مجلة حكمة

مدرس الفلسفة والالتزام – محمد نجيب فرطميسي


محمد نجيب فرطميسي

 ارتبط ميلاد الفلسفة عند اليونان بالمدينة، إنها كما قال جان ـ بيير فرنان “بنت المدينة”. كانت الفلسفة تعبيرا عن روح المواطنة بمعناها الأثيني، بما هي احترام لقوانين المدينة وآلهتها. كان الفيلسوف ـ طبعا باستثناء السوفسطائيين ـ  منخرطا ومشاركا في تدبير شؤون المدينة ولم يكن موظفا بالمعنى الحديث للموظف بوصفه شخصا يعين في وظيفة ويقوم بمهمة تقترن بالتزاماته تجاه الدولة. كيف والحالة هذه، يمكن الحديث عن التزامات مدرس الفلسفة لا هو بالفيلسوف ولا بصاحب مذهب فلسفي، بل موظف ينتمي لأحد أسلاك الإدارة التابعة للدولة ويقوم بمهمة التدريس؟ هذا ما سأحاول الاجابة عنه في هذه الورقة.

الدرس عموما ودرس الفلسفة على الخصوص:

يتحدد الدرس بدء، كفعل للتدريس. إنه تدخل مدرس ( أو مكوّن ) أمام متلق هو التلميذ، خلال حصة زمنية محددة، وفي فضاء محدد مسبقا وفق ضوابط ومعايير تجعل منه قاعة للتدريس لا ملعبا رياضيا.

 الدرس هو جزء من صيرورة التكوين أو التعلم. هكذا نتحدث مثلا عن درس الهندسة أو الرياضيات أو الاجتماعيات أو الفلسفة. أكيد أن الواقع يمدنا أيضا بدروس، لكن الدروس المستخلصة من الواقع، لا تخضع لأي تمثل مسبق بما ستمدنا به هذه الوقائع من معارف أو تجارب وغالبا ما تبقى سجينة بادئ الرأي.

يُصاغ الدرس، من ناحية المحتوى، في صيغة كتابية أو شفاهية. غير أن الجميع يدرك الفرق الشاسع بين كتاب مدرسي ودرس أنجز من طرف مدرس، بين درس صيغ بين دفتي كتاب مدرسي وآخر ينجز شفاهيا وفق خطوات ديداكتكية وتمشيات منهجية تميزه عن المكتوب.  هذا الامتياز للشفوي على الكتابي، هو ما شرحه بوضوح أفلاطون في محاورة فايدروس معتبرا أن الكتابات ” تكف برصانة عن الكلام عندما نسائلها ” إذ ” تجهل لمن يجب أن تتوجه إليهم “، “إنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها عندما تتعرض للهجوم.”

      ما يصدق عموما على الدرس يصدق خصوصا على درس الفلسفة مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية هذا الدرس. يقتضي تعريف درس الفلسفة، مثل أي درس آخر، تقديم تحليل دقيق لمكوناته، و لن يتم ذلك إلا بالوقوف على أهم الخصائص المميزة له، بيد أن عملا كهذا ليس بالأمر الهين خصوصا عندما نجد أنفسنا أمام درس:

تتغير تحققاته الفعلية من قسم لآخر، بل داخل القسم الواحد خلال السنة الدراسية الواحدة. ليس هذا فحسب، بل تواجهنا صعوبة ثانية عندما نحاول التفكير في طبيعة الخطاب الذي دار ـ وما يزال ـ حول الدرس الفلسفي. ها هنا يتعذر علينا أن نعرف جيدا ما إذا كانت هذه الخطابات تتكلم فعلا عن درس واقعي، أم أنها تقدم لنا نظاما من القواعد النظرية الثابتة، والتي يجب أن يخضع لها درس الفلسفة.

المنهج السقراطي، خصوصيته  وعوائق تحققه:

الى أي مدى يمكن استلهام المنهج السقراطي في تدريس الفلسفة، بناء على القول بأن الفلسفة تملك بيداغوجيتها الخاصة، وأن الغااية من تدريسها كما أعلن عن ذلك كانط، هي تعلم التفلسف لا الفلسفة في حد ذاتها؟

أقام سقراط منهجه الحواري، أقول الحواري لا التعليمي، ذي الطابع التهكمي الساخر على التظاهر بالجهل، والدحض المعلن للخطاب السوفسطائي. ينضاف الى ذلك أن سقراط لم يكن موظفا ولا مدرسا، ولم يتقاض أجرا عما يقوم به، عاش إنسانا بسيطا يميزه التقشف واحترام قوانين مدينته أثينا.

لم يدون سقراط كما نعرف فلسفته ولم يترك أثرا مكتوبا يدل عليه بالاسم، كل ما نعرف عنه يعود الفضل فيه بالدرجة الأولى لتلميذه أفلاطون وبدرجة ثانية لكزينوفون. خلده أفلاطون بأن جعله هو المحاور الرئيسي في جل محاوراته.

غالبا ما يبدأ الحوار بمشهد يلتقي فيه سقراط شخصا يدعي المعرفة، فيتظاهر سقراط بأنه لا يعرف شيئا، وإذ يختبئ وراء تظاهره بالجهل، يشرع في تبسيط موضوع الحوار بطريقة تنطوي على ضرب من السخرية والتهكم.

تعترض الطريقة التي حاور بها سقراط والكيفية التي وظفها ببراعة في ابطال دعاوي محاوريه، صعوبات من حيث التحقق والانجاز داخل الفصل. أقف فقط عند ثلاث صعوبات نظرا لتمثيليتها بالنسبة لعموم المحاورات:

الصعوبة الأولى:

لا تخلص المحاورة لنتيجة ولا تقدم معرفة ما دام سقراط يعترف منذ البداية بجهله. الأمثلة على ذلك كثيرة أكتفي  بمحاورة لاخيس Lachès .

تبدأ المحاورة بطلب تقدم به أبوان لمعرفة إن كان من اللازم تقديم دروس للأبناء في فنون الحرب، كما التمسا من سقراط الانضمام إليهم. أدلى الخبيران العسكريان لاخيس ونسيباس برأيهما. اعتبر لاخيس ألا فائدة ترجى في هذا المجال من الدروس، فنون الحرب تُتعلم في الميدان. في حين ذهب نيسياس الى أن الدروس، ضرورية لا محيد عنها، اعتذر سقراط عن الاجابة، بدعوى أنه لا يرى الأمور على هذا النحو ولا يصدر عن نفس الرؤية. اعتبر أن السؤال المطروح سؤالا مغلوطا. لا بد، في نظره، من معرفة في ماذا تفيد فنون الحرب وما الغاية منها؟. إن كانت الغاية منها هي اكتساب الفضيلة الحربية، فما هي الشجاعة في حد ذاتها؟.  يتعلق الأمر إذن بمفهوم الشجاعة. لا يقدم سقراط جوابا مقنعاً. يضرب مع محاوريه موعدا مجددا. على هذه الكيفية تنتهي المحاورة. هل حصل هذا الموعد أم لا؟ هذا ما لم يدونه أفلاطون وحرمنا بالتالي منه.

الصعوبة الثانية:

إنها صعوبة نابعة من طبيعة الحوار في حد ذاته، ذلك أن المحاورات، والتي يفترض في دارس الفلسفة قراءة البعض منها، ليست بالأمر الهين، إنها صعبة المنال، لا تكشف عن ذاتها بسهولة، كما هو الحال بالنسبة لمحاورة هيبياس الأكبر.

يتقمص سقراط، في هذه المحاورة، شخصية محاور غائب أحرجه بأسئلته. أخد دور تلك الشخصية وراح يفترض ما يمكن أن تسأله، آخدا في إحراج هيبياس ـ هذا السوفسطائي الذي جمع مالا كثيرا من دروسه ـ الذي استسهل الخوض في موضوع شائك من قبيل تعريف الجميل1.

الصعوبة الثالثة:

       تتمثل في تلك الحادثة التي وقعت لسقراط مع كاليكلس كما دونها أفلاطون في محاورة جورجياس. إن كنت قد اعتبرتها صعوبة فذلك لأن أشد ما أخشاه أن يقع لـ مدرس الفلسفة ما وقع لسقراط مع كاليكلس وهو احتمال وارد في إطار الظروف الحالية للتدريس وتفشي ظاهرة العنف في المؤسسات التعليمية.

        يتحاور سقراط وكاليكليس، حول معنى العدالة واستعمال الخطابة. يرد كاليكليس بعنف على حجج سقراط. فما كان من سقراط إلا أن تقدم لجورجياس بهذه الملاحظة:

سقراط: إن كاليكليس هذا لا يحتمل أن يقدم له الانسان خدمة، ينفر حتى من الشيء نفسه الذي نتكلم عنه.

كاليكليس: إني لا أهتم إطلاقا بما عسى أن تقول، واصلت الحديث معك إرضاء لجورجياس، أما أحاديثك فلا تشغل بالي ولا حاجة لي بها نهائيا.

سقراط: ليكن، ولكن ماذا سنفعل؟ هل نقطع المحادثة قبل أن نصل الى نتيجة؟

كاليكليس: افعل ما تريد2 .

لا يخلو إذن اتخاذ المنهج السقراطي من صعوبات، مردها الفرق الشاسع بين تصور سقراط للمعرفة الفلسفية، للحوار، لغاياتهما، لأهدافهما، وبين تصورنا نحن اليوم. ليس هذا فحسب، بل ثمة صعوبات واضحة تحول دون تحقيق هذا المنهج داخل الدرس نذكر منها على سبيل المثال؛ أن هذا المنهج يتطلب قدرة فائقة على التعبير، جدة وعمق في التفكير، يقظة ذهنية هائلة، عدد قليل من التلاميذ، مستوى معرفي جيد، مدة زمنية طويلة للتأكد من نتائجه.

مدرس الفلسفة والالتزام:

إن كنت قد استحضرت سقراط  فليس مرد ذلك فقط لأنه ـ كما قيل ـ أنزل الفلسفة من السماء الى الأرض، بل لأنه أصدق مثال عن  فيلسوف أفنى حياته دفاعا عن قيم آمن بها لحد الموت. فيلسوف يعتز  أيما اعتزاز بمواطنته واحترامه لقوانين مدينته وخدمته لها في السلم كما في الحرب.

لم يكن سقراط ، كما ذكرت، موظفا، ولا كان صاحب مدرسة فلسفية. فماذا عن مدرس الفلسفة، هذا الموظف المحترم؟ وبأي معنى يمكن الحديث في هذا المقام عن الالتزام؟

 يحضرني هنا مقال بقدر أهميته بقدر راهنية السؤال الذي طرحه صاحبه الأستاذ عثمان بنعليلا على الشكل التالي: ماذا يعني أن أكون مدرسا للفلسفة بالمغرب؟

تكمن، في نطري، أهمية المقال في مساءلته الجريئة لتجربته في التدريس، في الكشف عن  هذا اللامفكر فيه الذي يسكن مدرس الفلسفة جاعلا من نفسه وليا عليها، ناطقا باسمها. فلنستمع لحكايته كما يدعونا لذلك:

” لِستّ سنوات بالتمام وأنا أعلم كلام الفلاسفة…كنت أعلم فكر الحوار والجدل المفتوح. كنت أوصي تلامذتي بضرورة طرح السؤال…ولكن ما كنت أسمح ولو مرة واحدة لمنطق المساءلة أن يمس أمن وسلامة روح وجسد حقيقتي أنا ك”معلم”. كيف لا وأنا مقتنع بأني تاج العارفين. ولأني كنت مبتعدا عن روح الفلسفة، كنت أطلب من تلامذتي أن يقتربوا منها. يا للمفارقة. كم كنت فظيعا لا أطاق.”3

ماذا بعد هذا الاعتراف المؤلم والجريء في نفس الآن؟ وعن أي التزام  نتحدث؟

كنا جيلا، في ثمانينيات القرن الماضي، وبتأثير من تصور ماركسي أورتودكسي يقسم الفلاسفة، في جوابهم على سؤال الأسبقية، الى معسكرين (هكذا هو المصطلح المستعمل في الترجمة السوفياتية لكتاب إنجلز:”فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية) ننحاز باسم  روح العصر وباسم التقدمية لمعسكر المادية الجدلية. كان الدرس الفلسفي بيانا شيوعيا أكثر منه انتصارا للعقل والحرية.

تغيرت، مع مرور الزمن أشياء كثيرة وانهار المعسكر الشيوعي بانهيار حائط يرلين، وتوارى الخطاب الماركسي الى الوراء، ونسينا كارل ماركس وبيانه الشيوعي وانمحى كليا من مقرراتنا. هكذا إذن كان التزامنا وهكذا درسنا الفلسفة. فما هو واقع الحال اليوم؟

على كل لست هنا بصدد التأريخ لدرس الفلسفة، إنما بودي أن أقول إني أفهم اليوم من الالتزام أنه فعل إرادي حر، وموقف مسؤول وصريح وصادق. ” الالتزام تجربة وجودية تتحمل الذات في إطارها أعباء وجودها، بحثا عن سبل التحرر والانعتاق والتجاوز.”4 يحيل الالتزام إذن على الواجب والمسؤولية، واتخاد القرار، إنه انخراط و تطلع للمستقبل, تتعدد تجلياته وتتنوع بين المضمر والمعلن، بين السياسي والفكري، بين الفلسفي والأدبي.

أول التزام يلزم مدرس الفلسفة بوصفه موظفا هو التزامه تجاه المؤسسة التي يشتغل فيها، هو ما تمليه عليه هذه المؤسسة، وهي طبعا الدولة، من الزامات في تعاقده معها.

  ثاني التزام: هو التزام  تجاه القيم الفلسفبة السامية التي تنمي لدى التلميذ الحس بالمواطنة والتشبع بالقيم الانسانية الكونية القامة على الاحترام والتسامح والحوار ونبذ التعصب.

ثالث التزام ، التزام معرفي. ذلك أن مدرس الفلسفة مدعو، قبل كل شيء، لتملك معرفة فلسفية رزينة، مطلع على أهم الكتابات الفلسفية. طبعا ليس المدرس أستاذا متخصصا، لكن من الأخطار المحدقة بكل درس في غياب مادة معرفية رزينة هي: الهزالة و التفاهة والضحالة، واللغو والتلاوة المفسرة للنصوص5 .

أختم هذه الورقة بلحظة من تاريخ الفكر الفلسفي، لحظة غنية بالدلالات. زمانها بداية ستينيات القرن المنصرم ومكانها جامعة السوربون العتيقة، حين ختم ميشيل فوكو مناقشة أطروحته للدكتوراه La folie et la déraison بهذه العبارة: ” للحديث عن الحمق ينبغي أن تمتلك موهبة شاعر”  Pour parler de la folie, il faudrait avoir le talent d’un poète  كان رد أستاذ الأجيال، المتخصص في فلسفة العلوم، جورج كانغليم المشرف على أطروحته هو التالي: “إنك موهوب حقا، أيها المحترم”6.

طبعا، لا أقصد من مثالي هذا أن يكون مدرس الفلسفة من طينة ميشيل فوكو أو غيره من الفلاسفة، بل أن يكون على معرفة رزينة بالفلسفة، تحترم نفسها وتحترم في نفس الآن المتلقي.


الهوامش:

1 ـ أفلاطون:”محاورة هيبياس الأكبر، ترجمة علي نجيب ابراهيم، دار كنعان دمشق 2003 . المقدمة.

2 ـ أفلاطون: “محاورة جورجياس” ترجمة محمد حسن ظاظا. مصر. 1970. ص 123

3 ـ عثمان بنعليلا: ماذا يعني أن أكون مدرسا للفلسفة بالمغرب؟ مجلة الجدل العدد 2 / 1985 . ص108 .

4 ـ  سعيد الجابلي: “مسالة الالتزام عند سقراط” 2019 . ص 7 موقع مؤمنون بلا حدود.

5 ـ جان فرانسوا روبيني: “ما درس الفلسفة؟” ترجمة م. ن. فرطميسي وع الكريم فديوي. جريدة الأحداث المغربية العدد 5503 تاريخ 30 يناير 2015 .

6 ـ  (Didier Eribon : Michel Foucault. Flammarion. 1981. P133