مجلة حكمة
بروز البيوإتيقا جديدي

بروز البيوإتيقا – لازار بونارويو / ترجمة: محمد جديدي


     تمتد جذور تطور الإتيقا الطبية المعاصرة إلى سياق سياسي واجتماعي لليبرالية الفردانية لسنوات 1960 وهو مُنَظم حول التقدم السريع للبيوتكنولوجيات. لقد واجه تطبيق التكنولوجيات الحديثة على مختلف حقول النشاط الطبي واجه من خلاله الأطباء والباحثون نزاعات وإحراجات إتيقية جديدة وضعت مسؤولياتهم الأخلاقية على المحك إزاء الإمكانيات الجديدة للتدخل على الحي. يبدو وأن التصور التقليدي للمسؤولية الطبية لم يعد متأقلما مع هذه التحديات الجديدة: فتقنيات التصفية الكلوية، زرع ونقل الأعضاء، التهوئة الاصطناعية والعلاجات المكثفة  والتحكم في الخصوبة المقترنة بتطور الهندسة الوراثية، التي برزت في تلك السنوات، أثارت التباسات أخلاقية يبدو وأنها تجاوزت الإطار الإتيقي الأبقراطي. هذا الأخير لم يعد يتيح خاصة التطرق لقضايا متعلقة باحترام كرامة المرضى، على سبيل المثال أثناء الإنعاش    أو في أبحاث تجريبية حول الكائنات البشرية، تماما مثل القضايا المتعلقة باحترام الإنصاف في تخصيص المنافع، توزيع الموارد النادرة، كي نكتفي هنا بذكر الأمثلة الأبرز. ويبدو أن الفكرة التي وضعها وطورها كلود برنار قد بلغت نهايتها والتي مفادها بأن ضمير الطبيب ـــ الباحث قد يكون الحكم الوحيد المُؤسِّس لمزايا أفعاله.

بمبادرة سياسيين، لاهوتيين وفلاسفة  من أمريكا الشمالية، ينتسب أغلبهم إلى جامعة جورج تاون Georgetown، واشنطن Washington DC ، تبلورت فكرة البحث عن أسس معيارية جديدة للنشاط الطبي بمناسبة بروز فرع جديد، البيوإتيقا  la bioéthique.


أزمة الثقة لسنوات 1960 ـــــ 1970

     عقب جرائم ضد الإنسانية التي حدثت في معسكرات النازيّين، فرض قانون نورنبورغ le Code de Nuremberg (1947)  قاعدة الموافقة الحرة والمستنيرة وقدم إعلان هلسنكي la Déclaration d’Helsinki (1964) توضيحات جوهرية حول مفهوم البحث العيادي يفيد  بأنه، في جميع البحوث على الكائن البشري ، ينبغي ألا تتغلب مصلحة العلم على رفاهية الفرد الذي يخضع إراديا للبحث.

     مثلما كشف عنه هنري ك. بيشر Henry K. Beecher، استاذ التخدير بمدرسة هارفارد الطبية Harvard Medical School، في مقال شهير منشور سنة 1966 بمجلة نيوإنغلند للطبThe New England Journal of Medicine ، أن هذه القواعد الطبية لم تكن على الدوام محترمة. فقد أوضح بيشر Beecher، الذي انتقد بشدة من قبل زملائه، أن ملاحظاته لا تبحث عن إدانة سوء نية المجربين، إنما مراجعة طبيعة التجريب ذاته على الكائن البشري وأصر على أهمية تدريب الباحثين من أجل السماح لهم بتحمل التحديات الإتيقية الخاصة بأعمالهم التجريبية. على غرار  بيشر Beecher، تشهد العديد من الملاحظات الأخرى في المجال الإكلينيكي أن الأطباء ـــ الباحثين لهذه المرحلة لم يتمكنوا من إيجاد ضمن النص الطبي ـ الإتيقي التقليدي المصادر الضرورية لرفع هذه التحديات.

     يوضح مثال أول عملية زرع قلب تمت يوم 3 ديسمبر 1967 من طرف كريستيان برنار  Christiaan Barnard في مستشفى غروت سكور بكاب  Groote Schur Hospital تاون Cape Town، في جنوب إفريقيا Afrique du Sud، بشكل خاص التحديات الإتيقية التي وسمت تطور البيوتكنولوجيات  في نهاية الستينيات. لمواجهة هذه التحديات، اقترح وولتر موندال Walter Mondale، وقد كان سيناتور عن مينيسوتا Minnesota، على الكونغرس إنشاء لجنة مكلفة بدراسة قضية مسؤولية الباحثين حيال التقدم الذين ينجزونه: هذه اللجنة تشكل محلا حيث يمكن لوجهة النظر الطبية حول آثار التقدم أن توازن بوجهات نظر أخرى ـــــ مثل، الأفكار اللاهوتية، القانونية، السوسيولوجية  أو السيكولوجية حول تقدم البيوتكنولوجيات.

أثناء جلسات الاستماع الأولى،  كانت وجهات نظر برنارBarnard وأستاذه أوين فانغاستين Owen Wangensteen من بين أولئك الذين أثاروا أقوى ردود الفعل لدى أعضاء اللجنة.  وفقا للمؤرخ روثمان Rothman، فإن كلمات هذين الجراحين سلطت الضوء على الملاحظة الآتية: ” إن المنجزات التي صارت ممكنة بواسطة التكنولوجيات الطبية نقلت الطب من صنف مهنة مساعدة إلى مهنة هندسة الحي. إن صورة الطبيب التي تستخلص من المقابلات ليست هي لشخص يمسك بيد مريضه على جانب سريره، إنما تلك التي تخص تقنيا يقوم بتشغيل ماكنات ضمن وحدات للعلاج المكثف. […]ٍ  لم تتعلق المقابلات بعلاقة الطبيب ــ المريض، لكن أكثر حول سوء استعمال المحتمل للتكنولوجيات ــــ ضمن سياق لنوع من القلق ممزوج بمشاعر غامضة التي تثيرها التكنولوجيا في العالم الطبي2.”

     طوال جلسات الاستماع، كان المدافعون عن مشروع موندال Mondaleقد حصلوا على قناعة تامة بأن أسسا إتيقية جديدة، تستمد من مصادر أخرى غير التي كانت تحيل إليها الأخلاق الطبية التقليدية، تبين أنها ضرورية لتوجيه الممارسات الطبية.

     دافع كريستيان برنار Christiaan Barnard لصالح الإبقاء على استقلالية أخلاقية للممارسة الطبية؛ وكان مدعوما بأقوال أستاذه، فاغنستين Wangensteen، الذي كان يرأس قسم الجراحة بالمستشفى الجامعي لمينيسوتا Minnesota، وكذا من طرف جيس إدوارز Jesse Edwards، رئيس الجمعية الأمريكية للقلب. لقد ألح هؤلاء على أمر وهو أنه لا يبدو معقولا إحالة مسؤولية القرار الطبي لأشخاص خارجين عن المهنة، بالنظر إلى أن هؤلاء ليس لهم القدرات المهنية الكافية لتقييم مزايا البحث تجريبي: هكذا يتهدد التقدم الطبي الخطر.

     والأهم في ذلك، أن برنار Barnard بمعية جيس إداوردز Jesse Edwards  وأيضا عالم الوراثة آرتير كورنبرغ،  Arthur Kornberg الفائز بجائزة نوبل للطب في 1959، عاتبوا موندال  Mondale في تخيله للمخاطر التي يمكن أن تنشأ جراء استعمال التكنولوجيا الطبية بينما، يرون من وجهة نظرهم، أن التقدم التقني يشكل وسيلة لتطوير علاجات مستقبلية: فالحد من تطبيق التكنولوجيا الطبية من قبل لجنة فيدرالية يعني، بالنسبة إلى كونبرغ Kornberg، تقليص فرص مساعدة المرضى في المستقبل.

     كما لاحظ روثمان Rothman، على مدى جلسات الاستماع، اتسعت الهوة بين الداخليين insiders  والخارجيين outsiders،  بوجهات نظر جد متباينة:

” في نظر البعض (الخارجيين)، تهدد التكنولوجيا بتشويه القيم الاجتماعية وعلى الأشخاص الارتباط بالعلميين ــــ وهم بالتأكيد علماء، لكنهم ليسوا حكماء ـــــ كي يوازنوا الآثار المترتبة على أبحاثهم . […] في أعين الآخرين (الداخليين)، مع ذلك، كان الجمهور مرة أخرى يعمل على سوء تأويل العمل المنجز من قبل العلميين. وفي أفضل الأحوال، ستقوم لجنة وطنية بإخراج الباحثين من مختبراتهم لبضعة أيام، أما في أسوئها، ستمنعهم من العمل وتؤخر تطوّر التقدم العلمي. هكذا، يلخص روثمان  Rothman ، كل معسكر يقدر بأن موقفه هو الجيّد، ويحاكم المعسكر المخالف مزعجا في كل مرة أنه يمثل عقبة للاستحقاقات الواضحة عن الحجج المقدمة. 3″

على الرغم من الحجج القوية التي استند عليها، فشل موندال Mondale في تحقيق مشروعه في عهدته التشريعية، التي انتهت في 1968. وأمكن للمشروع أن يرى النور ست سنوات بعد ذلك، بفضل جهود السيناتور إدوارد كينيدي Edward Kennedy: يوم 12 جويلية 1974، وقد أمضى الرئيس نيكسون Nixon عقد تأسيس الجمعية القومية لحماية الأشخاص من البحوث البيوطبية والسلوكية Biomedical  of  of Human Subjects Commission for the Protection  National

 and Behavioral Research   هذه البنية أصبحت منتدى لإعداد تصور جديد للإتيقا الطبية يستمد مصادره من التعددية  الاجتماعية والأخلاقية.

الجلسات التأسيسية للبيوإتيقا الناشئة

     تتمثل المهمة التي أوكلت لهذه اللجنة الوطنية في تحديد عن الكيفية الفعالة والممكنة لحماية حقوق ورفاهية الأشخاص موضوعات  البحث. فقد حدد الكونغرس المهمة الآتية: ” التعرف على المبادئ الأخلاقية الأساسية التي يجب أن يقوم عليها إجراء البحوث البيوطبية والسلوكية التي تجرى على الكائنات البشرية، وتطوير الخطوط الموجهة التي ينبغي لأن تتبع في هذه البحوث 4.”

لإنجاز هذه المهمة، ضمت اللجنة بأحد عشر عضوا، منهم ثلاث أطباء، باحثين أساسيين، ثلاث حقوقيين، فيلسوف، بيوإتيقية وممثل عن عامة الجمهور العريض. تدعو اللجنة مفكرين بارزين للإجابة عن الإشكالية الإتيقية الآتية: كيف يمكن ضمان حماية الحقوق الفردية للأشخاص موضوعات البحث تماما مع السعي لتحسين الخير العام ؟ يتعلق الأمر إذن بتأسيس إتيقا البحث الطبي حول التقاليد الموجهة نحو احترام حقوق كونية ولا زمنية، تستمد مصادرها بشكل خاص من إعادة تحيين الفلسفة الكانطية.

     خلصت اللجنة ضمن تقريرها ـــــ تقرير بلمونت The Belmont Report: المبادئ الأخلاقية والموجهة لحماية الأشخاص في البحث Ethical Principles and Guidelines for the Protection of Human Subjects of Research ــــ التي ظهرت في 1978، إلى أن احترام المبادئ الثلاث الآتية ـــ ” احترام الأشخاص، الخيرية والعدالة ” ـــــ تشكل الأساس الإتيقي لكل بحث تجريبي على الكائن البشري. في أعين أعضاء اللجنة، فإن احترام هذه المبادئ الكونية يتيح ضمان احترام حقوق …. البحوث وتوزيع فوائد النشاط الطبي بكيفية متساوية. في رأي هذه اللجنة، يجب أن يعهد بتقييم احترام  هذه المبادئ  إلى لجان أخلاق للبحث الإكلينيكي الاستشفائي. هذه اللجان برزت إلى الوجود في كل المؤسسات الاستشفائية الجامعية لسنوات 1970.

     يشهد ميلاد لفظ “البيوإتيقا ” في بداية البسعيينات على هذه الحاجة الاجتماعية لتجديد الدلالة ذاتها لحقل المسؤولية الطبية التي كانت تتكشف في أفق نشاط الأطباء ـــ الباحثين:

علم أخلاقي جديد يتمركز خلف الإتيقا الطبية التقليدية حول الدراسة متعددة التخصصات  للسلوكات البشرية في مجالات علوم الحياة، الصحة والبيئة، لا سيما فيما يتعلق بالتجريب على الإنسان والحيوان، مسائل المتصلة بتخصيص موارد، أولوية الصحة العمومية وكذا اقتصاد الصحة، بالتعاون الوثيق  مع العمل الذي قامت به اللجنة الوطنية ومعهد كينيدي للإتيقا Kennedy Institute of Ethics، المؤَسَس  من طرف عائلة إدوارد كينيدي Edward Kennedy في سنة 1971.

     بدأ نشاط هذا المعهد  بدعم من لاهوتيين، وارن  ت. رايش Warren T. Reich  و لوروا والترز Le Roy Walters ،  تلميذ اللاهوتي جيمس غوستافسون James Gustafson. في هذا السياق تأسس في 1975 بجامعة جورج تاون  Georgetown University  المركز المرجعي الوطني للبيوإتيقا  National Reference Center for Bioethics. هذا الأخير أصبح بسرعة مركز المصادر المرجعية للبيوإتيقا.

     التحق جيمس شيلدرس James Childress ، وهو أيضا تلميذ جيمس غوستافسون James Gustafson، بالمعهد في 1975، مصحوبا  في 1977 بالطبيب والفيلسوف تريستام إينغلهارت  Tristam Engelhardt، ثم في 1979 بالفيلسوف روبرت فيتش Robert Veatch.  أقام جيمس شيلدرس James Childress، وقد عُيّن أستاذا للإتيقا المسيحية، تعاونا مثمرا مع طوم بوشان Tom Beauchamp، وكان وقتها أستاذ الفلسفة في الجامعة ذاتها. نشر هذان المؤلفان في 1979 كتابا عنوانه مبادئ الإتيقا البيوطبية  Principles of Biomedical Ethics  الذي اقترح توسيع حقل تطبيق تقرير بلمونت The Belmont Report  ــــــ في الأصل محدد بالبحث التجريبي على الكائن الإنساني ــــــ ولمجموع الممارسة الطبية. أعلن هذان المؤلفان أنهما  يرغبان باقتراح ” التحليل الأول المنهجي لمبادئ الإتيقية التي ينبغي أن تدير عدد كبير من القرارات التي تمس البيوطب 6″. لقي هذا الكتاب نجاحا كبيرا وأثر بشكل معتبر على تطور البيوإتيقا  في شمال أمريكا و أوربا فيما بعد،

اعتمد معهد كينيدي Kennedy Institute  كذلك كدعامة لمشروع أكثر  أهمية: فقد تم تكليف وارن ت. رايش  Warren T. Reich  بنشر أول موسوعة للبيوإتيقا Encyclopédie de bioéthique.  المؤلف الذي يضم مساهمات متعددة التخصصات للاهوتيين، فلاسفة، حقوقيين، سياسيين، اقتصاديين، أطباء وبيولوجيين، ظهر في أربع مجلدات في 1978.

لقد وظفت طبعتيه منذ نهاية 1970 لنشر إيتوس  بيوإتيقا أمريكا  الشمالية التي ستشمل منذئذ مجموع النشاط الطبي، سواء تعلق الأمر بالبحث أو العيادة.

إيتوس بيوإتيقا أمريكا الشمالية لسنوات 1980

     في الطبعة الأولى للموسوعة Encyclopédie المنشورة من قبل وارن ت. رايش  Warren T. Reich  وكما في مؤلف طوم بوشن Tom Beauchamp وجيمس شيلدرس James Childress، من الممكن تحديد القيم الأساسية للبيوإتيقا الناشئة بأمريكا الشمالية، أي:

  1. الأولوية الممنوحة لاحترام استقلالية الشخص موضوع البحث والمريض، التي تضمن احترام كرامة هذين الأخيرين.

  2. مفهوم الخيرية الطبية، التي هي محددة بآثارها النفعية المقيسة بواسطة الأدوات التقنية. هذه المقاربة النفعية للخيرية تحد بوضوح توسعها لبعد خيرية طبية ـــ تقنية، سواء في إطار البحث التجريبي أو في ميدان العلاج.

  3. الأولوية الممنوحة، في حقل العيادة، إلى تصور العقد الطبي: نموذج العلاقة الطبية هو ذلك الاتفاق الإرادي والمستنير بين المعالج والمريض، كلاهما مستقل، على منوال عقد يدير العلاقة بين الباحث وموضوع البحث.

  4. الانشغال بإعداد تصور للعدالة التوزيعية، خاصة تخصيص الموارد النادرة التي تمكن من حفظ الخير العام، مع احترام الخير الفردي.

     يتجسّد هذا الإيتوس في ثلاث مبادئ أساسية مقترحة في تقرير بلمونت Belmont  وكذا في كتاب بوشان Beauchamp  وتشيلدرس Childress :  مبادئ الاستقلالية، الخيرية والعدالة. يوضح هؤلاء الكتُّاب أن مبدأ الخيرية كما أعلن عنه في تقرير بلمونت يأتي في الحقل الطبي في شكلين متميزين: الخيرية وعدم الإضرار. لنفحص كل مبدأ بتفصيل:

  1. إن مبدأ احترام الاستقلالية محدد بوصفه مجموعة قواعد أخلاقية تعبر عن واجب كل مُعالِج لاحترام إرادة المريض أثناء اتخاذ قرار يتعلق بصحته. بالنسبة لهؤلاء الكُتّاب، لا يستطيع مريض اتخاذ قرار مستقل ومستنير إلا إذا كانت إمكانية التعبير عن معتقداته وقيمه متاحة وأن يتخذ قراره بعيدا عن كل قيد.  إن احترام هذا المبدأ يعبر عنه بالقواعد الآتية: واجب الحصول على موافقة حرة ومستنيرة للمريض، وكذا بواجبات السرية والصدق.

     إن الشخص الذي ليس بمقدوره فهم  المعلومات  التي تبلغ إليه فهما تاما (بسب تخلف عقلي    أو ضعف حاد في الإدراك، مثلا)، لا يعتبر، في نظر هؤلاء الكتُّاب، كشخص يتمتع باستقلالية كاملة في القرار: إن قرارا يخصه ينبغي أن يلتمس لدى شخص يعوضه (بديل surrogate)

  1. مبدأ عدم الإضرار (nonmaleficence) يشكل واجبا أخلاقيا لـ تسقيف وتعظيم الآثار المواتية وتقليل الآثار الضارة للأفعال الطبية. إنه يؤسس واجب تقييم علاقة الخطر/ الفائدة للبحث أو لممارسة طبية بغرض الحفاظ على الصحة، لتخفيف المعاناة، لتحسين المعوقات وتمديد الحياة؛

  2. مبدأ الخيرية (beneficence) محدد كمجموعة قواعد أخلاقية معبرة عن الواجب:

ــــــ بإزالة الشر بالحد من المعاناة وبشكل أخص الألم؛

ــــــ  تحقيق منافع للمريض بإيجاد التدبير المناسب بين مخاطر وفوائد للتدخل الطبي؛

ــــــ بترقية الخير عن طريق تحسين الإعاقة أو بتمديد الحياة؛

ـــــــ بالحفاظ على الصحة وذلك بتفضيل الوقاية من الأمراض. ضمن هذا المنظور، فإن الخيرية، بمعنى بيوإتيقا سنوات 1970، تتضمن إعداد أكثر الوسائل التقنية كفاءة المتاحة للمريض من أجل أن تعطى له إمكانية الاختيار ـــــــ باسم احترام استقلاليته

ــــــ خيار الكلفة العلاجية التي  يراها الأفضل وفقا لقيمه الخاصة وحاجاته؛

  1. مبدأ العدالة محدد كمجموعة قواعد أخلاقية التي تعبّر عن الالتزام بالتوزيع العادل للموارد الطبية تماما مثل منافع ومخاطر السلوك الطبي. في إطار الممارسة الطبية، يتعلق مبدأ العدالة أساسا، حسب بوشان Beauchamp وتشيلدرسChildress ، بمسألة توزيع الموارد الطبية.

     إزاء مفارقة إتيقية تؤكد على احترام مبدأين  أو أكثر في وضعية عيادية ملموسة، اقترحا، بوشن Beauchamp  وتشيلدرس Childress  مسعى منهجي يرتكز على طابع البداهة لكل واحد من المبادئ. هذا الطابع يحيل إلى كل مبدأ من المبادئ وضع إتيقي لواجب قطعي قبلي، الذي يتم ترجيحه  في الممارسة بخصوصية السياق.

     بغية توضيح آرائهما، يأخذ كل من بوشن Beauchamp  وشيلدرس  Childress المثال الآتي: قاعدة  ” عدم الكذب على المريض” هي واجب ينبغي على المعالجين احترامه قطعيا مسبقا. إنها وفية لمبدأ استقلالية المريض . في الممارسة، هذا الواجب ليس مطلقا مع ذلك: بحسب السياق ، يمكن فعلا أن تراجع بواسطة واجب آخر، خاصة عدم الإضرار، أي عدم الإضرار بالمريض بإعطائه معلومة تثير معاناة لا فائدة منها. في نظر بوشان Beauchamp  وشيلدرسChildress ، ففحص السياق (ممارسات مؤسساتية، موارد محدودة، مخاطر تقنية، معتقدات دينية، مشاريع وتطلعات شخصية للمرضى) سيتيح الاعتراف بالمكانة الأخلاقية  التي يجب أن يتفق عليها، على سبيل المثال لاحترام الاستقلالية أثناء إعداد قرار ملموس ومفرد.

 

حدود إيتوس البيوإتيقا الكلاسيكية

     في سنة  1990، عاتب كل من ك. دانر كلوزر K. Danner Clouser  وبرنار جير Bernard Gert  بوشن Beauchamp وشيلدرس Childress إعطائهما طابعا إلزاميا  لمنهج تطبيق مبادئ البيوإتيقا: حسب هؤلاء المفكرين، هذا الطابع تطور منذ ذلك الوقت تحت شكل تعويذة، أو طقوس “غير شرعية” يعلن عنها بكيفية غير واضحة  إزاء كل شكل من أشكال المعضلات الإتيقية التي تظهر في الطب الإكلينيكي. فقد وصف كل من جير وكلوزر بازدراء  هذا المنهج من النزعة المبدئية7.

     في بداية الثمانينات، كان دانيال كلاهان  Daniel Callahan قد وصف البيوإتيقا الناشئة بإتيقا الحد الأدنى: وعلى زعم الخطاب البيوإتيقي، كما كتب”  لكل الحق في التصرف أخلاقيا في الاتجاه الذي يبدو له خيرا لطالما أنه لا يضر بالغير 8″ . باستعمال عبارة ” إتيقا الحد الأدنى”، ألح كالاهان  Callahan على أن تكلفة استرداد حقوق الأشخاص الضعاف والأقليات (الهدف الرئيسي لبيوإتيقا السبعينيات)، قد انتهى باستبعاد القيم الأساسية للإتيقا الاجتماعية.

     بعبارات أخرى، فإن إيديولوجيا الدفاع عن حقوق الأشخاص ــــ وبشكل أخص مبدأ الاستقلالية، الذي هو التعبير الأكثر حدة ــــــــ، يثير تحديات أخلاقية هامة إن على مستوى البحث البيوطبي أو على مستوى الممارسة العيادية. في هذا الميدان بالتحديد، يتهدد هذا الاتجاه الخطر ، كما لاحظ وارن رايش، باحث بمعهد كينيدي للإتيقا، لإلغاء تدريجيا الروابط التي تجمع الإتيقا بالطب. بالفعل، وبالإصرار على التوترات القوية التي يمكن أن توجد بين واجب احترام إرادة المريض والتجاوزات المحتملة للتكنولوجيا الطبية، فإن إيتوس البيوإتيقا ينزع إلى صرف انتباه الطبيب من مغزى إتيقي أساسي لفنه: إن احترام كرامة المريض ضمن علاقة الثقة بمساعدة هذا الأخير على استعادة ما سببه المرض لسلامته  واستقلاليته (بمعنى تغيير قدرته على ممارسة التحكم على وجوده).

خاتمة ومنظورات معاصرة

     تطورت الإتيقا البيوطبية منذ الستينيات وكأنها الظل المحمول للتقدم البيوتكنولوجي.  مدفوعا بأولوية تأطير التقدم البيوطبي،  فقد تم تنشيطه للحاضر باتباع معالم الثقافة العلمية. بهذا فقد أنتجت اتجاها طور بواسطة الطب المعاصر لتصور دراسة أسسه الفلسفية، السوسيولوجية والتاريخية باعتبارها دون أهمية  كبيرة  لفهم الحاضر وتوضيح المستقبل.  هكذا تماسفت الإتيقا البيوطبية المعاصرة عن الروابط التي تربطها بالأبعاد الإنسانية للطب، من دون ربما أن تدرك أنه بصياغة هذه التساؤلات انطلاقا من تشكيل التطورات البيوطبية، فإنها ساهمت بفعالية في هذا الحل.

     في حين، أن اختزال المسعى الإتيقي في الطب إلى منظور  يدرك حل الروابط التي توحد الإتيقا والطب يرجع إلى حرمان الطب من أبعاد نقدية التي يمكن أن تجلبها المناهج الفلسفية، الاجتماعية والتاريخية للنزعة الإنسانية الطبية بغية بناء مستقبل من خلال  مسؤوليته.

     هذه القضية تضع في نظرنا البيوإتيقا المعاصرة أمام التحدي الآتي: كيف نبني اليوم إتيقا طبية تبعث الحياة مجددا في الروابط التي توحد الطب بالأبعاد الإنسانية في العلاج ؟ كيف يمكننا تطوير إتيقا للاهتمام والاستجابة تسمح  لنا في الآن ذاته أن نسمع وننصت إلى ما يود المريض أن يخبرنا به وما يخبرنا به جسده ؟

     لرفع هذا التحدي، يبدو لنا من الضروري إقامة إتيقا تعطي مجددا الحياة لهذه الروابط عبر إسنادها إلى أنثربولوجيا كلينيكية تشرك مسؤولية الطبيب في قلب حتى ممارسة.


الهوامش:

 ملاحظة: تعمدت ترك الهوامش في الأخير وليس كما وردت في نص الكاتب وكما هي في لغتها الأصل لأنها إحالات إلى نصوص ومراجع غير مترجمة وحتى لا يشوش ذلك على ذهن القارئ ويربكه. [المترجم]

  1. H.K. Beecher, « Ethics and Clinical Research », The New England Journal of Medicine, n° 274, 1966, p. 1354-1360.
  2. D.J. Rothman, Strangers at the Bedside, New York, Basic Books, 1991, p.173-181.
  3. Ibid., p. 182.
  4. A.R. Jonsen, The Birth of Bioethics, New York, Oxford University Press, 1998, p. 100.
  5. Van Rensselaer Potter était un oncologue de l’université du Wisconsin qui avait publié en 1970 un article intitulé « Bioethics, the science of survival », paru dans la revue Perspectives in Biology and Medicine, suivi d’un ouvrage publié en 1971, portant le titre de Bioethics: Bridge to the Future. Potter définit le mot bioéthique comme «a new discipline that combines biological knowledge with a knowledge of human value systems». Le 19 avril 1971, le terme « bioéthique » apparaît pour la première fois dans un article du New York Times, « Man into superman : the promise and peril of the new genetics », dans lequel l’ouvrage de Potter est cité.
  6. T. Beauchamp, J. Childress, Principles of Biomedical Ethics, New York, Oxford University Press, 1979, p. 11.
  7. D.K. Clouser, B. Gert, « A critique of principlism », The Journal of Medicine and Philosophy, n° 15, 1990, p. 220.
  8. D. Callahan, « Minimalist Ethics », The Hastings Center Report, n° 11, 1981, p. 20.
  9. L. Benaroyo, Éthique et responsabilité en médecine, Genève, Médecine et Hygiène, coll. « Médecine Société », 2006.