مجلة حكمة
خرافة النزعة الليبرالية للطبقة الوسطى

خرافة النزعة الليبرالية للطبقة الوسطى

الكاتبديفيد موتاديل
ترجمةمحمد رضا

يفترض أن يضمن البرجوازيون وجود مجتمعات ديموقراطية منفتحة. ولكنهم  في الحقيقة ، نادرًا ما فعلوا ذلك.

 احتفينا لوقت طويل بصعود الطبقة الوسطى ـ من الصين إلى العالم العربي ـ باعتبار ذلك خطوة حاسمة في ظهور مجتمعات منفتحة ونظام عالمي ليبرالي. أكد الباحثين والنقاد أن تحرير الاقتصاد سيؤدى إلى صعود طبقات وسطى قوية ، مما يؤدى في النهاية إلى ظهور أشكال ديموقراطية من النظم السياسية. وفي القلب من تلك الحجة الافتراض القائل أن طبقة وسطى صارمة حاسم لانتصار الحرية السياسية.

ولكن في العقود الماضية ، تحطمت تلك الآمال. فلم ينجم عن انتشار مجتمع وثقافة الطبقة الوسطى تحرر سياسي. بل على العكس تمامًا، يبدو ان الطبقات الوسطى المتنامية في افريقيا وأسيا والشرق الأوسط غير متحمسة للدفع باتجاه إصلاح ديموقراطي. بينما قطاعات من الطبقات الوسطى في أمريكا والولايات المتحدة تشعر بالتهديد من تسارع التغير الاقتصادي الاجتماعي لزماننا ، وأثبتت استعدادها لتلبية نداءات الديماغوجية غير الليبرالية . فلماذا إذن وضع علماء السياسة الكثير من الثقة في هذه الطبقة؟

فقط لسبب وحيد ، ان السجل التاريخي بدا واضحا أن الطبقات الوسطى كانت دائما في طليعة الكفاح لأجل الحريات السياسية. على مدار الحقبة الحديثة ، ومع تبلور الطبقات الوسطى الريفية والحضرية كمجموعة سياسية قوية بين الأرستقراطية من جهة والفلاحين والعمال من جهة، بدأت الطبقات الوسطى  في تحدى صلاحيات  وامتيازات النخب الاستبدادية الراسخة القديمة ، محاربة لأجل حماية الملكية الخاصة ، وحرية التعبير و الحقوق الدستورية والمشاركة الانتخابية وسيادة القانون. `انظر للدور المركزي للطبقة الوسطى في ثورات  البرجوازية العظمى في أواخر القرن الثامن عشر وبديات القرن التاسع عشر ( في العالم الأطلسي أساسًا) وفي منتصف القرن التاسع عشر ( في أوروبا بشكل رئيسي) وفي بدايات القرن العشرين ( في آسيا بشكل رئيسي) في السعي للحد من صلاحيات الملوك.

بالنظر إلى تلك التجارب ، افترض علماء القرن العشرين نظرية تربط بين الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والنظام السياسي. ” لا برجوازية ، لا ديموقراطية” أكدها عالم الاجتماع بارينجتون مور في كتابه الكلاسيكي ” الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديموقراطية” الصادر سنة ١٩٦٦، وعبر عن أفكار مماثلة مناصرو نظرية التحديث واشهرهم سيمور مارتن ليبست : ” الإنسان السياسي : الأسس الاجتماعية للسياسة” المنشور سنة ١٩٥٩.

ومع ذلك ، فقد استندوا جميعًا إلى قراءة انتقائية للتاريخ.  فنظرة فاحصة لهذا الماضي تظهر أن الطبقات الوسطى وقفت بشكل متواتر مع الحكومات الغير ليبرالية عندما خشيت على امتيازاتها وعلى الاستقرار الاجتماعي.

خلال القرن التاسع عشر ، العصر الذهبي للبورجوازية ، عاشت الطبقات الوسطى في غالبية دول العالم في ظل نظم استبدادية ، ومن بين استثناءات قليلة كانت كل من بريطانيا والولايات المتحدة ، ولم تناضل دائما لأجل المزيد من الحريات السياسية. وبسبب القلق من قوة الطبقات العاملة ، رحبت حتى قطاعات من الطبقات الوسطى بالحد من الحريات السياسية.

 لاحظ الشاعر الألماني الثوري هنريش هاينه مبكرا في العام ١٨٤٢ ، حين كان منفيًا في باريس ، ان سياسيات الطبقة الوسطى ” محكومة بالخوف” ، لأنهم كانوا جميعا مرحبين بالتخلي عن قيم الحرية لحماية وضعهم الاقتصادي الاجتماعي من الطبقات الدنيا. بدا ذلك أكثر وضوحًا في ثورات ١٩٤٨ الفاشلة ـ حيث فقدت الثورات في أماكن عدة تأييد الطبقات الوسطى المذعورة التى روعها الخوف من الغضب الشعبي والمشاركة السياسية للبروليتاريا.

أبدت أيضا الطبقات الوسطى في القرن التاسع عشر اهتمامًا ضئيلاً بالاستبعاد السياسي والاجتماعي لقطاعات كبيرة من المجتمع ـ الأقليات والمرأة والعمال. كانت اللامساواة ـ الإثنية والجندرية والاجتماعية ـ جزءا من عالم الطبقات الوسطى ، في تناقض صارخ مع القيم الكونية للحرية والمساواة والتحضر. عشية الحرب العالمية الأولى ، علقت البرجوازية الأوربية في غمرة القومية ، والنزعة العسكرية ، والعنصرية.

المثال الأوضح الأكثر تطرفا على ذلك ، هو بلا شك الدعم الجماهيري الكبير للنظم الفاشية في سنوات ما بين الحربين ، والذي أتى من الطبقة الوسطى الدنيا وكذلك من قطاعات معتبرة من البرجوازية العليا. بعد ان شعرت بالرعب من شبح الشيوعية،تزاحمت الطبقات الوسطى في جميع أنحاء اوروبا على رجال اليمين المتطرف وأبدوا القليل من الاحترام لمُثل الليبرالية الديموقراطية والبرلمانية ، بدا ان مستبدين مثل موسيلينى وفرانكو وهتلر يقدمون الحماية لثرواتهم. ادعى كارل شميت ، المُنظر القانوني الشهير لهتلر ، أن فقط دولة استبدادية قوية هى الوحيدة القادرة على ضمان الحفاظ على طبقة وسطى ملائمة.

لاحظ السياسي الليبرالي التشيكوسلوفاكى، من منفاه في لندن سنة ١٩٤٠ ” أن الطبقات الوسطى أدركت ان الديموقراطية الليبرالية ، أذا وصلت نهايتها المنطقية فمن الممكن أن تقود نحو ديموقراطية اجتماعية واقتصادية ، لذا رأت في النظم السلطوية خلاصًا من الثورة الاجتماعية لطبقات العمال والفلاحين”.

بالتأكيد ، لم تكن كل قطاعات الطبقات الوسطى متحمسة للغاية. أشار المؤرخ جورج موسيس ذات مرة أن السيطرة النازية استخدمت ” معيارًا مزدوجًا” في سياستها تجاه الطبقات الوسطى، حيث ميزت بين ” البرجوازية الأصيلة والبرجوازية اليهودية ” وكانت ” ضد برجوازية بقدر ما كانت ضد يهودية” أشارت هنا أرندت في كتابها ” أسس التوتالتاريا” ان ” البرجوازية الألمانية” التى ” راهنت بكل شئ على حركة هتلر وتطمح للحكم بمساعدة الغوغاء” وفي النهاية فقط ” انتصرت بثمن بهظ” حيث أثبت ” الغوغاء أنهم قادرون على أخذ زمام أمور السياسة بأيديهم ، وتصفية البرجوازية بالإضافة إلى جميع الطبقات والمؤسسات الأخرى.

أصبحت الطبقات الوسطى في مرحلة الحرب الباردة في جميع أنحاء العالم أكثر ليبرالية بصفة عامة ، ولكنها لم تتورع عن تبنى تدابير الدول السلطوية متى كان ذلك في مصلحتها. عبر المجتمعات الغربية ، جرى التسامح بل وحتى الترحيب بالقيود الشديد مثل ـ الحد من حرية التعبير وتكوين الجمعيات ـ ضد الشيوعين ( المتخيلين ) والمتعاطفين معهم. في أجزاء كبيرة من العالم الجنوبي ، من الشرق الأوسط وحتى أمريكا الجنوبية ، ازدهرت الطبقات الوسطى تحت الأنظمة الاستبدادية ، لذلك دعمت في كثير من الأحيان القمع السياسي خوفًا من عدم الاستقرار الاجتماعي.

هذه ليست استثناءات لقاعدة عامة في سياسات الطبقة الوسطى. يبدو ان الرابطة بين الطبقات الوسطى والتحرر السياسي أقل كثيرا مما كنا نعتقد. في الواقع لقد أسئ فهم هذه البُشرى  طوال الوقت.

الطبقات الوسطى ليست محركًا أوليًا للتحرير السياسي. يمكن أن يصحبوا دعاة للاستبداد القمعي بسهولة  إذا خشوا من فقدان التأثير والثروة. من الممكن فهم تناقض تاريخ الطبقة الوسطى مع مبادئ الحرية الكونية والمساواة والتحضر كمثال على الجانب المظلم للحداثة ، كما وصفها ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو ، اشهر ممثلين لمدرسة فرانكفورت ، في كتابهم الكلاسيكي ” جدل التنوير “” the dialectic of enlightenment” . الطبقة الوسطى كانت دائما سلاحًا ذو حدين. سواء احتضنت النموذج الليبرالي أم لا ، فإن ذلك يعتمد على الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

شهدت السنوات الأخيرة مجموعة واسعة من المواد المنشورة التى تتحسر على أزمة الطبقة الوسطى في الغرب مثل  كتاب جانيش سيتارمان ” أزمة دستور الطبقة الوسطى” ، والذي يحذر من انهيار الطبقة الوسطى القوية كـ ” التهديد رقم واحد للحكومة الدستورية الأمريكية” في الولايات المتحدة. أو كتاب ” كريستوف جيليوى” اللامجتمع : نهاية الطبقة الوسطى الغربية” الصادر سنة ٢٠١٨ ـ والذى يصف الوسط المنهار في فرنسا ( وما وراءه). وهناك كتاب دانيال جوفارت “نهاية الطبقة الوسطى” الصادر العام الماضي ، والذي يثير نفس النقطة بالنسبة لألمانيا.

ومع ذلك ، فكل هؤلاء الخبراء يستندون للفرضية القائلة ان الطبقات الوسطى هى معقل المجتمعات الليبرالية المنفتحة ، وفقط تراجعها هو ما يمثل تهديد للديموقراطية . بالطبع ، يمثل تآكل الطبقة الوسطى مشكلة. ولكن هناك خطر اخر لم يحط بنقاش كاف. وهو النزعة ضد التحرر لديها.

ليس من المفاجئ إذن أن القطاعات المتنامية للطبقات الوسطى حول العالم ضد تميل نحو نظم سياسية غير تحررية. شهد العقد الأخير طيف واسع من الصدمات : الركود الكبير وتجاوزات النزعة الليبرالية الجديدة في عصرنا الذهبى ، والتى قادت إلى تزايد عدم المساواة ، وضغطت على الطبقات الوسطى في كل مكان. في نفس الوقت ، بعضًا من الوسط السياسي  القديم يشعر بالتهديد من المطالبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجموعات المهمشة سابقًاـ الأقليات والمهاجرين والفقراء.

لأجل كفاحهم للحفاط على مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية ، تتجه أجزاء من الطبقات الوسطى للسياسات الاحتجاجية ، معتقدين ان الشعبويين الأقوياء قادرين على حماية مصالحهم. يجب أن تتوقف المؤسسات والأحزاب التقدمية عن الظن بأن الطبقة الوسطى ستكون دائما في صفهم. التاريخ يقول عكس ذلك ، ويظهر كيف تؤدى هذه الغطرسة إلى كارثة. لم تضيع الطبقات الوسطى ، ولكن القادة السياسيين يجب ان يعملوا بقوة لاستعادة ثقتهم. تجاهلهم سيكون خطرًا عليهم وعلى مجتمعاتنا.

المصدر