مجلة حكمة
اللاهوت السياسي في الاسلام

الفارابي وتأسيس اللاهوت السياسي في الإسلام

الكاتبماسيمو كامبيني
ترجمةنور الدين علوش

أسس كارل شميت -الفيلسوف الألماني- حقلا دراسيا جديدا، اسماه اللاهوت السياسي سنة [1]1920. حيث أن اللاهوت السياسي يؤكد على ارتباط المفاهيم السياسية بالمفاهيم اللاهوتية، كما أن تلك المفاهيم السياسية مشتقة من اللاهوت.

كما يقول جيوفاني فيلورامو Giovanni Filoramo:

"اللاهوت السياسي دراسة سياسية وتاريخية، للطريقة التي تتوافق بها المفاهيم اللاهوتية والتمثلات الإلهية، لاسيما في التقليد الديني مع أشكال وديناميات بنية معينة  للسلطة والسلطة السياسية. كل هذا له معنيين أساسيين: 
أولا: الطريقة التي تنعكس فيها البنيات السياسية في المفاهيم اللاهوتية. وبالعكس الطريقة التي يجب أن تتشكل فيها المفاهيم اللاهوتية من اجل توفير تمثلات مناسبة للألوهية والسيادة. العنصر الذي يتوسط بين هذه الاتجاهات هو المجتمع الديني الذي هو في نفس الوقت الموضوع المميز للاهوت السياسي[2].

تعريف آخر للاهوت السياسي:

"يجب التمييز بين مظهرين للاهوت السياسي: واحد يفحص الآثار اللاهوتية للسياسة،  والثاني يفحص الآثار السياسية للاهوت. [3]

في تركيزي على فكر الفارابي، هدفي في هذا الفصل هو دراسة العلاقة بين الدين والسياسة. سنرى أن التعريفات المشار إليها سابقا تنطبق على فكر الفارابي. إضافة إلى ذلك أن الباحث فيلورامو filoramo أشار إلى أن المدينة الفاضلة هي المجتمع الديني. لكن قبل أن نبدأ بدراسة معمقة لهذه المسألة، لابد من تدقيق العلاقة بين اللاهوت السياسي والإسلام. لهذا سأرجع الى تحليل متميز لميشيل نيكولتي:”ميز نيكولتي بين خمس أبعاد للاهوت السياسي. [4] البعد الأول هو أن اللاهوت السياسي كشرعنة لاهوتية للنظام السياسي.

كما يوضح نيكولتي: “ليس هناك شك، إذا فهم اللاهوت السياسي كلاهوت مدني، اي كتأكيد على قداسة القوة السياسية وتمثلاتها، وإذا كان موجها للنظام السياسي لتحقيق مملكة السماء.  اذ ذاك يتبين عدم التوافق بين المسيحية واللاهوت المدني بكل سهولة. يكشف سر الله في المسيح المجسد لابن الله فقط هو لا غير. أي تمثيل للإله عبر أشخاص أو مؤسسات غير مستمد من الوحي هو عبادة أصنام لأنه يؤله الحقائق الدنيوية. وهذا يعني أن المسيحية وخاصة مذهب الثتليت تمنع إمكانية استنباط تنظيم سياسي محدد مباشرة من اللاهوت. [5]

اعتقد في توافق مع هذه المقدمات، بان إذا كانت المسيحية لا يمكن اختزالها في لاهوت سياسي كشرعنة لنظام سياسي خاص. فلا يمكن أن يكون الإسلام كذلك. بالنسبة للإسلام على الأقل الإسلام السني ليس هناك تمثيل أو تجسيد الاهي في الأشياء الإنسانية أو المؤسسات السياسية مسموح به. في النظرية السياسية السنية يمثل الخليفة نائبا للنبي وليس لله. ولو كان بعض الخلفاء العباسيين والعثمانيين يعتبرون أنفسهم ظلال الله على الأرض.

لا يمكن أن نستنبط من القران أو السنة أي نظام سياسي ولا حتى الدولة الإسلامية المفترضة، تبقى فكرة الدولة الإسلامية غامضة.  ربما يمكننا القول بان الدولة الإسلامية لم تكن موجودة حتى. مع ذلك، فالله هو مصدر القوة في الإسلام، وليس النظام السياسي المجسد لمملكة الله على الأرض، باستثناء العصر الذهبي لنظام محمد (ص) في المدينة المنورة. أما الثيوقراطية فنضعها جانبا بسبب أن الحكام والملوك الذين يرجعون إلى الله أو الشريعة لشرعنة نظامهم لم يحكموا بطاعة الشريعة ولم يمارس علماء الدين أي تأثير على السلطة السياسية. [6]

على الأقل إذا كان اللاهوت السياسي هو نوع من السياسة التي ترجع إلى الله حتى تحقق أهدافها، واذا كان مفهوم الله باعتباره المشرع الأعلى هو شكل من اللاهوت السياسي، . بالتأكيد له لاهوته السياسي الخاص به. من جهة أخرى كل ملوكه يطلبون شرعية لحكمهم من الدين، ومن جهة أخرى يبقى المصدر الرئيسي للتشريع والسلطة.

يجب إبراز مظهر أخر في العلاقة بين النظام السياسي والدين. في مدينة الله لـ أوغسطين القوة المدنية والمدينة الأرضية هي حصيلة الأخطاء والذنوب. هذا يستدعي نوع من الازدواجية غير معروفة في الإسلام، مع ذلك مثل هذه الازدواجية تفترض أن القوة شريرة في ذاتها. والكثير من الباحثين يعانون من هذه النتيجة. في الجانب الأخر اعتبار السلطة شريرة يستدعي موقفا عدميا: اذ كانت كل السلطة الأرضية غير شرعية، إذن لابد من التخلي عن السياسة بالكامل. هذه النتيجة المتناقضة واضحة لدى كارل شميت:” حينما علق على قول يعقوب بوكارت:” القوة شريرة في ذاتها، ألان يؤكد شميت على أن هذا القول يتضمن أكثر من الإلحاد والعدمية من ما نجده في نظرية فوضوية لبوكانين، حتى مما قصده نيتشه بموت الإله.

بالنسبة لجان اسمان يبدأ شميت بمبدأ بولين Paulin:” ليست هناك سلطة لكن من الله”. اذا فكر الإنسان في أن القوة شريرة فهو أو هي تعترف ضمنا بعدم وجود الإله. [7]

بالتناقض مع هذه الثنائية بين المدن السماوية والأرضية. بهذا القول يمكن ان نعتبر أوغسطين واضع أسس الإلحاد بطريقة لاواعية. الموقف الإسلامي بالكامل يتضافر مع هذا أساس بسبب أن الإسلام ليس فيه ثنائية بين السلطة والدين. خلاصة:اللاهوت السياسي في الفكر الغربي والمسحي هو سلبي، السلطة شريرة ومن ثم تنفي وجود حقيقي لله، أما اللاهوت السياسي في الإسلام فهو ايجابي: السلطة موجودة لمصلحة الله يمكن إثبات وجود الله [8]. هذا الطابع الايجابي أظهره محمد ص الذي هاجر من مكة إلى المدينة المنورة لتأسيس نظام سياسي وروحي للأمة الإسلامية. أصبحت المدينة خاضعة إلى الله -المعنى الحقيقي للإسلام- العادل والحق. إن الله لا يأمر بالفحشاء. . قل أمر ربي بالقسط واقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين َ ()قران (29، 28، 7).

هذا هو الهدف الأخير للراديكالية الإسلامية، حينما يؤكدون على أن الحكم لله وحده. ابن خلدون (ت 160) يقول:” السياسة وضعها الله من اجل المصلحة العامة. هناك منظرين مثل الماوردي (ت )1058) يستعمل كل مهاراته لتعزيز المؤسسات المرغوبة من الله:” الإمامة هي موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا[9]:”. المفكرون الراديكاليون الحديثون مثل سيد قطب (ت 1966)حاولوا أن يرجعوا إلى ماكان منسيا: ترك الجاهلية والاتجاه نحو الدين الحقيقي. يوصي الله:

"اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين:"( قران 6-7)

الرسالة الإسلامية هي نشيطة في الجوهر خصوصا في السياسة. في تحليل نيكولتي المظهر الثاني للاهوت السياسي هو التأمل اللاهوتي حول السياسية. :” هذا معنى ألاهوت السلبي في كتاب جاك ماتينيان “الإنسانية الكاملة”: العبارة ترجع الى السياسة باعتبارها موضوع دنيوي تبدأ من محتوى ديني:” اعتبار السياسة هي موضوع دنيوي مشتق من الوحي هو مرة أخرى في سياق ثنائية أوغسطين وليس لها معنى في الإسلام. فيلسوف مثل الفارابي كما سنرى في أسفل النص عكس المنظور: الدين هو شيء مقدس من منظور سياسي. مع ذلك إذا كان اللاهوت السياسي هو طريق إثبات إرادة الله، في شكل نظام سياسي فتقدم الفكر السياسي الإسلامي من الماوردي أو ابن تيمية هو مرحلة في هذا الاتجاه. فاللاهوت السياسي باعتباره لاهوتا تأويليا في زمننا المعاصر، هو غير معروف في الفكر الإسلامي.

بالأحرى، يمكننا ان نكتشف اللاهوت السياسي في الإسلام. باعتباره تماثل بنيوي بين المفاهيم اللاهوتية والفقهية في تطابق مع حجة كارل شميت بان المفاهيم السياسية هي مشتقة من المفاهيم اللاهوتية. فالبعد الفقهي أساسي في الإسلام. يحتل الفقه مكانة أساسية في الإسلام والدين هو أكثر من اللاهوت يتبلور أساسا في الفقه. وعلى العكس الخطاب السياسي الإسلامي دائما يرجع إلى المجاز والاستعارات المشتقة من الدين . هذا لا يعني ان اللاهوت السياسي الإسلامي هو تأويل سياسي حتى ولو كشف في ضوء تأويلية السياسة هو عنصر متعالي داخل نفس السياسة. بالنسبة لي ان غير متأكد أن هذا النزاع قد اثبت تاريخيا في التاريخ الإسلامي. في حين أن تدبير السلطة السياسة كان دائما مفصولا عن الدين والمؤسسات الدينية، مع ذلك كانت التحالفات موجودة بين الحكام والعلماء. [10]

مع ذلك، إذا أخذنا بعين الاعتبار التأسيس النظري، يمكننا ان يكون العكس هو الصحيح، خصوصا ان السياسية لها بعد متعالي. إذن يظهر ان مفهوم اللاهوت السياسي ثابت مع الإسلام، يبدو أن هناك تناقض هادئ في الإسلام، هو بطبيعته دين ودنيا. إذن اللاهوت السياسي يجب أن يكون غريبا عنه مع ايدولوجيا أخرى. لكن الإسلام يجب ان يكون سياسيا من وجهة نظر الدين.  إذا كان صحيح أن الإسلام حكم ديني ؟ الحكم الديني في الإسلام ليس بموضوع هنا. بالأحرى من المهم أن نؤكد أن موضوع اللاهوت السياسي (في منظور شميت او بترسون) تم نسيانه إلى حد كبير من مفكري الإسلام. في رأيي واحد من الأسباب الرئيسية لهذا التجاهل هو أن الإسلام لا يتقاسم مع المسيحية المخيال الاسطوري نفسه، فقط في المسيحية يمكننا الحديث حول المسيحية السياسية.

يمكن للرموز لاهوتية الفكر المسيحي من ان يصبح لاهوتا سياسي، في حين ان مفهوم اللاهوت في الإسلام هو غامض ومفهوم اللاهوت السياسي حتى هو. من جهة أخرى هو صحيح أن الإسلام نشأ من أهم المفاهيم اللاهوت السياسي هو مفهوم سيادة الله: الله هو الرب وملك الكون. بإعطاء هذه المقدمات أساس البحث داخل اللاهوت السياسي الذي أركز عليه هنا. فيما يتعلق بالفارابي هو أساسي في نقطتين:

  • أ- تحقيق شرعية لاهوتية للنظام السياسي.
  • ب- تحديد كيف يصف الله نظام سياسي عبر الشريعة [11].

في هذا الفصل أؤكد ان فكر الفارابي يمكن أن يفهم أفضل في ضوء اللاهوت السياسي من حيث أن أسئلة الدين السياسة والفلسفة مرتبطة. يمكن اعتبار الفارابي أول رائد للاهوت السياسي في الإسلام. من الواضح انه لم يشكل نظرية واضحة حول هذه القضية المعاصرة، مع ذلك فحص العلاقة بين الدين والسياسة، وحاول تأسيس مجال خاص في علاقتهم المتبادلة. هناك ثلاث مشاكل تظهر على السطح في ضوء اللاهوت السياسي:

  • أ- إلى أي حد تعتبر السياسة علم ديني، وبأي معنى اعتبارها امتداد للدين أو إلى أي حد الدين مشتق من السياسة.
  • ب- إلى أي حد العلم السياسي هو مفيد لفهم وممارسة الدين أو إلى اي حد هو شي مفيد لممارسة السياسة.
  • ج- إلى أي حد الدولة تحتاج إلى أن تحكم بالدين أوالى اي حد الدين يحتاج الدولة حتى يتجذر ويدافع عنه.

المهم أن تكون نقطة البداية هي السياسة وليس الدين. الصعوبة الرئيسية في دراسة فكر الفارابي هو مشكل ترتيب كتب الفارابي كرونولوجيا. على اي حال نجد في إحصاء العلوم الفصل الخامس تعريفا للعلم المدني:

"أما العلم المدني فانه يفحص عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية، وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم،  وعن الغايات التي لأجلها تفعل وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان. ويميز بين الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال وتستعمل السنن. ويبين أن منها ما هي في الحقيقة سعادة وان منها ما هي مظنون أنها سعادة من غير أن تكون كذلك. وان التي هي في الحقيقة سعادة لا يمكن ان تكون في هذه الحياة بل في حياة أخرى بعد هذه وهي الحياة الآخرة.  ويميز الأفعال والسنن، ويبين أن التي تنال بها ما هو في الحقيقة سعادة هي الخيرات والأمور الجميلة والفضائل، وان ما سواها هو الشرور والقبائح والنقائص وان وجه وجودها في الإنسان ان تكون الافعال والسنن الفاضلة موزعة في المدن والامم على ترتيب وتستعمل استعمالا مشتركا. "[12]

يمكن تحديد الأمور هكذا: الفضائل تؤدي الى أعمال إرادية جيدة هي تؤدي الى طرق الحياة وهي تؤدي بدورها الى غايات الاجتماعات السياسية. هذا المقطع من إحصاء العلوم يعرض موقفا ايجابيا:إمكانية تحقيق السعادة السياسية في المدن مرتبط بالعلم المدني وبتحقيق أعمال فاضلة وطرق فاضلة للحياة الآخرة عبر السعادة الاجتماعية،  السعادة القصوى بعد الحياة الدنيا. هذا المنظور من المحتمل انه مختلف عن تعليق الفارابي على اخلاق نيقوماخوس حيث أشار الى ان السعادة الممكنة هي السعادة الأرضية فقط.

الدين والعلوم الدينية تم تقديمها معا، لكن لم يعرفها جيدا في إحصاء العلوم. يعالج الفارابي هذا الأمر في الفصل الخامس داخل العلم المدني والفقه، لكن بدون اقامة ترابط متبادل أو علاقة تراتبية بينهم. في هذا النقاش لم يقم الفارابي بربط مباشر بين الفلسفة والدين، من المعروف انه احيانا يخضع الدين للفلسفة. على أساس ان الفلسفة هي الطريق الوحيد للحقيقة والمعرفة. في حين ان الدين هو مجرد نسخة للحقيقة الفلسفية. مع ذلك يؤكد الفارابي ان أساس الدين هو الفلسفة. هل هذا يعني أن الدين هو نسخة فقط من الحقيقة الفلسفية ؟ اذن اذا كان العلم الديني يجب ان يكون فقط ارتباط بين المعرفة الفلسفية والممارسة الفقهية بدون اهمية حقيقية له، يمكننا الرجوع إلى المقطع الوحيد لتحصيل السعادة:

"متى حصلت الأشياء النظرية التي تبرهنت في العلوم النظرية مخيلة في نفوس الجمهور واوقع التصديق اما تخيل منها وحصلت الأشياء العملية بشرائطها التي بها وجودها ممكنة في نفوسهم واستولت عليها وصارت عزائمهم لاتنهضهم نحو فعل شيء اخر غيرها. فقد حصلت الأشياء النظرية والعملية تلك وهذه بأعيانها اذاكانت في نفس واضع النواميس فهي فلسفة واذا كانت في نفوس الجماهير فهي ملة،  وذلك ان الذي يبين هذه في علم واضع النواميس بصورة يقينية والتي تمكن في نفوس الجمهور متخيل واقناع. "[13]

 هذه الحجة متضمنة في التعريف الثاني للعلم المدني في تحصيل السعادة:

"ثم بعد ذلك يشرع في العلم الإنساني ويفحص عن الغرض الذي لأجله كون الإنسان وهو الكمال الذي يلزم ان يبلغه الإنسان، ما ذا وكيف هو ثم يفحص جميع الأشياء التي بها يبلغ الإنسان ذلك الكمال. اذ ينتفع في بلوغها ويعرف ما ذا وكيف كل واحد منها وعن ماذا ولماذا ولأجل ما ذا هو الى ان تحصل كلها معلومة ومعقولة متميزة بعضها عن بعض. وهذا هو العلم المدني وهو علم الأشياء التي بها اهل المدن بالاجتماع المدني ينال السعادة كل واحد بمقدار ما له اعد بالفطرة". [14]

العلم المدني هو بحث داخل هذه المبادئ العقلية التي تقود الإنسان، باعتباره حيوان سياسي متعاون لتحقيق السعادة. مرت سنوات على تعليق متري النجار على هذا المقطع، حيث يؤكد على انه اذا كان العلم المدني يحدد ماهي السعادة الحقيقية،  واذا كانت هذه الأخيرة تعتمد على معرفة المبادئ المفارقة الله والملائكة. من الواضح أن العلم المدني متعلق بالحجج الإلهية. بالتالي لا يمكن الفصل بين الدين والسياسة. هذا يمكننا جزئيا شرح لماذا ناقش الفارابي العلوم الدينية باعتبارها ملحقات للعلم المدني. الأمر خطير اعتبار ان العلم المدني المعرف او فهمه بذلك يستولي على وظيفة الميتافيزيقا أو اللاهوت. [15]

فالانتقال من السياسة إلى الدين هو موقف طبيعي في الحقيقة. لان السعادة الحقيقية والفضية تستلهم من الفلسفة. فالأهمية الكبرى تعطى للفلسفة من حيث ان العلم المدني جزء منها. يجعل الدين في مرتبة أدنى. هذا ما نقراه في تحصيل السعادة: كيف ان الفارابي ناقش السياسة بمصطلحات إسلامية والإسلام بمصطلحات سياسية. هكذا يمكننا أن نصيغ إشكالنا بطريقة اخرى، هل الفلسفة اليونانية التي عبر بها الفارابي بمصطلحات إسلامية أوان الإسلام فهم بمصطلحات الفلسفة السياسية اليونانية ؟

يؤكد الباحث سلفادور كوميز مرة أخرى أن:السياسة عند الفارابي هي العلم الديني الوحيد لان:

"السياسة علم مفارق، هذا ما يجب الإشارة إليه في الأخير مع الميتافيزيقا واللاهوت المكونان له، فهي تحتوي على كل الخصائص لوحي الاهي. هذا ما نجده حاضرا في معاني النبوة، من حيث ان السياسة هي اللاهوت الوحيد والعلم الديني الاصيل. "[16]

انا متفق مع هذه المقدمة، لكن رأيي مختلف تماما عن نتائج سلفادور كوميز. صحيح ان السياسة هي العلم الديني الوحيد. هل هذا يعني ان السياسة هي علم ديني أو وان الدين يجد أساسه النظري في السياسة ؟

إذا صغنا الإشكال هكذا: الدين هو عنصر من السياسة. ان السياسة تأخذ شرعيتها من الدين لدينا صياغة واضحة بان الاستلزام المزدوج للاهوت السياسي.

 ألان سأحاول الإجابة على هذا الإشكال عبر تحليل كتاب الملة. نبدأ أولا بالرجوع إلى كتاب تحصيل السعادة. في هذا الكتاب يعزو الفارابي إلى الفلسفة مهمة تأسيس المجتمع، والحكومة المدنية. والاعتراف ان الحقائق النظرية والعقلية تتحطم، عندما نقدمها للجمهور. فالفلسفة في نفس المشرع والملة في نفوس الجمهور. وفقا لدانييل فرانك يؤكد الفارابي على هرطقته، حينما يعتبر ان الملة هي نسخة لفلسفة صالحة فقط لغير المتفلسفة حسب التأويل الاستراوسي [17].

فهذه التأويلات جامدة على الأقل، بسب ان خطاب الفارابي وحججه ليست ثابتة ما أضافه فرانك اعتقد ان الموقف الفلسفي الحقيقي للفارابي في المقطع 56 (مهدي 55) لتحصيل السعادة يوجهنا بالكامل نحو تمييز رشدي بين الفلسفة والدين:

“اذا كان كل تعليم فهو يلتئم بشيئين: بتفهيم ذلك الشيء الذي يتعلم وإقامة معناه في النفس ثم بإيقاع التصديق بما فهم وأقيم معناه في النفس وتفهيم الشيء على ضربين احدهما ان تعقل ذاته والثاني بان يتخيل مثاله الذي يحاكيه وإيقاع التصديق يكون احد طريقين: إما بطريق البرهان اليقيني وإما بطريق الإقناع، ومتى حصل علم الموجودات او تعلمت فان عقلت معانيها أنفسها وأوقع التصديق بها عن البراهين اليقينية كان العلم المشتمل على تلك المعلومات فلسفة ومتى علمت بأنها تخيلت بمثالاتها التي تحاكيها وحصل التصديق بما خيل منها عن الطرق الاقناعية فإن المشتمل على تلك المعلومات يسميه القدماء ملة واذا أخذت تلك المعلومات نفسها واستعمل فيها الطرق الاقناعية سميت الملكة المشتملة عليها الفلسفة الذائعة المشهورة والبرانية.

فالملة محاكية للفلسفة عندهم وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها. وكلتاهما تعطيان المبادئ القصوى للموجودات فانهما تعطيان علم المبدأ الأول والسبب الأول للموجودات وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان وهي السعادة القصوى. [18]

ألان انأ متأكد أن حجة الفارابي لا تستند على حكم قيمة عدم أهمية الدين أو إخضاع الدين للفلسفة. يؤكد الفارابي كما فعل ابن رشد فيما بعد ان للفلسفة والدين طرق موازية ومناهج شرعية للحقيقة. مع ذلك من الناحية المعرفية تبقى الفلسفة أكثر إقناعا من الدين، بسبب أنها تعتمد على براهين اقناعية. كما نجد عند ابن رشد الحقيقة واحدة. لكن طرق التعبير عنها تختلف. هكذا اذا تفحصنا المقطع 61 من تحصيل السعادة: نفهم أن الفلسفة والدين شي واحد، لكن يختلفان في طرق التعبير.

"هذه بأعيانها إذا كانت في نفس واضع النواميس فهي فلسفة وإذا كانت في نفوس الجمهور فهي ملة وذلك ان الذي يبين هذه في علم واضع النواميس بصيرة يقينية والتي تمكن في نفوس الجماهيرمتخيل وإقناع.  وعلى أن واضع النواميس يتخيل أيضا هذه الأشياء وليست المتخيلات له بل يقينية له. وهو الذي اخترع المتخيلات والمقنعات لا ليمكن بها تلك الأشياء في نفسه على أنها ملكة له إنما على انها متخيل وإقناع لغيره ويقين له وعلى أنها ملة وله هو فلسفة ". [19]

فالنص واضح حتى مع ترجمة محسن مهدي المتحيز لاسترواس. يعترف بالتناسب الكامل بين الفلسفة والدين. هذا الأخير يعتمد على التخييل والإقناع، أما الفلسفة فتعتمد على اليقين والبرهان. نفس الرأي نجده في كتاب السياسة المدنية:” الذين يؤمون السعاة متصورة ويتقبلون المبادئ وهي متصورة هم الحكماء والذين توجد هذه الاشياء في نفوسهم متخيلة ويتقبلونها ويؤمونها على أنها كذلك هم المؤمنون “. [20]

للوهلة الأولى يظهران الفارابي يؤكد خضوع الدين للملة مع أني اعتقد بالعكس

تحتل الفلسفة والدين عند ابن رشد مستويات معرفية مختلفة، لكن محتوياتها متطابقة. تتأمل الفلسفة المبادئ عبر العقل، في حين ان الدين يتأملها عبر المحاكاة. أما المبادئ فتبقى نفسها لا تتغير. لنأخد مقطع من المدينة الفاضلة الذي قارنه الكثير من الباحثين في تحليلهم للعلاقة بين الفلسفة والدين مع تحصيل السعادة ( أو كتاب الحروف )

"فحكماء المدينة الفاضلة هم الذين يعرفون هذه ببراهين وببصائره أنفسهم ومن يلي من الحكماء يعرفون هذه على ما هي عليه موجودة ببصائر الحكماء اتباعا لهم وتصديقا لهم وثقة بهم والباقون منهم يعرفونها بالمثالات التي تحاكيها لأنهم لاهيئة في أذهانهم لتفهيمها عل ما هي موجودة إما بالطبع وبما بالعادة وكلتاهما معرفتان". [21]

في هذا السياق لم يركز الفارابي على معنى الدين بالتقوى وحب الله، ولكن كرؤية مشتركة يتقاسمها سكان المدينة الفاضلة. بالإضافة إلى العناصر الدينية التي يحتوي عليها الدين هناك جوانب فلسفية. الهدف هو معرفة وجود الله. وصفاته بنية السماوات وتراتبيتها، حياة الحيوان، المعقولات الأولى والسياسة،  مصير الأنفس. هكذا يقترح الفارابي ان هناك عدة طرق أو مقاربات للحقيقة الفلسفية التي تشكل الحقيقة الدينية جزءا منها. التقوى الدينية التي يدافع عنها فقط لضرورتها في تناقض مع عدم الاعتقاد والنزعة الريبية كسكان المدن الضالة والفاسقة لا تشير إلى الإسلام بوضوح. بالنسبة للفا اربي يؤكد ان بإمكان كل الأديان ان تعيش في المدينة الفاضلة”. [22]

التقوى الدينية مهما كانت شعبية في ممارستها في علاقتها بالتقوى النظرية الكاملة للفلاسفة. بسبب ان الفلسفة هي وحدها المتعلقة بالله والمستوى النظري التأملي. في حين ان الدين المشترك يتعلق بالصحة الروحية للجمهور من هنا نجد ان الفارابي يصف رئيس مدينته الفاضلة بنفس الصفات:

"أن يكون حكيما وان يكون عالما حافظا للشرائع والسنن والسير التي دبرها الاولون للمدينة، وان يكون له جودة استنباط فيما لايحفظ عن السلف فيه شريعة وان يكون له جودة روية وقوة استنباط لما سبيله ان يعرف في وقت من الاوقات الحاضرة وان يكون له جودة إرشاد بالقول إلى شرائع الاولين والى التي استنبط بعدهم مما احتذى فيه حذوهم ". [23]

الان ان اذا كانت الفلسفة متعلقة بالله و الدين متعلقا بالمظاهر العملية للإنسان. يقدم العلم المدني الخلفية المشتركة بينهما. بالنسبة للعلم المدني يربط بين الفلسفة واللاهوت الممكن في موقف تفهمي منسجم. في المدينة الفاضلة العلم المدني مهارة مهمة لفهم القاعدة الميتافيزيقية للحقيقة السياسية. في المدينة الفاضة لهذا السبب الدين هو موضوع السياسة على اعتبار أن السياسة في ممارستها متربطة بالملة. هذا يوافق عليه في حقيقته ان العلم المدني هو الرابط بين الله والمجتمع الإنساني وهو الطريق إلى العارض المتعالي والمادي”. [24]

تشكل الفلسفة المفاهيم الحقيقية النظرية في الله، الكون الإنسان، والملة تستعمل هذه المقومات المفيدة في تجذير الهدف السياسي والاجتماعي. لتدبير المجتمع والدولة. هكذا فالدين هو حزام الأمان بين الفلسفة والسياسة. العلم المدني هو علم ديني أساسه فلسفي. في كتاب الملة النص الأكثر أهمية في مناقشة الفارابي للعلاقة بين الدين والعلم المدني بهذا المعنى يؤسس اللاهوت السياسي. محسن مهدي يقد م اقتراحا لهذا التأويل:

"ان فلسفة القرون الوسطى المدنية هي إلى أي حد بعيد فلسفة للدين، كما كانت الفلسفة المدنية القديمة فلسفة للمدينة ومثلما هي الفلسفة المدنية المعاصرة فلسفة للدولة. وفي الفصل الخامس من مصنف إحصاء العلوم يضع الفارابي الفلسفة المدنية للقدماء أي فلسفة أفلاطون بخاصة جنبا إلى جنب مع علم الفقه وعلم الكلام. وهو بهذه الطريقة يشير إلى مهمة الفلسفة المدنية غير المنجزة اي مهمة تطوير فلسفة للدين. وبهذا الخصوص فان موضوع مصنف كتاب الملة هو العلاقة بين الملة والفلسفة بصورة عامة والفلسفة المدنية بصورة خاصة. وهو مطابق للفصل الخامس من مصنف إحصاء العلوم الذي يردم الهوة التي تركها المصنف الأخير وهو يعرض فيه الملة كموضوع مركزي لعلم مدني جديد اي كموضوع يجبر الفلسفة المدنية على أن تعيد النظر في علاقتها بالفلسفة النظرية وان توسع إطارها كي يشمل الآراء في الأشياء النظرية علاوة على الآراء في الأشياء والأفعال العملية. "[25]

اعتقد أن تأكيدات محسن مهدي أحيانا قابلة للمناقشة. القول بان الفلسفة السياسية الوسيطة هي اولا فلسفة دين على ما يظهر، فهذا قول ينفرد به عن باقي الباحثين. مع ذلك هو صحيح بالنسبة للإسلام لا أرى كيف يمكن دعم أسلوب تأويلي مع مفكرين مثل جون سالبوري وبارطوليس ساكسوفراطو ومارسيلوس بادوا، مع ذلك تأكيدات محسن مهدي تحتاج إلى المناقشة. خاصة أن جوهر الفلسفة الإسلامية هو الفلسفة السياسية. [26]

فالفارابي هو فيلسوف سياسي،  لكن مواضيعه السياسية همشت لدى مفكرين مثل ابن سينا او الرازي، لكن فقط نجد ه لدى ابن رشد. فيما يتعلق بكتاب الملة من المهم مناقشة حجة مهدي الأساسية، إن الفلسفة السياسية تحتاج حتى تتطور فلسفة دين، إذن أصبح الدين هو الموضوع الرئيسي للفلسفة السياسية. هل هذا يعني أن السياسة هي علم ديني و ان الدين له بعد سياسي أساسي ؟

في كتاب الملة يؤكد الفارابي ان هناك درجات للدين. إذن بعض الأديان اكثر أو اقل كمالا من اخرى، الدين الفاضل مثل الفلسفة وقوانين الدين الفاضل تخضع لمبادئ الفلسفة العملية. ان البرهنة على القضايا النظرية للدين أساسه في الفلسفة النظرية:

" الفقيه في الآراء المقدرة في الملة ينبغي ان يكون قد علم ما علمه الفقيه في الأعمال. فالفقه في الأشياء العملية من الملة اذن إنما يشتمل على أشياء هي جزئيات الكليات التي يحتوي عليها المدني فهو اذن جزء من أجزاء العلم المدني وتحت الفلسفة العملية. والفقه في الأشياء العملية من الملة مشتمل اما على على جزئيات الكليات التي تحتوي عليها الفلسفة النظرية، وإما ما هي مثالات لاشياء تحت الفلسفة النظرية. فهو إذن جزء من الفلسفة النظرية وتحتها ". [27]

هل هذاواضح أو اقل وضوحا [28]خضوع الدين للفلسفة، لكن فقط على المستوى العملي للفعل وليس على المستوى النظري. السؤال ليس فلسفي، لكن اهتمام فقهي بالتدابير العملية للمدينة. يستعمل الفارابي كلمة الملة دائما وليس دين، ليشير بوضوح إلى ان الملة تؤكد على التنظيم السياسي والاجتماعي للدين. بالإضافة إلى التمييز بين الفلسفة والدين. يجب تبريره في ضوء المبدأ الشيعي الاسماعيلي التقية أو حتى اكثر اقناعا اعتباره حصيلة للتمييز مرة اخرى. للاسماعيلية بين الباطن الفلسفة والظاهر الدين التاريخي. هذا يتطلب دعم نص الفارابي كيفما كان. لن أناقش تشيع الفارابي هنا. وارتباطه بالاسماعيلية [29]

علينا التركيز أكثر على هذا النص. في بداية الكتاب نجد تعريفا دقيقا للدين الفاضل:

" الملة هي أراء[30] وأفعال مقدرة مقيدة بشرائط يرسمها للجميع رئيسهم الأول، يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضا له فيهم أو بهم محددا والرئيس الأول إن كان فاضلا وكانت رئاسته فاضلة في الحقيقة. فانه إنما يلتمس بما يرسم من ذلك ان ينال هو وكل من تحت رئاسته السعادة القصوى التي في الحقيقة سعادة وتكون تلك الملة ملة فاضلة ". [31]

في السياسة المدنية نجد أكثر أو اقل نفس المواضيع الملة هي مجموع الآراء المشتركة بين مواطني المدينة الفاضلة وغايتهم تحقيق السعادة. [32]

يمكن القول بان الدين هو قانون مؤسس من طرف النبي المشرع لشعبه. أولا الدين الإسلامي لكن لكل الأديان السماوية. الدين باعتباره قانونا يتفق مع فكرة الحكومة الصالحة ومع أهداف تحقيق السعادة للمواطنين. بسبب أن السعادة هي هدف الاجتماع السياسي والعلم المدني عامة. اعتقد بان كتاب الملة للفارابي يقدم تأويلا فقهيا، وسياسيا ويبرر استعماله لمصطلحات مثل ملة وشريعة يشير في مقطع من “الملة “:الملة تتضمن دين والمجتمع الديني كافة. والدين يتضمن بصفة خاصة الإسلام وهما مترادفان”. [33]

يعرف العلم المدني:

” العلم المدني يفحص أولا السعادة، ثم يفحص عن الأفعال والسير والأخلاق والشيم والملكات الإرادية حتى يستوفيها كلها وياتي عليها”. [34]

هدف ومحتوى الدين متفق تماما مع هدف ومحتوى العلم المدني. كلاهما السعادة غاية لهما. كلاهما يحتويان على أفعال فاضلة وإرادية مع ذلك محسن مهدي يؤكد في تحقيقه كتاب الملة ان الفارابي يوسع من مفهوم الملة بإدخاله المعقولات النظرية، بالإضافة الى المعقولات العملية، هكذا يمكن فهم كيف ان السياسة هي علم ديني وفقا لهذا كيف ان للدين بعد سياسي و لم يوقف الفارابي بحثه هنا ووسع سياقه  الى الفلسفة. بالنسبة للعلم المدني نقرا في كتاب الملة:”[35]

الان الشريعة هي قانون ألاهي جزء من الفلسفة العملية، والدين الفاضل هو جزء من الفلسفة بصفة عامة [36]. اذن اكتملت الدائرة فالفلسفة تقدم المشروع العام والنظري المؤطر للأبعاد العملية للدين والعلم المدني. في الخاتمة حاكم المدينة هو الفيلسوف الذي يمكنه أن يتشبه بالله. والمدينة الفاضلة التي تكلمنا عليها تجد في دينها الملاذ المشترك لمواطنيها. في توافق مع الله، الذي أسس الأحكام والقوانين الكونية، نجد الفيلسوف النبي في المدينة الفاضلة يؤسس القوانين لتدبير المدينة تحو الغاية والخير بواسطة العلم المدني. الغاية وخير المدينة هي السعادة التي هي نتيجة للحكم الحق. حتى نصل الى الهدف يجب عل مواطني المدينة الفاضلة الاشتراك في نفس الأفكار والآراء مثل أراء اهل المدينة الفاضلة. في ملة مشتركة كما يسميها الفارابي. الملة هي جزء من الفلسفة عبر العلم المدني. والفلسفة توظف الملة في تدبير المدن، هذا واضح في المقطع الأخير من كتاب الملة:

"وكما ان مدبر العالم اعطى العالم واجزائه مع الفطر والغرائز التي ركزها أشياء اخر يبقي ويستديم بها وجود العالم وأقسامه على ما فطرها عليه مددا طويلة جدا، كذلك ينبغي ان يفعل مدبر الأمة الفاضلة فانه ينبغي الا يقتصر على الهيئات والملكات الفاضلة التي يرسمها في نفوسهم ليأتلفوا ويرتبطوا ويتعاضدوا بالأفعال دون ان يعطي مع ذلك أشياء اخر يلتمس بها استبقائهم واستدامتهم على الفضائل والخيرات التي ركزها فيهم منذ أول الأمر. وبالجملة فانه ينبغي ان يتأسى بالله ويقتفي اثار تدبير مدبر العالم فيما أعطى أصناف الموجودات وفيما دبر به أمورها من الغرائز والفطر والهيئات الطبيعية التي جعلها وركزها فيها حتى تمت الخيرات الطبيعية . فيجعل هو أيضا في المدن والأمم نظارها من الصناعات والهيئات والملكات الإرادية حتى تتم له الخيرات الإرادية في كل واحدة من المدن والأمم،  ليصل لاجل ذلك جماعات الأمم والمدن إلى السعادة في هذه الحياة وفي الحياة الاخرة" [37]. 

حينما يصف الفاربي التماثل بين نظام الكون ونظام المدينة كلاهما يتضمنان تراتبية، الله على رأس الكون، والرئيس الأول على رأس المدينة الفاضلة. لكن الفارابي يقول في الفقرة الأخيرة من الكتاب[38]:

"ان الله يكشف القانون إلى الرئيس الأول اي النبي الملك، ليكشف عن القانون للإنسانية. الله هو الملك الحقيقي للمدينة. كما في الكون هنا نجد تطبيق كامل للاهوت السياسي. مع ان عرض الفارابي لهذا المرة ليس ثابتا، في كل مكان فلاهوته السياسي واضح يعمل على توضيح وجعل قيمة سياسية للملة محدودة في مشروع الفلسفة من جهة، والاعتراف بان الله هو حاكم المدينة من جهة أخرى. من هنا فالسياسة ليست لها قيمة دينية، بالأحرى الملة لها بعد سياسي. ليس عن طريق الحكم الالهي، لكن عبر رفع الأخلاق والايتقا إلى مستوى علماني للتدبير السياسي. لنجعل الموقف اكثر دقة كما يوضح ذلك سيمون في دراسته لموقف استراوس حول اللاهوت السياسي:" اللاهوت السياسي في جوهره رفض للفلسفة السياسة: الأول يستنبط من تعاليم سياسية متضمنة في الدين الالهي والثاني محاولة تعويض الآراء حول طبيعة الأشياء السياسية بالمعرفة الحقيقية لطبيعتها:"[39]

من الصعب وضع تمييز قاطع بين هذين البعدين للفارابي، لنكن متأكدين أن الفارابي هو لاهوتي سياسي، على أساس ان الملة هي أساس مشروعه السياسي. من جهة أخرى طور علما مدنيا كوسيلة لفهم طبيعة الأشياء السياسية. على اي حال اعتقد بان مفهوم اللاهوت السياسي عند الفارابي، يمثل رفضا لحجة استراوس ومحسن مهدي اللذين اعتبرا بان الدين هو نسخة من الحقيقة.  في حين أن الفلسفة هي وحدها من تمثل الحقيقة. مع ذلك فالملة قبلت على أنها جزء من الفلسفة عبر العلم المدني، فالملة تبقى طريقا للفلسفة النظرية،  التي تدبر القضايا النظرية للمدينة الفاضلة. ذلك بالرجوع إلى حجج إقناعية تقود الناس إلى الفضيلة والسعادة.

المصدر


المصادر والمراجع:

[1] كارل شميت، اللاهوت السياسي، ميونيخ لايبزيع 1922. كذلك اريك بيترسون، التوحيد كمشكلة سياسية، لايبزيع 1935، واريك فوغلين الأديان السياسية، فيينا 1938.

« 2 جيوفاني فيلورامو، ماهو الدين توران. 2004.

3جون اسمان، الحكم والخلاص في مصر القديمة وإسرائيل، ميونيخ 2000.

4ميشيل نيكولتي، السمو والقوة بريتشيا 1990.

5 اعتقد بان نيكولتي تاثر بأفكار اريك بترسون. الذي وضح أن فكرة الثتليت المسيحي هي لغزا غامضا ولا علاقة له بالحقيقة الدنيوية ولا يمكن تمثبلها على الصعيد السياسي.  هكذا فاللاهوت السياسي متعلق فقط باليهودية والوثنية . وما يلاحظ على بيترسون انه لا يهتم اطلاقا بالإسلام.

 6يمكن الرجوع إلى تقديمي لكتاب أرخبيل الإسلام ( ماسيمو كامبانيني وكريم ميزران )روما باري 2007.

 7جون اسمان، القوة والخلاص توران 2002 ص 15-16.

 8 لا أتفق مع كارل براون في كتابه” الدين والدولة “نيويورك 2000. الذي يعتبر أن الموقف الإسلامي من السياسة متشائم. وبالمقابل أنا اتفق مع باتريسيا كرون في كتابها “الفكر السياسي الإسلامي الوسيط “ادنبرة 2004 التي اعتبرت أن في الإسلام القوة السياسية وولادة الدولة ليست من نتائج سقوط الإنسان من الجنة.

 9 ابو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية، ترجمة ييت لندن 1996 ص 10.

 10 انظر كتابي، الايدولوجيا والسياسة في الإسلام بولونيا 2008.

 11 انظر أيضا اللاهوت السياسي بين القديم والحديث، إشراف باولو بيتيولو و جيوفاني فيلورامو بريشيا 2002.

 12 الفارابي إحصاء العلوم، الفصل الخامس ترجمة تشارلز بتروورث، ضمن الكتابات السياسية للفارابي نييورك ولندن 2001 ص 76_77

 13 الفارابي تحصيل السعادة ، تحقيق جعفر ال ياسين بيروت 1983 ص 94

 14 تحصيل ص 61-62

 15  فوزي متري النجار، العلم المدني عند الفارابي ، مجلة العالم الإسلامي 1958 ص 96

 16  سالفادور كوميز، السياسة كعلم ديني وحيد عند الفارابي، ضمن دفاتر ندوة دراسات الفلسفة والفكر الإسلامي مدريد 1980 ص 102

 17  في مقاله حول الأخلاق ضمن تاريخ الفلسفة الإسلامية، إشراف سيد حسين نصر واوليفر ليمان، لندن ونيويورك 1996 ص 2:963

  18 تحصيل ص 90

   19 مهدي الفارابي ص 47

 20 الفارابي الأعمال الفلسفية السياسية، تحقيق رامون غيريرو، مدريد 1992 ص 58

  21 الفارابي، المدينة الفاضلة الفصل 33 في تحقيق نادر، والفصل 17 في تحقيق وولزر ص 279، وترجمتي الايطالية المدينة الفاضلة 1996 ص 251

  22 م ن ص 251

  23 م ن ص 225

 24  في المدينة الفاضلة العلم المدني متعلق بالميتافيزيقا، أما في التحصيل فالعلم المدني متعلق بعقلانية السلوك الإنساني.

  25 محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية في الإسلام، شيكاغو 2001 ص 97

 26   م ن ص 65

27   الفارابي، مجموع الأعمال الفلسفية السياسية ص 92

  28  نحن قادرون على التخفيف من التبعية اذا ترجمنا تحت بمرافق تحت الفلسفة العملية.

 29  انظر تقديمي لترجمة ايطالية للفارابي، كتابات سياسية توران 2007 ص 13-15 وايضا 38-41

 30 لاأتفق مع بتروورت الذي ترجم الآراء بالأفكار.

  31 الأعمال الفلسفية السياسة ص 83

32 م ن ص 57-58

 33  م ن ص 86

 34  الأعمال الفلسفية السياسية ص 92

   35  م ن ص 99

 36  م ن ص 86-87

  37  م ن ص 105-106

  38 م ن ص 104-106

39   سيمون ميموني، اللاهوت السياسي ص 25

الهوامش:

[1] كارل شميت، اللاهوت السياسي، ميونيخ لايبزيع 1922. كذلك اريك بيترسون، التوحيد كمشكلة سياسية، لايبزيع 1935، واريك فوغلين الاديان السياسية، فيينا 1938.

[2] جيوفاني فيلورامو، ماهو الدين توران. 2004.

[3] جون اسمان، الحكم والخلاص في مصر القديمة وإسرائيل، ميونيخ 2000.

[4] ميشيل نيكولتي، السمو والقوة بريتشيا 1990.

[5] اعتقد بان نيكولتي تاثر بأفكار اريك بترسون. الذي وضح أن فكرة الثتليت المسيحي هي لغزا غامضا ولا علاقة له بالحقيقة الدنيوية ولا يمكن تمثبلها على الصعيد السياسي.  هكذا فاللاهوت السياسي متعلق فقط باليهودية والوثنية . وما يلاحظ على بيترسون انه لايهتم اطلاقا بالاسلام.

[6] يمكن الرجوع إلى تقديمي لكتاب أرخبيل الإسلام ( ماسيمو كامبانيني وكريم ميزران )روما باري 2007.

[7] جون اسمان، القوة والخلاص توران 2002 ص 15-16.

[8] لا أتفق مع كارل براون في كتابه” الدين والدولة “نيويورك 2000. الذي يعتبر أن الموقف الإسلامي من السياسة متشائم. وبالمقابل أنا اتفق مع باتريسيا كرون في كتابها “الفكر السياسي الإسلامي الوسيط “ادنبرة 2004 التي اعتبرت أن في الإسلام القوة السياسية وولادة الدولة ليست من نتائج سقوط الانسان من الجنة.

[9] ابو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية، ترجمة ييت لندن 1996 ص 10.

[10] انظر كتابي، الاديولوجيا والسياسة في الاسلام بولونيا 2008.

[11] انظر أيضا اللاهوت السياسي بين القديم والحديث، إشراف باولو بيتيولو و جيوفاني فيلورامو بريشيا 2002.

[12] الفارابي إحصاء العلوم، الفصل الخامس ترجمة تشارلز بتروورث، ضمن الكتابات السياسية للفارابي نييورك ولندن 2001 ص 76_77

[13] الفارابي تحصيل السعادة ، تحقيق جعفر ال ياسين بيروت 1983 ص 94

[14] تحصيل ص 61-62

[15] فوزي متري النجار، العلم المدني عند الفارابي ، مجلة العالم الإسلامي 1958 ص 96

[16] سالفادور كوميز، السياسة كعلم ديني وحيد عند الفارابي، ضمن دفاتر ندوة دراسات الفلسفة والفكر الإسلامي مدريد 1980 ص 102

[17] في مقاله حول الأخلاق ضمن تاريخ الفلسفة الإسلامية، اشراف سيد حسين نصر واوليفر ليمان، لندن ونيويورك 1996 ص 2:963

[18] تحصيل ص 90

[19] مهدي الفارابي ص 47

[20] الفارابي الأعمال الفلسفية السياسية، تحقيق رامون غيريرو، مدريد 1992 ص 58

[21] الفارابي، المدينة الفاضلة الفصل 33 في تحقيق نادر، والفصل 17 في تحقيق وولزر ص 279، وترجمتي الايطالية المدينة الفاضلة 1996 ص 251

[22] م ن ص 251

[23] م ن ص 225

[24] في المدينة الفاضلة العلم المدني متعلق بالميتافيزيقا، اما في التحصيل فالعلم المدني متعلق بعقلانية السلوك الإنساني.

[25] محسن مهدي، الفارابي وتأسيس الفلسفة السياسية في الإسلام، شيكاغو 2001 ص 97

[26] م ن ص 65

[27] الفارابي، مجموع الأعمال الفلسفية السياسية ص 92

[28] نحن قادرون على التخفيف من التبعية اذا ترجمنا تحت بمرافق تحت الفلسفة العملية.

[29]   انظر تقديمي لترجمة ايطالية للفارابي، كتابات سياسية توران 2007 ص 13-15 وايضا 38-41

[30]  لاأتفق مع بتوورت الذي ترجم الآراء بالأفكار.

[31] الأعمال الفلسفية السياسة ص 83

[32] م ن ص 57-58

[33] م ن ص 86

[34] الأعمال الفلسفية السياسية ص 92

[35] م ن ص 99

[36] مــ ن ص 86-87

[37] م ن ص 105-106

[38] مـــ ن ص 104-106

[39] سيمون ميموني، اللاهوت السياسي ص 25