مجلة حكمة
الوعي العربي

المجتمع العربي والثقافة غير العربية: تعدد الوعي العربي بالغرب – عبد الإله بلقزيز


– 1 –

ينطوي العنوان الذي نتناول بالدرس على عموميات تستدعي تبديدا يستبين به المعنى، أو قل تخصيصا وتفريدا يسوغ معه كلام منضبط في حيز زمني ليس يستوعب أكثر من مستلّة إشكالية واحدة. ويقع -ضمن هذا الذي يحتاج إلى تبديد أو تخصيص- حدّان اثنان هما: المجتمع العربي، والثقافة غير العربية. ما الذي نريده بإيرادهما معا في هذه المعادلة الإشكالية؟ أي مجتمع نعني، وأية ثقافة نقصد؟

في مضمار الثقافة والاجتماع الثقافي ثمة بديهية انثروبولوجية تمتنع على التجاهل: التمييز بين المقول العالم وبين المعيش الرمزي، بين ما دعاه كلود ليفي ستروس بالثقافة العالمة و ما دعاه بالثقافة المتوحشة. والمجتمع العربي –إسوة بسائر مجتمعات الأرض- يحمل في جوفه هذا التقاطب السوسيو-ثقافي بين قسم منه –هو الأعظم كما- ينتج ثقافته ووعيه بالعالم على نحو يتداخل فيه الحركي بالمرئي بالمكتوب، ويمارس وعيه الثقافي ذاك في ثورة أفعال ومسلكيات مادية واعية أو غير واعية، إدراكية أو طقوسية؛ ثم بين قسم ثان منه –هو الأضأل حجما والأشحّ عددا- ينتج تلك الثقافة على مقتضى قواعد نظرية اصطناعية واعية أو مدركة. نسمي المجتمع الأول بالتسمية الدارجة في الكتابة السوسيولوجية المعاصرة: المجتمع الأهلي. ونسمي المجتمع الثاني باسم مجتمع النخبة. قد تتسع مساحة المشترك بينهما أو قد تضيق، بالتناسب مع درجة التراكم الثقافي المجتمعي العام، ومع فعل قانون تفاوت التطور بين المجتمعات الوطنية العربية، غير أن المساحة إياها –ضاقت أو اتسعت- لا تستطيع إلغاء الفجوة بين نمطين من الثقافة ينهض تباينها على اختلاف عميق في آليات إنتاج الرموز وتوزيعها. وإذ نحتفظ بهذا التقسيم الماهوي –والوظيفي- للمجتمع العربي (= المجتمع الأهلي/مجتمع النخبة)، فنستعمله للتفكير – في حالتيه معا – في طبيعة صورة الثقافة غير العربية في وعيه، نجدنا مدفوعين إلى تعيين حالة واحدة من حالات الثقافة غير العربية،
ــــــــــــــ

*) النص محاضرة ألقيت في دمشق بدعوة من “مكتبة الأسد” بتاريخ 28/9/97

وحصر التفكير فيها، اجتناب النهوض في مستويات متباينة من الموضوع، وابتغاء تقييد

منهجي له ما يبرره في كل حال. فقد يتداعى إلى الذهن، فور الحديث عن الثقافة غير العربية، سائر الثقافات التي لا ينتجها العربي – من “العامة” أم من النخبة – حتى وإن وجد نفسه في بعض تعبيراتها. وهكذا قد تكون هذه الثقافة غير العربية ثقافة الغرب – مثلا- أو الثقافات الإقليمية المجاورة ( = الفارسية، والتركية، والإفريقية)، أو ثقافات الشرق الأقصى، كما قد تكون -أيضا- ثقافة (أو ثقافات) المجموعات الاثنية المختلفة التي تعيش في كنف المجتمع العربي، ويتمسك أهلها بخصوصياتهم على النحو الذي يغايرهم -كلا أو بعضا- عن الثقافة العربية السائدة.

نكتفي من هذه الكيمياء الثقافية غير العربية بمادة واحدة هي الثقافة الغربية. وانتخابها دون سواها ليس محض انتقاء منهجي وظيفي – وإن كان كذلك في أحد وجوهه – بل هو يستند – أيضا – إلى مبررين رئيسين: أولهما أن الثقافة الغربية هي الأشد تأثيرا والأعظم اصطداما بالمجتمع العربي قياسا بغيرها من الثقافات الوطنية والإقليمية الكبرى، بل وقياسا بالثقافات الخاصة بالمجموعات الاثنية التي تعيش بين ظهرانينا. وثانيهما أن الثقافة الغربية هي بحق – بالنسبة إلى العربي – ثقافة “الآخر”، وهذا في كل حال ما ليس ينطبق أمره على ثقافات المجموعات الاثنية المحلية، التي تنتمي – بهذا القدر أو ذاك – إلى الأنا الحضاري العربي – الإسلامي. ولدينك السببين، ستكون هذه الثقافة الغربية مدار حديثنا عن موقف المجتمع العربي منها.

– 2 –

في الحديث عن موقف المجتمع الأهلي العربي من الثقافة غير العربية ( = الغربية)، تطالعنا حقيقتان أقام تواتر ملاحظتهما الدليل عليهما : أولهما أنه مجتمع لا يستهلك المكتوب من هذه الثقافة، في الأغلب الأعم من استهلاكه لها، وثانيهما أن ذلك الاستهلاك يجري على مقتضى الاستجابة والإقبال المرسل، وبدون خلفيات أو عيون نقدية:

أ – ليست معدلات الأمية – العالية في البلاد العربية – وحدها ما يفسر لماذا لا يتخذ الاستهلاك الثقافي للثقافة الغربية -من قبل المجتمع الأهلي- شكل استهلاك للمكتوب من تلك الثقافة. ثمة سبب آخر ينتمي إلى هذه الثقافة، وإلى الأشكال الجديدة التي باتت تعرض نفسها فيها. فهي -اليوم- ثقافة الصورة: الثقافة التي انتصرت على سحر الكلمة التقليدي وألغت فعاليته لكي تنوب منابه في تعبئة وجدان ووعي المتلقي بالمضمون والخطاب الثقافيين اللذين تتغياهما! ثقافة الصورة، اليوم، على قدر كبير من الجاذبية والإغراء والسحر الأخاذ إلى الحد الذي تستعصي فيه على المقاومة النفسية للإنسان العادي/المتلقي. ثقافة لا يعوزها الذكاء لإنجاز نجاح فعال في تكييف وعي ووجدان من يستهلكها: إنها تنفق الجهد كي تقدم نفسها في مستوى من الحبكة الجمالية تنهار معه كل مقاومة ممكنة أمام الرغبة في التلقي والاستهلاك. والأهم من ذلك أنه لا تعوزها أسباب القوة كي تنفذ أحكام سطوتها إحكاما. والأسباب تلك ليست سوى التقانة العالية: التقانة التي ولجت مجال الثقافة والإعلام، فأنتجت سيلا هائلا من الامبراطوريات السمعية -البصرية الضاربة، التي وسعت دائرة سلطتها بواسطة البث الفضائي، فبات في وسعها التوغل عميقا في النسيج الاجتماعي والاستيطان فيه.

تكاد المادة الثقافية -المعروضة في شكل زخات من الصور- تكون الزاد الثقافي الأساس الذي يتغذى منه وعي المجتمع الأهلي العربي. بل إن المرء لا يتزيد حين يقول إن هذه المادة السمعية-البصرية الجديدة هي المادة الثقافية الوحيدة التي يقبل عليها العربي ويستهلكها بشراهة ، فتصنع مخياله وتؤسس وعيه بالعالم والأشياء. وفي الظن أن في هذه العلاقة بين المجتمع الأهلي العربي والثقافة (السمعية-البصرية) غير العربية، ما يلقي الضوء على نوع الوعي بها: الوعي الذي لا يمكن وصفه بأنه متوازن أو صحي في كل حال.

ب – يستقبل الوعي العربي الأهلي المادة الثقافية الغربية المعروضة عليه، في شكل أصوات وصور، وهو مجرد أو يكاد من أية خلفية نقدية تسمح له بإخضاع تلك المادة إلى المساءلة، أو التحوط من الاستجابة المرسلة للخطاب الذي تحمله. يتعاطى معها استهلاكا لا قيد عليه ولا حد له، مغمورا بشعور مزدوج متداخل: انبهاري، وفرجوي. وجه الانبهار فيه تعطيل حاسة النقد، والاستسلام للحذر اللذيذ الذي يحدثه استهلاك تلك المادة الثقافية شديدة القدرة على جذب المتلقي واحتكار انتباهه، بل وصرفه عن محيطه اليومي صرفا كاملا. أما وجهه الفرجوي فبين من واقع أن هذا الوعي الأهلي المتلقي لا يطلب من المعروض الثقافي إلا ما تتحصل به المتعة “وتنشرح به النفس”. وتكشف دراسات ميدانية لاستمزاج الرأي العام عن أن القنوات الفضائية الثقافية أو السياسية المتخصصة هي الأقل شعبية على صعيد التداول قياسا بتلك التي تكرس معظم بثها للأفلام والمسلسلات والبرامج الغنائية وبرامج التسلية، فدرجة الفرجة والاستمتاع في هذه أعلى بما لا يقاس!

على أنه من الإنصاف القول إن هذا الجنوح إلى الانبهار بالمادة الثقافية السمعية-البصرية الغربية، من قبل المجتمع الأهلي العربي، والميل إلى استهلاكها بإفراط، له “أسباب نزول” داخلية: عجز الآلة الثقافية الوطنية والقومية عن إشباع حاجة الجمهور إلى مادة ثقافية وجمالية تخاطب وجدانه وتجيب عن مطالبه الرمزية. إن الهجرة العارمة إلى القنوات الفضائية الغربية هي في مثابة احتجاج جمعي على عجز وتفاهة المؤسسة الثقافية – الإعلامية الرسمية، أكثر منها ” خيانة” من الشعب لثقافته الوطنية! إنها لجوء اضطراري إلى حيث التحرر النسبي من بؤس ثقافي صنعناه بأيدينا وندفع اليوم ثمنه عزوفا من شعبنا عن ثقافتنا. قطعا ليس الشعب من يخون ثقافته حين يفرنقع عنها وجدانه وانتباهه، بل إن هذه الثقافة هي من تخون دورها الاجتماعي والوطني حين لا تنجب إلا البؤس…، والبؤس وحده!

وتوخيا للنسبية في الأحكام، علينا أن نعترف أن حالة الإقبال الانبهاري على الإنتاج الثقافي الغربي، السمعي-البصري- ليست سمة سائر مكونات المجتمع الأهلي العربي؛ وإنما هي قصر على قسم منه قد يكون الأعظم عدديا، دون أن يكون له أي امتياز تمثيلي. فالثابت -بأحكام الملاحظة- أن قسما آخر من المجتمع الأهلي العربي يبدي ممانعة حادة ضد أية صلة بالثقافة الغربية، المكتوب منها والمسموع والمرئي، على خلفية الاعتقاد في مجافاتها نظام القيم الديني والاجتماعي والأخلاقي. وهذا حال المجتمع العربي المحافظ، المتمسك بمرجعيته الدينية؛ وهو المجتمع الذي يتزايد جمهور المنتسبين إليه من الأجيال الجديدة، تناسبا مع تزايد جمهور الحداثيين: ممن يستوعون الحداثة نظريا فتكون لهم إيديولوجيا ونمط إدراك -وهم القلة- أو ممن يعيشونها على سبيل الغريزة الطبيعية فتكون لهم نظام سلوك يومي.

– 3 –

لا تختلف خارطة مواقف واتجاهات مجتمع النخبة العربي عن مواقف نظيره الأهلي من الثقافة الغربية. يتفاوت التعبير عنها بينهما، بسبب اختلاف الأدوات وطرائق الإفصاح الثقافي والفكري، غير أن سمات المشترك بينها وافرة بما يفيض عن الحاجة إلى دليل، وبينة بما لا يستدعي بيانا. ففي جوف مجتمع النخبة تيار انبهاري بالغرب الثقافي، متماه معه، وتيار رفضوي مستنفر ضده. وربما كان موطن التميز والاختلاف أن رحاب مجتمع النخبة وسعت تيارا ثالثا – لا نعثر له على أشباه ونظائر في المجتمع الأهلي- هو ما يمكننا أن ندعوه بتيار التثاقف النقدي.

لنستعرض مواقف هذه التيارات الفكرية الثلاثة من الثقافة الغربية، من حيث هي مواقف فئة ذات اعتبار في سلم المراتبية الاجتماعية والرمزية: هي فئة المثقفين:

أ – يؤسس التيار الانبهاري شرعية خطابه على فرضية تقول بكونية المعرفة، ومقولات العقل، ومنظومة المفاهيم التي تنهض عليها فكرة الحداثة. يجذف هذا الموقف المعرفي ضد تيار الخصوصية والتميز، مستدعيا سائر المبررات التي ساقها الفكر الحديث حين انتهاضه على أنقاض الفكر القديم، فيعيد إنتاج المعركة الثقافية ذاتها ضد ما يحسبه رديف ذلك الفكر القديم في الداخل. يفعل ذلك باسم الانتساب إلى كونية لم يعد في وسع ثقافة أن تنأى بنفسها عنها لكي تحقق نصاب التاريخية… والمعاصرة.

أطلقنا على هذا التيار اسم التيار الانبهاري لسببين على الأقل: لكونه لا يتخذ الثقافة الغربية منظومة مرجعية فحسب، يستند إلى أصولها أو إلى نظمها المفاهيمية في إنتاجه المعرفة، بل يقف أمامها في حال من الذهول والاندهاش تأخذه بعيدا إلى تخوم التبشير بها: نظاما فكريا، ورصيدا من المعارف، وطرائق نهاجية في التفكير والمقاربة. وفي امتداد هذا المس الانبهاري، يهوي التيار إياه إلى درك ايديولوجي ممجوج: ممارسة دور ثقافي رسولي في مجتمع مصاب بـ”الجاهلية” الفكرية،ذاهلٍ عن الحقيقة المطلقة! ثم لكونه ( = نعني التيار) لا يفعل – في واقع الأمر – أكثر من ترداد مفردات هذه المنظومة الثقافية الغربية في شكل تتحول فيه الترجمة – وللدقة: الترجمة بتصرف – إلى اسم حركي للتأليف! ونحن لا نتزيد حين نقول إن هذا التيار – على تعاظم حجم قاعدته – لم يخلف تراثا معرفيا حقيقيا يملك أن يباهي به سواه، بل نحن لا نجد – خارج المشروعين الثقافيين الموسوعيين لطه حسين وعبد الله العروي – رصيدا فكريا حقيقيا يتعدى الترداد، والمشاعة اللفظانية ضد القديم، والكتابة المبتسرة على طريقة الحواشي والمختصرات! لذلك تجتمع كافة الأسباب للاعتقاد بأن هذا التيار يمثل حالة انفعالية في جسم الثقافة العربية : حالة الاستسلام السهل أمام سلطة الحداثة الثقافية الغربية وسطوتها الضاربة على “الهوامش” و “الأطراف”!

ب – يتقوم فكر التيار الرفضوي على موضوعة ايديولوجية بالغة الادعاء والنرجسية : غناء الفكر العربي – والإسلامي استطرادا – عن أي مورد ثقافي أجنبي، واستواؤه على مقتضى الإشباع الذاتي الذي يستكفي به عن التماس العون المعنوي من غيره! لا فضل للثقافة الغربية على العربية (والإسلامية) – في ما يرى هذا التيار- إلا بمقدار ما تمدها به آلة القوة المادية العمياء، التي تحصلها الغرب من باب الغلبة العسكرية والتفوق الاقتصادي والتقاني. ودون ذلك، ما من دليل معرفي على وجاهة مقالته العقلية أمام حجة ثقافة العروبة والإسلام.

يناهض التيار الرفضوي فكرة كونية الثقافة الغربية وشمول أحكامها سائر المجتمعات والثقافات، مشددا على أطروحة الخصوصية بوصفها التعبير الطبيعي والعادل عن كل ثقافة. بل هو ينقل معكرته إلى ميدان الثقافة الغربية ذاتها، فلا يتعرف منها سوى على المنزع إلى الهيمنة والتشكل والإلحاق ضد سواها من الثقافات، فينشأ في وعيه التماهي بينها وبين العدوان الثقافي والعنف الرمزي! ومن النافل القول إن مثل هذه الأحكام المسبقة -المكنزة بكل معاني الكراهية لـ ” الآخر” وثقافته – تدفع التيار الرفضوي إلى إحاطة عزلته الفكرية عن العالم الخارجي بالمزيد من أسباب تنمية الانكفاء والتشرنق المرضي على الذات، وتمنعه من تحقيق القدر الطبيعي من الانفتاح على المقالة الفكرية المعاصرة. ونحن لا نضيف جديدا حين نقول إن هذا التيار يستثمر رفضويته ضده، فيفرض على نفسه حرمانا قاتلا من التمتع بثمرات المعرفة الحديثة بدعاوي ايديولوجية باطلة المحتوى وعصابية الشكل!

وعلى ذلك، يمثل التيار الرفضوي للثقافة الغربية أعلى مراحل النكوصية في الوعي العربي ، والحالة الأشد إفلاسا في ممارسة الممانعة الثقافية ضد الزحف الظافر للثقافة الغربية!

ج – ربما كان تيار التثاقف النقدي اللحظة الأكثر توازنا في الوعي العربي المعاصر، وعلى صعيد إدراكه للغرب والثقافة الغربية بالذات. وموطن الفرادة والتميز- في موقف هذا التيار- في تحركه على أرضية من التمثل للثقافة الغربية صلبة: فهو يبدي سائر أنواع الانفتاح عليها دون تردد، ويمارس شتى أشكال الانتهال من ثمراتها المعرفية دون تحرج؛ لكنه يحفظ لنفسه -في الوقت ذاته- حق مساءلتها، وإخضاعها للنظر النقدي لعيار درجة مطابقتها للحاجات الاجتماعية والفكرية للمجتمع العربي.

ينتظم منطق هذا التيار وعي حاد بالحاجة إلى ممارسة فعلين معرفيين متضافرين وعضويين : تمثل فكر “الآخر” ونقده في الآن نفسه. لا مجال للمقايضة بينهما أو التضحية بأحدهما على نحو ما ينزلق إليه تيارا الكونية والخصوصية فيخطئان إدراك جدلية الفكر: جدلية الاستيعاب والنقد، التراكم والتجاوز. فالانتهال غير النقدي وغير المحسوب للثقافة الغربية قد يسبب عسرا شديدا في تمثل المادة المستهلكة، وقد يصيب صاحبه بحالة كوليستيرول ثقافية. وعلى النحو نفسه، قد يتحول المنزع النقدي – المذهبي لا المنهجي – إلى تعاويذ ايديولوجية عصابية إذا لم يستند إلى معرفة دقيقة وتفصيلية بمعطيات المنظومة الفكرية التي يتعوذ منها تعوذه من خبائث الأمور! وقيمة تيار التثاقف النقدي أنه يجترح سبيلا مختلفا – في مقاربته الثقافة غير العربية – فلا يسلك طريق الانبهار السهل بها ولا طريق الافتراء العدواني عليها. فهو ليس عبدا لها ولا هو جاهل بمعطياتها. ومن هذا الموقع – وهو ما زال اليوم موقعا تأسيسيا في الثقافة العربية – يملك أن ينتج مقالة معرفية أكثر توازنا بالغرب وثقافته.

رب قائل – من غير تريث – إن التيار إياه كناية عن تيار توفيقي بين سابقيه، وأنه – لذلك السبب – لا يفعل أكثر من إنجاز مصالحة – لا تتحملها المعرفة – بين دعاة الحداثة والكونية ودعاة الأصالة والخصوصية. وفي الظن أنه حكم يجافي منطق اشتغال عقل هذا التيار ويسبح ضد مقدماته الصريحة غير المظنونة. ذلك أن تيار التثاقف النقدي ينطلق من مسلمات معرفية يشيد على مداميكها مقالته، تثبت، بما يمتنع على الشك، أنه ليس معنيا ببناء أية مصالحة معرفية بين خطابي الحداثة والأصالة. من أهم هذه المسلمات أو المقدمات:

أولا  أن المعرفة محكومة، في النشأة والتطور، بقانون التراكم. وهي لذلك مدعوة إلى أن تعب من منظومات ومراجع فكرية أخرى ما يتأمن به رصيدها الذي تحتاج إليه للإجابة عن الأسئلة التي تطرحها على نفسها، أو يطرحها عليها الواقع.

ثانيا – أن المعرفة تنمو بالحوار والتبادل الرمزي والتثاقف وليس بمجرد التخزين والمراكمة اليومية، وأن الحوار عصي على الوجود مع امتناع حاسة النقد والمساءلة.

ثالثا – أن الفكر والثقافة ليسا بنية معرفية مغلقة تتناسل معطياتها بينها كالفطر، بل هو يمثل مستوى من مستويات (أو لحظة من لحظات) التعبير عن المحيط الواقعي والتاريخي. وبالتالي، فالأفكار لا تكتسب قيمتها من نفسها مجردة، بل من قدرتها على تمثيل اللحظة التاريخية، والتعبير عنها، والمساهمة في تغييرها تغييرا ثوريا.

وعلى قاعدة هذه المقدمات/المسلمات الثلاث، يشتغل تيار التثاقف النقدي، فيفتح خط الاتصال – دون تردد – مع الثقافة الغربية منتهلا منها، مثلما يفتح النقد والمساءلة لها على النحو الذي يسمح له بأن يؤرخن ويموضع معطياتها الثقافية تناسبا مع مطالب محيطه الاجتماعي وظرفه التاريخي. وعلى ذلك، يصدق وصفه بأنه تيار تركيبي وليس تيارا توفيقيا؛ إنه ينطلق من الأطروحة والنفي ليحقق التجاوز بلغة الفكر الجدلي: التجاوز الذي يؤسس أطروحة جديدة يتحقق بها انفتاح جديد، وتراكم معرفي جديد، ويخرج بها الوعي العربي من ثنائياته النهضوية الموروثة وشرانقها ومنها ثنائية – أو إشكالية – الأصالة والمعاصرة…

***

إذا تركنا جانبا موقف المجتمع الأهلي العربي من الثقافة الغربية، لأنه يحتاج إلى تحليل إحصائي وسوسيولوجي لا نقوى عليه ولا نملك العدة النظرية والمنهجية للخوض في مسائله، واكتفينا بموقف مجتمع النخبة (أي المثقفين)، فإننا نملك أن نغامر بالقول إن تصويب هذا الموقف وتصحيحه – في أوساط منتجي الأفكار (المثقفين) – يتوقف على التحرر من حالتين وعاهتين ملازمتين لهما : من حالة الاغتراب الثقافي في المجتمع العربي اليوم – إلى ما يشبه جالية ثقافية أجنبية مقيمة على أرضنا، بعضها يبحث لنفسه عن اعتراف يوفر له إقامة مريحة وما يستتبعها من حق في الكلام، فيما بعضها الآخر يبدو كما لو نذر نفسه لممارسة مهمات فدائية حداثية، فانتظم في “كوماندوس ثقافي” يحارب خلف خطوط الثقافة المحافظة! ثم من حالة الانكفاء التراثوي الذي حوّل أصحابه إلى حالة ديناصورية لا تتفاعل مع العصر في أية صورة من صور التفاعل الخلاق، بل ولا تنتمي إليه إلا انتماء بيولوجيا في أفضل الحالات! وسيظل موقف العربي من ثقافة “الآخر” محكوما بأن يكون موقفا لا تاريخيا متى ظل رهين المحبسين : أعني المقالتين : الانبهارية الاغترابية، والتراثوية الرفضوية.

حان الوقت للرفضويين لكي يكفوا قليلا عن الكلام المعقم، الذي صنع في عصور غابرة (دون أن نعرف إن كانت صلاحية استهلاكه ما زالت مستمرة!)، فينصتوا إلى خطاب غيرهم عساهم يعثرون فيه على ما يجيب عن نوازل العصر دون عصاب. وحان للانبهاريين أن ينتقلوا من حالة الإصغاء المديد للغرب إلى حالة كلام لا يكونون فيه مجرد ببغاوات، بل أهل رأي أو أصحاب مقالات بعبارة الشهرستاني. لم نعد في حاجة إلى مبشرين منا برسالة الرجل الأبيض، بل نريد أن ننتجها نحن لا أن نستوردها كما نستورد السلع، فتكون أصيلة نحل بها عقدة الهوية. ولم نعد في حاجة إلى مبشرين منا بعصر ذهبي حضاري عربي مضى، بل نريد أن نبنيه على مقاساتنا المعاصرة، إسوة بسائر أمم البشرية، فنحل بذلك عقدة انتمائنا إلى العصر. آن الأوان للايديولوجيين – من سائر المذاهب والفرق والنحل – أن يكفوا عن ممارسة الغش المعرفي ضد أنفسهم وضد الثقافة العربية ·

مجلة الجابري – العدد الخامس