مجلة حكمة
فن الرسم فلسفة الفن

فن الرسم: المساءلة الفلسفية لفنّ الرّسم

الكاتبلور بلان-بونان
ترجمةعبد الوهاب البراهمي

ملخّص

      نساءل هنا فنّ الرسم من جهة علاقاته التي يقيمها مع الفلسفة. وبالرغم من أن فنّ الرسم قد أثار اهتمام الفلاسفة منذ القديم، فإنّه لم يحظ بقول يخصّه بالذات من حيث هو تجميع لأشياء تتعلّق بصنف هو ” فنّ الرسم” ومن حيث هو ممارسة فنيّة.علينا بالخصوص أن ننتظر هيجل حتى يهتمّ نسق فلسفي مباشرة بمسألة الرسم بالأخذ بعين الاعتبار بالبعد المزدوج المكوّن لكل لوحة فنية: بعدها المادّي (مساحة تغطيها صبغة أو صباغ) وبعده التمثّلاتي représentationnelle (صورة تسمح برؤية شيء ما  من وراء المساحة المرسومة عليها). هذا الاهتمام الخاص للفلسفة بفن الرسم لم يقع مع ذلك إنكاره منذ ذلك الحين ويغذّي التساؤلات المعاصرة حول طبيعة التمثّل الإيقوني . iconique

   نفهم فنّ الرسم هنا على معنى الممارسة الفنية للرسام ومجموع الإنجازات التي يمكن وصفها ” بالصّور الزيتية “picturales   ، بغضّ النظر عن مسألة الحامل (رسوم كهوف العصر الحجري، لوحات جدارية لعصر النهضة الإيطالية، لوحة الحامل، ورسم على نقالة دون إطار، ولوحة جدارية لفنّ الشارع الخ). لن نتناول مباشرة مسألة معرفة إذا ما أمكن للتصوير و النقش أن يُردّا إلى صنف فنّ الرسم في دلالته الموسّعة بوصفه مساحة تغطيها علامات أنجزها إنسان بواسطة أدوات متنوّعة ( من الفرشاة إلى البخّاخ مرورا بالبصمات المباشرة لليد). إنّ هدفنا هو التفكير فيما يصنع وحدة هذه الممارسات وموضوعاتها، أقلّ من التساؤل لماذا تجد كلمة ” رسم” مكانها في موسوعة فلسفية. فليس للرسامين في النهاية حاجة إلى الفلسفة لممارسة فنّهم ومن حاجة للمتفرّجين  إلى الفلسفة لتقدير فنّ الرسم. لا نعتبر كل الكلمات مباشرة ولا بنفس السهولة مفاهيم فلسفية. فمثلا كلمة ” حقيقة” و” وعي” تبدو أن أكثر قابلية للفعل تفكير فلسفي من كلمة رسم. يتكلّم الفنانون الرسامون عن الرسم في مذكّراتهم، في بياناتهم ومراسلاتهم ومحادثاتهم وأحيانا في كتاباتهم النظرية. وينتج أيضا مؤرخو الفنّ ونقاد الفنّ خطابات عن فنّ الرسم. ولكن هل للفلسفة شيئا ما مخصوصا تقوله بشأن فنّ الرسم؟ إذا ما بدأنا بالبحث عن جواب عن هذا السؤال في المدونة الفلسفية ، كنا بالضرورة أمام ملاحظة مزدوجة : الغالب في النصوص الفلسفية لا يتحدّث عن فن الرسم، وفي المقابل القسم الأكبر من النصوص النظرية المتعلقة بفن الرسم ليست من صنع فلاسفة. فلنلاحظ إذن متى وكيف تقاطع فنّ الرسم مع الفلسفة في مسار التاريخ وسنرى أنّ الفلاسفة تحدّثوا غالبا عن فنّ الرسم حينما يتكلمون أولا عن شيء آخر : عن المحاكاة  mimèsis  ( تمثل أو تقليد)، عن الصورة والوهم عن الجمال أو عن الإبداع. وفي هذا المعنى ، يسمح فنّ الرسم بالتساؤل عن حدود الفلسفة، منهجها وطريقتها في التفكير في الموضوعات والممارسات الموجودة في العالم بمعزل عنها. ويسمح فنّ الرسم أيضا بالتساؤل عن الصلة بين فروع الفلسفة التي نسمّيها ” استيتيقا” « esthétique »   aisthêsis,) في اللغة الإغريقية أي إحساس sensation) و” فلسفة الفنّ.” « philosophie de l’art ».. تدرس الإستيتيقا بالأحرى الطريقة التي تتأثر بها ذات بشرية بنوع من التجربة الإدراكية المتفرّدة والتي نسمّيها تحديدا ” إستيتقية” أو – بحصر المعنى – الطريقة التي تدرك بها الذات الجمال ، سواء أكان طبيعيا أو فنّيا. أمّا فلسفة الفنّ فهي تهتمّ، مثلما يشير إلى ذلك اسمها، بالفنّ ومسارات الإبداع وإنتاجات الفنّ.  وتجدر الإشارة إلى أنّ هذان التخصّصان قد نشآ هكذا بهذا المعنى ولم يعتمدا كذلك إلاّ بداية من القرن الثامن عشر (بالتوازي مع ظهور نسق الفنون الجميلة) لكن ، كان على الفلاسفة أن ينتظروا وجودهما حتى يتحدّثوا عن الجميل والإحساس أو عن الفنّ ، وبالتالي عن فنّ الرسم.

 يوجد دوما في بداية التفكير الفلسفي في فن الرسم، وبمعزل عن كل اعتبار تاريخي، دهشة تجاه ما يمَثّل سوى مساحة مغطاة بصبغة والذي يجعلنا مع ذلك، نرى عالما بأكمله. هذا ما يعبّر عنه موريس دونيس في مجلة فن ونقد سنة 1890 حينما يدعونا إلى أن ” نتذكّر أنّ لوحة ما،  وقبل أن تكون حصان معركة ، وامرأة عارية أو أيّ حكاية، هي بالأساس مساحة مسطّحة مغطاة بألوان بنظام تجميع معيّن “. وكلا الحالتين المتكاملتين لخداع البصر وللكاريكاتور تحدّدان التساؤل. وليس المقصود هنا بخداع البصر لرسم الحامل للوحة التي نعلم أنه خادع للبصر، بل هو خادع للبصر مُدْمَجٌ ضمن عناصر معمار والذي يمكنه أن يفاجئنا، ويجعلنا ننسى أن الأمر يتعلّق برسم، و يجعلنا نأخذ الرسم على كونه الشيء ذاته . إنه هذا أو ذاك ( نافذة على ستار، وعمود)، هو ما نراه، ونتعرّف عليه وندركه، ومع ذلك فالأمر خلاف ذلك ، فليس هو شيئا آخر غير مساحة، هي شيئا ما مسطّحة. ولندع ما يخدع البصر جانبا، فإنه يمكننا فحسب اعتبار الرسوم التي نعلم أنها رسوم، بمساحات مسطّحة توهمنا بكونها عالما ذي ثلاثة أبعاد. لكن سرعان ما تصيبنا الدهشة هنا أيضا .كيف يمكننا التوصل إلى التعرّف على شخص في رسم كاريكاتوري، أحيانا ببساطة أكثر من صورة طبيعية portrait naturaliste؟   كيف نتوصّل إلى التعرف على وجه فرنسيس بيكون من خلال تشوهات صوره الذاتية؟


 

رسم، صورة، لوحة

 ما يعني عندئذ ، النظر إلى رسم؟  لنفترض أنّ الأمر يتعلّق بلوحة مع إطار. في الواقع ، نحن نرى دوما شيئين في آن واحد: نرى اللوحة في ماديّتها ( الإطار والمساحة المغطاة  بعلامات وصبغات) ونرى اللوحة بوصفها تمثّيلا لشيء ما- نقتصر هنا على الرسم التشخيصي حتى لو أمكن لشكل رؤية في العمق أن يحصل أيضا في حال الرسم التجريدي. وحتى نقول ذلك بطرق مختلفة، نحن نرى الرسم أو بالأحرى الصورة، والبعد المادّي أو البعد التمثّيلي، والمساحة أو العمق. فالنظر إلى لوحة، من جهة الحقّ، هو إذن أن نمتلك دوما إمكانية تقليب النظر بين الانتباه إلى المساحة المطلية والرؤية في العمق. ويمكننا التساؤل إذا ما كان الكلام عن فنّ الرسم، ليس دوما سوى  الكلام عن جزء من الرسم والتفريط في الكلّ: فإمّا أن نتكلّم عن طريقة صنعه، وعن الطريقة التي تتراكب بها المهامّ في علامات، وإمّا أن نتكلّم عمّا تمثّله، ولكنّ تأرجحَ النظر بين البعد المادّي والبعد التمثيلي لكلّ رسم هو ممّا يصعب ترجمته في الخطاب. ويمكننا إيضاح هذه الظاهرة لإزدواجية انتباه النظر بلوحة لبول سيزان: الطبيعة الميتة في الإبريق (نحو 1869-1870- لوحة زيتية ، 65×81سم متحف أورساي):

فن الرسم
 لوحة “طبيعة ميتة ” بول سوزان

 قطعة قماش ذات بياض ناصع ممثلة في الوسط تجلب انتباه العين وخاصّة ما يكوّنها من الفتحات والطيات . حينما نكون قبالة اللوحة ينجذب النظر بهذه التجويفات، بأسود داكن. ولكن سرعان ما نرى أيضا، ودون الاقتراب أكثر من اللازم، هذين التجويفين بمثل بصمة لطلاء أسود على اللوحة، يبدو كأنه يقبل علينا، ولمسة فرشاة ، ولطخة طلاء أسود، يبدو كأنّه طلي أمام الأبيض لا خلفه. ما من شكّ بانّ جانبا كبيرا من المتعة التي نجدها في النظر إلى هذه اللوحة لسيزان آت مما نتوصّل إلى رؤيته من تجويف أو لطخة سوداء مغلّظة في تجويفات قطعة القماش. إنّ النظر إلى رسم، هو أن نكون أحرارا في تركيز الانتباه على  بعد أو آخر من البعدين المكوّنين لكلّ لوحة، بعدها المادّي أو بعدها التمثيلي  représentationnelle  في لوحة ” الخشخاش  ” لمونيه” ( لوحة زيتية، 50×65سم، متحف أورساي) :

فن الرسم
 “لوحة ” الخشخاش” مونييه

 تكون اللطخات taches ( إمّا بالأحمر ، أو لمسة برتقالية على لمسة حمراء) فهو خشخاش وليس هو كذلك. فهو هنا، كأنه دون البقية، بلا ساق تربطه بالجذر الذي يصلها بالعمق. ومع ذلك تحيلنا إلى شيء آخر غير ذاتها. بمثل علامة، تشخّص الخشخاش. وحينما نقترب كثيرا من اللوحة، تصبح العلامة لطخة وحتى اللوحة الأكثر تشخيصيّة تصبح تجريدية مثل ” طلاء الجدار” بعبارة بالزاك في الأثر الخالد المجهول. يحبّ ديدرو ” شاردان” لأنّه يُنَسّق بين النظرتين الممكنتين للوحة ويلحّ على المتفرّج أن يتقدّم ويتأخر قبالة اللوحة حتى يدرك سحرها :” لا نسمع شيئا من هذا السحر”، يكتب ديدرو في ” صالون 1763″، ” إنما هي طبقات سميكة من الألوان فوق بعضها بعضا ويتعرّق أثرها من تحت إلى تحت. نقول فيما مضى بأنّه بخار نفخناه على اللوحة ؛  وفي جهة أخرى، هي رغوة خفيفة وضعناها عليها (…) اقتربوا، كلّ شيء اختلط، تَسَطَّح، اختفى ؛ ابتعدوا ، كلّ شيء يُخلق من جديد ويُعاد إنتاجه”.

 ومع ذلك، فإنّ ما يبدو بداهة بالنسبة إلينا، كمتفرجين تغذّيّنا من قرنين من الثورات التصويرية منذ الانطباعية، لم يكن دوما كذلك، على الأقلّ في الفلسفة، بالنسبة إلى بعض الفلاسفة الذين لم يتمسّكوا بمسألة الصورة ، وفي مقدمتهم أفلاطون. إنّ هذا الحرية للمتفرّج هي ثمرة فتح طويل.

المحاكاة والتمثّل

جرت العادة أن نعود إلى أفلاطون، في شأن العلاقة بين فنّ الرسم والفلسفة، لكن أفلاطون لم يكتب نصّا خصّ به فنّ الرسم تحديدا. فحينما يتكلّم عن الرسم ( في السفسطائيّ أو في الجمهورية الكتاب 10)، هو يبحث عن التفكير في شيء آخر غير الرسم في حدّ ذاته بوصفه ممارسة فنيّة أو بوصفه نتاجا لفنّ الرسام. وبالفعل، فإنّ أفلاطون، ورغبة منه في حماية المواطنين من استخدام سيّء ” للمحاكاة” « mimèsis » ، كان يهتم بالصور، وخاصّة تلك التي هي ثمرة تقنية السكايقرافي skiagraphie أو فنّ خداع البصر ( حرفيا ” كتابة الظلّ”) . يوافق فنّ ” خداع البصر” أو السكايغرافيا، تقنية التظليل l’ombrageالتي تسمح، بفضل استخدام الظلال وتباينات الفاتح والقاتم، أن نتوهّم البعد الثالث الذي يفتقر إليه بالأساس فنّ الرسم. إنّ هذه التقنية  التي أدخلها أبولودور Apollodore سكايغرافي القرن 5 ق. م؛ولّدت أعمالا لا نعرف عنها الشيء الكثير غير شهادات مكتوبة وصلت إلينا في رسوم مشهورة مثل زيوسيس Zeuxis أوباراسيوس Parrhasios ، مثلا بفضل ” التاريخ الطبيعيّ” لبلينيوس الأكبر Pline l’Ancien . لم يُذكر الرسم إذن لدى أفلاطون  إلاّ على سبيل المثال وعلى سبيل العموم. وبالفعل يهتمّ أفلاطون خاصّة بصورة الرسام، بنشاطه الخادع والكاذب. ويَرِد ذكر الرسام دائما على سبيل المقارنة مع عدوّ الفيلسوف الكبير الآخر الذي هو السفسطائي. فكلاهما يعاني من نفس الداء، و الكبرياء هو الذي يدفعهما إلى جعلنا نعتقد أنّهما  قادرين على تمثّل كل شيء أو القول في كلّ شيء دون أن يمسكا بأيّ معرفة دقيقة عمّا يتكلمان عنه أو ما يرسمانه. إنّ فنّ الرسم هو إذن مفكّر فيه بوصفه صورة مغرية وخادعة تتوجّه  فحسب إلى حواسنا: كان الهاجس الرئيسي لدى أفلاطون هو رسم حدّ التمايز الواضح بين معرفة و لامعرفة. إذن فكلّ الصور معتبرة بوصفها ظاهرا، دون تقدير أيّ اختلاف كان بين رسم ونحت وصورة على الماء أو في المرآة. غير أنّ لهذا التشبيه أو التمثيل للصورة المرسومة وهم خادع مثل خداع البصر الذي يفترض مشاهدا لا يرى الرسم من قريب ولا يعير اهتماما لماديّته، للألوان والأصباغ، ولكلّ هذه المادّة التي وضعتها يد الرسّام بفنّ على الحامل والتي تبيّن فعلا أنّ الصورة ليست الشيء نفسه، ولا تزعم أن تكون كذلك. يخلط أفلاطون عن قصد  بين الخدعة البصرية وبين ما يمكن تسميته” الشبه – خداع ” « pseudo-illusion » الاستيتقي الذي يجعل من لوحة، لا تَخدع حرفيا أي أحد. يسمح هذا الخلط بتقديم كلّ صورة على كونها منبعا للاغتراب  و الاتهام من جانب واحد لصنّاع الصور الذين لا يمكن أن يكونوا سوى بشرا طامعين في السلطة ومغالطين عمدا. وفي معنى ما ، يجب أن ننصف أفلاطون الذي لم يكن في نيّته خلق نظرية لفن الرسم، الذي لا يخدم ذاته غالبا إلاّ على وجه مثال للتفكير في شيء آخر : مسألة المعارف الزائفة والحقيقيّة و اتهام السفسطة.

وإذا كنّا لا نجد عند أرسطو نفس النقد للمحاكاة بل على العكس مدحا لفضيلة التمثّيل المحاكاتي، فلا بدّ من التدقيق بأنّ أرسطو أيضا لم يكتب مباشرة عن فنّ الرسم. لقد تناول في كتاب” الشعر” ما نسمّيه اليوم ” فنّا” ، وذلك في إطار اهتمامه بالتراجيديا والملحمة بوصفهما تمثيلا ( ميميزيس mimèsis ، محاكاة) للأفعال الإنسانية ( من الشائع ، كي نميّز بوضوح، ترجمة كلمة “ميميزيس mimèsis  ” بـ”محاكاة” imitation لدى أفلاطون و” بتمثيل représentation ” لدى أرسطو).

فن الرسم

إنّ التمثيل  مصدر للمعرفة والعلم بالعالم بالنسبة إلى أرسطو. ففي ” الشعر la Poétique” ، يتدخّل فنّ الرسم  غالبا بعنوان مقارنة لإفهام بعض عناصر بناء التراجيديا. على سبيل المثال لتبرير فكرة التاريخ ( تسلسل الأفعال) هو ” روح التراجيديا” و كون الخاصيات ” ثانوية”. يقيم أرسطو مقارنة بين التاريخ والرسم من ناحية وبين الخاصيات والألوان من ناحية أخرى :” وبالفعل ، إنّ الأمر تقريبا مثلما هو في فنّ الرسم: فإذا ما استخدم رسام صدفة أجمل الموادّ، فلن يكون للنتيجة نفس السحر الذي لصورة رُسمت بالأسود والأبيض”( الشعر  الفصل 6، 50 أ 38). ولم يكن إلا على حساب عديد التنقّلات المرتبطة بتاريخ ملتو لنقل نصوص أرسطو في العصر الوسيط، أن استطاع منظّرو فن الرسم في عصر النهضة ادعاء أنّ أرسطو هو من فكّر في الفنّ بوصفه ” محاكاة للطبيعة”. وما يزال أرسطو هو من حرّر ” المحاكاةmimèsis  من الاتهام الأفلاطوني بجعلها نشاطا من حيث كونها ميلا طبيعيّا (  الشعر ، الفصل 4)،  وهي التي أنقذت المعرفة بالعالم وكانت مصدرا للمتعة. نفهم إذن لماذا أرسطو، حتّى لو لم يكتب عن فنّ الرسم، فقد أمكنه أن يوفّر، بواسطة مقولة ” المحاكاة” التي تفهم بمعنى  تمثيلا، إطارا لتفكير أكثر ملائمة لنظرية في الرسم منها لنقد أفلاطوني للصورة بوصفها شبيها. ليس الاستمتاع بالنظر إلى رسم، هو انخداعنا، بل هو ما قد يؤدّي إلى معرفة حقيقيّة عن العالم.

اللوحة ونظرية الفن

   يشهد عصر النهضة ميلاد الرسم  بالحامل ونظرية الفنّ. يُصنع الرسم في لوحة  وتصبح اللوحة إطارَ تمثّل تشخيصي وسردي يتنافس مع الشعر. وإذا كانت أغلب اللوحات بمثابة نوافذ تفتح على تاريخٍ كالذي يدعو إليه منظّر الفنّ البرتي Alberti في كتابه دي بيكتشيرا ” عن الصورة” De Pictura de 1435,  يرينا فضاء خياليا، فذلك لأنّنا نعرف جيّدا أننا إزاء لوحات .

   يمكننا، حالما يوضع الإطار، خلق الخُدعة الأكمل بفضل البحوث المستمرّة للرسامين حول موضوع المنظورية الهندسية، ويمكننا ابتكار تمشيّات جديدة دائما لتثبيت اللون واستخدام طلاء الورنيش vernis، والتحكّم في مسألة حوافّ الأشكال contours des figures الصعبة جدّا، للمنظور الجوّي؛ ويمكننا، باختصار أن نقيم الدليل على ابتكارية تقنية مثيرة للإعجاب دوما، كي نتوصّل إلى وضوح الرسم الذي يضمن أن تمرّ العين عبر السطح لتدرك عمقا، صورة ، أو عالما بأكمله،  غير أن الإطار يضمن وجود  التعتيم opacité ، حتّى لو كان من أجل نفيه، فهو يضمن إذن بأنّ فنّ الرسم مسألة خداع جمالي وليس خداعا بصريّا . 

   ورث منظّرو فن عصر النهضة مجموعا مركّبا يمزج بين التقليد الإغريقي عن المحاكاة والتقليد المسيحي للاّهوت الوسيط عن الصورة. إن إحدى المسائل المحورية التي تُطرح والمتعلقة بالرسم هي معرفة ما إذا كان يجب محاكاة الطبيعة أم الفكرة، الواقع أم مثال الجمال. يحصل الفنان وخاصة الرسام والنحات في عصر النهضة على لقب فنان في مقابل مجرد الصانع ويحصلون بالنسبة إلى فنّهم على منزلة فنّ متحرّر في مقابل الفنون الميكانيكيّة. يصبح فنّ الرسم نموذجا للفنّ الفكري l’art intellectuel : الفكرة هي التي تُرسم. ويجب على الفنان أن يبرهن على أنه  أديب ، وفارس القول ، وأنه منظّر وأنّ الفنّ هو نشاط ذهني قبل أن يكون نشاطا يدويا ، نشاطا يرتكز على معرفة وهو معرفة عن العالم . إنّ الكتابات النظرية عن فنّ الرسم منتشرة غير أنّها ليست من صنع فلاسفة . إن منظري فن الرسم يسمّون ، من بين أسماء أخرى، ليون باتيستنا البرتي Leon Battista Alberti ، ليونار دي فانشي ، وجيان باولو لامازو Gian Paolo Lomazzo ،فريديريكو زيكارو Frederico Zuccaro ، وجيورجيو فازاني Giorgio Vasari.  يجد هذا التقليد لنظرية الفنّ امتداداته في فرنسا في كتابات فنانين مثل روجي دي بيل Roger de Piles ، وأندري فيليبيان André Félibien، وفيليب دي شامباني أو انطوان كويبل Philippe de Champaigne ou Antoine Coypel  مجمّعين في محاضرات الأكاديمية الملكية لفن الرسم والنحت ( المنشأة عام 1648).

الاستيتيقا وفلسفة الفن

أصبحت تدريجيا مفاهيم الفرد و الذاتية في القرن 18م، مفاهيم مركزية في الفلسفة وعوّضت التساؤل عن الصّانع والفنان، والمحاكاة والإبداع: أصبح الجميل مسألة ” ذوق”، ومسالة ذاتية فردية ونتساءل كيف يمكن التعرّف عليه كذاتيّ (لأنّه وقبل كل شيء، الذات هي التي تحسه بالأساس) دون أن يكون اعتباطيا . ماذا بشأن فنّ الرسم في هذا السياق؟  ليس فن الرسم موضوع تناول مميّز حقّا من لدن الفلسفة في القرن 18م، سواء تعلّق الأمر بفلاسفة خِبْريين ناطقين بالانجليزية أمثال فرنسيس بيكون أو دافيد هيوم أو الكسندر جوتليب بومجارتان وإيمانويل كانط في ألمانيا. حينما أسّس بومغارتان Baumgarten الاستيتيقا بوصفها علما بالمحسوس، كانت الأمثلة المستخدمة في أغلبيتها هي أيضا شعرية. وإذا كانت الاستيتيقا الفلسفية لا تهتمّ مباشرة بفنّ الرسم، فإنّ الرسم يتطلب تفكيرا مهمّا يجدّد تماما حقل نظرية الفنّ. إنّ هذا التجديد ناتج في جانب منه عن ظهور الصالونات، التي تعني في ألان نفسه فضاء لعرض اللوحات للجمهور ولكن أيضا كجنس أدبي  تميّز فيه دينيس ديدرو: تتعلّق هذه الصالونات بنقد الفنّ ولكنها تندرج ضمن مسار نظرية الفنّ في عصر النهضة. في ألمانيا، كان المُمثّل والناقد الأدبي ، ج.أ، لوسينغ هو الذي كتب نصّا نظريا بعنوان، ” اللاوكون le Laocoon، عنوانه الفرعي” عن الحدود بين فن الرسم والشعر” . يهاجم هذا النصّ مذهب ” فن الرسم مثل الشعر” l’Ut pictura poesis  ( عبارة مستمدّة من بيت شعر من ” الفن الشعري” لهوراس ‘Horace ويعني حرفيا ” الشعر بمثل فن الرسم”، وقد استخدم هذا كشعار في عصر النهضة للتفكير ، بقلب صيغة الشعار ، الرسم بمثل شعر صامت). لقد وضع لوسينغ أسس ما هو اليوم مألوف، أي تعدّد الفنون والتفكير في خصوصيتها من حيث هي ” وسائط” « médiums » : يمثّل الرسم جمال الأجسام في الفضاء ، وهو فنّ التجاور لا التعاقب، فنّ المكان لا الزمان، ويمثّل التعبير لا الفعل.

تقدّمت الفلسفة ،مع “دروس الاستيتيقا ” لفريديريك هيجل ، خطوة حاسمة في علاقاتها مع فنّ الرسم.

فمنذ مقدمة ” دروس في الاستيتيقا، يعرض هيجل السؤال عن الحكم الذوقي العزيز على كانط ، ويثني، ضد كانط مرة أخرى، على تسامي الجميل الفنّي على الجميل الطبيعي. إنّه يكتب فعلا فلسفة للفنّ بدل استيتيقا، إذ أنه لا يهتمّ بما يمكن أن تحسّه ذات فردية إزاء الجمال. أما فيما يخصّ السؤال التقليدي عن المحاكاة la mimèsis ، فيتناوله ( هيجل) أيضا خلافا للتقليد: لا تتعلق قيمة اللوحة بمن يرسمها ، بما تمثّله. فما يظهر في الفنّ الهولندي للعصر الذهبي الذي يثمنه هيجل، هو ضعيف الرّوحية وقليل الأهمية؛ والظواهر الممثّلة هي عرضية خالصة، مثلما هو الحال في المَشَاهِد. لكن الرسم عمل للروح  Espritيحوّل العالم الموضوعي إلى ظاهر فنّي . إنّ الفضاء الاصطناعي للرسم، ذي البعدين، هو أبعد من أن يكون ” عيبا tare  ” كما هو عند أفلاطون، إنّه على العكس ما يظهر آو يجسّد صنع الروح أو الفكر. يتعلّق الأمر بمسار تاريخي و لا يهتمّ هيجل أولا ودائما، إلاّ بالأعمال في سياق تاريخي. وإذا ما كان هناك مكسب منذ هيجل ، فسيكون فكرة كون الرسم هو دائما مضاعف: مادّة وتمثّيل. تحتوي ” دروس في الاستيتيقا” على صفحات عديدة عن تقريظ مادية الصورة، و عن استخدام الضوء واللون.  وإذا اعتبرنا بأنّ خطأ ( أو حيلة ) أفلاطون تتمثّل في عدم اعتبار البعد المادّي للرسم، وفي عدم النظر إليه سوى كونه مساحة واضحة تخدعنا مثل خدعة بصرية، فإنّ الحركة الأساسية لهيجل  هي في الدفاع عن البعد الآخر للرسم، بُعْدُ المادية أو الكثافة أو العتامة، المكمّلة لبُعْد الوضوح الذي يخلق الصورة أو التمثيل. لقد أضحى من الصعب على الفلسفة، بعد التبوء التاريخي للتجريد في الرسم،   أن تساءل الرسم من خارج كي تعرف ما هي الصورة أو ما هو الحكم الذوقي، ويكتسب الفيلسوف عادة الانتباه إلى هذا البُعد المزدوج لكل رسم ، سواء كان التفكير على صعيد فينومينولوجي كما لدى مارلوبونتي والذي يمثّل لديه فنّ الرسم  ( لسوزان خاصّة) شكل تفكير في الرؤية visibilité وفي علاقتنا بالعالم أو أنه يندرج ضمن حقل الفلسفة الأنجلو – أمريكية المسماة ” تحليليّة”. ففي إطار الفلسفة التحليلية، يكون ثلاث كتاب كبار ( بيرسلاي،  Beardsley، و قودمان Goodman  وولهايم Wollheim) هم الأصل في تجديدٍ هامّ للإستيتيقا انطلاقا من سنوات 1960. فقد أُعيد التفكير من جديد ، فيما يتعلّق بالرسم ، في المسألة التقليدية للمحاكاة ، من خلال مفاهيم التمثيل الإيقوني والتصوير، من بين مفاهيم أخرى. والسؤال الذي طُرح هو معرفة أي دور يسند إلى التصوّر في التعريف الذي نقدّمه للتمثيل الإيقوني. وعلى وجه العموم، لم يفتأ اهتمام الإستيتيقا التحليلية منذ سنوات 1960 بالرسم يتوطّد، مُتَرْجَمًا في اعتبار حادّ للممارسة الفعلية للرسامين، لتاريخ الفنّ، ولنقد الفن، ولكن أيضا ّ في بعض الأعمال حول بسيكولوجيا الرؤية أو العلوم العرفانية. إنّ فنّ الرسم هو إذن في صميم التساؤلات عن طبيعة التمثيل الإيقوني ، ولكن أيضا في التساؤلات عن طبيعة الفنون الخاصّة ( مثلا ، فيم  يتقارب رسم وصورة فوتغرافية؟ 

        المصدر 

بيبليوغرافيا

  • – ألبرتي – عن الصورة – (1435) اليا 2010
  • – أرسطو – كتاب الشعر  ترجمة ديبون روك ولالو باريس سوي 2010
  • – ديدرو ،صالون 1759،61،63،67،69،71،75،1781 باريس فلاماريون الكتاب 4- 1996
  • – ديدرو – محاولة في فن الرسم – 1766، باريس ؟، فلاماريون الكتاب 4 1966
  • – أفلاطون ، الجمهورية الكتاب 10
  • – أفلاطون ، السفسطائي
  • – جيلسون ، الرسم والواقع 1972، باريس فران 1998
  • – غرينبورغ ، “نحو لاكون Laocoon جديد”، ” فن الرسم الحداثوي” ، فيهاريسون وود ، نشر فن في النظرية 1900-1990. انطولوجيا ، باريس، هازان ، 1997.
  • – هيجل ، دروس في الاستيتيقا،1820-1829، ترجمة لوفابفرو وفونشانك ، باريس ، أوبيي 1995، خاصة الفصل : الرسم” الجزء 3.
  • -لوسينغ ، ” لاكوون او الحدود الخاصة لفن الرسم والشعر”1766، ترجمة ف.تانينري ، باريس كلينزيك Klincksieck  2011.
  • – ليشتانشتين ، جاكلين ” فن الرسم” باريس ،لاروس ، سلسلة ” نصوص رئيسية ” ، 1997.
  • – لوباز ، دومينيك ماك إيفر ،” بانتينغ ” فن الرسم، 2013.
  • – مارلو بونتي ، العين والعقل ” غاليمار ، باريس 1964.
  • – مارلو بونتي  ” شك سوزان ” في كتاب ” معنى ولامعنى”،1966، باريس غالبيمار  1966.
  • – بلين لانسيان ، تاريخ طبيعي ، الكتاب 35، باريس ، بال لاتر ، 2002
  • – وولهايم ، الرسم كفنّ ” جامعة الصحافة 1987.