مجلة حكمة
سليمان بشير ديان

الترجمة كفعل ضيافة: حوار حكمة مع الفيلسوف سليمان بشير ديان

حاورتهنورة العوهلي
ترجمة وتحريرنورة العوهلي
ساهم في التحريرمحمد ديريه

من هو سليمان بشير ديان؟

وُلد الفيلسوف سليمان بشير ديان في السنغال وتلّقى تعليمه في فرنسا، ويدّرس حاليا في جامعة كولومبيا العريقة في نيويورك. بين داكار وباريس ونيويورك، اندمجت فلسفة سليمان بشير ديان في المشاهد الفلسفية لتلك الحواضر وتبنت قضاياها. في انتقاله من مشهد لآخر، بدت صورة المشترك بينها جميعا تشكّل سؤاله الأبرز. كان اهتمامه بالترجمة وسيلةً لتأكيد هذا المشترك وإبرازه، فالترجمة هي “فعل ضيافة” بالنسبة لديان، ولكنها كذلك “امتحان فلسفي” حين تُختبر الحجة خارج حدود لغتها الأولى. يتحدث ديان في هذا الحوار عن رؤيته الخاصة للترجمة، وعن تأملاته في تاريخ الفلسفة والفلسفة الإسلامية وحوارها مع الفكر الغربي.


س: أنت تشير في محاضراتك حول الفلسفة الإسلامية بأن على المفكرين المسلمين واجبٌ يتعلق بهوياتهم كمسلمين، وتقترح في كتبك بدء حوار بين التراث الإسلامي والفلسفة الغربية. كيف هو تصورك لهذا الحوار؟ هل مقاربتك توفيقية أم أنك تدعونا إلى خلق هوية متمايزة من خلال العودة إلى التراث الفكري الإسلامي؟

سليمان بشير ديان: أود الإجابة على الشق الأول من السؤال حول مسؤولية المثقفين المسلمين. أفضل طريقة للإجابة على هذا السؤال هي الحديث عن تجربتي الخاصة. لقد تدربت كفيلسوف في المنطق، تاريخ منطق الرياضيات تحديداً والجبر بشكل خاص. وحين أنهيتُ دراستي في فرنسا قررت العودة إلى داكار في بلدي السنغال حيث إني لم أرغب في البقاء في فرنسا لأسباب عدة. كانت خطتي تتضمن إعداد منهج رصين في المنطق وتاريخ فلسفة العلوم في قسم الفلسفة حيث أدّرس في داكار. كان يمكن لي الالتزام بهذه الخطة وفصل هويتي الإسلامية كفيلسوف في المنطق، ولكن فكرتي حول المسؤولية تقتضي استحالة ذلك بسبب الوقت الذي نعيش فيه، إذ أن الإسلام محط الحديث الآن وهو حديثٌ كثيراً ما يرتبط بالعنف وتصورات أخرى من هذا القبيل.  لذلك فقد شعرنا في مرحلة ما في قسم الفلسفة بأن مسؤوليتنا تحتم علينا، في بلد تشكل غالبيته المسلمة ٩٥ بالمئة من السكان، أن ندرّس الفلسفة الإسلامية.

وهكذا، وبناءً على طلب من قبل زملائي، بدأتُ في تدريس الفلسفة من خلال توسيع اختصاصي في المنطق وفلسفة العلوم ليتضمن تاريخ هذين الحقلين في الفلسفة الإسلامية. هذا ما أدعوه بالمسؤولية، حيث لا يمكنك في ظل هذا الوضع أن تفصل بين عملك كفيلسوف وبين كونك مسلماً لأنه أصبح من المهم اليوم أكثر من أي وقت آخر أن ندّرس الإسلام لأبنائنا ثم لبقية العالم كتقليد فكري وروحاني.

أما بخصوص الشق الثاني من سؤالكِ، فإن هذا النهج مهم لتاريخ الفلسفة بشكل عام، حيث من المفيد لتاريخ الفلسفة أن نعلم بأن الفلسفة لم تكن يوما “التيلوس” [الغاية المُفسرة] الأسمى للحضارة الغربية. ولكنكِ تجدين شيوع هذا الاعتقاد في تأريخ الفلسفة، إذ أخذت تتشكل منذ القرن التاسع عشر فكرة أن الفلسفة هي علامة الاستثنائية الأوروبية وبأن أوروبا هي صورتها النموذجية ومسقط انتماءها. تُصور هذه الرؤية ولادة الفلسفة كمعجزة إغريقية، ولطالما كانت المعجزات تمدنا بتفسيرات مريحة لانتفاء حاجتنا لتعقب ما سبقها. تتعقب هذه الفكرة انتقال الفلسفة من اليونان إلى الغرب وانتمائها له، وهذا ساهم في توطيد أساس الاستثنائية الغربية، والتي تقتضي أن الغرب هو حاملٌ طبيعي لصفة الكونية وتقع على عاتقه مهمة أن يصنع العالم وفقا لصورته.

قد كتب فيلسوف فرنسي صديق لي، وهو روجير پول درويت، كتاباً حول موضوع تاريخ الفلسفة مؤخراً وتعقب فيه تشكل هذه الفكرة القائلة بأن الفلسفة منتج غربي. يؤكد دوريت أن ادعاء أن الغرب هو المعني الرئيسي بالفلسفة لم يكن يحظى دائماً بذات الرواج كما هو الحال اليوم. وهو يقول مازحا، ولكنه مزحٌ تمتزج به الكثير من الحقيقة، بأن المسؤولية خلف تشكل هذه الفكرة تقع على عاتق ثلاثة هاءات/ هيجل وهوسرل وهايدغر. الأول، وهو هيجل، فلأنه أعاد كتابة تاريخ الإنسانيات مصوراً فيه أن تاريخ الفلسفة ومسرحها هي أوروبا. وليس من قبيل المصادفة انه قدم احترامه لحركة الاستعمار الفرنسي للجزائر عندما قدم آخر محاضراته حول فلسفة التاريخ في مطلع القرن التاسع عشر في برلين، حيث كان يرى في تلك الحركة الاستعمارية تجسيداً لفكرته حول احتلال أوروبا القسم الآخر من الأبيض المتوسط كجزء من مهمتها التاريخية.

هذا هو الجزء المتعلق بمسؤولية هيجل في نسج فكرة أن الفلسفة تتجسد بأوروبا. من الممكن كذلك رؤية لماذا هوسرل قد ذُكر هنا، وذلك تحديداً لأنه حين كتب كتابه حول أزمة الإنسانيات الأوروبية، والذي قدم محتواه في محاضرة ألقاها في فيينا في عام ١٩٣٥ م قبل مجيء هتلر للحكم بسنتين، قال بأن على أوروبا استجماع قواها وتذكير نفسها بهويتها، لأنه كان قد تنبأ بالانتحار الأوروبي الذي كان قد أوشك حدوثه. لقد قال إن لدى أوروبا مهمة تصدير نموذجها للعالم وذلك لامتلاكها لصفة الكونية وامتلاكها للفلسفة. وفقاً لذلك، رأى هوسرل أنه من الطبيعي أن يحذو بقية العالم حذو النموذج الأوروبي، حيث قال صراحاً بأنه من الصائب أن تتبع الهند أوروبا بأي طريقة باستطاعتها، ولكن أوروبا، إذا ما كانت ترى نفسها بوضوح، فلا يمكن أن تتحول للهند.

وهنا نرى جليا كيف ان هذا يتضمن تمجيداً لفكرة الاستثنائية الأوربية. الهاء الثالثة هي هايدغر، والذي يقول بوضوح بأن الفلسفة تتحدث الإغريقية، ولربما كان يدور في خلده حين قال هذا، بما أن الإغريقية لغة ميتة الآن، أن اللغات الأوروبية هي إغريقية زماننا. لقد بنى هايدغر ما كان يعرف حينها بالقومية الأنطولوجية، وهي أنطولوجية لأنها مبنية على فعل الكينونة “to be” كفعل مركب خاص باللغات الهندو-أوروبية وغير موجود في اللغات الأخرى كالعربية. لكن فكرة أن إحدى اللغات تفتقد لشيء ما هي فكرة لا معقولة حقيقةً لأن اللغات لا تفتقد لشيء، ولكنها فقط مختلفة.

إذاً فنحن نحتاج أن نثير هذه المسائل في الطريقة الحالية لتدريس الفلسفة. لأنكِ إذا تأملتِ هذه الطريقة ستجدين أنها تُدرّس الفلسفة مقسمة على مراحل تبدأ بما قبل سقراط ثم سقراط ثم ما بعد سقراط ثم أرسطو ثم العصور القديمة ثم المسيحية في عصر الأنوار، وهنا لا أقصد حتى المسيحية الإغريقية أو البيزنطية ولكن المسيحية اللاتينية، ثم تاريخ الفلسفة الحديثة المبكر ثم الفلسفة الحديثة وهكذا. لذا، نحن نحتاج لنزع الاستعمار عن تاريخ الفلسفة، وذلك لا يعني إجحاف الفلسفة الأوروبية، ولكن إحياء التاريخ الحقيقي للفلسفة. لنأخذ على سبيل المثال فلسفة القرون الوسطى.

حين تُدرس فلسفة القرون الوسطى فإن الحديث يدور حول أوغسطين وتوما الأكويني وأقرانهم. الجدير بالذكر أن توما الأكويني كان مُتّهماً بوقت ما بالهرطقة قبل ان يُمّجد كقديس من قِبل الكنسية بسبب تبنيه لنظريات اُعتبرت تجديفيه وهي نظريات كانت تُدعى بالرشدية نسبة إلى ابن رشد، ولعل كل ما قاله توما الأكويني إذاً مرتبط بابن رشد لأن حواراته الفلسفية مع أفكار ابن رشد هي من جزء من فلسفته.

إن نقطتي هي أننا لكي نفهم توما الأكويني، وفلسفة القرون الوسطى بشكل عام، فعلينا أن نعيد الاعتبار لتلك المحاورات بين الأفكار الفلسفية التي خاضها أولئك الفلاسفة مع بعضهم البعض خارج حدود ثقافاتهم وأديانهم. علينا أن ننظر لاتساع تاريخ الفكر الإنساني الذي انحدرت منه فلسفة القرون الوسطى. أن فلسفة القرون الوسطى ليست فقط تاريخ الفلسفة اللاتينية، ولكن أيضا تاريخ الفلسفة الإسلامية واليهودية.

فالمبتغى إذاً ليس بأن نكون قوميين ونؤكد على امتلاكنا لفلسفة فقط، ولكن أن نؤكد أن تاريخ الفلسفة وتدريسها لابد أن يتضمن هذا الفهم الأهم لها. وذلك يقودني للشق الآخر من السؤال والقول بأن الفلسفة لطالما كانت محاورات عابرة للقارات والحدود، وهذا يشرح لماذا حين أتحدث عن الفلسفة الإسلامية فإنني لا افعل ذلك لفصلها أو لتمييزها عن الفلسفة الغربية، ولكن لكي أقول بأن هناك تفكير فلسفي كوني ولكن الطريق إليه يمتد عبر مشارب مختلفة ولطالما كانت هذه الطرق تتقاطع مع بعضها البعض. حديثي حول توما الأكويني هو مثال على وجود هذه الحوارات في العصور الوسطى وعلى أن فهم فلسفة توما الأكويني ينبغي أن تتضمن فهمها كحوار بين الفلسفة الإسلامية والمسيحية.

إن فلاسفة المسلمين اليوم الذين قاموا بعمل رائع في الفلسفة قد قاموا بذلك من خلال الاندماج بحوارات مماثلة دون استصعاب ذلك. ولكن النزعات التحزبية تسيطر على الوقت الحالي وتجعلنا نتحدث عن معارضة أبستمولجية لبعضنا البعض. محمد إقبال، على سبيل المثال، لم يستشكل التفكير من خلال كل تلك التقاليد الفلسفية وقد بنى حولها تصوراته حول المفهوم الإسلامي للإنسان الكامل بالعلاقة مع مفهوم الفردانية كما يستحضره هنري برجسون وهو الآخر فيلسوف يهودي منجذب لدراسة الكاثوليكية لكن لم يعتنقها. فأنا إذاً في غنى عن ادعاء خلق حلقة وصل بين الفلسفة الغربية والإسلامية وذلك لوجودها أصلا منذ العصور الوسطى، ولعلها تتضح في الفعل البسيط لانفتاح العالم الإسلامي على الفلسفة الإغريقية وترجمتها. هذا قد يكون جواباً طويلاً لسؤالك.

س: على العكس تماما. من الجيد أنك ذكرت محمد اقبال فسؤالي يتعلق بوصفك له في أعمالك بفيلسوف مسلم حداثي. هل ترى أن الفلسفة الإسلامية الحديثة في علاقة اتصال واستمرارية مع الفلسفة الإسلامية في القرون الوسطى أم أنك ترى ان هناك انقطاع بينهما، وخاصة انه من حيث التسمية فإن كلمة حداثي تأتي محملة بتصور عقلاني خاص بالإنسان الحديث قد يختلف تماما عن تصور فيلسوف ما قبل الحداثة لنفسه. ما رأيك بالعلاقة بينهما؟

سليمان بشير ديان: لدي إجابة ديبلوماسية لهذا السؤال وهي القول بأن العلاقة هي علاقة اتصال وانفصال. علاقة الانفصال هي بسبب انقطاع العالم السني عن الفلسفة في حين لم يحدث مثل هذا الانقطاع في العالم الشيعي. على العكس تماما، ففي العالم الشيعي كان هناك حالة من التماهي بين علم الإمامة الشيعي والفلسفة الأفلاطونية المحدثة. فالتصور الشيعي للإمامة لا يفسر تعاقب الأئمة بالتعاقب الزمني البسيط، ولكنه يفسر الظهور التسلسلي للأئمة بالاستعانة بتفسيرات الأفلاطونية الحديثة لنظرية الفيض وذلك يتضمن اعتقادهم بوجود ميتافزيقي للأئمة سابق على وجودهم المادي. وهذا يشرح لماذا بقيت الفلسفة في صميم التقليد الشيعي. أما بالنسبة لإعادة الاتصال بالفلسفة الإسلامية في العالم السني فقد حدث ذلك بسبب الاستعمار.

أعتقد أن جمال الدين الأفغاني كان محقاً حين قال بأن مشكلة العالم الإسلامي أنه قد فصل نفسه عن التفكير الفلسفي، كما اتفق مع قوله بإن على العالم الإسلامي أن يفكر بطريقة فلسفية وبأن يتعلم أن يعيش في تصور كوني حديث مختلف عن التصور الكوني الأرسطي. هذا قد يعني بطريقة ما دعوة لانفصال الفلسفة الإسلامية الحديثة عن فلسفة القرون الوسطى، ولكنه يتضمن أيضاً دعوة لاتصالهما لأن إعادة التفكير هي ممكنة فقط من خلال إعادة قراء التراث من موقعنا الحالي في العالم الحديث. ولذا كانت اجابتي ان العلاقة هي علاقة اتصال وانفصال. لأن هناك انقطاع، ولكنه انقطاع يستوجب العودة لقراءة التراث والتواصل معه من جديد.

س: أنت أيضا مهتم بالفلسفة الأفريقية. هل ثمة علاقة خاصة بين الفلسفة الإسلامية والأفريقية يفسر اهتمامك بالاثنتين؟

سليمان بشير ديان: نعم، هناك علاقة بين الاثنتين. ولكن بداية اهتمامي بالفلسفة الأفريقية كان بحكم المسؤولية التي استشعرتها اتجاه توسيع اهتماماتي الفلسفية من علم المنطق وتاريخ منطق الجبر إلى المواضيع الفلسفية الأخرى. فقد تحتم علي التفكير في كيفية فهم الفلسفة الأفريقية، خاصة من حيث اعتمادها على التداول الشفوي في ظل ثقافة عبرت عن نفسها بشكل كبير من خلال النقل الشفهي. والسؤال هنا هل يعتبر النقل الشفهي قالباً مقبولاً للتفكير الفلسفي؟ أسئلة من هذا القبيل بمناحيها الأبستمولوجية والسياسية كانت تُناقش على أرض الواقع في أفريقيا حينما انضممت للمشهد الفلسفي هناك ولم يمكنني تجاهلها والتركيز فقط على تخصصي.

اصبحتُ إذاً مهتما بالنقاش وبدأت العمل على هذه الأسئلة.  كانت العلاقة بين هذه الأسئلة وبين الفلسفة الإسلامية ضمن محط اهتمامي أيضاً. فحين يُقال بأن الفلسفة الأفريقية هي شفوية فإن ذلك ليس دائما صحيحا لأن الفلسفة الإسلامية هي فلسفة أفريقية كذلك، حيث إن ترجمة الفلسفة الإغريقية من أثينا لم تتم فقط عبر روما ومن روما إلى هايدلبرغ أو لندن أوباريس. ولكنها عبرت أيضاً من نيسابور وبغداد إلى الإسكندرية وفاس وتمبكتو ومراكز تعليمية أخرى في أفريقيا. بل أن دراسة المنطق في أفريقيا كانت دراسة لتاريخ المنطق الأرسطي، فقد قرأ الناس في مالي والسنغال تاريخ المنطق الأرسطي من خلال نظم الأخضري للمنطق الصوري من خلال كتابه المشهور السلم المرونق في فن المنطق. فإذا ما أردنا نقاش تاريخ الفلسفة الأفريقية فعلينا أن نأخذ هذا الجانب بعين الاعتبار.

فالفلسفة الغرب-أفريقية هي فلسفة إسلامية بشكل رئيسي، والقول بأنها إسلامية لا يعني فقط القول بأن من تداولها اعتنق الإسلام أو وجود الإسلام المحوري في دساتير تلك المجتمعات، ولكن ذلك يعني أيضا أن دراسة علوم الدين فيها حدثت جنباً إلى جنب مع دراسة الفلسفة الإغريقية. لأنه حتى عندما عارض الناس الفلسفة لأسباب دينية لم يمنعهم ذلك من دراسة المنطق حيث استخدموه كأداة للاستدلال ذات طبيعية ميتافزيقية. ولكن بالتأكيد هذا ليس كل ما يدخل ضمن الفلسفة الأفريقية، فالفلسفة تنظر لما يوجد على أرض الواقع. على سبيل المثال، فإن فلسفة الفن الأفريقي الكلاسيكي تدفعنا للتساؤل لماذا يتخذ الفن الأفريقي هذا الشكل حين يرفض الفنانون الكلاسيكيون استنساخ الواقع كما في صور الفنون الأخرى كفن النحت الإغريقي حيث ينقل الفنان أبعاد الواقع لفنه. فلدينا أيضا مسائلنا التي تُعرض بشكل خاص ضمن سياقنا الأفريقي وهذا هو محط عنايتي في عملي بالكتابة والبحث والتدريس في المنطق والفلسفة الإسلامية.

هناك أيضاً التقاء بين الفلسفتين من جهة الترجمة. فأسلمة أفريقيا يعني أن هناك الكثير من المفاهيم اللغوية جاءت من الإسلام لأن الأسلمة تضمنت نوعا من التهجين. دعيني اعطيكِ مثالاً، كتب فيلسوف كيني وهو قسيس كيني أنجيليكاني فصلاً جدلياً في كتابه عن مفهوم الوقت الأفريقي ونظر فيه نحو الفروقات بين مفهومي الوقت الأفريقي والأوربي.

لقد صوّر في هذا الكتاب افتقاد مفهوم الوقت الأفريقي لتصورات استباقية للوقت لاستيعاب مفاهيم تجريدية كحساب الخصوبة مثلاً واقتصاره على المفاهيم المحسوسة، على عكس المفهوم الأوربي للوقت والذي يمكن له استيعاب مفاهيم رياضية منطقية أكثر تجريداً. هذا الفهم الماهوي لا يبدو لي معقولاً، ولكن ما يدعو للتفكر في ادعائه هو انه يقوم بشرح ما يدعوه بمفهوم الوقت الأفريقي من خلال الكلمتين الرئيستين اللتين يتم الإشارة بهما إلى الوقت في اللغة السواحلية وهما “زماني”، وتشير بشكل رئيسي للماضي، و”ساسا” للحاضر، وقد غاب عنه أن هاتين الكلمتين في مسارهما الجينالوجي وجذريهما الاشتقاقي هما عربيتان. فـ”زماني” مشتقة من زمان و”ساسا” مشتقة من ساعة ولهما مرادفتان في لغتي المحلية. ولذا فإن الإلمام بمصادر هذه المفاهيم لغويا من ناحية فقه اللغة هو أمر في غاية الأهمية من أجل توظيفهم الفلسفي في مقاربات أخرى غير متصلة بالضرورة بالأسلمة.

س: بالحديث عن الترجمة، أنت في كتبك ترى في الترجمة لمسة أخلاقية وعلامة على الضيافة، هل بإمكانك الحديث مزيداً عن هذا الارتباط بين الترجمة من جهة والأخلاق والضيافة من جهة أخرى؟

سليمان بشير ديان: نعم بالتأكيد، خاصة بأن حديثنا هذا يتفق مع اقتراب إطلاق كتابي والمعنون بالفرنسية من لغة إلى لغة: الترجمة كفعل ضيافة. ما أقوم به عبر هذا الكتاب هو تحديداً النظر إلى المعنى الأخلاقي خلف الترجمة. نحن نعيش في عالم متحزب. لغتنا نفسها هي متحزبة من كلا الطرفين. فنجد من جهة الغرب المنغمس في ذاته ظهور نظريات لا معقولة مثل نظرية “الاستبدال العظيم” ومن جهتنا نحن في “بلدان الجنوب” نتحدث عن نزع الاستعمار عن كل شيء في الفلسفة والعلوم كما لو أننا نريد اختراع أبستمولوجية منفصلة خاصة بنا. إن فكرة التواصل عبر الحدود تأخذ بالاختفاء في هذه الأجواء التحزبية، لكن الترجمة تقوم بهذا التواصل لأنها تنطلق من هذا التنوع اللغوي.

فالترجمة هي “لغة اللغات” الوحيدة، أي ان الترجمة هي بالتحديد ما يجعل تجربة في لغة ما قابلة للمشاركة في لغة أخرى. إن عمل الترجمة، أو “مهمة المترجم”، لاستخدام عنوان والتر بنيامين، هو ذلك بالضبط: أن تقول إن لا شيء ضمن حيز الفعل الإنساني غير قابل للنقل.

الترجمة تفعل ذلك بالتحديد. فرغم كل المشاق والتحديات في الترجمة، يجد المترجم طرقا ربما مباشرة او غير مباشرة لتجاوز تلك المشاكل في الترجمة وحلها. لدينا إذاً هذه القابلية لمد تلك الجسور بين التجارب المختلفة من خلال الترجمة وهذا ما أدعوه بالمعنى الأخلاقي للترجمة. توجد حكمة خلف ذلك: حكمة القول إنه رغم طبيعتنا التي تأبى إلا أن تتحزب إلى جماعاتها فإن لدينا مسؤولية من مواقعنا تلك ضمن جماعاتنا لأن نصنع عيشاً بشرياً مشتركاً، والترجمة هي بالتأكيد إحدى أدوات تلك المسؤولية، لأنها تأخذني خارج موقعي وتجربتي اللاتواصلية نحو ما هو في عمقه فعل تواصلي.

يوجد في عالمنا اليوم مدرستان في الترجمة، إحداهما تتخذ مقاربة تشاؤمية للترجمة كفعل يعزز من التسلطية إذا ما نُظر إليها جدياً. بالطبع هذه مقاربة مفهومة إذا ما اعتبرنا سياسة اجتماعيات الترجمة وسألنا: ما الذي يحظى بالترجمة؟ ماهي اللغة الأكثر ترجمة؟ حينها علينا أن نقر بوجود تراتبية هرمية للغات وسياسات تسلطية في الترجمة. لكن حين تُقارب الترجمة من خلال الأسئلة الأخلاقية من قبيل: ماذا يعني لي أن أحتفي بفكرة تشكلت بدءاً في لغة أخرى مختلفة عن لغتي؟ ما لذي يعنيه أن أحاول أن أنقل تجربة في لغة أخرى وأجعلها قابلة للتجربة لمن يتحدثون بلغتي؟ تكمن أهمية فلسفة الترجمة لدي في هذه اللمسة من الايمان في التواصل والإيمان بالجسور والمشترك البشري.

ولذلك فأنا أتفق مع الفيلسوف الكيني نجوجي واتشينغو، والذي يعرّف نفسه كمناهض للاستعمار، بعباراته الموفقة في كتابه نزع الاستعمار عن العقل بأن” الترجمة هي لغة اللغات”، وحرصت على اقتباسه في كتابي. نجوجي إذاً، وهو الذي قرر أن يتوقف عن الكتابة بالإنجليزية، لغة السيد المستعمر، واقتصر على الكتابة بلغته الكيكويو، رفض لغة المستعمر ولكنه في الوقت عينه يدعو لترجمة كتاباته من خلال لغة اللغات كما يسميها، تأكيداً على دور الترجمة في نزع سطوة لغة معينة على سائر اللغات.

س/حديثك يتضمن افتراضات كونية، ولكنك ترفض أي رؤية مبسطة للكونية، إنما تؤمن بما تدعوه بالكونية الأفقية، ماذا تعني بذلك؟

سليمان بشير ديان: أنا سعيد أننا نأخذ هذا المنحى في الحديث، لأن الترجمة بالتحديد هي أفضل تجسيد للكونية الأفقية. أنا هنا استعير المفهوم من الفيلسوف الفرنسي المتخصص بالفينومينولوجيا، مورلو بونتي، حيث يقول إن علينا في هذه اللحظة من موجة نزع الكولونيالية أن نفكر بشكل مضاد لما يدعوه بكونية عمودية مهيمنة تجسد فيها القوى الكبرى مثل أوروبا الصورة الكونية وتدّعي تعليمها للمفاهيم الكونية لبقية العالم. تجد ذلك في أعمال الفلاسفة مثل لافيناس الذي يصور أوروبا كمُختارة لتجسيد الصورة الكونية وهذا ما يُعبر عنه بونتي بعمودية الكونية الأوروبية. بالنسبة إلى بونتي، فإن الطريق إلى الكونية الأفقية هو عبر الإقرار بأن لا ثقافة تعلو على الأخرى، ولكن كل الثقافات تتواجد جميعها على مستوى واحد وتتواصل مع بعضها بشكل أفقي وليس من مواقع بعضها العليا أو الدنيا. قد يبدو هذا تجريدياً، ولكن الترجمة كتواصل بين اللغات هي نموذج تجسيدي لهذا التواصل الأفقي ومهمة المترجم هي أن يحيك هذا التواصل بشكله الأفقي.

أنا إذاً لا زلت أؤمن بالكونية، ولكن كونية أفقية تنطلق من ثقافاتنا جميعاً. نحن بغاية الحاجة لذلك في عالمنا اليوم ونحن نواجه مسألتين رئيستين تتطلب منا فهم انسانيتنا المشتركة وهما مسألة البيئة والأمراض، خاصة مرض جائحة كوفيد. هذه المسائل تتطلب إجابات كونية. أي نوع من الكونية؟ كونية أفقية. لا أحد سيخبرنا “أنا الكون! وهذا ما ينبغي فعله”. بل كل الأصوات ضرورية في هذه المسائل، وكل الأصوات محسوبة. فيما يتعلق بالبيئة مثلا، فإن دمرتُ غابة في بلدي مثلاً، فأنا أضر البشرية جمعاء، وفي أمثلة كهذه يتضح جلياً مفهوم الكونية الأفقية.

س: سبق وذكرت لك أننا في “حكمة” نترجم الفلسفة غالبا من مصادر انجليزية. هذا الحديث حول أفكارك عن ترجمة الفلسفة يجعلني أفكر بأن علينا النظر إلى لغات مختلفة كذلك بالرغم من صعوبة توفر المترجمين. هل لديك أي نصائح حول ترجمة الفلسفة في موقعنا؟

سليمان بشير ديان: أظن بأن لغات كثيرة عليها ان تكون حاضرة في موقعكم، على الأقل في بعض المواضيع. يوجد ما يدعوه فيلسوف الترجمة انتوان بيرمان “امتحان الأجنبي”، لأن الترجمة هي امتحان للحجة الفلسفية نفسها. ذلك لأن أي حجة فلسفية، بطريقة صياغتها، ناهيك عن نسقها، مرتبطة باللغة التي صيغت عبرها. من المهم إذاً أن نخضع بعض الحجج للترجمة لامتحان مدى ارتباطها باللغة التي صُيغت بها أو كونيتها.

أنا كثيراً ما أعود في تأملاتي في الفلسفة الإسلامية إلى قصة المواجهة المشهورة بين النحوي أبو سعيد السيرافي والفيلسوف أبو بشر متّى بن يونس في بلاط الوزير ابن الفرات حول كونية المنطق. يجادل السيرافي الفلاسفة في هذه المحاجة بقوله إنكم أنتم معاشر الفلاسفة مشغولون بأرسطو وترجمة لغته إلى لغة القرآن، ولكي تتمكنوا من ذلك فأنكم تتلاعبون باللغة والقواعد في حين أن المنطق الأرسطي، أو ما يُدعى بقواعد التفكير الكونية، هي قواعد لغة أرسطو اليونانية. لكن المنطق يحتمل أن يُصاغ عبر لغات دارسيه. رغم قسوة السيرافي في تلك المواجهة، ورغم رغبتنا أن يكون مخطئاً، إلا أن حديثه يحتوي على بعض الصواب. لما لا نقول إنه يمكننا اختبار كونية منطق أرسطو من خلال ترجمته؟ فالشكل الأيقوني لكل البراهين المنطقية الأرسطية هو (س هو ب)، أي أن المبتدأ (الموضوع) هو الخبر. إذاً فاللبنة الأساسية لتفكيرنا ضمن هذه الفلسفة هي إسناد الخبر للمبتدأ من خلال فعل رابط (to be) والذي يمتلك مكانة أنطولوجية خاصة.

لكن ما الذي يحدث عند انعدام هذه الرابطة في لغات مختلفة. عليك إذاً أن تراوح مكانك وتنتقل مرارا وتكراراً بين اللغات لحل هذه المشكلة. إذا كنت تترجم ضمن نفس شجرة اللغات الهندو-أوروبية فالمسألة مختلفة لأنك حينها لن تواجه مشاكل مماثلة بسبب وجود الفعل محل التساؤل في الإغريقية والفرنسية، ولكن ماذا عن اللغات البعيدة عنها من حيث التراكيب؟ هنا يصبح الأمر مدعاة للتفكير. وهذا مصداقاً لقول بيرمان، بأن على فيلسوف الترجمة أن يعرف العديد من الطرق بالعديد من اللغات للتعبير عن كلمة “ترجمة”. لعله من الجيد إذاً أن تترجموا مواضيعاً من عدة لغات تتحدث عن الترجمة في مجلتكم.

انا قمت بفعل ذلك في أحد كتبي حيث ترجمت مواضيع عن الترجمة من لغتي الولوفل. إن كلمة الترجمة نفسها في اللاتينية تعني “أن تحمل عبر” ويمكنك أن تكمل الجملة بما شئت، كأخذ المعنى من لغة ونقلها لمعنى آخر. أما مرادف “ترجمة” في اللغة الولوفية (لغة الأغلبية في السنغال) هو فك الارتباط، كما لو أنك تحرر المعنى من لغة معينة حين تترجمه للغة أخرى. تبقى كل التعابير المستخدمة للترجمة في اللغات المختلفة شائقة ومن الجيد استكشافها.

س: إن طرحك يحتفي بالترجمة كفعل إيجابي يتجاوز مجرد النقل، فالمترجم هنا لا يقوم فقط بنقل الفكرة، ولكنه يفك ارتباطها ويختبرها كذلك.

سليمان بشير ديان: نعم صحيح، وهذا يذكرني بما قرأت مؤخراً حول المطالبة بأن يتم تقدير المترجم ووضع اسمه على غلاف الكتب بقرب اسم الكاتب عوضا عن الهامش، لأنه فاعل إيجابي على عكس التصور العام حول فعل ترجمة الفلسفة الإغريقية في الفلسفة الإسلامية.

س: شكراً لك على وقتك وسعدنا كثيراً في حكمة بالحديث معك.

ج: أنا سعيد بذلك أيضاً، شكراً لكم.

نيويورك، ٢٠٢٢