مجلة حكمة
النقد في القانون

النقد في القانون، والشريعة، والفلسفة: هيغل نموذجا – خالد الغيلاني

خالد الغيلاني النقد في القانون 
خالد الغيلاني

يقول الإمام الأصولي الأمين الشنقيطي في تفسير قوله تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها ) : ( اعلم  أن قول بعض متأخري الأصوليين: إن تدبر هذا القرآن العظيم، وتفهمه والعمل به. لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة …….. قول لا مستند له من دليل شرعي أصلاً .بل الحق الذي لا شك فيه، أن كل من له قدرة من المسلمين، على التعلم والتفهم، وإدراك معانى الكتاب والسنة، يجب عليه تعلمهما، والعمل بما علم منهما…. ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار، ليس أحد منهم مستكملاً لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول، بل ليس عندهم شيء منها أصلاً….). أهـ  وهذا يجعلنا نوسع الطبقة المتفهمة للنص الديني وأنها لا تختص بفئة معينة فيدخل بذلك المفكرون المعتبرون للنصوص الشرعية وعليه يعامل فهمهم وفق المنهج العلمي وهو ما يجعلنا نشرع في بناء الإنسان الحضاري لأن قصر الإسلام أو المشروع النبوي للأمة في مجال العبادات دون غيرها اختزال للمقصد الإلهي في تكوين الإنسان الحر بل جميع المنازع الحضارية معتبرة ومطلوبة وآية ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) يدخل فيها عبادات متعددة منها الفكر والعمران والصناعة وليست مقصورة على الصورة المتعارف عليها مع كونها هي المقصودة أوَّليا ، والمرادة ابتداءً لكن المدرسيّات المعاصرة بالذات ،لم تكن تتحرى في اصطلاحاتها هذا النوع من العبادات ودخلت في جدل عريض مع غيرها كما يحدث  بين المدرسة السلفية والأشعرية في باب الأسماء والصفات ،مع أن الحافظ الذهبي كان متسامحًا جدًا وجعل المخالفين لابن تيمية ومدرسته كلهم يريد الخير ومقصده التنزيه والله يتولى المختلفين بنياتهم وبرحمته  مع الإقرار بأهمية أن يعرف الإنسان ربه كما أراد ويتعرف عليه إلا أن هذه الجدليات اهتمت بالجوانب النظرية وأغفلت  الجانب العملي غير المشعور عندها لأن متعلقها غيبي وغير مشهود وكثير منها مستقرٌ في بطون الكتب لا يخرج عنها ولا يتصور حقيقته في السلوك البشري لأن الجميع يقر بأهمية الجانب الأخلاقي ويتفقون عليه؛ مع إيماني بأن الإنسان الذي يكون عنصريًا أو كذّابا أو فوضويا أو مدمرا أو مصدرًا للخراب العلمي والعقلي غير موحد إلا التوحيد النظري الذي كان النبي يحذر منه أصحابه فقد أخرج الترمذي عن أبي الدرداء قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال (( هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء )) فقال زياد بن لبيد كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن ؟! فوالله لنقرأنه ولنقرأنه نساءنا وأبناءنا فقال ثكلتك أمك يا زياد ! إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة ، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما تغني عنهم !؟)) والحديث صحيح فكما نرى لا يكفي النص ولا تطبيقاته الظاهرة في خلق الهدى فاليهود والنصارى كانوا يمارسون ظاهرية النص في حياتهم دون الولوج إلى مسرب معناه وحقيقته وفي أول كتاب البخاري (إنما الأعمال بالنية) ومفهوم الأعمال واسع جدًا يشمل كل أبواب  العمارة الحضارية للإنسان  التي من ضمنها العبادات فمتى حضرت النية الصالحة فكل عمل صالح يعتبر قربة طيبة إلى الله وإذا كانت الأعمال أنهارًا تصب في بحر التقدم فلا بد عندها من تلازم الحرية (القنوات)   التي تجري فيها الأعمال  ومن ضمنها النقد  الذي هو وسيلة طبيعية للتقدم ، يذكر جون بيوري في كتابه حرية الفكر : ( التقدم قبل أن يدخل أمة يقف ببابها ويسأل هل عنكم حرية رأي فإذا أجابوه بنعم دخل واستقر وإن أجابوه بلا ولى هاربًا إلى غير رجعة ) ويضيف برتراند راسل على هذه الفكرة قوله إن على الفلسفة مهمة عظمى هي أن تغرس في الأذهان مهمة الاقتناع بعدم العصمة البشرية وقلة اليقين في كثير من الأشياء التي تعد محل تسليم الكثيرين. وفي حديث ( الدين النصيحة ) يتبين أن الإصلاح عمل يتعين القيام به من  كل فرد والهدف هو التقدم بأنواعه كلها لأنه عمل جماعي في الدرجة الأولى لا فردي لذلك لا بد من إتاحته للجميع بدون استثناء بحيث لا تختص به فئة معينة لكن لابد أن يكون وفق النظام العام للدولة وبالوسائل المناسبة لأن الهدف التصحيح لا التقبيح وأن يشارك  المنتقد الحاكم في اتخاذ القرار الصحيح ويصحح للمجتمع أفكاره الخاطئة  وحرية التعبير  في الشرائع كالشريعة الإسلامية تكليف ليس حقا خالصا للإنسان إن شاء تركه أو شاء مارسه ولو عدنا لأثينا لوجدنا  الحاكم السياسي بريكليس ( 490 ق م – 429 ق م) يقول : (  إن المواطن اللاتيني لا يهمل شؤون الدولة على حساب شؤونه الخاصة وأن الذي يهتم بأعماله الخاصة فقط  شخص لا فائدة منه).

 النقد في القانون

 تطرقت  معظم المواثيق والإعلانات الدولية إلى تحديد مفهوم مبدأ حرية التعبير وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة العام 1948 وفي الميثاق  الدولي الصادر عام 1966 حيث نصت  المادة  19 على أن: “لكل شخص الحق في حرية التعبير ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون التقيد  بالحدود”.   وعرفته المادة  10  من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان بأن:”لكل إنسان الحق في حرية التعبير وهذا الحق يشمل حرية اعتناق الآراء وتلقي المعلومات والأفكار دون تدخل من السلطة العامة بصرف النظر عن الحدود الدولية ودون إخلال بحق الدولة في طلب الترخيص في نشاط مؤسسات الإذاعة التلفزيون  والسينما” وقريبا من هذا  المادة  9  من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب وهذا كله بقيد دون المساس بالنظام العام أو انتهاك حقوق الآخرين، وبالوسائل المشروعة وكل هذه المواد إنما وجدت لكي يستطيع المواطنون أن يحددوا اختياراتهم  بحرية فلا تحل المصالح الفردية أو السلطات العامة محـل إرادتـــهم وفي الولايات المتحدة الأمريكية لا نجد سندا أو أساسـا قانونيـا لـه سـوى النصوص الدستورية التي تكرس حرية التعبير عن الفكر . وقد أسس القضاء الأمريكـي لنظريـة بهذا الصدد ، أطلق عليها ( نظرية الامتياز الدستوري للصحافة ) وقد يتحرج البعض من هذه المواثيق لذا عليه أن يقرأ آية  (وَإِنِ ٱاسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱالدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱالنَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وغيرها من الآيات التي تؤكد أهمية المواثيق واعتبارها وقد قال النبي في حلف الفضول الذي شهده في الجاهلية ( ولو دعيت لمثله لأجبت) فكل تعاون بين الدول يعظّم الخير ويقلل الشر فإن الإسلام يتبناه ويقره ويدعو إليه. ومع ذلك فالقانون  يحدد النقد المباح بناء على موضوعيته عندما ينصب على وقائع معينة منظوراً إليها لذاتها ، ، دون أن تمتد إلى من صدرت عنه هذه الوقائع  إلا بالقدر الذي يعين في توضيحها والكشف عن خفاياها للجمهور وهذا ما يعني استعمالا لعبارات نقدية دون الإساءة لشرف أو اعتبارات   القائلين بها أو المستفيدين منها أو احتقارهم أما عند قصد ذات الشخص المُنْتقَد بالإيذاء لمعنوي  أو اسقاط اعتباره فإنه يخرج عن النقد المباح وقد يعد قذفا يعاقب عليه القانون  وهنا تبرز قضية مسؤولية السؤال ( الناقد) ومسؤولية المسؤول ( المنتقد) فعلى كل من الطرفين مسؤولية إبراز الحقيقة وحمايتها بحيث لا يكون الهدف  مكاسب سياسية أو شخصية كما تفعل كثير من الجماعات الإسلامية أو التنظيمات المحظورة وقد يتناول النقد عملاً ما أو إجراءاتٍ  حكوميةً أو مذهباً سياسـياً أو بحثاً علمياً أوعملًا أدبياً أو فنياً ،ويكون منصبًا على الأفكـار لا الأشخاص بقصد تقويم السلوك والفهم وإيضاح العيوب لضمان نقاء الفكرة واستمرارية الحيوية والتقدم للدولة والمجتمع ، ويلزم  عند النقد من وجود أرضية له وهو حسن النية التي تنتفي عند قصد الإيذاء أو التشهير ويمكن تلخيص الشروط الأساسية في النقد المباح -الذي حددته بعض القوانين بما يلي : (النقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني) – في  كون الواقعة المتناولة بالنقد  ذات أهمية اجتماعية وتتعلق بالجمهور دون القضايا الخاصة التي تتعلق بالأفراد وأن تكون صحيحة لا مختلقة وأن يتوخى النقد النفع العام وأن يكون بالأسلوب المناسب وفي الوسائل المناسبة كمنصات الإعلام والصحافة المفتوحة للجميع لأن الهدف الإصلاح لا مهاجمة السلطات التي عليها توفير المناخ القضائي العادل.

النقد في الشريعة

 من الأشياء الأساسية المقررة في الشريعة أن الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم ومن طرق التقوى ممارسة العلم والنقد كما في حديث (الدين النصيحة) فالصناعة مثلا التي تكون  وفق معايير الجودة  ويستطيع من خلالها العابدون أن يؤدوا  فرائضهم باطمئنان  وتعمل على تقليل الفساد في الأرض وتوثق الصلات بين الناس  تعتبر ضمانة أساسية للتقوى  وما  لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والنقد المباح يفترض المساواة ويستلزمها ومن استقصى النصوص الشرعية يرى أنها أعلت من قيمة الإنسان وأعطته حرمة مختلفة عن غيرها من الأديان ففتحت المجال أمامه ليثري الحياة ويقدم الإضافة إليها كعنصر فاعل وضامن لبقاء النوع الإنساني وهناك آيات كثيرة تؤسس هذا المفهوم وتقرره صراحةً حتى أن أصل مدلول لفظة العرب يدل على هذا المأخذ فالمعاجم تخبرنا أنهم يقولون عرِب الرجل إذا صار فصيحا وعرب الماء صفا ويقولون أعرب بحجته أفصح بها وكان واضحا والخيل العراب الأصيلة فالفصاحة والصفاء والأصالة والجدل كما في آية ( بل هم قوم خصمون) من مميزات العرب هذا إذا علمنا أن أبا الفلسفة طاليس من أصل فينيقي  عربي ليس كما يقول بعض مؤرخيها أن العرق الآري يختص بها  وقد قرر القرآن  أن الكون وما فيه مسخر للإنسان وكل مسخر  هو مقهور ومذلل فنفهم أن في الكون نفورًا ولذلك يحتاج الإنسان للعقل في سياسته ليتم الانتفاع به وهذا معنى تربية الله لخلقه أنه يمكنهم من استخدام  ذواتهم وقدراتهم على جهة الإبداع وهو مقتضى الاستخلاف الذي يقوم على أساس الحرية التي هي عند بعض المفسرين والفقهاء المعاصرين   تقوم  على: “معنيين أحدهما ناشئ على الآخر: المعنى الأول: ضد العبودية، وهي أن يكون تصرف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرفا غير متوقف على رضا أحد آخر.المعنى الثاني: ناشئ عن الأول بطريقة المجاز في الاستعمال، وهو تمكن الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض وجاء تعريفه في قرار مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في الشارقة على أنه: “تمتع الإنسان  بكامل إرادته في الجهر بما يراه صوابًا، ومحققًا النفع له وللمجتمع، سواء تعلق بالشئون الخاصة أو القضايا العامة) والأدلة على ذلك  كثيرة منها قبول النبي للنقد الموجه له من غير المسلمين ففي الحديث أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكم تنددون وإنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون ماشاء الله ثم شئت قال السندي تنددون أي تتخذون أندادًا فاستجابة النبي لهذا اليهودي مع أنه نبي التوحيد الخالص يوضح أن الحق الكامل بمعنى الاحتواء التام عليه تصرفا وقدرة وصفة لا يكون إلا لله وحده ومن الأدلة  مناقشة عمر للرسول في صلاته على المنافق عبدالله بن أبي واحتجاجه  بالقرآن لدرجة وصلت به أن يقول في رواية ( ما ذاك لك) والرسول يتبسم ويقول أخر عني يا عمر وهذا الذي كان من عمر وقع لعائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة حيث كانت تحتج بالقرآن على عدم صحة أحاديث رووها وللزركشي الإمام مؤلف في ذلك يرجع له والمذهب العقلي موجود في الصحابة هذا أبو هريرة يقول لابن عباس إذا حدثتك عن رسول الله فلا تضرب له الأمثال والأمثال هي الأقيسة العقلية وابن عباس على نقيض ابن عمر جدا فابن عمر سئل عندما سئل عن أرجى آية عندك فذكر ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) وأما ابن عباس فذكر ( وإذ  قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ) لأن هذا ممتحن بعقله وذاك ممتحن بمقتضى العبادة.

 مثال حي للنقد ( صحيح البخاري) دار في الأيام الفائتة جدل واسع حول صحيح البخاري وأذكر أني أدركت الشيخ عبدالعزيز بن باز في آخر حياته وأنا شاب وحضرت دروسه في صحيح البخاري فقرئ عليه يومًا حديث عائشة عندما سئلت عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم فدعت بإناء نحوا من صاع فاغتسلت وأفاضت على رأسها يقول الراوي وبيننا وبينها حجاب فعلق الشيخ بكلامٍ يقتضي رد هذا الحديث و استنكاره كما أن  الحافظ الغماري قال في كتابه ( المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير ) : ( ومنها أحاديث الصحيحين فإن فيها ما هو مقطوع ببطلانه فلا تغتر بذلك ولا تتهيب الحكم عليه بالوضع لما يذكرونه من الإجماع على صحة ما فيهما فإنها دعوى فارغة لا تثبت عند البحث والتمحيص …إلى آخر كلامه .) وعلق عليه الألباني في مقدمة آداب الزفاف وهذا مما لا يشك فيه كل باحث متمرس في هذا العلم أهـ. وهناك علماء وحفاظ غيرهم تكلموا في هذا النحو وفي فيض الباري للكشميري على صحيح البخاري مواضع استشكلها وقرر أن الرواة يغلطون كثيرًا كما في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل البدح قبل أن ينزل على النبي فقدمت إلى النبي سفرة فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد أني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه.. ..إلى آخر الحديث قال ابن حجر وفي رواية الجرجاني فقدم إليه النبي قال الكشميري عنها وفيها إيهام شديد لخلاف المراد فإنها تدل على جواز أكله عند النبي وعدم جوازه عند زيد بن نفيل أهـ وهو مشكل وقريب من القدح في النبي على هذه الرواية كما قرر الكشميري لكن مع ذلك لا بد أن نؤسس جملًا مهمة في التعامل مع البخاري فنقول إن رد البخاري جملةً قول غير صحيح  فكل ما انتقد فيه البخاري أحاديث معدودة ولا بد من الاستفصال من القائل برد البخاري  كما كان ابن تيمية يقرر في فتاويه أن المبهم لقول يستفصل منه حتى يعلم مراده ويرد بعد ذلك عليه فإن كان يقول برد البخاري جملة وتفصيلا فهذا ما لا يتابع عليه وإن كان له اعتراضات على مواطن فيسمع منه  ويحاور ولا يثرب عليه مع اعتماد المنهج العلمي في النقاش  تبقى مسألة مهمة جدًا وهي في الحساسية التي لدى الجماهير  التي كما قيل بأنها رؤوس كثيرة بلا عقول ، وطبيعة تكون شخصية البطل في العقلية الجمعية للأمم والمجتمعات فهذه مسألة دقيقة جدًا تحتاج إلى بناء نقدي واعي من غير  استثارة  للعامة ومع أن كثيرًا من العقائديين دوغمائيون  يتخذون منهج المحو للآخرين ويؤسسون لعدمية  فكرية  لأن وجود آخر مغاير على حق يقتضي عندهم اهتزازًا في إيمانهم ووحدهم الراسخون في العلم الذين يتقبلون الآخرين ويحتفظون بإيمانهم لذلك كان المنهج الصحوي غائبًا عن الفقه الفلسفي الإسلامي الذي يسعى لتحقيق الذات بحيث يكون وجود المسلم في الدين هو وجوده في العالم من غير انفصام غير أن  الصحوة ولدت  عقدًا نفسية لدى قطاع كبير  من الشباب وخلقت  صدمة عنيفة لديهم عند أدنى نقطة التماس مع الغرب المتجرد من كل قيمة في نظره ونظر شيوخه فما يلبث الشباب أن يكتشف غربا أخلاقيا طيبا يجعله يرتد أو يترك بعضا من إيمانه وفي ذلك قصص تروى قديمة وحديثة والعامة دائما تأخذ خطوة أبعد مما يقرره سدنتها على اختلاف طرائقهم ومذاهبهم  فالقاضي ابن العربي المالكي  يذكر مرة أن بعض العامة أراد قتل شيخه أبي بكر الطرطوشي عندما رأوه يرفع يديه في التكبير والركوع  ولذلك قد يسمي كثيرًا من المنتسبين للعلم بالعلماء العوام لوجود هذه النمطية المتصلبة  في عقولهم وهي نمطية متركزة بقوة فتقبل النقد والنقاش هو الحل الوحيد ولا غيره  لأن كثيرًا من الغضب تجاه  النقد مرده أن المُنْتَقَد يراه تهديدًا لنفوذه أو اعتداء على اختصاصه أكثر منه غضبا للحقيقة التي يدعى حمايتها.

النقد في الفلسفة هيغل نموذجا

إن فيمونولوجيا الروح المطلق ( الله) في الفلسفة بين هيغل واسبينوزا يجرنا إلى مباحث عميقة جدًا هل ننطلق من المتعين إلى اللامتعين او من اللامتعين إلى المتعين فعلى الأول سبينوزا وعلى الثاني هيغل حيث يرى سبينوزا أن كل إيجاب يقتضي سلبا فإذا قلت سقراط فيلسوف فأنت تنفي عنه أنه ذكر ، يوناني،  أبيض وقد أخذ هذا المبدأ هيغل إلا أنه عكسه وقال بأن سلب الشيء يعني إيجابه غير الإيجاب الأصلي الذي تم نفيه والوجود عنده لا يتحقق إلا من اللاوجود أي من اللامتعين إلى المتعين فمبدأ الأمر عند اسبينوزا هي الطبيعة إذ  أن العقل لا يمكن أن يؤمن بشيء غير قابل للتحديد أي أن اللاوجود يتحقق من الوجود أي من المتعين إلى اللامتعين  فالطبيعة شيء متعين وبالتالي  لها حد سنصل إليه حتما من خلال البحث يجعلنا نبحث فيما وراءها وهو اللامتعين أو اللانهائي أما هيغل فينطلق من الروح بمراتبها الثلاثة حتى يصل للروح المطلقة والسعادة النهائية وهذه العملية الديالكتيكية والرؤية الفلسفية الجوهرية تنظر إلى كل شكل من أشكال الوجود على أنه شكل عقلي (روح) فالروح عنده مفكرة تتنقل في صيرورة دائمة وميكانيزما وجودية تعرض صورًا حية ممتلئة فياضة انطلاقا من الروح الذاتية الواعية لنفسها  من داخلها إلى أن تصل للمستوى الثاني وهو الروح الموضوعي ( فلسفة الطبيعة) عندما تخرج الذات من نفسها لتخلق عالما موضوعيا عاما وشاملا كالتنظيمات والمؤسسات التي هي روحية في الأصل إلى أن نصل للمرحلة الثالثة وهي أرقى الدرجات ( السعادة الأبدية ) وهي الخلاص الأزلي حسب التعبير المسيحي والجنة والنار حسب التعبير الإسلامي وهذه النهج التصاعدي للإنسانوية  في عملية تضادية بين السلب والإيجاب حتى  الوصول إلى الروح المطلق (الله ) كما قال المتنبي ( وبضدها تتبين الأشياء ) وهو تضاد ثري ومنسجم يضرب له هيغل مثلا بكم الزهرة كيف أنه يختفي حالما تتفتح أوراق الزهرة ويخيل إلينا أن بين الكم والزهرة شيئا من التضاد ثم تجيء الثمرة بعدئذ فتعلن بوجودها أن الزهرة صورة  زائفة من صور وجود النبات وتستمر مراحل تعاقب الأفكار في تضادية متسلسلة وإن كانت يجمعها وحدة معرفية واحدة  تقتضي أن كل إثبات يتضمن نفيا وكل نفي يتضمن إثباتا ضمن ثلاثية ( العقل (الروح) ، التاريخ ، الحرية) حتى نصل لآخر المراحل، والوجود عند هيغل في حقيقته روح  لذلك  جاء الحديث  ( الأرواح جنود مجندة) ليلغي حقيقة الجسد كما جاءت الإشارة النبوية لجبل أحد والجذع الحنان إلى حقيقة أن الموجودات أراوح خالصة  لذلك كان الكلام هنا عن النقد المباح كفكرة وروح في أحد شقيه سلبًا يقتضي إيجابا مغايرًا للإيجاب الأصلي  وهكذا في دائرة متتابعة تجعلنا ندخل في عملية كبيرة جدًا وكأننا في آلة  كبيرة جدا تدور بنا وتأخذنا إلى حتمية كبرى فهناك حركة للفكر ( النقد) وحركة للوجود فلابد أن يلتقيان معا نحو محصلة واحدة لنشهد جميعا ذلك المحتوم فالأفكار بكل ما تتعرض له من نقد أو مراجعة لابد أن يطرأ عليها هذا التغير لذلك القول بعصمة معينة لا يكون إلا في حدود الضرورة القصوى وهذا ما يجعلنا نتكلم عن الثابت والمتحرك فلا ثابت إلا الله لا أعني بالثابت ما يضاد مقتضى حديث التنزل الإلهي وإنما الثابت الذي لا يتحول ويكون تاما كاملا فما سوى الله متحرك باحث عن الحقيقية النهائية حتى الأنبياء لذلك قال النبي في حديث ( إلا أن يتغمدني الله برحمته ) فلا أحد بلغ حالة الانطباق التام مع مقتضى الله أو ما يستحقه سبحانه إلا أننا نؤمن أن الأنبياء أكمل المخلوقات لكن  القول بالعصمة التي يفهم منها شبهيّتها للتنزه عن الخطأ كما هو عند الله يكون من خلال تفسير مدلولها  بمقتضى  الاشتراك اللفظي الذي تختلف صورته في حق الله عن صورته في حق غيره وإن كان ابن تيمية يفضل استعمال المتواطئ لا الاشتراك اللفظي لهذا لا بد أن تكون هذه العصمة  في نطاق محدود ويؤيده أن عصمة الأنبياء المتفق عليها هي في التبليغ فقط ومن هذا المنطلق فإن الحركة الكونية والفكرية تقتضي البحث والتحول في سلسلة تركيبية متجه إلى الله -الذي بدأ منه كل شيء وإليه يعود ،كما حددت الآيتان  ( هو الأول والآخر)، ( كما بدأنا أول خلق نعيده)- لتتعرف عليه أو لتلقاه في مصيرها المحتوم وعليه كانت القطعيات محدودة  والاجتهاد يدخل في قطاع كبير من مسائل الدين كلها للحفاظ على هذه الحركية الدائبة ومن هذا كان إقفال باب النقد إقفال وإعدام لهذه الحركة وضد الفطرة الكونية التي أسس عليها الكون وحرمان للبشر من سعادتهم  التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهم .