مجلة حكمة

المجد والقوة – موريس بلانشو / ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي

المجد و القوة
موريس بلانشو، كاتب وفيلسوف فرنسي

أود أن أستعرض بإيجاز بعض القضايا البسيطة التي من شأنـها أن تعيننا على أن نضع الأدب والكاتب موضعها اللازم.

مضى زمن كانت للكاتب فيه، مثلما كانت للفنان، علاقة بـ المجد . كان التمجيد منتوجه وأعماله، وكان المجد هبته التي يهبها ويتلقاها. المجد ، بالمعنى القديم، هو إشعاع الحضور (المقدس أو الملكي). التمجيد، كما يقول ريلكه، لا يعني التعريف بـ المجد هو ظهور الكائن الذي يتجلى في بـهاء وجوده، وقد رمى عنه ما يحجبه، واستقام في حقيقة حضوره المكشوف.

محل المجد حل ذيوع الصيت. يدرك ذيوع الصيت في الاسم. فالقدرة على إطلاق الأسماء، وقوة من يسمي، والاطمئنان الخطير للاسم ( الإنسان عرضة لخطر التسمية)، كل هذا يصبح وقفا على الإنسان القادر على أن يطلق الأسماء، وعلى أن يسمع ما يسميه، والاستماع يخضع للصدى. إن الكلام الذي يخلد نفسه في الكتابة، يعد صاحبه بنوع من الخلود. يرتبط الكاتب بما يقهر الموت. فهو لا يعرف المؤقت. وهو صديق النفوس وإنسان الأرواح وضامن الخلود. لا زال كثير من النقاد، حتى اليوم، يعتقدون اعتقادا صادقا أن مهمة الفن والأدب تخليد الإنسان.

يعقب ذيوع الصيت الشهرة، مثلما يعقب الرأي الحقيقة. حينئذ يغدو النشر الهدف الأساس. يمكننا أن نفهم هذا الأمر على نحو مبسط؛ يغدو الكاتب معروفا عند الجمهور، يصبح مشهورا، فيسعى إلى أن يصبح قيمة لأنه في حاجة إلى ما له قيمة، في حاجة إلى المال. ما الذي يستحث الجمهور الذي يعطي القيمة؟ إنه الإعلان والإشهار. حينئذ يصبح الإشهار ذاته فنا، يصبح فن الفنون. إنه أهم ما يوجد ما دام يحدد السلطة التي تحدد ما تبقى.

هنا ندخل مستوى من الاعتبارات التي لا ينبغي أخذها مأخذ التبسيط. الكاتب ينشر. النشر هو التعميم، هو جعل المكتوب في يد العموم. بيد أن هذا لا يعني فحسب نقل شيء من حالة الخصوصي إلـى حالة العمومي، كما لو كان ينقل من مكان (الداخل أو الغرفة المغلقة) إلى مكان آخر (الخارج، الشارع) وذلك بمجرد تغيير الحيز الذي يشغله. كما أن النشر ليس الكشف عن خبر أو سر. فليس الجمهور أو العموم مكونا من عدد كبير أو صغير من القراء، كل يقرأ على حدة. يفضل الكاتب أن يقول إنه يؤلف كتابه إهداء إلى صديقه الأوحد. إلا أنـها رغبة لا تلقى استجابة، فلا وجود للصديق ضمن الجمهور، ولا مكان لأي شخص معين، وبالأولى لبنية اجتماعية معينة مثل الأسرة والجماعة والطبقة والأمة. ليس هناك من ينتمي إلى الجمهور، ومع ذلك فكل العالم ينتسب إليه. ليس العالم الإنساني فحسب، بل جميع العوالم، جميع الأشياء ولا شيء : الغير. لذا فمهما كانت الصرامة التي تعتمدها الرقابات، ومهما كان الوفاء للتعليمات فإن أية سلطة لا ترى في عملية النشر، الا ما يبعث الوجس وما ينم عن سوء الطالع لأن هاته العملية تولد الجمهور الذي يظل منفلتا من أكثر التحديدات السياسية صرامة وذلك بالضبط لما يتمتع به من عدم تحديد.

ليس النشر هو أن تعرض ما كتبته للقراءة، ليس هو التمكين من القراءة. إذ أن ما ينتسب للعموم لا حاجة له لأن يقرأ. إنه ما سبقت معرفته. إنه معروف مسبقا معرفة لا تدع شيئا يفلت من يدها ولا ترغب في الزيادة من المعرفة. إن ولع الجمهور، ذلك الولع الذي لا يعرف الشرود والذي هو في تعطش دائم رغم أنه مكتف قانع، والذي يرى أهمية في أي شيء رغم أنه لا يولي اهتماما إلى شيء، إن ذلك الولع حركة بخست حقها ووصفت بغير قليل من التحيز. إننا نرى هنا القوة اللاشخصية ذاتـها التي هي وراء المجهود الأدبي كعقبة وحاجز، ولكن أيضا كمنبع ومصدر. فالمؤلف يعبر عن نفسه ضد كلام وبفضل كلام محدود لا ينقطع، كلام لا بداية له ولا نـهاية. ضد ولع الجمهور، ضد الفضول الشارد الذي لا يقر له قرار، الفضول العام والمحيط بكل شاذة وفادة، يقوم القارئ بقراءته منبعثا بصعوبة من خضم تلك القراءة الأولى التي قرأت قبل أن تقرأ، قارئا ضدها، ولكن عبرها بالرغم من ذلك. يساهم كل من القارئ والكاتب، الأول في استماع محايد، والثاني في كلام محايد، يودان معا توقيفهما ليفسحا المجال لتعبير يفهم ويسمع بشكل أوضح (…)

مثلما أن الاستماع العمومي قد سمع كل شيء مقدما وأدركه ، إلا أنه يعمل على إفشال كل فهم خاص، ومثلما أن الشائعات العمومية هي غياب كل كلام دقيق مترو لكونـها تعني دوما غير ما تقوله، ومثلما أن الجمهور هو اللاتحديد الذي يقضي على كل مجموعة وكل طبقة ويـمحوها، فإن الكاتب عندما يدخل تحت افتتان ما يتمخض عن كونه “ينشر”، باحثا عن القارئ وسط الجمهور يتوجه نحو كلام لن يكون كلام أحد، ولن يسمعه أحد، لأنه سيخاطب دوما أحدا آخر مذكرا من يستقبله بآخر جاعلا إياه في انتظار شيء آخر. لا مجال هنا للشمولي العام، ولا ما يجعل الأدب قوة بروميثية أو إلهية تبسط يدها على كل شيء، وإنما هي فحسب حركة كلام لا أصل له ولا مالك، كلام يفضل الامتناع عن القول بدل الزعم بالإحاطة بكل شيء، وحتى عند قول شيء ما فإنه يكتفي بتعيين المستوى الذي ينبغي أن ننـزل إلى ما دونه إذا ما أردنا الشروع في الكلام. في “بؤسنا الفكري” هناك إذن غنى الفكر. فالبؤس يجعلنا نحس أن التفكير يعني دائما أن نتعلم كيف نفكر أقل مما نفكر، أن نفكر في الغياب الذي هو الفكر، وأن نحافظ على ذلك الغياب عندما ننقله إلى الكلام (…)

هذا الخلط العجيب الذي يجعل الكاتب ينشر قبل أن يكتب، ويجعل الجمهور يشكل و يتناقل مالا يسمعه، ويجعل الناقد يحكم على ما لا يقرؤه ويحدده، ويجعل القارئ في النهاية، مضطرا لأن يقرأ ما لم يكتب بعد، إن هاته الحركة التي تمزج بين جميع لحظات تكون العمل الأدبي عاملة كل مرة على استباقها، هاته الحركة تجمع هاته اللحظات فيما بينها بحثا عن وحدة جديدة. من هنا يستمد عملنا الأدبي غناه وفقره، رفعته و وضاعته، ذيوعه وعزلته مما يجعله يتمتع بـهاته الفضيلة وهي أنه لا يرغب لا في القوة ولا في المجد .

مجلة الجابري – العدد الرابع


Blanchot,

La puissance et la gloire “

in le livre à venir

Gallimard 1959, pp. 359-367