج التقريبي؟ كيف يمكن إذن التعامل مع مفهومي “الحقيقة” و “الخطأ” وما طبيعة العلاقة بينهما؟ وهل يمكن تصور “النقاش” بمعنى تقليدي أم بمعنى جديد تجتمع فيه “الحقيقة” و “الخطأ” في علاقة جدلية؟

إن الأجوبة حول هذه الأسئلة تشكل المعالم الأساسية لمدخل دراسة المشروع الإبستيمولوجي الباشلاري الذي لا ينفصل عن باقي الأشكال المعرفية في فكره (علم، فلسفة، إبستيمولوجيا، آداب …).

1. الإبستيمولوجية وتاريخ العلوم في المشروع الفلسفي الباشلاري

« Ce n’est que par la plus grande force du présent que doit être interprété le passé »). (4)

Nietzsche

لا يمكن تحديد إىبستملوجية باشلار إلا في علاقتها بالعلم ومن خلال وظيفتها فقط، لهذا نولي اهتماما كبيرا لتحديد طبيعة هذه العلاقة. لقد كرس باشلار لمفهومه لـ تـــاريخ العلوم نصين: الفصل لأول من كتابه (ARPC) ومقاله “L’actualité de l’histoire des sciences” (5) ، لكن سبق لباشلار أن وظف هذا المفهوم في الأطروحة التكميلية للدكتوراه (EEPP,1928) “La propagation thermique dans les solides”(6)   

تعتبر هذه الأطروحة بمثابة دراسة علمية تاريخية أبرز فيها باشلار “التحالف بين تاريخ العلوم والإبستيمولوجية”.(7)   

وقبل توضيح العلاقة بين هذين النظامين المعرفيين يجب أولا البحث عن دلالة تاريخ العلوم لتحديد طبيعة هذه العلاقة ولبحث الصفات الخاصة التي يتميز بها تاريخ العلوم عن باقي التواريخ الأخرى وسأحاول في الختام بحث إشكالية التقدم في تاريخ العلوم. وفي هذا الفصل سنتناول المواضع الآتية:

  1. تصور باشلار لتاريخ العلوم؟
  2. علاقة الإبستيمولوجية بتاريخ العلوم.
  3. طبيعة التقدم في تاريخ العلوم.

لقد أوضح باشلار مفهومه لتاريخ العلوم في أطروحته لعام 1927(8) والمقالة الواردة في الهامش (الاقتباس الخامسL’actualité de l’histoire des sciences) تتضمن كل المستجدات في تصور باشلار لتاريخ العلوم. وعلى غرار تصوره للإبستمولوجية يحدد تصوره لتاريخ العلوم في ارتباطه بالعلوم وبوظيفته.

2. تصورباشلار للعلم ولتاريخه

تصور باشلار لتاريخ العلوم يتوقف على مفهوم العلم في علاقته بالفلسفة. لقد صاغ هذا التصور انطلاقا من نتائج الثورة العلمية المعاصرة. بما أن الفلسفة يجب أن تكون مطابقة للعلوم، فإن تاريخ العلم بدوره يجب أن يكون مطابقا للعلوم. العلم وتاريخه لا يسمحان حاليا بالإنفصال عن بعضهما البعض. في خضم التطورات العلمية معمطلع القرن الماضي تلقى العلم وموضوعه ومنهجه دلالة جديدة. لقد أصبح المفهوم التقليدي للعلم متجاوزا بفضلقيم علمية جديدة واستبدل بمفهوم جديد. باشلار لم يكتف فقطبملاحظة هذا التأثير، بل عايشه أيضا وحاول نقله إلى الفكر الفلسفي. الإنشغال بهذين الجانبين من هذا التأثير يعتبره باشلار من مهام إبيستملوجيته،يعنيتوضيح القيم الإبستملوجية ودراسة تداعيات المعرفة العلمية على العقل. هاتان المهمتان اللتان يعتبرهما باشلار وعيا بالثورة العلمية يرتبطان بمهمة ثالثة يعتبرها باشلار وعيا بمنهج التحليل النفسي. عند القيام بالتحليل النفسي للمعرفة الموضوعية اصطدم باشلار بأسئلة حاسمة في العلم وفي تاريخه. هنا تبدو مساهمة باشلار في نظرية العلم وفي تاريخه. لقد اقترح باشلار مفهوما ثوريا لتاريخ العلوم ينبني على مفهوم القطيعة.(9)  

العائق الإبستيمولوجي والقطيعة الإبستيمولوجية والجدل يشكلون في اعتقادي جوهر تصور باشلار لتاريخ العلم. باشلار لم يستخلص هذا المفهوم من تأمله لتاريخ العلم بصفة عامة، بل أساسا من المرحلة الراهنة للتفكير العلم يالتي“تفجرت“فيه المعارف العلمية التي تدفع بالضرورة الإبيسمولوجية التقليدية“  للانفجار“.(10)  

باشلار تأمل المرحلة التي يسميها المرحلة ما قبل العلمية (العصور القديمة الكلاسيكية-القرن الثامن عشر) التي فحص فيها جميع العوائق التي حالت دون بلوغ الفكر العلمي المعرفة الموضوعية.                    

لقد نشأت إبستيمولوجية باشلار من سجالها مع كل الفلسفات المعاصرة. أما فيما يخص تصوره لتاريخ العلم فهو يعارض كل الفلسفات التيتتحدث عن فكرة الاستمرارية في تاريخ العلم. هذه الفلسفات لا تتحدث فقط عن استمرارية في تاريخ العلم، بل عن استمرارية بين تاريخ العلم وتاريخ الفكر عموما. أحد ممثلي هذا التصور لتاريخ العلم هو الفيلسوف الفرنسي إميل ميرسون (Emile Meyerson, 1859-1933) الذي يعتبر التفكير العلمي بمثابة استمرارية للمعرفة العاميةمن جهة ويعتبر النظرية العلمية المعاصرة بمثابة استمرارية للنظريات العلمية التقليدية. مثل هذا التصور نجده كذلك عند أغيست كونت (Auguste Comte, 1798-1857) فيقانون المراحل الثلاثة (Loi destrois états). باشلار رفض هذا التصور الاستمراري لتاريخ العلم إمالكونه لم يراع عملية تقدم تاريخ العلم وإما لكونه لم يفهم تقدم تاريخ العلم لإنشغاله ببناء نظرية معرفية عامة. وعلى العكس من ذلك يرى باشلار أن تاريخ العلم ليس سلسلة من القضاياالتي تفضي فيها الواحدة إلى الأخرى، بل هي سلسلة من العوائق والارتباكات والركود والإرتدادات من جهة ومن الثورات والعوائق والقفزات النوعية من جهة أخرى. ليس هناك انتقال آلي من مستوى إلى آخر عند كشف الإشكاليات وحلها. لقد كرس باشلار لمفهوم العائق الإبيستملوجي كتابه “تكوين العقل العلمي”.(11)  هذا المفهوم يصف مظاهر الخمول والإرتباك والركود والإرتداد التي تظهر في عملية تقدم العلم. يقول باشلار في هذا السياق: “عندما نبحث عن الشروط النفسانية لتقدم العلم، سرعان ما نتوصل إلى هذا الإقتناع بأنه ينبغي طرح مسألة المعرفة العلمية بعبارات العقبات. وأن المطلوب ليس اعتبار عقبات خارجية مثل تركيب الظواهر وزوالها، ولا إدانة ضعف الحواس والعقل البشري: ففي صميم فعل المعرفة بالذات تظهرالتباطؤاتوالإضطرابات بنوع من الضرورة الوظيفية. وبذلك سنبين أسباب الجمود وحتى أسباب النكوص، وكذلك سنكتشف الأسباب الركودية التي سنسميها عقبات معلومية.”(12)       

  باشلار يصف من خلال مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية قفزات نوعية حدثت في تاريخ العلم وكذا مظاهر ثورات علمية حصلت نتيجة قيام نظريات علمية في تاريخ العلم. هذه القطيعة هي لحظة إيجابية في عملية بناء المعرفة العلمية. إستنادا إلى هذا المفهوم يميز باشلار ثلاث مراحل كبيرة في الفكر العلمي:

  1. الحالة ما قبل العلمية (العصور القديمة الكلاسيكية – القرن الثامن عشر).
  2. الحالة العلمية (نهاية القرن الثامن عشر – بداية القرن العشرين).
  3. عصر العقل العلمي الجديد (ابتداء من 1905 مع النظرية النسبية لألبيرت أينشتاين (Albert Einstein,1879-1955).(13)      

ففي كتابه “العقلانية التطبيقية” أضاف باشلار للمراحل الثلاثة السابقةمرحلة رابعة قام فيها بفصل المعرفة العلمية عن المعرفة العامية.(14)  وفقا لمفهوم العائق الإبستيملوجي يميز باشلار نمطين من القطيعة الإبيستملوجية:

  1. القطيعة بين المعرفة العلمية والمعرفة العامية.
  2. القطيعة ضمن المعرفة العلمية نفسها.

يصف الجدل في هذا السياق العلاقة الجدلية في تاريخ العلم بين القطائع والعوائق الإبيسمولوجية من جهة والعلاقة التكاملية  (complémentarité)ضمن النشاط العلمي بين النظرية والتطبيق/ العقلانية والتجريبية/ القبلي البعدي/ الواقعي والمجرد الخ من جهة أخرى.يقول باشلار: “وهكذا، تظل فلسفة العلوم محصورة، أغلب الأحيان، في نطاق طرفي المعرفة والعلم: في نطاق دراسة الفلاسفة للأصول البالغة العمومية؛ وفي نطاق دراسة العلماء للنتائج البالغة الخصوصية. والفلسفة تستنفذ ذاتها في مواجهة العقبتين المعلوميتين (الإبستيملوجيتين) اللتين تحدان كل فكر: العام والمباشر. وهي تقوم القبلي تارة، والبعدي تارة أخرى. متجاهلة الطفرات والتحولات داخل القيم المعلومية التي يجريها الفكر العلمي المعاصر أجراء متواصلا بين القبلي و البعدي ، بين القيم الإختبارية والقيم العقلانية.”(15)   

هل هناك إذن علاقة ما بين هاتين القيمتين الإبستيمولوجية: الاستمرارية (Kontinuität) واللااستمرارية (Diskontinuität) وهل يتحرك الفكر العلمي ذهابا وإيابا بين هاتين القيمتين الإبستيملوجيتين؟

الإقتباس أعلاه يبرز الطبيعة الجدلية للفكر العلمي التي أوضحها باشلار في كتابه “الفكر العلمي لجديد”. وفي نفس هذا السياق يطرح السؤال عما إذا كان تاريخ العلم نفسه جدليا. لقد سبق لي أن أشرت إلى الأفكار الأساسية في مفهوم تاريخ العلم عند باشلار في مقال خصصته لتحديد الصفات الإساسية لإبستملوجية باشلار خاصة الخاصية الثالثة المتعلقة بإعادة تنظيم المعرفة.(16)  إعادة تنظيم المعرفة تكون ممكنة فقط حين يأخذ فيلسوف العلم (الإبستيمولوجي) مفهوم التراجع (récurrence) بعين الاعتبار. هذا المفهوم مكن باشلار من صياغة مفهوم جديد لتاريخ العلم كتاريخ إرتدادي ينطلق من معرفة الحاضر لفهم الماضي ولتقيمه وللحكم عليه. يقول باشلار بهذا الصدد: „On voit alors la nécessité éducative de formuler une histoire récurrente, une histoire qu’on éclaire par la finalité du présent, une histoire qui part des certitudes du présent et découvre, dans le passé, les formations progressives de la vérité. “(17)

إرتداد الفكر إلى الماضي له إذن مهمة تكمن في إعادة تنظيم مجموع المفاهيم الماضية بفضل اختراع حديث يوضحه ويحدد هدفه. هذا الإرتداد لا يمكن مزاولته مرة واحدة فقط، بل يزاول باسمرار بلا إنقطاع. فالإرتداد المعرفي/ الإبستيلوجي(Récurrence épistémologique) له وظيفة إعادة تنظيم قيم التاريخ.(18)

الإرتداد حسب باشلار لا يعني إحياء ماض ما، بل تقيمه ومحاكمته. من مهمة الارتداد الاحتفاظ على نوع من الشك الإرتدادي منفتح على ماضي معارف يقينية. هذا النوع من الشك الذي يشكل موقفا متجاوزا وممددا وموسعا للحيطة الديكارتية (la prudence cartésienne) يسميه باشلار موقفا لاديكارتيا.(19) “الحكم” و “الارتداد” مفهومان أساسيان يساعدان في البحث عن تعريف باشلاري لتاريخ العلم.

ماذا يفهم باشلار من تاريخ العلم؟ وكيف نفهم تصوره لتاريخ العلم؟الإجابة عن السؤال الأول سهلة إلى حد ما وقد أجاب عنه باشلارشخصيا، أما الإجابة عن السؤال الثاني صعبة و محل خلاف في نفس الوقت، فهي تقود إلى جوهر إشكالية تاريخ العلم: إشكالية تعريفه وموضوعه وعلاقته بباقي التواريخ الأخرى. هذه الإشكالية لازالت موضوعا للنقاش بين مؤرخي العلوم.

لقد اهتم فيلسوف العلم جورج كانغلام (Georges Canguilhem,1904.-1995) بهذه الإشكالية لسنوات طويلة. (20) وقد تساءل كانغلام أولا وقبل كل شيىء عمى يسميه المؤرخون “تاريخ العلم” ثم عن موضوعه.يقول كانغلام: “فليس من غير المجدي إذن أن ندأ بادئ ذي بدء بالتساؤل عن الفكرة التي يكونها أولئك الذين يزعمون الاهتمام بتاريخ العلوم عن هذا الموضوع  إلى حد يجعلهم يضطلعون بهذه المهمة.”(21) ثم يضيف قائلا: “فمن الأكيد أن العديد من الأسئلة كانت قد طرحت وما زالت تطرح في علاقة بهذا العمل. هذه الأسئلة هي: من؟ ولماذا؟ وكيف؟ إلا أن سؤالا مبدئيا كان ينبغي أن يطرح لم يطرح أو يكاد، إنه سؤال بأي موضوع؟ بايموضوع يكون تاريخ العلوم تاريخا؟”.(22)    

أما الإبستيمولوجي الفرنسي مشيل سير ( Michel Serres,1930-1919 ) يذهب إلى حد إنكار وجود تاريخ العلوم.(23) ولكنه يقترح في النهاية تصورا لتاريخ العلوم يتمم تصور باشلار لتاريخ العلوم ويحافظ على أصالته في مقابل تاريخ العلوم التقليدي، حيث يقول: “فإن كان تاريخ العلوم يتمثل في إحصاء التغييرات الواقعة على الطبعات المتتالية لبحث ما، فان باشلار ليس مؤرخا للعلوم، وإن كان تاريخ العلوم يتمثل في أن يجعلنا نحس ونفهم في الوقت ذاته البناء الصعب والمعاكس للمعرفة (العلم)، حينئذ تكون إبستيمولوجيا باشلار تاريخا للعلوم فعالا دائما.”(24)   

ما هي القيمة التي يوليها باشلار لتاريخ العلوم؟ جوابه حول هذا السؤال هو:”أن تاريخ العلوم لا يمكن أن يكون تماما تاريخا مثل التواريخ الأخرى.”(25)  

بماذا يختلف إذن هذا التاريخ عن باقي التواريخ؟ للإجابة حول هذا السؤال دخل باشلار في سجال مع المفاهيم السائدة في تاريخ العلوم وذلك انطلاقا من قناعته أن تاريخ العلوم مرتبط ارتباطا وثيقا مع الحالة الراهنة للعلوم.(26) 

مؤرخ العلم مطالب غالبا بإعادة النظر في هذا التاريخ مرارا.(27)

الاختلاف يكمن إذن في موضوعه وفي مهمته. خصوم باشلار في هذا المجال (تاريخ العلوم) همأتباع ممثلي التصورالاستمراري في تاريخ العلوم (التجريبيون والوضعيون والروحانيون والتطوريون). هذا الاختلاف وموضوع هذا السجال سنتطرق إليهما في النقطة القادمة والمتعلقة “بطبيعة التقدم في تاريخ العلوم”. باشلار بدأ قبل كل شيء بتعريف تاريخ العلوم بطريقه سلبية،أي أنه بدأ بتعريف ما لا ينبغي أ يكون تاريخا للعلوم.(28) 

لا ينبغي كذلك أن يكون تاريخا للإمبراطوريات وللشعوب ولا مجرد تاريخ يجمع ملفات الأكاديميات ويدونها ويجعل من التقاريرالموضوعية للوقائع من مهامه. هذه التقارير وهذا المهام لا يشكلان تاريخ العلوم بالنسبة لباشلار.

هل يعني هذا أن باشلار يسعى إلىتأسيس تاريخ العلم كعلم؟ باشلار يحدد الخصائص الخاصة لتاريخ العلوممن خلال طبيعته وموضوعه ومهامه. طالما أنه ليس هناك وحدة في العلوم، بل سوى التعدد فقط، فليس هناك إبستيمولوجية موحدة، بل إبستيمولوجيات جهوية. طبقا لهذا لا يتحدث باشلارعن تاريخ العلم وإنما عن تاريخ العلوم. موضوع تاريخ العلوم مثله مثل موضوع العلوم ليس موضوعا معطى مسبقا ومحدد سلفا وإنما هو موضوعمبني.وبصيغة عامةتشكل القيم المتتالية لتقدم الفكر العلمي موضوع هذا التاريخ وتحديد هذه القيم يشكل مهامه (مهام هذا التاريخ).(29)

على مؤرخ العلوم أن يكون إذاًقاضيا يحكم على القيمالحقيقية التي يحملها هذا العلميطرح عليه السؤال التالي:كيف وأين يجب عليه إنجاز هذه المهمة ؟ باشلار يضع للمؤرخ إذاً شروطا محددة.(30)

هذا يعنيأنه على المؤرخ أن يتوفر على الأقل على تكوين علمي، كما يعني أيضا أنه على كل مؤرخ العلم أن يشتغل فقط بعلم معين يعرفه. هذه الشروط لا يستوفيها سوى ذلك العالم الذي له دراية بالحالة الراهنة للعلم.بناء على هذه الشروط يقلل باشلار من قيمة الإسهامات في تاريخ العلوم التي لا تأخذ بعين الاعتبار الخاصية الخاصة بالعلوم المعاصرة ولا تستطيع حتى فهمها. ولهذا السبب انتقد باشلار كل سلفه من مؤرخي العلوم ورفض تصوراتهم لتاريخ العلوم. قد وضع للتصور الوضعي لتاريخ العلوم في المقابل مهاما إبستيمولوجيا يدرك وقائع العلم كأفكار، يعني كقيم.(31)

في هذا النقد لا يسعى باشلار إلى تصحيح هذه التصورات في نقط أو مواطن معينة، بل إلى تجاوزها. لتحقيق هذا الهدف يوظف باشلار مفهوم التاريخ الارتدادي الذي له نفس الأهمية التي لدى مفهوم القطيعة في الإبستيمولوجية. في خطوه ثانية أبرز مهام تاريخ العلوم وميزه عن المجالات المعرفية الأخرى، خاصة عن الأبستمولوجيا التي تقترب من العلوم. في النص التالي يبرز باشلار فهمه للتاريخ ولمهامه الأساسية في نفس الوقت.(32)

انطلاقا من هذا الاقتباس الهام الذي اتطرق إليه مجددا تظهر الخاصية الجدلية لتاريخ العلوم التي تحدد من خلال جدل عدة قيم تاريخية (الخطأ/الحقيقة، الماضي/الحاضر).  هذا الجدل ناتج عن العلاقة الجدلية بين العوائق والقطائع الإبستملوجية في عملية تقدم العلوم. خاصيه هذا الجدل سأتطرق لها لاحقا حين أتناول “مفهوم التقدم في تاريخ العلوم”، لهذا فإن المؤرخ ملزم ليس فقط بوصف تاريخ حقيقة ما، بل وبالحكم عليها وذلك انطلاقا من يقين الحاضر ومن العلوم المعاصرة، يحكم على الماضي باسم القيم المعاصرة، هو-أي المؤرخ -مطالب بإصدارأحكام تقديرية حول أفكار واكتشافات.(33)

انطلاقا من الاقتباس السالف الذكر يطرح سؤال فيما إذا كان هذا المهام هو مهام الإبستمولوجية نفسه. باشلار لفت الانتباه إلى الاختلاف بين مهام تاريخ العلم ومهام الإبستيمولوجية.  يقول باشلار في كتابه تكوين العقل العلمي، ص. 18:”وهنا يمكننا أن نرى ما يميز مهنة العارف من مهنة مؤرخ العلوم. يجب على مؤرخ العلوم أن يتخذ الأفكار كأنها وقائع. وينبغي على العارف “épistémologue” أن يتخذ الوقائع كأنها أفكار، وذلك بإدخالها في منظومة أفكار. وأن واقعة أساء عصر تفسيرها تظل واقعة بالنسبة الى المؤرخ. وأنها بالنسبة الى العارف عقبة، فكرة مضادة.”

هذا الاختلاف سيتضح حين نتطرق إلى العلاقة بين هذين الصنفين المعرفيين. ليس فقط وجود العوائق الإبستمولوجية هو الذي يميز مهام الإبستيمولوجية عن مهام مؤرخ العلم، كما يزعم كانغلام، وإنما الخاصية المزدوجة لتاريخ العلم نفسه.

الخاصية الثانية التي لايصبح معها تاريخ العلوم، حسب باشلار، مثل التواريخ الأخرى هي «الارتداد”. نتائج هذه الازدواجية حسب دومينيك لوكور(-202244Dominique Lecourt, 19) هي عدم جدارة الاسهامات التي تصر على البحث عن رواد الكشوفات العلمية وهذا ما يسميه مفهوم الاستمرارية.

بناء على هذه الازدواجية يميز باشلار في تاريخ العلوم بين تاريخ متقادم وتاريخ معدل يدخلان في علاقة جدلية.(34)

فيما يلي يجب أوّلاً توضيح العلاقة بين العلوم والإبستيمولوجيا لأن هذين المبدأين لا يمكن عزلهما عن بعضهماالبعض. (يتبع)


 

الهوامش

  • (1) لقد سبق لي أن تطرقت للخاصية الأساسية لفكر باشلار في مقال سابق تحت عنوان ” مدخل لدراسة المشروع الإبستيمولوجي الباشلاري”
  • الصادر بمجلة حكمة 2019.11.08 اعتمادا على الاقتباس أعلاه من كتابه:
  • باشلار، غاستون: فلسفة الرفض. مبحث فلسفي في العقل العلمي الجديد. ترجمة خليل أحمد خليل، دار الحداثة، بيروت 1985، ص. 152.
  • (2) يقول باشلار:                                                       Une vérité n’a son plein sens qu’auterme d’un polémique.”
  • Bachelard, Gaston: Idéalisme discursif. Recherches philosophiques. J. Vrin, Paris 1934-1935, p. 22.
  • لقد أعيد طبع هذا المقال في كتاب باشلار:      
  • Bachelard, Gaston: Etudes. J. Vrin, Paris 1970, p. 72.
  • (3) باشلار، غاستون: تكوين العقل العلمي. مساهمة في التحليل النفساني للمعرفة العلمية. ترجمة خليل أحمد خليل، الطبعة الثانية، المؤسسة الجامعية    
  •   للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1982، ص. 194.
  • (4) Nietzsche, Friedrich: Seconde considération inactuelle. De l’utilité et des inconvénients de l’histoire pour la vie (1874), Traduction de Henri Albert, Edition les Echos du Marquis, 2011, P. 37.
  • (5) عنوان الفصل الأول من كتابه:
  • Bachelard, Gaston: L’Activité rationaliste de la physique contemporaine. P.U.F, Paris 1951, p. 21-49.     
  • عنوانه هو:Les récurrences historiques. Epistémologie et histoire des sciences. La dialectique ondecorpuscule dans son développement historique.
  •  «L’actualité de l’histoire des sciences»هي مقالة باشلار في ندوة قصر الاكتشاف بباريس عام 1951 وأعيد طبعها في كتابه:
  • Bachelard, Gaston : L’Engagement rationaliste. P.U.F., Paris 1972, p. 136-151.
  • (6) Bachelard, Gaston : Etude sur l’évolution d’un problème de physique. La propagation thermique dans les solides. J. Vrin, 2 -ème édition, Paris 1972.
  • (7) بعد وفاة الفيلسوف الفرنسي أبيل ريي (Abel Rey, 1873-1940) تسلم باشلار كرسي الأستاذية لتاريخ العلوم وفلسفتها بجامعة السوربون عام     1940 وكذلك إدارة معهد تاريخ العلوم والتقنيات بجامعة باريس والذي احتفظ به حتى سن التقاعد في سن السبعين من عمره. هاتان المهمتان أسندتا لفيلسوف العلم الفرنسي جورج كونغلام (Georges Canguilhem, 1995-1904) الذي أثار الانتباه – في مقال مبكر 1963- إلى خصوصية مفهوم تاريخ العلوم عند باشلار في ارتباطه بالإبستمولوجيا. هذا المقال أعيد طبعه في كتابه:
  • Canguilhem, Georges: Etudes d’histoire et de philosophie des sciences. P.U.F, Paris 1968, 5 –ème édition, 1983, p. 17-186.                                                               
  • (8) « Le point de vue moderne détermine alors une nouvelle perspective sur l’histoire des sciences, perspective qui pose le problème de l’efficacité actuelle de cette histoire des sciences dans la culture scientifique. Il s’agit en effet de montrer l’action d’une histoire jugée, d’une histoire qui se doit de distinguer l’erreur et la vérité, l’inerte et l’actif, le nuisible et le fécond. D’une façon générale, ne peut-on pas dire qu’une histoire comprise n’est déjà plus de l’histoire pure ? En histoire des sciences, il faut nécessairement comprendre, mais juger. Là est vraie plus qu’ailleurs cette opinion nietzschéenne:,, Ce n’est que par la plus grande force du présent que doit être interprété le passe,, ». Bachelard, Gaston : L’activité rationaliste de physique contemporaine. 2-ème éd., P.U.F, Paris 1965, p. 35.
  •  (9) القطيعة والاستمرارية اعتبرهما مشيل فادي (Michel Vadée, 1934-2014) علامة لمفهوم تاريخ العلم عند باشلار. لقد صاغ باشلار هذا المفهوم أساسا في الفصل الثاني من كتابه “النشاط العقلاني للفزياء المعاصرة” (ARPC, 1951) وقد سبق أن عرضه باشلار في كتابيه “العقل العلمي الجديد” (1934) وفي “فلسفة الرفض” (1940).
  • (10) «Le philosophe ne va pas plus loin. Il croit inutile de vivre les temps nouveaux, les temps ou précisément les progrès scientifiques éclatent de toute part, faisant nécessairement ‘‘éclater’’ l’épistémologie traditionnelle.»
  • Bachelard, Gaston: Le Matérialisme rationnel. 3 -ème éd., P.U.F, Paris 1972, p. 246.  
  • (11) باشلار، غاستون: تكوين القل العلمي. مساهمة في التحليل النفساني للمعرفة الموضوعية. ترجمة خليل أحمد خليل. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.، بيروت 1981.
  • (12) نفس المصدر، ص. 13.
  • (13) نفس المصدر، ص.39.
  • (14) باشلار: العقلانية التطبيقية. ص. 187-188.
  • (15) باشلار، غاستون: فلسفة الرفض. ص. 7-8.
  • (16) اليزناسني، محمد: مدخل لدراسة المشروع الإبستيمولوجي الباشلاري. مجلة حكمة،إصدار2019.11.08.
  • اليزناسني، محمد: باشلار في الإبيسمولوجية الفرنسية. مجلة حكمة، إصدار2019.11.09.      
  •  (17) Bachelard, Gaston : L’activité rationaliste de physique contemporaine. 2-ème éditions, P.U.F, Paris 1965, p. 38.
  • (18) نفس المصدر، ص. 61.
  • (19) «Garder une sorte, de doute récurrent ouvert sur le passé de connaissances certaines, voilà encore une attitude qui dépasse, prolonge, amplifie la prudence cartésienne et qui mérite d’être dite non-cartésienne, toujours dans ce même sens où le non-cartésianisme est du cartésianisme complété.» Bachelard, G. : Le Nouvel esprit scientifique. 10 -ème édition, P.U.F, Paris 1968, p. 125.
  • (20) كانغلام، جورج: طبيب وفيلسوف وابستمولوجي فرنسي. أصبح 1955أستاذا بجامعة السوربون ومديرا لمعهد تاريخ العلوم خلفا لغاستون باشلار. 
  • (21) كانغلام، جورج: دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها. ترجمة د. محمد بن ساسي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2007، ص. 37-38.
  •  (22) نفس المصدر، ص.39.
  • (23) «Alle Welt spricht von einer Geschichte der Wissenschaften, als ob sie gebe. Ich jedenfalls
  • kenne keine.“
  • (كل العالم يتحدث عن تاريخ للعلوم وكأنه موجود. أنا على كل حال لا أعرف أي تاريخ للعلوم)
  • Canguilhem, Georges: Wissenschaftsgeschichte und Epistemologie. Surkamp, Frankfurt/ M. 1979, S.54.
  • (24) نفس المصدر، ص.269-270.
  •  (25) Bachelard, Gaston: L’actualité de L’histoire des Sciences. In: Bachelard, Gaston: Engagement rationaliste, p.137.
  • (26) “L’histoire des sciences, qu’on le veuille ou non, a une forte attache avec l’actualité
  • de la science”. ibidem, p. 140-142.
  • (27) يقول باشلار بصريح العبارة:
  • «Il faudra que l’histoire des sciences soit souvent refaite, soit souvent reconsidérée» ibidem, p.142.
  • (28) يقول باشلار:«Je crois que l’ histoire des Sciences ne saurait être une histoire empirique. Elle ne saurait être décrite dans l’eitement des faits puisqu’elle est essentiellement dans ses formes élevées, l’histoire du progrès des liaisons rationnelles du savoir” ibidem, p.145.
  •  (29) “Autrement dit, le progrès est la dynamique mêmes de la culture scientifique, et c’est cette dynamique que l’histoire des sciences doit décrire. Elle doit décrire en jugeant, en valorisant toute possibilité à un retour vers des notions erronées.” Bachelard, Gaston : ARPC, p. 25.
  • (30) “L’histoire des sciences, pour bien juger le passé, doit connaître le présent; il doit apprendre de son mieux la science dont il se propose d’écrire l’histoire“. Bachelard, Gaston : Actualité de l’histoire des sciences. p. 124.
  • (31) Canguilhem, Georges: Wissenschaftsgeschichte und Epistemologie. S. 10.
  • (32) “Il s’agit en effet de montrer l’action d’une histoire jugée, d’une histoire qui se doit de distinguer l’erreur et la vérité, l’inerte et l’actif, le nuisible et le fécond.” Bachelard, Gaston: ARPC. p. 24.
  • (33) Bachelard, Gaston: Actualité d’histoire des sciences. p. 139 et ARPC.  P.24/26.
  • (34) “L’histoire de la théorie de phlogistique est périmée puisqu’elle repose sur une erreur fondamentale, sur une       contradiction de la chimie pondérale (…). Les travaux   de Black peuvent donc être décrits comme des éléments de l’histoire sanctionnée.” (ARPC, p. 25).                     
  • وكذلك أيضاLecourt, Dominique: L’épistémologie historique de Gaston Bachelard. Paris 1971, p. 76.