مجلة حكمة
الهدية هدايا

الهدية – عبد الرحمن بن عبد الله الشقير

تعد الهدية أحد أهم أشكال التفاعل الاجتماعي التي تحمل معها معاني اجتماعية كثيرة، ويوجد حولها تراث كبير في الأحكام الدينية والأنثروبولوجيا والأدب، إلا أنها تنطوي في كثير من حالاتها على تعاقد شعبي ضمني ملزم أخلاقياً، وغير مكتوب. والهدية شكل من أشكال العطايا المجانية التي تنطوي على تبادل رمزي له منافع رمزية، وهي بهذا التعريف الواسع تشترك مع مفاهيم: الهبة، والصدقة، والوصية، والمنحة، والرشوة. ويوجد نوع من الهدايا التي لا تدخل ضمن الهدايا التعاقدية، مثل الهدايا متناهية الصغر، ويدخل ضمنها الكتب.

تركز هذه الورقة على موضوعات: الصورة الذهنية للهدية في التراث العربي والإسلامي، وإمكانية دراسة نظام الأسرة وتحولاتها من نظام الهدية، والأسواق الاقتصادية الجديدة في نظام الهدايا المستحدثة، ودور الهدية من منع تراكم الثروة بين القبائل، والهدية القسرية الملزمة، ودور الهدية في جودة الحياة.

أولاً: الهدية في التراث العربي والإسلامي

ترد الصورة الذهنية عن الهدية في التراث العربي والإسلامي في سياق إيجابي، وأكثر النصوص تحث على الهدية، وأنها من أسباب التواصل الاجتماعي وتحسين المزاج العام، ويشتهر في هذا المجال حديث نبوي ينص على “تهادوا تحابوا”، وقد كان لهذا الحديث فاعلية كبيرة في سلوك الأمة. وتشير النصوص إلى أنها وسيلة للتماسك الاجتماعي، جاء في كتاب “المحاسن والأضداد“: “والهدية تجلب المودة وتزرع المحبة وتنفي الضغينة؛ وتركها يورث الوحشة ويدعو إلى القطيعة؛ والهدية تصير البعيد قريباً والعدو صديقاً، والبغيض ولياً، والثقيل خفيفاً:

إذا أردت قضاء الحاج من أحدٍ    قدِّم لنجواك ما أحببت من سبب

إن الهدايا لها حظٌ إذا وردت   أحظى من الابن عند الوالد الحدبِ[1]

ويقول شاعر:

إن الهدية حلوة    كالسحر تجتلب القلوبا[2]

ويؤكد بعض المهدين أن هداياهم تكون من زوائد المال، وليست من أصل المال، يقول يزيد بن حبناء التميمي:

ولا تعذليني في الهدية إنما     تكون الهدايا من فُضول المغانمِ[3]

ويؤكد البعض أن قيمة هديته في رمزيتها، أهدى أبو تمام إلى الحسن بن وهب قلماً، وكتب إليه:

قد بعثنا إليك، أكرمك الله    بشيء، فكن له ذا قبول

لا تقسه إلى ندى كفك الغمر  ولا نيلك الكثير الجزيل

واغتفر قلة الهدية مني    إن جهد المقل غير قليل[4]

بينما ترد الهدية على المستوى الدبلوماسي بسياق مختلف، يذكر القرآن الكريم عن ملكة سبأ أنها ردت على رسالة النبي سليمان عليه السلام بهدية، “وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون، فلما جاء سليمان قال: أتمدوننِ بمال، فما آتاني الله خير مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون”. ويؤكد هذا المشهد على أن الهدية كانت وسيلة استطلاع دبلوماسية، وقد ردها سليمان؛ لأنه يدرك المغزى السياسي لها.

وقد تتقاطع الهدية مع الرشوة، وخاصة إذا كانت الهدية لموظف أو صاحب منصب. يقول الشاعر:

على الحاجات أقفال ثقال       مفاتحها الهدايا في الظلام

ثانياً: فهم تحولات الأسرة من نظام الهدية

يوجد مناسبات اجتماعية كثيرة يتأكد فيها تقديم الهدايا، وقد بدأت بمجموعة مناسبات محدودة، ثم توسعت المناسبات مع توسع مدارك الإنسان والانفتاح الاجتماعي، إلا أن الهدايا التراثية لها أسماء، قد تكون خاصة بكل منطقة.

يمكن أن نفهم حجم تماسك الأسرة السعودية والتحولات التي طرأت عليها من نظام الهدية، من خلال تكثيف المعاني لجميع المناسبات الزواجية وتوثيقها بالهدايا. فالهدية وإن تنوعت مسمياتها واختلفت مناسباتها وبدت بشكل مكلف على الزوج، إلا أنها تنطوي على تنظيم اجتماعي يملأ كثير من الفراغات، ويقلل حجم المشكلات العائلية، وقد تنشأ مشكلات عائلية في حال الإخلال بنظام الهدية.

  • 1– هدايا ما قبل الملكة: اعتاد كثير من الناس قبل الزواج وقبل توثيق عقد الزواج، المعروف بالملكة، أن يقدم الزوج المفترض هدايا للزوجة أثناء الخطبة، وهي المرحلة التي يحصل فيها الشاب على الموافقة الشفهية من أهل الزوجة، وجرى تعارف المجتمع أنها هدايا تقدم بصفة شخصية وودية، وإذا تعثر مشروع الزواج قبل إتمامه فإنه يسمح للزوج أن يسترد المهر المدفوع والموثق رسمياً، أما الهدايا فقد تتسبب في نزاع بين الأسرتين، ما بين إلزامية رد الهدية أو التنازل عنها ودياً أو بحكم من المحكمة.
  • 2- هدية الملكة: مجموعة هدايا يقدمها الزوج لزوجته، ولأمها ووالدها بمناسبة عقد القران على الزوجة، وقد كانت في السابق تقتصر على الأقمشة والعطورات، ثم توسع الأزواج بتقديم هدايا حديثة مع اقتصارها على أهل الزوجة أو والديها.
  • 3- هدية الزواج: تسمى هدية الزواج “عانية”، وهي مأخوذة من الإعانة، وتقدم من الأقارب والأصدقاء ومن بعض الضيوف المدعوين للزوج بوصفه الذي يتحمل تكاليف الزواج كاملة، وتتبع مناطق المملكة وقبائلها عادات متنوعة في هدية الزواج، وقد مرت جميعها بتاريخ من التحولات واختلاف المعاني الرمزية للهدية. فقد كانت الهدية تقتصر على خروفين يقدمان للعريس؛ وذلك لأنه يتكفل بإقامة وليمة العشاء لجميع المدعوين من الرجال والنساء، وكانت الخراف “الذبايح” تسد عجزاً كبيراً في ميزانية الوليمة، وقد كانت الأفراح تقام في أحواش في الحي نفسه، وما على الداعي إلا أن يرص الأرض ويفرشها بالسجاد البسيط، ويتفق مع متعهد لتركيب الإنارة، وإحضار طباخ وقهوجية مع معداتهم لإصلاح القهوة والشاهي والعشاء في الموقع نفسه.

أما في جنوب المملكة فقد جرت عادة بعض القبائل أن تقدم الهدية للمتزوج على شكل مبلغ نقدي باسم القبيلة، ومعه بيان بأسماء المهدين وأمام كل اسم المبلغ الذي قدمه.

بعد بروز ظاهرة قصور الأفراح المتخصصة في إقامة الولائم وتجهيز الأماكن للزواجات، انتهت فكرة تقديم الخراف كهدايا، واستبدلت بمبالغ نقدية تعادل قيمة خروفين في الغالب، وهي تقدم بطريقة شخصية وسرية، بمعنى أن تكون في ظرف يدخل بجيب المتزوج أو يسلم يده بسرعة وخفة أثناء السلام عليه وتهنئته.

ويوجد أشكال متنوعة في هدايا الزواج، مثل: الهدايا التي تقدم للزوجة بعد الخطبة أو الملكة، وبعد الزواج، والهدية التي يقدمها الزوج لزوجته بعد الملكة، وصباح الزواج.

  • 4- الصباحة: هدية اعتاد المجتمع قديماً أن يقدمها الزوج لزوجته في صباح اليوم التالي من زواجه. وقد تنطوي على رمزية التقبل وبداية تعايش مبني على الود، وذلك لأن الزوج لا يعرف زوجته ولا يرى وجهها إلا في ليلة الزواج، إذ كانت ترتيبات الخطبة والزواج تتم بالوكالة عبر الأم والأخوات.
  • 5- هدية المولود: جرت العادة الاجتماعية أن تكون هدايا المواليد من التقاليد النسائية، وتقدم أثناء زيارة الأم بعد تعافيها من آلام الولادة، وغالباً ما تكون هدية تناسب نوع المولود، أو مبلغ مالي يوضع على لفافة الجنين أثناء السلام عليه، وينبغي على الزوج أن يقدم هدية لزوجته بمناسبة سلامتها بعد وضع المولود، وتسمى “الرفاعة”، وهي تعبير عن الشكر؛ لأن الله تعالى رفع صحتها بالعافية. وقد كانت مخاطر الولادة عالية قبل انتشار الطب الحديث، حيث كانت تتم في المنازل وبطرق بدائية من قبل خبيرات بجهود ذاتية.

وينبغي أن تبقى المرأة في سريرها أو بيتها أربعين يوماً تسمى عدة النفساء، حتى وإن تعافت بعد أيام قليلة، وذلك بحسب العرف الاجتماعي والفتوى الدينية التي تحدد مدة النفساء.

  • 6-  الطلاعة: بعد مضي أربعين يوماً من الولادة، يتوجب على المرأة أن تعيد تأهيل ذاتها لممارسة حياتها الطبيعية، ويستقبلها الزوج بهدية تسمى “الطلاعة”، وذلك تقديراً لجهودها في الالتزام برعاية المولود، وترضية للمتاعب التي تعرضت لها أثناء الحمل والولادة.
  • 7- الرضاوة: هدية يقدمها الزوج لزوجته إذا غضبت عليه، وغالباً ما يكون الغضب مرتبطاً بزواجه من أخرى، وقد تزيد قيمته إلى أطقم من الذهب، بحسب تعقد المشكلة أو المطالبة بالترضية، وخاصة إذا كانت المفاوضات بين الزوجين والزوجة مغادرة بيتها إلى بيت أهلها.

يلحظ أن هدايا الأسرة تتمركز حول الزوجين، وأنها أحادية الاتجاه، حيث تقدم غالباً من الزوج لزوجته، ولا تفرض العادات الاجتماعية أي قيود إلزامية على الزوجة لتقديم هدايا للزوج؛ إذ ينظر للمرأة بوصفها عنصرا ضعيفا لا يستطيع العمل والكسب، ومجالات الفضاءات العامة عندها محدودة، وقد ساعدت المرأة على تكريس هذه الفكرة وتكيفت معها، وبالتالي زاد تجانس المجتمع. ولم تظهر فكرة رفض الوضع السائد إلا بعد تغير القوانين الاقتصادية في الأسرة، إذ أسهم تعليم المرأة وتوسيع مجالات عملها، وتحقيق موارد مالية جيدة لها، أن تطالب بتغيير الوضع الذكوري، وتحمل تبعات ذلك بتحمل جزء من تكاليف الزواج في مجال الأثاث المنزلي، والمشاركة في التزامات الأسرة المالية.

ثالثاً: السوق الاقتصادية في الهدايا المستحدثة

ازدهرت فكرة الهدية في المجتمع بعد زيادة الانفتاح، وشكلت سوقاً اقتصادية جديدة في قطاعات: الورد، والشوكولاته، والتغليف.

وتعد فكرة التوسع الشعبي في كثرة الاحتفالات التي توزع غيها الهدايا على حب الحياة، مثل: أعياد الميلاد والترقيات أو الحصول على وظائف أو تخرج من الدراسة.

1- هدية العيد

هدايا عيد الفطر تكون غالباً للأطفال، أو يقدما الأب لأسرته، وهي من أشكال إشاعة الفرحة في المجتمع، أما هدايا عيد الأضحى فهي عبارة عن قطع من لحم الأضحية تقدم للأقارب والجيران.

2- هدية المريض

ارتبط هدايا زيارة المريض بالورد والشوكولاته، وقد تحولت إلى سوق اقتصادية كبيرة، من خلال كثافة محلات الورد والشوكولاته المحيطة بالمشافي، وبالمتاجر الصغيرة بممراتها، وتوسعت هذه السوق لتشمل أشكال التغليف والماركات العالمية. وتعد غرف المرضى المليئة بالورد والشوكولاته من معايير التقدير للمريض، وهي تضفي بهجة اجتماعية قد تخفف من معاناة المرض.

3- هدايا السفر

جرى العرف الاجتماعي أن القادم من السفر يأتي بالهدايا للأهل والأصدقاء، وأن يقام له حفلة ترحيب، ثم اتخذت مؤخراً أشكالاً أكثر خصوصية بين الأقارب أو بين الأصدقاء، وذلك لظهور وسائل اتصال وتواصل جعلت من السفر متعة ووسعت من شريحة المسافرين، بحيث لا يكاد يعده البعض سفراً يتطلب منحه الاهتمام الذي كان في السابق.

4- هدايا الشكر والامتنان

يقدم هذا النوع من الهدايا غالباً بعد إنجاز المهام للتعبير عن الشكر والامتنان لمن بذل جهوداً في تذليل الصعاب للآخرين، وقد يقدم قبل طلب إنجاز الحاجة من أجل رفع احتمالية الاهتمام بها وإنجازها.

5- هدايا المحبة

تمثل هدايا المحبة، الهدايا التي تقدم بين وقت وآخر بلا مناسبة، ولا ينتظر مهديها الرد، ولا يتوقع متلقيها أن لها أبعادا ذات مصالح، وهذا هو الشكل المتسامي بالذات من أنواع الهدايا.

6- هدايا أعياد الميلاد

كان الاحتفال بعيد الميلاد من المسائل المحسومة بالتحريم الديني، وبالتالي بالرفض الاجتماعي، إلا أن انتشاره مؤخراً جعل بعض المفتين يتسامحون في رفضه دينياً، وصار كثير منه يقام في المطاعم والمقاهي العامة، وتسهم المطاعم والمقاهي بإضفاء أجواء أعياد الميلاد من خلال تشغيل أغنية عيد الميلاد في سماعات المحل بصوت عالٍ، مع اصطفاف النادلين وقدومهم لطاولة الاحتفال يصحبون الشموع والكيكة، ثم تنتهي غالباً بتصفيق الحضور في الطاولات المجاورة، وتنتهي اللحظة غالباً باندهاش المحتفى بها من المفاجأة، ويعتريها نوع من الخجل لإضفاء طابع نجاح المفاجأة لصديقتها أو صديقاتها الذين عليهم تقديم هديتهم بعد انتهاء الفعاليات.

7- هدايا النجاح والتفوق

يعد النجاح في الدراسة أو الحصول على شهادات عليا أو ترقيات في العمل أو الحصول على وظائف من أهم أسباب التحولات في حياة الإنسان، وقد كان تمر بالاكتفاء بتبادل عبارات التهنئة، ثم صارت مناسبة ذات أهمية تستحق أن تخلد بهدايا واحتفالات تكريمية للمحتفى به.

8- هدايا التبعية

يوجد نوع نادر من الهدايا الثمينة غالباً، والتي تمس الحاجة إليها مثل: المنازل والسيارات وتسديد الديون والقروض الكبيرة، إلا أنها تنطوي على تبعية المهدى إليه للمهدي، والامتثال لتوجيهاته طوعياً في الظاهر ولكنها ملزمة ضمنياً، وقد تكون من التقاليد المتعارف عليها في بعض الفضاءات النخبوية.

رابعاً: هدايا القبائل تزيد التماسك وتمنع تراكم الثروة

أجريت دراسات أنثروبولوجيا كثيرة على نظام الهدية لدى قبائل كثيرة في أمريكا اللاتينية والصين والهند وغيرها، وأعطت نتائج تؤكد على أن عادات القبائل في أمريكا اللاتينية وتقاليدها لا تختلف كثيراً عن عادات القبائل العربية، من حيث أنها عقد ضمني ملزم أخلاقياً، وأن سمعة الشخص تكون عرضة للخدش في حال إخلاله بتنظيم الهدية. وتعد دراسة مارسيل موس المترجمة بعنوان “بحث في الهبة: شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة” من أهم دراسة اجتماعية عن الهدية لدى القبائل القديمة، ومن أبرز النتائج التي توصل إليها: أن كل هدية يجب أن تقبل دائماً، بل وتمتدح[5].

ومن عادات القبائل البدوية في السعودية أن تقدم الهدايا بشكل منضبط وملزم في مسائل الزواج، وفي قضايا الصلح وأنهاء الخلاف بين القبائل التي تتطلب دفع مبالغ مالية. ونظراً لكثرة معدل المناسبات الاجتماعية التي تتكرر في تقديم الهدية النقدية، وزيادة متطلبات تقديم الهدايا نتيجة للتماسك الاجتماعي الكبير، ولحاجة أفراد القبائل لبعضهم البعض نظراً لاحتمالية تعرض أي منهم للظروف ذاتها، مما يتطلب منهم الإنفاق المستمر في جميع المناسبات، فإن هذا شكل عائقاً أمام تراكم الثروة بين أفراد القبائل، وقلل من أعداد الأثرياء بينهم.

خامساً: الهدية القسرية

تكشف الهدية عن أهم تفاعل اجتماعي وتبادل رمزي بين الأفراد؛ وذلك لأن تقديم الهدية في المناسبات للآخرين، يتوجب على الآخرين معرفة جميع من قدم الهدايا ومن لم يقدم الهدايا في مناسباتهم، وذلك لردها لهم بحسب ما قدموه، فمن يقدم هدية تساوي ألف ريال مثلاً، سوف ترد له هدية تساوي قيمة الهدية التي قدمها، وتزيد أو تنقص تبعاً لهذا القانون، أما الذين لا يقدمون هدايا فإنهم في الغالب لن يحصلوا على هدايا في مناسباتهم من الأفراد الذين لم يسبق أن تلقوا منهم هدية، وإن حصل وقدموا هدية فإنهم يخبرون المقربين أنهم قدموها تفضلاً، وأنهم لم يتلقوا هدايا منه في مناسباتهم. وهذا الإخبار يعد الثمن الذي سوف يدفعه من سمعته الذي تلقى الهدية ولم يسبق أن أهدى.

تفسر نظرية التبادلية نظام الهدية بشكل دقيق، وذلك لرؤيتها أن الهدية تقع في سياق منظومة الحقوق التي يحصل عليها الفرد، مقابل الواجبات التي عليه أن يؤديها، وتتم بشكل ودي، ولكنها تزيد من الود والتماسك الاجتماعي إذا كان العطاء موازيا للأخذ، وقد تتوتر العلاقات وتكون مكلفة اجتماعياً إذا أعطى أحد الطرفين أكثر مما يأخذ. ويرى بيتر بلاو أن الطرف المعطي يكون دائماً في موقع القوة والتفوق الاجتماعي من الطرف الذي يأخذ.

وفق هذا التنظيم فإن الهدية عقد ضمني إلزامي وقسري في نظام التبادل الاجتماعي الرمزي. ويؤكد مارسيل موس على أن الهدية التي لا يرد عليها بالهدية ما زالت تجعل متقبلها في وضعية دونية[6].

ختام

تؤكد الورقة أن الهدية تنطوي على تنظيم اجتماعي معقد، وتؤدي أدواراً كبيرة في ملء الفراغات في العلاقات الاجتماعية، حتى وإن بدت عادات اجتماعية مألوفة، وهي تقدم على ثلاثة مستويات: إما لتحقيق مصلحة متوقعة، وإما رد لهدية أو توقع ردها، وإما للمحبة الخالصة والتسامي بالذات عن تحويلها إلى منفعة.

من جودة الحياة أن تتوسع فكرة الهدية، ويزيد ارتباطها بالاحتفالات الصغيرة والكبيرة، فكلما زادت المناسبات التي يحتفل فيها الأسرة والأصدقاء والأقارب وزملاء العمل، زاد مستوى جودة الحياة، وارتفعت قيم المجتمع الصحي وقيم الإنجاز والمعنويات العامة.

في الهدية نظام معقد من القيم ولكنه متماسك، حيث أن تكثيف المعنى في الهدية، كما هو الحال في معنى التحية والرد عليها، يبقي على قيم زيارة المريض والأقارب وكبار السن، وقيم حضور مناسبات الزواج والولادة والنجاح وبقية مناسبات الآخرين ومشاركتهم الفرحة وتقديم هدايا رمزية لإعلان التماسك الاجتماعي، والإصرار على عدم التهاون في التقليل من معاني التسامي والنبل المتمثلة في حضور مناسبات الآخرين. ويمكن أن يشمل نظام الهدية كل من: الضيافة وردها، ومشاركة رمزية للطعام مع الجيران وردها، وهي تقاليد شعبية راسخة ولها معانٍ رمزية كبيرة، إلا أنها بدأت تندثر.


[1] عمرو بن بحر الجاحظ، المحاسن والأضداد، بيروت: دار ومكتبة الهلال، 1423هـ، ص 319

[2] ابن قتيبة الدينوري، عيون الأخبار، بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ، ج 3 ص 42

[3] أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، الوحشيات، وهو الحماسة الصغرى، تحقيق عبدالعزيز الميمني الراجكوتي، مصر: دار المعارف، ط 3، ص 16

[4] ابن قتيبة الدينوري، عيون الأخبار، مرجع سابق، ج 4 ص 36

[5] مارسيل موس، بحث في الهبة: شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ص 138

[6] مارسيل موس، بحث في الهبة، مرجع سابق، ص 217