مجلة حكمة
بنيان اللغة تشومسكي اللسانيات

بنيان اللغة (مقدمة المترجم) – نعوم تشومسكي / ترجمة: إبراهيم الكلثم

بنيان اللغة تشومسكي
غلاف كتاب (بنيان اللغة) لنعوم تشومسكي

يمنك شراء نسخة كندل من كتاب (بنيان اللغة) عبر هذا الرابط


بنيان اللغة

سادت المقاربة السلوكيّة – البنيوية في مجال اللسانيات حتى ستينيات القرن الماضي تقريبًا، حيث كان لا يعدو اشتغال اللساني الترتيب والتصنيف وتحليل البيانات التي جمعها. ترى المقاربة السلوكية بأن المهمة الحقيقة للساني تكمن في وصف لغة الإنسان بأكبر قدرٍ من الموضوعية، مقللة من شأن ما يقع وراء ذلك، بما فيه محاولات التفسير. فاللغة – في نظر هذه المقاربة – ظاهرة اجتماعية، وما على اللساني إلا الجمع والتوصيف والتصنيف، لا أكثر من ذلك. هنا تحديدًا تبرز مساهمة تشومسكي والنحو التوليدي التي عادةً ما تُوصف بأنها «ثورية».

يُعلِّق تشومسكي في إحدى محاضراته على هذه المقاربة قائلًا: «القول بأن مهمة اللسانيات هي وصف اللغة كالقول بأن مهمة الفيزياء هي قراءة عدادات القياس»[1]، ما يعنيه هنا هو بأن ثمّة خللاً ما في الاكتفاء بالوصف فقط، حتى لو كان ذلك باسم الموضوعية المنشودة. إذن، كيف ينبغي على اللساني دراسة موضوع دراسته (اللغة)؟.

يلفت تشومسكي نظرنا إلى أن القول بأن اللغة ظاهرة اجتماعية (بمعنى أن الطفلة «تتعلمها» من محيطها) فيه إشكالية كبيرة: فكيف يُعقل أن تعرف هذه الطفلة تعقيد لغتها (أو لغاتها) الأم معرفة تلقائية في ظرف سنوات قليلة مما سمعته فقط؟ إن ما تسمعه – كائنًا ما كان عدده – يفشل في تفسير قدرتها على فهم لغتها وإبداع كلمات جديدة، كلمات لم تسمعها قط. سُميّت هذه الإشكالية/الحجَّة بـ «شحِّ المحفِّز»[2].

بالإضافة إلى أمرٍ في غاية الوضوح: اللغات المُعيَّنة/الخاصة (العربية أو الهندية أو الإنكليزية… إلخ) غير فطريَّة[3]، بمعنى، لو أننا أخذنا فتاة ولدت في السعودية (ولنُسمِّها رزان) ووضعناها من يومها الأول لتعيش بقية حياتها في الولايات المتحدة؛ فسوف تتحدث رزان الإنكليزية – الأميركية وليس العربية – السعودية. يبدو هذا بديهيًا، لكنّه يلفتنا إلى أمرٍ هام: اللغات المُعينة ليست فطرية، بينما القدرة اللغوية كذلك.

ينتهي تشومسكي إلى القول بأن اللغة يجب أن تكون فطرية؛ فاللغة لا «تُتعلَّم» بل تُكتسب (تنمو)، فالمعرفة اللغوية موجودة في تركيبة رزان الأحيائية. تمامًا كما أن الإنسان ينمو له ذراعان – وليس جناحين – متى ما توفرَّت لها البيئة المناسبة. إذن هناك «حالة» تجمع رزان ومن يتحدث العربية ومن يتحدث الإنكليزية، حالة تجمع جميع البشر قبل (اكتسابهم/ن) (للغاتهم/ن)، يُطلق تشومسكي على هذه الحالة: الحالة الأولى.

في نظر تشومسكي، ثمَّة قواعد كلية تولد اللغات الطبيعية تُمثل جزءًا من تكوين الإنسان الأحيائي، وعلى اللساني أن يشتغل في بحث هاته القواعد. لقد دعا إلى أن يتحول تركيز اللساني من الملفوظات الناجزة، أو اللغة الخارجية، إلى اللغة الداخلية. طرح تشومسكي في كتابه الحَدث «البنيات التركيبية» (1957م) مقاربة تُقدِّم أدوات صورية (رياضية) تسمح، بشكل عام، بوصف وتحليل وتعيين جمل اللغات الطبيعية، وفي معرفة كيفية توليدها. عُرفت هذه النظرية بالتوليديِّة، ومن هنا أتت اللسانيات التوليديِّة، فاللسانيات التوليدية نظرية عن الحالة الأولى.

نشر تشومسكي بعد ذلك كتابه: «ملامح النظرية التركيبية» (1965م) الذي ميَّز فيه بشكل واضح بين القدرة (قدرة المتكلمين) والإنجاز (الملفوظات المُنتجَة). فالقدرة هي معرفة المتكلِّم الضمنية بقواعد اللغة، والإنجاز هو تمظهر هذه القدرة في عملية التكلُّم، ويذكر أيضًا أن الإنجاز يخضع إلى عوامل نفسية متعددة، وبالتالي هو لا يعكس مباشرة قدرة المُتكلِّم[4]. وبناءً عليه، مفهوم اللغة عند التوليدي يختلف عن مفهومها في الاستعمال اليومي، ذلك الاستعمال الذي يرى اللغة على أنها مدونة متناهية من الملفوظات أو الشيء المُنجز، فعندما يتحدث التوليديون عن اللغة فهم «يقصدون عمومًا القدرة الإنسانية على الكلام بأي لغة (خاصة)»[5].

بعدها بعام نشر كتابه: «اللسانيات الديكارتية» (1966م)، حيث يمُوضع نظريته مع آراء الفلاسفة العقلانيين من أمثال ديكارت وهومبولت، ويشير في الكتاب إلى وجود مفاهيم أساسية اعتمد عليها في تنظيره عند هؤلاء الفلاسفة، كمفهوم القدرة على إنتاج عدد لا متناهٍ من الجمل وفكرة الفطرية. لكن تشومسكي يختلف عن ديكارت في مسألة مهمة تحدد منهجيته العلمية ورؤيته الأنطولوجية.

بإيجازٍ مخل: يرى ديكارت بأنه لا وجود للفراغ، فأنت لا تتخيل وجود جسم من دون فراغ (فأحدهما يقتضي الآخر)، وبالتالي، الفراغ مادة، والكون كله مادة، وللمادة مبادئ وقوانين. لكن ثمّة مشكلة في مواءمة هذه الرؤية مع حقيقة حرية الفعل الإنساني (الشيء الذي يميزه من الكائنات الآلية والحيوانات)؛ فالإنسان غير مجبر على فعل شيء تحت ظروف معينة (على عكس الآلة)؛ فهو غير خاضع لمبادئ وقوانين المادة؛ فكيف حلَّ ديكارت هذه المشكلة؟.

حلَّها عن طريق ما سمَّاه بالذهن (العقل)، فهو يرى بأن الذهن (الغير موجود في العالم المادي) غير خاضع لمبادئ المادة، لكن يتفاعل ويأثر أحدهما بالآخر. ومن هنا أتت ثنائية الذهن والجسد المعروفة، والتي عادةً ما تُربط به. في رأي تشومسكي، لا مسوغ لافتراض ثنائية الذهن والجسد من بعد نيوتن، ولا يعود ذلك إلى عدم وجود مفهوم متماسك للذهن – كما قد يُتصوَّر – بل إلى عدم وجود مفهوم متماسك للجسد[6]. فكما يقول تشومسكي: مفهوم المادة نفسه لم يُعد متماسكًا منذ أن قدَّم نيوتن مفهوم الجاذبية (أي: تأثير وتفاعل المادة عن بعد).

ومع هذه النظرة الطبيعية لمفهوم الذهن، يرى بأن اللغة (بوصفها عملية ذهنية أحيائية) يجب أن تدرس، كما يُدرس أي شيء مادي آخر. ويبني منهجيته العلمية في دراسة اللغة على ما يُعرف بالـ «أسلوب الغاليلي»، هذه المنهجية التي تعتمد على التجريد، ولا تكترث كثيرًا برصد المعطيات «Data» وتعقُّدها، بقدر ما تهتم بما يحدث خلف هذا التعقُّد. وتقتضي هذه المنهجيّة «أن نضفي على المعطيات غير المتجانسة والغريبة قدرًا كبيرًا من الوضوح «النيوتوني»، أي: الاهتمام بوضوح النظرية لا العالَم»[7]. ويُمكن أن نرى هذا – كما ذكرت – في اهتمام التوليدي بالقدرة اللغوية نفسها التي أصبحت بهذه الرؤية موضوعًا مُجردًا على الرغم من واقعية معطيات اللغة[8].

عدَّل تشومسكي نفسه وطور من نظرياته وأدواته؛ ففي الستينيات قدَّم ما عُرف بـ «النظرية المعيار»، ثم قدَّم «النظرية المعيار الموسعة» في السبعينيات، و«المبادئ والوسائط» في الثمانينيات[9]، حتى وصل إلى البرنامج الأدنوي في التسعينيات. هناك من يقول بأن تأثير اللسانيات التوليدية قد تضاءل منذ الثمانينيات[10]. مع ذلك، وعلى الرغم من أن آراء تشومسكي لم تكن يومًا موضع اتفاق بين اللسانين أصلًا، بل ودائمًا ما تعرضت آراءه إلى أخذ ورد ومهاجمة حتى من الفلاسفة (مثل هيلاري بتنام وجون سيرل) بل وحتى علماء نفس (مثل جان بياجيه).

مع هذا، ثمَّة ما يُتعلَّم من مشوار تشومسكي العلمي، ذلك الشيء الذي ما فتئ يذكِّر به في كتاباته ومحاضراته: الرغبة في الاندهاش، أي: مُساءلة ما هو «عادي» و«يومي»، هذا الاندهاش الذي قاده إلى جرأة إعادة مسائل كانت تُعد من الماضي الذي تم تجاوزه (مثل فكرة الفطريَّة)، والتفكير في معطى يومي (اللغة) من خلال زاوية تخالف السائد في وقته (موقفه ضد المدرسة السلوكية – البنيوية)، وطاقته العظيمة في الدفاع عن موقفه، وتفنيد آراء مخالفيه على امتداد هذه العقود. هذا الذي دفعني إلى ترجمة هذا الكتاب الصغير: المساهمة في تعريف القارئ العربي بواحد من أهم العلماء في زماننا، بل دون مبالغة، في تاريخ البشرية أجمع.


الهوامش (بنيان اللغة):

[1]     Chomsky, Noam. Language use & design: conflicts & their significance   (2013 Chomsky Noam 1 Prof/4/4) Retrieved from https://www.youtube.com/watch?v=iR_NmkkMm.

[2]     Poverty of Stimulus. وتُترجم بـ «فقر المُنبه»، و«شحِّ المُدخلات» وترجمات أخرى.

[3]     كمال، رشيدة العلوي. النحو التوليدي: بعض الأسس النظرية والمنهجية. بيروت: منشورات ضفاف، 2014: ص 165.

[4]     زكريا، ميشيال. الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1986. ص 18.

[5]     كمال، رشيدة العلوي. النحو التوليدي: بعض الأسس النظرية والمنهجية. بيروت: منشورات ضفاف، 2014: ص 34.

[6]     Al ـ Mutairi, Fahad Rashed. (2014). The Minimalist Program: The Nature and Plausibility of Chomskys Biolinguistics. Cambridge: Cambridge University Press. P.165.

[7]     تشومسكي، نعوم. ت: محمد الرحالي. اللسانيات التوليدية: من التفسير إلى ما وراء التفسير. بيروت: دار الكتاب الجديد، 2013: ص 27.

[8]     أيضًا، بناءً على هذه المنهجية، لا يوجد فرق بين ما يُسمى العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية «فمفهوم العلمية يحدده البناء النظري والخطوات المنهجية التي يتناها العالِم في مقاربته للموضوع لا الموضوع؛ بمعنى أن التصور هو الذي يحدد العلمية لا المَاصَدَق. فلا يوجد موضوع علمي وموضوع غير علمي، ولكن توجد منهجية علمية ومنهجية غير علمية» المصدر نفسه، ص30.

[9]     بافو، ماري آن، جورج إليا سرفاتي. ت: محمد الراضي. النظريات اللسانية الكبرى: من النحو المقارن إلى الذرائعية. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2012. ص 274.

[10]    المصدر نفسه، ص 280.

بنيان اللغة