مجلة حكمة
امتلاك الذاكرة والتاريخ

امتلاك الذاكرة – محمد الضامن


ماذا كان يجول في ذهن آشور بنيبال حين أنشأ مكتبته من الألواح الطينية التي عدت أولى المكتبات في العالم على مستوى الحضارات القديمة؟!. هل كان يسعى وراء خلوده الشخصي عبر التوثيق، والأرشفة على الألواح الطينية حتى عد انجازه مأثرة حضارية سيدشن بها تاريخ الإنسان نحو التوثيق، وأرشفة الذاكرة الشفهية؟!. أم كان نتاج هلع الشعب من الفناء حيث الموت يقضي على ماحملته الأجيال في الذاكرة؟. هذا الفعل الحضاري المتمثل في حفظ الذاكرة الثقافية للأمة سيتمحور منذ القدم حول خوف الإنسان من الامحاء في الزمن في علاقته الوجودية بين ماضيه، وحاضره ومستقبله الذي سيبقى غامضا، ومجهولا. وبسببه يعيش متاهته الفاتنة في الحياة حيث يبني عبر الذاكرة موضوعة تأمله في مصيره. هذه الانتقالة الحضارية من الشفهي للكتابي إذن ستكون منذ لحظتها تدشينا لانتقال الإنسان لعصر مفارق في وعيه بماضيه وماتم توارثه؛ ليشكل مخيلة الشعوب المتناسلة في الزمن داخل الثقافة، ويصنع استمرارها في الحياة عبر الأجيال. على هذا القلق الوجودي تنبني أهمية الذاكرة التي تترسخ بفعل الجدل بين الموت، والنسيان حيث تُشيِّد الذاكرة نفسها على هذا الجدل كلما حضر شكل الموت في الحرب، والأمراض الفتاكة الذي يحصد الألسن والأيام!.

لقد قامت كل الحضارات التي عرفها الإنسان بتطوير مهاراتها في تدوين ذاكرتها الثقافية؛ لتشكل لحظة ابتكار الفراعنة للكتابة على ورق البردي نقلة متقدمة سهلت عملية الحفظ، والتواصل مختصرة الفترات الزمنية، لتتبعها لحظة الكتابة على الجلود ـ وهناك حكاية في هذا السياق لقصة الورق في الحضارة العربية يحكيها جوناثان  بلوم في كتابه الصادر حديثا عن دار أدب ـ ثم الورق الذي غيرت به الصين نهائيا علاقة الإنسان بالذاكرة الثقافية للشعوب حيث مكنها من التدوين الكثيف لتاريخها، وعقائدها، وآدابها، وحفظها من تلف يلوح به الموت باستمرار. هذا الهم والقلق الذي سيثيره موضوع ذاكرة الإنسان سيكون موضع تهديد مدمر في أوقات الصراعات، والحروب حيث ستكون مهمات الجيوش الأعداء مسح ذاكرة تلك الشعوب التي تقع تحت أسنانها، والاستيلاء عليها، وما تلك القصص التي نعرفها عن حرق المغول  للكتب العربية، وإغراق نهري العراق بالكتب حتى قيل عن تحولهما جراء ذلك إلى نهرين أسودين، ونهب الاستعمار الأوروبي عبر بعثاته التنقيبية، والثقافية ذاكرة الشرق العربي المخطوطة، والآثارية، والغزو الامريكي الحديث على العراق ـ انظر التراث في أتون الحروب المخطوط العربي من القرن الخامس حتى اليوم لبغداد عبدالمنعم، وكتاب لورنس روثفيد ( اغتصاب بلاد الرافدين) ـ إلا دلالة على ما تحضى به الذاكرة الثقافية للشعوب بالأهمية الوجودية حيث سيعني ذلك انتهاء استمرار مخيلتها في العمل، والتواصل مع ماضيها وبالتالي شلل في عمل الفكر. وهذا ماتؤكده ميري ورنوك الفيلسوفة البريطانية في كتابها ( الذاكرة في الفلسفة والأدب ) بأن الإنسان بلا ذاكرة داء عضال يؤدي إلى العجز!. هذا الخوف من الإفناء للذاكرة، والإرث الثقافي للشعوب سيستمر كهاجس مع التطور الحديث لشبكة للانترنت، وبرامج التواصل الاجتماعي حيث سيتغير شكل الصراع، والحرب التقليدية إلى حروب رقمية، وتصبح الجيوش عبارة عن جنود تقنيين مكونين من محاربي الانترنت وصعاليكه الذين يعرفون بـ( الهكرز). فما يشنه هؤلاء من هجمات على ساحات الشبكة مستهدفين دائما كمحاربين مترفين أهدافا سمينة كالحكومات والبنوك؛ لتجعل المستخدمين في حالة هلع دائم على ذاكرتهم، ومن ثم تخليق حاجتهم للحصول على الحماية الأمنية لأجهزتهم، وذاكرتهم من التعرض للتخريب، أوالسرقة.

 لقد استحوذت شركات البرمجيات، وخدمات الانترنت الامريكية عن طريق تطوير وسائل الحفظ، والتخزين على الشبكة خصوصا مع نمو مواقع التواصل على ذاكرة العالم، وهمساته وعلى الأخص مع إطلاق مايعرف بالسحابة الرقمية في منتجات ابل ( (iclud، وكذلك الخدمات التخزينية شبه المجانية التي تقدمها جوجل مثل (googl drive) وكذلك مواقع وشركات مثل)skydrive) (dropbox). إضافة إلى إمكانية البرامج المكتبية كحزمة مايكروسوف: Microsoft Office. حيث تملك إمكانية جمع المعلومات، والاحتفاظ بنسخ من نصوص مستخدميها. وسنسمع صدى ذلك الخوف على الذاكرة الوطنية حين سعت شركة جوجل لتحويل المكتبات العريقة في العالم التي تحوي كنوزا ثرية إلى أرشيف رقمي، وقد تبدى الخوف في رفض الحكومة الفرنسية عرض الشركة الامريكية؛ لتحويل مكتباتها أرشيفا متاحا على الشبكة!. لقد تنبهت أوروبا في تسعينيات القرن الماضي حين توسعت شبكة الانترنت في العالم إلى أن ذاكرتها في قبضة يد الشركات الامريكية حيث يمر كل سطر، وضغطة زر من حاسب أوروبي إلى ملقمات تلك الشركات، من وقتها، وأوروبا تعيش الخوف على ذاكرتها، مع العلم أن مكتبة الكونجرس الامريكية كانت قدمت عرضا قديما لمكتبة الفتيكان من أجل فهرسته رقميا، وبعد طول انتظار وافق الفاتيكان على أن تقوم جوجل بالمهمة!. لم كل هذه العروض السخية، والتي تقدمها تلك الشركات شبه المجانية، وبكامل خدماتها؟!.

 من المتبع دائما أن كل دولة تملك أرشيفا وطنيا لسجلات مواطنيها منذ ولادتهم حتى مماتهم، منها ماهو محفوظ في السجلات المدنية، ومنها في سجلات المستشفيات حيث يمكن للدولة معرفة حالة شعبها الصحية؛ لتبني عليها خططها ومستقبلها؛ لكن مع ثورة مواقع التواصل، والخدمات المجانية لبعض الأسورة، والتطبيقات الصحية التي تقدمها هواتف ابل، وجوجل مثلا سيتم امتلاك ذاكرة الشعوب الصحية في سجلات الشركات؛ فكل ما نأكله، وما نحرقه من سعرات حرارية، وما كنا نعانيه مقيد في سجلاتها، كما أن شركات علوم الحياة الامريكية تملك سجلات علمية عن بذور العالم، وتسعى بكافة السبل للحصول على بذور كل نوع من النبات متواجد على الأرض، وإعادة تدجينه، وبرمجته بحيث تملك الشركة حقوق إعادة الإثمار؛ فالدول التي ستقوم بزراعة هذه البذور التي تنتجها الشركات لن تمتلك حق الحصول على الإثمار إلا لسنة واحدة. هذا يعني أن ما سيأكله شعب تلك الدولة مرتبط بما تملكه تلك الشركات من شفرة ذاكرة النباتات!. من الملفت للنظر أن كل أنظمة الهواتف التي تعمل في العالم حتى تلك التي تصنعها الشركات اليابانية، والكورية، والصينية، والفلندية هي ملك للشركات الامريكية فكل هواتف سامسونج، وسوني تعمل بنظام الاندرويد الذي تملكه جوجل هذه الشركة التي لم تترك شاردة في العالم؛ إلا كان فضول سعة قلبها في الحفظ يحيطها برعايته تكاد تسيطر على معضم مايمر في العالم من رسائل عبر بريدها الالكتروني، وكل مشهد مهما بلغت درجة تفاهته، وجودته سيجد مصيره على اليوتيوب. إننا نسعى بعون هذه الشركات نحو وضع كل مالدينا في مخزون خوادمها، مع ذلك يبدو أن عصر الخدمات المجانية للتخزين قد ولى عصره. لقد أنشأت جوجل في منتصف العام الحالي من سنة ٢٠١٥ شركة مستقلة تتولى تقديم خدمات التخزين على النت. تسعى شركات التخزين لجعل الإنسان الحديث يعيش بذاكرة فضائية ذاكرة محمولة في فضاءات الشبكة؛ لكنها ليست ملكه وحده. لقد قام بالموافقة حين قبل التسجيل في واحد، أو أكثر من برامج، ومواقع الشركات بتخويل تلك الشركات باستخدام بياناته، ومعلومات سلوكه وتفاعله من أجل تحسين خدماتها له. إنه يحصل على التحديثات المجانية مقابل الموافقة على استعمال ذاكرته الشخصية من البيانات التي قام وهو بكامل وعيه بضخها على الشبكة. هذا الهوس بالأرشفة، والذاكرة وجمع البيانات يثير التساؤل حول كل هذه العناية التي توليها تلك الشركات بذاكرتنا الشخصية، ومن ثم ذاكرة الشعوب؟!. إن الإنسان في مكونه البيلوجي كما يقر العلماء يسير وينتظم، وفق سجل من البيانات، والمعلومات التي يقوم بحفظها وتسجيلها فيما يعرف بشريط الدي ان ايه. إن فك شفرة الدي ان ايه كان انجازا علميا تنافست عليه دول، ومازالت تسعى الدول الكبرى نحو امتلاك أكبر قدر من المعلومات للفصائل، والأعراق البشرية من خلال زرع مراكز تحليل الدي ان ايه عبر العالم. هذه المخيلة حول تطوير وسائل الذاكرة على تقدمها مازالت بداية دخول عصر النانو تكنلوجي حيث سنعيش مع حواسب بالغة الصفر مزروعة في أجسامنا ترصد تخيلاتنا، وطريقة عمل أجسامنا؛ لتجمع كما هائلا من المعلومات تزود به الحواسيب الضخمة التي تنتظر تصحيح أي خلل قد يتعرض له الجسم؛ لترسل أوامرها لحواسيبنا الشخصية فينا كما يسعى الأطباء لزرع كبسولات بحجم حبة دواء تحتوي على صيدلية متكاملة من الأدوية في أجسامنا تكون على استعداد لمعالجة أي خلل دون الحاجة للذهاب للطبيب حيث ستتولى الكبسولات إرسال بيانات المشكلة للحاسب الطبيب؛ ليقوم بدوره بإعطاء أوامر صرف الدواء الخاص بالمرض للكبسولة الحية في أجسامنا!. هذا التدخل التقني يلوح في وجوهنا سؤالا قد يصبح قديما: هل نمتلك الحق في الاحتفاظ بأسرارنا؟. أين ستكون فكرة النسيان في معالجات الوعي البشري فلسفيا؟. إذا تنبهنا إلى أن هذه الخزائن لن تنسى شيئا إذ ستكون واحدة من مهماتها هي محاربة النسيان!. إلا أن يكون النسيان هو خاصية الإنسان الفريدة في المستقبل أما الحكومات الشركات فلا تأخذها نومة!. أين سنضع وقتها ذلك المؤلف الضخم للفيلسوف الفرنسي الشهير بول ريكور حول ( الذاكرة والتاريخ والنسيان ) الذي صرف وقتا طويلا من عمره في تأمل مواضيعه المتعلقة بالذاكرة، وذلك حين عالج فيه مسألة ثقل الذاكرة، والتجارب المأساوية على الإنسان مجترة تلك الجروح العميقة التي تعمق وعي الإنسان بنفسه وبتجاربه؛ لكنها الثقل أيضا إذ تجعله يرزح تحت حزنه، وفريسة لمشاعر الانتقام عبر التاريخ حيث سيكون مهموما بمدى إساءة استعمال الذاكرة والنسيان متسائلا عن سبب الحضور الفائض للذاكرة في مكان مقابل حضور النسيان في مكان آخر!. وإذا كان النسيان نعمة كما سنقول في ثقافتنا، وربما يكون النسيان بوصفه نعمة ابتكارا بيلوجيا للجسد في مسيرته الزمنية من أجل التخفيف من عبء الذاكرة خالقا توازنا بيولوجيا يجعل الجسد يحمل قدرة موازنة ذاكرته بنفسه، هذا النسيان سيضعه فلسفيا ريكور شرطا في طريق تصالح الإنسان مع نفسه، وماضيه ضمن مايسميه الذاكرة العادلة،؛فكيف سيعيش الإنسان حياته مع ذاكرة لا تنام، ولا تنسى، ولا تعرف الشيخوخة، وليست ملكه وحده أيضا؟!.

  تطرح ظاهرة ويكليكس التي توثق بانتقال الحروب إلى عصر الحوسبة الشبكية مسألة استعمالات الذاكرة، أو مايسميه دريدا وآخرون: سياسة الذاكرة في عصر تحول الإنسان إلى ذاكرة على فضاء الانترنت. وكيف ستتأمل الشخصية الإنسانية نفسها في المستقبل بذاكرة ليست تحت سيطرتها التامة؟!. إذ ماذا سيحدث إذا قررت هذه الشركات ـ انظر فلم rememory ـ لسبب ما في مصالح القلوب، وحجبت ذاكرة شعب من الشعوب، ولم تتح له فرصة الوصول إلى بياناته!؟. فالجانب التأملي، والاسترجاعي مرتبط بشكل وثيق بالذاكرة كما تشير الفيلسوفة البريطانية ميري ورنوك. إن تأمل ورنوك في الذاكرة، والذي تستفتحه بسؤال محدد وسيدور تأملها حول الإجابة عن موضوع عريق في الثقافة الإنسانية، وهو في صلب انهماك الشركات حول حفظ الذاكرة. تقول ورنوك: لماذا نقدر الذاكرة تقديرا عاليا؟. تستكشف ورنوك من خلال هذا السؤال مسألة تحويل الذاكرة إلى قيمة دائما مرتبطة بالهوية الذاتية تقول ورنوك: ( يمكن للاستمرارية المادية والبايلوجية وهوية المرء الذاتية التي تضمنها الذاكرة وتؤكدها التحول إلى قيمة دائمة وشاملة من خلال المحاولات التي قد نبذلها لتحويل الذاكرة إلى فن). هذا الطريق الذي تعبده سبيلا لاستمرارية الذاكرة كقيمة للهوية عبر الفن ستجعله جوابا لتقديرنا الكبير للذاكرة. فماذا تعني الشعوب بلا فنون؟!. لكن سياق التطور الحديث للتقنيات التخزينية، وصعود الذاكرة البشرية إلى فضاء السحابات الالكترونية، وزرع شرائح الكترونية تقوم بمهام الأعصاب، وكبسولات تراقب عمل الجسم؛ لتتحول هذه البيانات لذاكرة ليست في يد الإنسان سيضع أمنيتها في أن توجد في المستقبل إجابات مختلفة في سياق مختلف حتما؛ ولكن خارج تلك التقاليد التأملية التي كانت تسبح فيها. فعن أي هوية ذاتية، أو وطنية للذاكرة سيتحدث الإنسان في المستقبل النانوي!؟.

****

إن الأرشيف الحميمي الذي لا يجسر الإنسان بوضعه على مواقع التواصل _ مع أن مواقع التواصل نفذت للحميمي المروي بشكل تافه وساخر _ خشية عليه من النظر، وخوفا عليه من الضياع؛ ولأنه أدمن على استعمال الرقميات سيجد سبيل ثقته في خزائن السحابات حيث وهم الضمانات في الأرقام السرية، والبصمات التي دربتنا البنوك في وصاياها التحذيرية: هذا الرقم السري هو طريقك للوصول لحسابك الشخصي فلا تفشيه لأحد!. تشرع البنوك ضمن قوانينها حق امتلاك الأموال التي لا يسأل عنها ورثتها بعد فترة زمنية من وفاة صاحبها تلك الأموال الودائع حيث كانت البنوك أولى من ابتكر الخزائن السرية، والأمنية للحفاظ على الممتلكات، والثروات هذه الوظيفة الآن هي ما تقوم به خزائن السحابات!. لعل الملفت في الأمر هو تشجيعنا على نشر مانرى بأنه تافه ولا قيمة له، عبر تطبيقات الفيس بوك، وسنابشات الذي وصلت قيمته السوقية إلى خمسة عشر مليار دولار، وتأتي ميزته الأولى التي قد تخفف من عبء الخوف المستقبلي على استعمال مانقوم بنشره أنه يملك قدرة المحو المتواصل للتسجيلات، لكن أين يتم التخلص منها؟!. لم يعد التافه في الدراسات الثقافية، والتاريخية أمرا مبتذلا حين نريد التفكير في المجتمع، والإنسان؛ لذلك يقول هازلت: ( تكتسب أتفه الأشياء حين تستعيدها عين الذاكرة تلك الحيوية والرهافة والأهمية التي تكتسبها الحشرات أثناء النظر إليها عبر زجاجة مكبرة لا حد للبهاء والتنوع). إننا نقدم كنوزا مجانية لتلك المراكز البحثية التي يقبع موظفوها وراء الزجاج المكبر لتقديم أحدث المواصفات للشركات لتدير قلوبنا نحو ثرائها!.

تضعنا هذه التقدمة التقنية للتفكير في السياق الهيغلي من التاريخ العالمي إلى الذاكرة العالمية. فحين يدرج هيغل الأمم التي يستصغرها بوصفها على ( هامش التاريخ ) إذا أردنا التخفيف من حمولة ( شعوب بلا تاريخ ) التي يستعملها الانثروبولجي إريك وولف حيث وجود الشعوب هذه كشعوب لها هوية، ووجود جاء نتيجة اللحظة الصاعدة للتاريخ الأوروبي مع لحظة الاستعمار وتطور نظمه المعرفية منذ القرن السادس عشر حتى ذروة التاسع عشر. لقد شبَّك الاستعمار في تلك اللحظة ذاكرته بذاكرة الشعوب التي استعمرها بل رواها، وأولها مع رحلات الاستكشاف وبدايات الدراسات الانثروبلوجية بحيث أن ذاكرة الشعوب باتت متورطة حين تريد استعادة تاريخها يجب أن تستعيدها في جزء كبير منها مروية بلسان المستعمر، وأن ذاتها مؤولة بمعول نظراته؛ فيكابد البحث عنها عبر تفكيك هذه المروية، والبحث عن سردية شعبية للذاكرة، وقد تكون صياغة شعرية للحظة التاريخية التي ينوجد فيها الشعب كما يحلل رانجيت غُها عمل طاغور الشعري كبدء للتاريخ الهندي في سياق نقده للتاريخ العالمي الهيغلي الذي يُنَظر للاستعمار كفضيلة عالمية تهب على العالم. وهذه واحدة من المآخذ التي رصدها نقاد مايعرف بدراسات ما بعد الاستعمار لكارل ماركس الذي روج الفكرة في سياق نقده للاستعمار البريطاني للهند بوصفه لا يخلو من منافع للشعوب المُستعمَرة!.

هذا السعي نحو التأريخ العالمي كطموح أوروبي يستمر بشكل تقني مع تطور وسائل تقنيات التواصل حيث بات العالم كله مشبّكا في بعض بشكل لم يحلم به الاستعمار الذي شبك العالم مع صناعة العربات والقطارات. وهو يُعزى كفضيلة لخير العالم، وكذلك كفضيلة جعل الذات حرة في الكلام كحق لا يمكن لأحد أن يمنعها منه مع أنها تورط الذات المنطلقة في الكلام بالحُبسة حين لا يستسيغه المجتمع الدولي الذي باتت المنصات تمثله. إنها تحرضه على الكلام حيث هي ممثلة لحداثة رأسمالية لا تشبع رغبتها في وضوح العالم إذ تتطالبه بمزيد من الوضوح كم يخبرنا زيغمونت باومان في ( الحداثة والابهام ). إنها الصياغة الحديثة لمقولة أرسطو: تحدث كي أراك!. ينساق مستعمل تقنيات التواصل إلى استعمال ذاته حضوريا كواجب يومي طقوسي كي يتحدث مُعزَّزا بوهم؛ لكنه مغرور كونه امتلك حريته في الكلام، والتعبير والتواصل، وأوهام النخبة المثقفة من كونها حداثية إلى أقصى ماتقدمه التقنيات بحيث يزاحم حضورها حضور عموم الناس!. وهم مغروز في اغتراب الجسد في العالم!. يعبر عن هذا الاغتراب المضاعف تخفي الكثير من المستعملين وراء الأسماء المستعارة معتبرين أن هذا الفضاء أيضا لا يكفيهم للتعبير عن أقصى رغباتهم. لا أحد يحتمل كلفة الكلام. لذلك كل كلمة هي علامة مضاعفة على اغتراب الجسد داخل علب المنصات!.