مجلة حكمة
النزعة الموضوعية نقد

نقد النزعة الموضوعية (أو في مسألة التقنية): بين هوسرل وهيدجر – أردلان جمال


” لن يكون هناك أبدا أي تحسن طالما أن النزعة الموضوعية، التي تجد مصدرها في الموقف الطبيعي وفي العالم المحيط، لم تفضح في سذاجتها” (هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية)

لن يتعلق الأمر بنقد فقط “لنـزعة” من بين النـزعات العديدة التي حركت الفلسفة الغربية على امتداد تاريخها الطويل، فما نعنيه بنقد النزعة الموضوعية سيتمثل في الوقوف على واحد من الأسس التي قام عليها الفكر الحديث، أسس ما تزال تبرر قسما كبيرا من النقاشات المحورية التي تدور حولها الفلسفة المعاصرة، بل ما تزال تبرر الكيفية التي تتصور بها المعرفة وكذا الطريقة التي يطرح بـها إدراك العالم والطبيعة.

لا داعي إذن لأن نرى في نقد النزعة الموضوعية استمرارا للصراعات التقليدية التي نشبت على الدوام بين “الاتجاهات” و “المواقف” الفلسفية والتي درج تاريخ الفلسفة على تعقب مناحيها وزواياها العديدة. ينبغي على العكس أن نرى في هذا النقد مؤشرا لمعنى تاريخي عميق بدأ الوعي به منذ هوسرل ثم مع هيدجر قبل أن يتخذ وضعا آخر مع بعض ممثلي الفلسفة التحليلية. وعلى الرغم من أن السياق الذي ستناقش فيه النزعة الموضوعية سيتباين نسبيا بين هوسرل وهيدجر، إلا أن ثمة قواسم مشتركة ستظل ثابتة بينهما.

قبل أن نستخرج هذه القواسم المشتركة، لنشر بادئ الأمر أن نقد النزعة الموضوعية يندرج لدى هوسرل ضمن تشخيص أعراض “الأزمة” Die Krisis التي أصابت الفكر العلمي الحديث، ويتم هذا في موازاة مع رد الاعتبار “لعالم العيش” ( أو عالم الحياة) Lebenswelt الذي تنوسي من قبل العلوم الحديثة. في حين يندرج نقد هذه النزعة لدى هيدجر ضمن الترابط الذي سيقوم منذ مطلع العصر الحديث بين مجال الذاتية subjectum ومجال الموضوعية objectum؛ ويؤخذ هذا الترابط في مجمله داخل تاريخ حقيقة الوجود لكن بين التأويل الذي يصوغه هوسرل وذاك الذي يتقدم به هيدجر، هناك مسألة التقنية التي تعد وحدة مشتركة في نقدهما للنـزعة الموضوعية. وعلى هذه الوحدة المشتركة بالضبط سنيصب قسم كبير من دراستنا هذه.

 

1 – هوسرل : النزعة الموضوعية وعالم العيش :

1.1 – تشكل النزعة الموضوعية Objektivismus حسب هوسرل المظهر الرئيسي لأزمة العلوم الأوروبية. وتعني في نظره إنتاج العلم لعالم من البناءات المثالية ولمسلسل من القوانين الصورية بديلا لعالم العيش بحيث يتم اعتبار هذه البناءات وهذه القوانين ذات وجود موضوعي مستقل عن الذات.

ويرجع هوسرل أسباب التحول العلمي الذي قامت عليه النزعة الموضوعية إلى عامل رئيسي يتمثل في صياغة الطبيعة صياغة رياضية Mathematisierung der Natur (1). من هنا اهتمامه الخاص بالفيزياء الغاليلية، فمع هذه الأخيرة ستخضع الطبيعة لقوانين الرياضيات متخذة طابعا مثاليا. لكن قبل المرور إلى تحديد الخصائص التي ستحملها الطبيعة، علينا أن نعلم بأن حديث هوسرل عن غاليلي ليس حديثا عن شخص بعينه، بل هو حديث عن تحول ثقافي – تاريخي شرع في التبلور منذ العصر الحديث : فما يهم هنا ليس هو تعقب الوقائع ولا ملاحقة الأثار الشخصية؛ إن ما يهم بالأساس هو رصد المعنى التاريخي العميق الذي جسدته الفيزياء الغاليلية. ولذلك سيقول في ( أزمة العلوم الأوروبية) بأن قضيته المحورية هي تسليط الضوء على الفيزياء الغاليلية باعتبارها قد ساهمت على نحو أصيل في تجديد الفلسفة الحديثة، وهذا ما يتطلب استخراج مدلولاتها المخفية والكشف عن بقايا البداهات التقليدية التي تعيش عليها في شكل “مقتضيات المعنى التي ما تزال غير موضحة” (ungeklärte Sinnesvorauss et zung ) (2).

بقيام الفلسفة والعلوم على النزعة الموضوعية ، يتم الابتعاد تدريجيا عن الأسس الأولى بحيث يدخل العالم die Welt، بما هو “أفق”، طي النسيان؛ أو بالأحرى إن العالم يغدو الموضوع الكلي الذي يضم جميع الموضوعات دون أن يوضع طابعه “الأفقي” القبلي موضع تساؤل. هذا التحديد، الذي يتلازم في نظر هوسرل مع مجيء العلوم الحديثة، إيذان بعهد جديد يصير فيه العالم تراكما من الموضوعات القطاعية التي تمتثل فقط للإلزامات المهنية، أي تراكما لموضوعات قابلة للتقسيم والتخصيص وفق فقط ما تمليه الاعتبارات التقنية.

وحده العصر الحديث إذن هو الذي اكتشف في الرياضيات صورا خالصة. فلا الإغريق ولا رياضيو العصور الوسطى استطاعوا أن يفرغوا مفهوم العدد من محتوياته المادية. لذلك سيقول هوسرل في (المنطق الصوري والترنسندنتالي) بأن اكتشاف المستوى الصوري في أدق معانيه لن يتم لأول مرة إلا في بداية العصور الحديثة بفضل تأسيس الجبر مع فييت، وبالتالي بفضل إضفاء طابع تقني على نظريتي الأعداد والمقادير، وسيبلغ هذا الاكتشاف أعلى درجاته الخالصة في نشدان ليبنتز Leibniz “لرياضيات شمولية”Mathesis Universalis(3).

يتضح جيدا ما للرياضيات من دور مباشر في سيادة النزعة الموضوعية . ولعله من المهم جدا مقارنة تصور هوسرل للفكر العلمي الحديث بالتاريخ الذي أجراه ألكسندر كويري A.Koyré للفيزياء الحديثة. فكلا المفكرين يردان أصل الثورة العلمية التي تمت في القرن السابع عشر إلى “ترييض” الطبيعة وإلى إقحام مفهوم اللانهاية. ولقد ساهم كويري في أغلب كتاباته الإبستمولوجية في توضيح مدلولات هذا الانقلاب الهام الذي يتخذ عنده بصفة عامة مظهرين اثنين :

أولا ، تحطيم الكوسموس الإغريقي الذي يفترض الانغلاق والتراتب والتناهي، وإحلال مفهوم العالم اللامتناهي محله بعد القضاء على فكرتي التراتب الطبيعي والنـزعة الأنثروبومورفية.

ثانيا، تشييد مكان رياضي متجانس بديلا للمكان الأرسطي عن طريق تعميم الهندسة الأوقليدية؛ مما ساهم في نزع خاصية الغائية عن العالم عنها أن ظلت تلازمه على امتداد الكوسمولوجيا الأرسطية.

هذه الأطروحة المركزية التي دافع كويري في كثير من كتاباته، تتقاطع في صلبها مع التصور العام الذي وجه تأويل هوسرل للعلوم الحديثة وفهمه لأسباب “الأزمة” (4). فكلاهما يجمعان على أن أصول التكميم الرياضي في الفيزياء الحديثة ستكون له نتائج مباشرة على الصورة التي أصبحت تبدو بها الطبيعة منذ مطلع القرن السابع عشر.

2.1 – لقد تبين لنا حتى الآن أن للنـزعة الموضوعية صدى مباشرا على فكرة العالم والطبيعة. وهكذا فعندما يعين هوسرل الطابع المثالي كسمة رئيسية للنـزعة الموضوعية، فهو لا يريد بـهذا سوى التأكيد على مبدإ عام تشترك فيه جميع فلسفات وعلوم القرن السابع عشر على حد سواء: إنه الاعتقاد بأن للأفكار وجودا موضوعيا، وجودا في ذاته. وإذا غدا العالم في إطار نفس التصور فكرة لا متناهية لا يمكن حيازتها إلا من خلال سلسلة لا محدودة من العمليات التقنية، فإن هذا لا يتعارض في الواقع مع مقتضيات هذه “المعرفة الجامعة” Allwissenheit التي تشكل إحدى دعائم النزعة الموضوعية .

حقيقي أن هذه “المعرفة الجامعة” تظل في اعتبار فلاسفة النزعة الموضوعية مجرد غاية لا يمكن الاقتراب منها إلا على نحو لا نـهائي، لكن بالرغم من هذا فهي تبقى قابلة للتحقق إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وضعها ضمن التقدم اللانـهائي الذي تراكمه أجيال متعاقبة من الأبحاث النسقية. وعليه فإن الصورة التي ترسمها العلوم الحديثة عن العالم تخلص إلى النظر لـهذا الأخير “كوحدة عقلانية نسقية” (eine rationale systematische Einheit) يقبل كل جزء من جزئياتـها أن يتحدد بكيفية عقلانية.

بفعل هذه المعرفة النظرية-التقنية سيقسم العالم إلى “مجموعات لا متناهية من الحقائق” unendlicher Warhrheits-Allheiten (5) قابلة للتحقق في مسار لا متناه، إما بشكل خالص كما هو الشأن في الرياضيات وإما بشكل تقريبي ومتدرج كما هو الحال في علوم الطبيعة. وهذا ما يزيد من سيادة الإنسان على الطبيعة في عصر النزعة الموضوعية بنفس المقدار أيضا الذي يزيد من تقوية الشروط التي ترفع الفلسفة إلى مرتبة ” علم كلي موضوعي” (Philosophie als universaler objectiver Wissenschaft ).

من جهة أخرى يرتبط نقد النزعة الموضوعية بنقد النـزعة الطبيعية Naturalismus، فلقد تصدى هوسرل للنـزعة الطبيعية منذ ( أبحاثه المنطقية) مبينا حدودها وعواقبها الوخيمة على كثير من العلوم. وإذا تبين لمتتبع الانعطافات التي عرفتها (الفلسفة كعلم صارم)، فلأن هوسرل ظل يقدر خطورة النـزعة الطبيعية ويعي اكتساحها لعديد من الآفاق.

وعلى الإجمال يمكن القول بأن عيوب هذه النـزعة ترجع في نظر هوسرل إلى ميلها نحو رد كل الموجودات إلى الوجود الطبيعي ونفيها صفة الواقعي عن كل ما ليس حدثا فعليا؛ من هنا إصرارها على إضفاء صبغة طبيعية على الأفكار. لكن ها هنا بالتحديد يكمن ” تناقضها” وتهافت دعاواها : فكلما اتخذت هذه النـزعة صورة علمية إلا وكان عليها أن تسلم بوجود موضوعي لموضوعاتها، غير أن هذه الموضوعية سرعان ما تتساقط من تلقاء ذاتها بفعل العناصر التي تتكون منها هي ذاتها، أي بفعل أن هذه “الموضوعية” هي دوما مثالية.

ذلك إذن هو التناقض الذي تريد أن توقفنا عليه الفلسفة الفينومينولوجية : إن النـزعة الطبيعية تجمع في نفس الآن بين صفة المثالية وصفة الموضوعية (6). وبفعل هذا فهي لا تمثل إلا صورة أخرى للنـزعة الموضوعية، إذ أن الاكتساح “الموضوعي” الذي تشهده العلوم منذ الأزمنة الحديثة يخفي في رأي هوسرل نـزعة طبيعية مضمرة ظلت قائمة منذ أن أسس غاليلي ” علم الطبيعة” بحيث غدا العالم الحقيقي في وضعه العلمي هو “العالم الموضوعي”، أي العالم من حيث هو “طبيعة” Natura في أوسع معاني هذه الكلمة. وتلك خاصية لن تلازم علوم الفيزياء لوحدها، بل ستطال كل العلوم الأخرى، بما فيها علم النفس الذي يعد حسب هوسرل أخصب حقل لنمو النـزعة الطبيعية والموضوعية على حد سواء,

3.1 – لقد ذكرنا من ذي قبل أن الكيفية التي نوقشت بها النزعة الموضوعية تطلبت ربطها بمشكلة التقنية. والواقع أن هناك أكثر من وشائج بين هذه النـزعة وبين سيادة التقنية في العصور الحديثة، ذلك لأن تحويل الطبيعة إلى “موضوعات مثالية” لا يمكن أن يتم إلا في حقل تسطير فيه التقنية. والحال أن ما يسميه هوسرل بالصياغة التقنية Technisierung لم تعد عملية حكرا على “الرياضيات الشمولية” أو على المنهج الجبري لوحدهما بل أصبحت مفعولاتـها تمتد بعيدا لتشمل كل الطرائق المستخدمة في علوم الطبيعة، لا فقط لأن هذه الطرائق أصبحت تنحو منحى “ميكانيكا” وإنما أيضا لأن ماهية المنهج ما فتئت تربط بين تحقق هذا الأخير وبين الميل نحو الصياغة التقنية. وهكذا سيبدو جليا أن المنهج في العلوم الحديثة يتطابق على نحو تام مع التقنية (7).

لكن ما السر في منح التقنية هاته المكانة المتميزة؟ وما الداعي لإثارتها في العصر الحديث على وجه التحديد؟ ثمة من دون شك علاقة بين السؤالين اعتبارا لأن هوسرل يرى في الإقبال على التقنية وجها آخر لاستفحال النزعة الموضوعية ، فحيثما ازداد الإقبال على توسيع نفوذ المنهج وتعميم فعالياته، إلا وازداد الحديث عن “حقائق موضوعية” مطلقة ومثالية.

لنقف مرة أخرى عند دلالات هذه الصياغة الرياضية التي اتخذتها الطبيعة في الفيزياء الغاليلية، فنحن سنتبين لا محالة ترابطا كبيرا بين الاعتلاء بالطبيعة في سماء “الموضوعات المثالية” وبين توسيع دائرة “الرياضيات الشمولية” لتغدو منهجا عاما وكليا. الظاهر إذن أن هناك علاقة وطيدة بين تحويل الطبيعة إلى كموم ومقادير رياضية وبين تعميم التقنية؛ هذه العلاقة هي من القوة بحيث إن الطبيعة لم تعد تظهر إلا وفق القواعد التي يرسمها المنهج، أي وفق الكيفيات التي تحددها التقنية.

ليس غريبا أن يؤكد هوسرل في هذا السياق على نسيان “عالم العيش” Lebenswelt: فبقدر ما يتم الاعتماد على التقنية بقدر ما يزداد الابتعاد عن “عالم العيش” وعن “المعيش” Erlebnis، إذ أن الوجود الحقيقي يصير هنا مطابقا للمنهج. وبـهذا يتضح أن إلباس الطبيعة حلة من المثل “هو الذي أصبح يدفع إلى اعتبار الوجود الحقيقي ذا صلة بالمنهج” (8). لكن هذا المنهج، الذي غدا مهيمنا منذ العصورالحديثة، ما عاد ممكنا إلا على حساب ” عالم العيش” الذي ما انفك يصير نـهبا للنسيان وللتقليص. وهكذا فإن اتساع دائرة التقنية سيتخذ دوما شكل تصحيح لاستباقات “التجربة” die Erfahrung (9) وتعويضها بقوانين العلم الكونية. إن علامات هذا الاكتساح التقني ستتمثل في إحلال حقائق ذات “موضوعية علمية” محل التجارب اللامتناهية التي يمتلئ بها عالم العيش.

لـهذه الوضعية مظهر آخر يعكس طباع النسيان الذي يخيم على عالم التقنية : فحيثما تعاظم الاعتقاد في فعالية المنهج إلا وازداد في المقابل الابتعاد عن الأصل الجذري الذي منه تستمد التقنية كل مقومات وجودها. وحيثما ازدادت هيمنة النزعة الموضوعية إلا وتضاءلت حظوظ الإحاطة بالأفق القبلي الذي يمد العالم بمعناه. ولذلك سيلاحظ هوسرل، غير ما مرة، أن النزعة الموضوعية لا تتساءل قط كيف يكون بمقدور المنهج أن يتولى مهام علمية لا متناهية، ولا أيضا كيف تعاظم حجم التقنية إلى حد الاعتقاد في منفعتها دون توصل العلماء مع ذلك إلى تكوين فهم واقعي حول معنى وضرورة هذه المبادئ التي تقوم عليها التقنية. وباختصار شديد، إن ما يلاحظه هوسرل هو نسيان الأسس الأولى والمقتضيات التي نشأت عليها التقنية. فهذه الأخيرة، شأنـها في ذلك شأن العلم بصفة عامة، تشتغل كآلة تجلب منافع لكل الأشخاص دون أن يتوصل مستعملوها في المقابل إلى فهم إمكاناتـها وضروراتـها الداخلية.

لما كان إذن عالم العيش هو ” أساس المعنى المنسي” vergessenes Sinnesfundament من قبل علوم الطبيعة، فإن التقنية – التي تجسد أعلى مظهر لسيادة النزعة الموضوعية – تعيش باستمرار وضعية انفصال عن أصلها؛ وهذه الوضعية هي من العمق بحيث إنها تعد من العوامل الرئيسية التي ساهمت في تفاقم ” أزمة العلوم الأوروبية”.

هذا ما يبرر حديث هوسرل عن جوانب ” عديمة الوضوح” Unklarheiten أو عن أبعاد ” غير مساءلة” nicht befragt في مجال التقنية (10) لن يرى فيها مؤسس الفينومينولوجيا سوى أعراض للأزمة التي يتخبط فيها الفكر العلمي الحديث. ذلك أن الهيمنة التي تمارسها النزعة الموضوعية لا تستوجب فحسب تعميم التقنية وإذعان الطبيعة لقواعد المنهج، بل إنها تستوجب أيضا إخفاء ما هو أساسي ونسيان “الأساس الأصلي” Urstiftung الذي تقوم عليه كل العلوم. وهكذا يصح القول بأن خاصية التقنية تكمن أساسا في عجزها عن الإحاطة بالأفق الذي تستمد منه معناها ووجودها.

إن اتخاذ النمط العلمي طابع ” مهام جزئية” منجزة على نحو تدريجي ومتسلسل، قد اكسب المنهج صفة “تيخني” متوارث عبر الأجيال لكن فاقد باستمرار لمعناه الفعلي. على هذه المفارقة يوقفنا هوسرل، فهي التي تفسر في نظره لماذا تظل العلوم الحديثة تابعة على نحو مطلق للتقنية ولماذا تظل موضوعاها متوقفة على الزوايا التي يبرزها المنهج فقط، إذ يبدو أن الطبيعة ما عادت تظهر إلا وفق ما يسمح به المنهج. وبـهذا المعنى أيضا تكون النزعة الموضوعية في صيغتها العلمية مجرد تقنية.

4.1- لا سبيل مع هوسرل لرفع الأزمة التي خلقها تفاقم التقنية و النزعة الموضوعية إلا بالتمسك بمبادئ العقلانية. والفلسفة ما هي ذاتها إلا أعلى تجسد لـهذه المعرفة التي تضع العقل حكمها وقانونها الخاص. ولذلك سيعلن بأن ” أزمة الوجود الأوروبي”لا تملك إلا مخرجين : إما السقوط في مهاوي الانحطاط بفعل نسيان المعنى العقلاني للحياة، وإما العمل على نهضة ” أوروبا” عن طريق إحياء روح الفلسفة؛ هذا المخرج الثاني لن يكتب له التحقق إلا بفضل “بطولة العقل” Heroismus der Vernunft التي يرفعها هوسرل سلاحا للقضاء على النـزعة الطبيعية (11).

لكي يتمكن الفكر من تجاوز هذه الأزمة التي تضعه فيها النزعة الموضوعية ، على الفلسفة أن تبلور الشروط الضرورية لبناء “مفهوم أوروبا” der Bgriff Europa لا بما هو تحديد جغرافي وإنما بما هو ” غائية تاريخية لأهداف عقلانية لا متناهية” (historische Telologie unedlicher Vernunftziele) (12). لكن ذلك هو ذاته ما يشكل قوام “العالم” الأوروبي الذي يبقى عالما عقلانيا في صميمه، عالما وجد نشأته في أفكار العقل، أي في الخطاب الفلسفي كما صاغه الإغريق. وما يتوخاه هوسرل هنا بالتحديد ليس شيئا أخر سوى إحياء هذه الروح العقلانية في صورة فلسفة ترنسندنتالية فينومينولوجية.

وإذا كان اقتناعه قويا بأن الفينومينولوجيا لا تجسد فقط متابعة للكيفية التي يعطى ويتكون بـها الوعي بل أيضا أخلاقا وممارسة، فإنه سيدرك تدريجيا بأن الفلسفة عقلانية في صميمها وأن على الفينومينولوجيا أن تصاحب كل مراحل الحياة الإنسانية، سواء أتعلق الأمر بالحياة النظرية أو بالحياة العملية. إنه بـهذا لا يحيي فقط هذا المبدأ الإغريقي الذي يرفع اللوغوس فوق العالم ليجعل منه ناموسا كونيا بقدر ما يعمل أيضا على الوفاء لـهذا الخط الهيجلي الذي يجعل العقل محايثا للتاريخ وللوجود. ألم يكن هيجل هو الفيلسوف الذي سيسير بالنموذج الإغريقي إلى أقصى حدوده؟ ألم يكن هو الذي سيظهر أكثر من سابقيه أن اللوغوس يحكم الوجود وأن تصور ما هو موجود هو مهمة الفلسفة بلا منازع لأن الموجود عقلي بالأساس؟ لنستمع إليه حين يعلن عن ذلك في (مبادئ فلسفة الحق) : “حتى نقول كلمة أخرى في نشدان تعليم الكيفية التي يجب أن يكون بها العالم، نلاحظ في جميع الحالات أن الفلسفة تأتي دوما متأخرة جدا. إذ بما أنها فكر العالم، فهي تظهر فقط حين يحقق وينهي الواقع صيرورة تكونه ” (13). أجل، إن الفلسفة لوغوس الوجود، ولأنها كذلك فإن أسباب انبثاقها لا تكتمل إلا باجتماع أسباب معقولية العالم.

صحيح أن نفس المبدإ العقلي الذي يطلعنا عليه هيجل هو الذي نتبينه عند هوسرل، إلا أن ما سيأخذ باهتمام هذا الأخير سينحصر في عقلنة مراحل “عالم العيش” Lebenswelt بحيث تكون هذه العقلنة هي ذاتـها السلاح الذي يشهر في وجه خطر استفحال النزعة الموضوعية .

لقد سما هيجل بالفلسفة إلى حد اعتبارها لوغوس الوجود. أما هوسرل قسيجعل من “التجربة” die Erfahrung ومن ” المعيش” Erlebnis الأساس الأول لكل تفكير فلسفي، ولذلك فإن ما ظل يعيبه على العلوم الحديثة هو تشييدها ” لموضوعات مثالية” وإهمالـها في المقابل لعالم العيش الذي يبقى، كيفما كان الحال، أساس ومبدأ معقوليتها. لقد تناست هذه العلوم عالم الإدراكات المباشرة، عالم ما قبل العلم؛ وهذا بالضبط هو الوجه السلبي للإفراط في مسالك النزعة الموضوعية . صحيح أن هذه المعقولية التي يتتبعها هوسرل ينبغي أن تتم في مجالات الإيبوخي، لكن هذا لا يعني في حد ذاته نفي الموقف الطبيعي ولا إقصاء الدوكسا.

وعلى الإجمال، يبدو جليا أنه كلما ازدادت هذه العلوم الحديثة إغراقا في النزعة الموضوعية وفي تعميم التقنية كلما ازدادت بعدا عن عالم العيش إلى حد أن السمة الأساسية لأزمة العلوم الأوروبية ستقترن عند هوسرل بنسيان المظاهر النسبية والذاتية التي تمتلئ بها الحياة بحيث يزداد العالم العلمي بعدا عن الإنسان ليغدو في النهاية مجرد بناءات معزولة عن الحياة أي مجرد أفكار في ذاتـها منفصلة تماما عن مسؤولية الإنسان.

لـهذه الاعتبارات كلها يقول هوسرل : “ينبغي أن يكون الرجوع الأصيل إلى سذاجة العيش (rechte Rückgang zur Naivität des Lebens) الطريق الوحيد الممكن للتغلب على السذاجة الفلسفية الكامنة في ” علمية” Wissenschaftlichkeit الفلسفة ذات النـزوع الموضوعي التقليدي، لكن من خلال تأمل يعلو فوق سطح هذه الأرض.” (14)؛ فلا سبيل لإحلال “الذاتية الترنسندنتالية” محل “النزعة الموضوعية” بدون المرور من عالم العيش الذي يبقى في نظر هوسرل الأصل الأول والمبدأ الذي لا محيد عنه.

غير أن رد الاعتبار لعالم العيش لا يعني هنا الإغراق في “الموقف الطبيعي” لأن ذلك من شأنه أن يردنا مرة أخرى إلى النـزعة الطبيعية. إذا كانت هناك ضرورات تفرض الانطلاق من عالم العيش فلأن الهدف يظل عند هوسرل هو بلوغ هذه “الذاتية الترنسندنتالية” التي يحرص أشد الحرص على إفراغها من مضامينها السيكولوجية. ولـهذا بالضبط سيزداد من جهة أخرى وعيا بأهمية مجال “ترابط الذوات” (Intersubjektivität) في أعماله الأخيرة بنفس المقدار الذي سيزداد فيه إدراكا بأن ما يرسم للحداثة الفلسفية سحناتـها البارزة هو الصراع بين النزعة الموضوعية وبين الفلسفة الترنسندنتالية.

أجل، إن التاريخ الذي يعرضه هوسرل في (أزمة العلوم الأوروبية) يربط الحداثة بالصراع بين هذين الموقفين : فمنذ أن تأسست ” نظرية المعرفة” Erkenntnistheorie والصراع محتدم في تقديره بين فلسفة تضع “حقيقة موضوعية” فوق العالم لتسمو بها إلى أعلى مراتب المثالية، وبين فلسفة تقيم المعرفة والعالم على أسس ذاتية ترنسندنتالية (15). فهل سيحتفظ هيدجر هو الآخر بنفس النزعة الموضوعية لتفسير وضعية العلوم الحديثة؟ ذلك ما سنتعرف عليه في الفقرة الموالية.

2 – هيدجر : النزعة الموضوعية ومشكلة التقنية :

2.1- نبادر إلى التأكيد بأن حديث هيدجر عن العلوم وعن النزعة الموضوعية ، خلافا لهوسرل، لا يندرج إطلاقا ضمن تشخيص أعراض “الأزمة”. إن حديثه هذا ينتمي إلى تحديده لعصور الوجود، أي إلى تاريخ المتافيزيقا؛ إذ الواقع أن هيدجر لم ينشغل قط بأزمة العلوم بنفس الكيفية التي انشغل بها أستاذه. لـهذا لم يكن غريبا أن يعتبر ” أزمة الأسس” مجرد قضية تخص مفاهيم العلم الأساسية ولا تعكس بأي حال من الأحوال أزمة فعلية للعلوم، لأن هذه الأخيرة تشق طريقها بإحكام ويقين. بيد أن هذا الاختلاف بين هوسرل وهيدجر لن يمنعنا في المقابل من تبين عدة نقاط تقاطع بينهما، سيما فيما يتعلق بمشكلة التقنية التي اتضح لنا حتى الآن أنها تمثل قضية رئيسية في ما يعرف بنقد النزعة الموضوعية .

لا يخفى أن صفة “الموضوعية” تنحصر عند هيدجر في الفكر الفلسفي-العلمي الحديث ولا تتعداه إلى ما قبله : إن تأسيس المعرفة على مفهوم ” الموضوعية” هو خاصية تميز العصر الحديث وحده، فلا الفلسفة الإغريقية ولا الفكر الوسيطي تصورا الشيء الحاضر بصفته “موضوعا” (Gegenstand). وحده العصر الحديث إذن هو الذي سيجعل من “الموضوعية” Gegenständigkeit النمط الذي يعطى به الشيء الحاضر أمام الوعي. لكن الموضوعية في نظر هيدجر ليست نـزعة فحسب ( وهيدجر نفسه لا يتحدث عنها بدلالة نـزعة إلا نادرا جدا)، بل هي أساسا نمط معرفي- أنطولوجي مستقل بذاته؛ أو لنقل بلغة أدق : إنها عصر من عصور الميتافيزيقا. العصر الذي يترادف مع التقنية والعلم.

لـهذا السبب يعرف هيدجر العلم الحديث باعتباره نظرية للواقع (das Wirkliche)، والمقصود بالواقع هنا هو هذا الشيء الذي يظهر من حيث هو ” موضوع” Gegen-stand (16). وإذا كان هذا التحديد مباينا بعمق للصورة التي كونـها الإغريق عن المعرفة والعلم، فإن هؤلاء ظلوا في منأى كلي عن ثنائية “الموضوعية” objectum/ “الذاتية” subjectum ، نظرا أولا لأن الفلسفة الإغريقية كانت بعيدة كل البعد عن تصور الوجود والكوسموس بصفتهما ” موضوعات”، ونظرا ثانيا لأن الحديث عن المعرفة بصيغة ” موضوعات” يستوجب ضرورة ربطها بحقل الذاتية؛ وهذا بالضبط ما لا يتماش مع مقتضيات الفكر الإغريقي.

ليست “الموضوعية” إذن خاصية عرضية، بل على العكس : إنها “ماهية” العصور الحديثة ؛ إذ متى تخلينا عنها، انتفت ماهية العلم الحديث. إلى هذا بالضبط يشير هيدجر عندما يقول :” لنتخل عن هذه الموضوعية، فإننا بـهذا سننفي وجود العلم. هذا على سبيل المثال هو معنى العبارة التي تقول إن الفيزياء الذرية المعاصرة لا تلغي إطلاقا صلاحية الفيزياء الكلاسيكية لدى غاليلي ونيوتن، بل تقوم فقط برسم حدود لميدان صلاحيتها. غير أن عملية رسم الحدود هاته هي في نفس الآن إثبات للخاصية التحديدية التي تتميز بها الموضوعية في نظرية الطبيعة (…) “(17)

بيد أننا نجانب الصواب في نظر هيدجر إذا حصرنا الموضوعية في مستوى العلوم أو حتى في مستوى نظرية المعرفة لأن استفحال هذه النـزعة ليس سوى نتيجة للتحول الذي أصاب معنى الوجود مع قيام العصور الحديثة. وهكذا تكون الموضوعية هي الشكل الذي تتخذه الميتافيزيقا الحديثة. إنها الصورة التي سيصير عليها الوجود ابتداء من ديكارت؛ لكنها صورة ستستمر مع كانط وهيجل وهوسرل؛ فهؤلاء سيظلون، حسب هيدجر، أسيري ” ميتافيزيقا الموضوع” لأنهم ما يزالون يتصورون الموجود بصفته “موضوعا” أمام ” ذات”.

لا داعي إذن لأن نرى في “الموضوعية” مجرد صفة لا تخص سوى العلوم؛ فهي في رأي هيدجر بنية معرفية- أنطولوجية عامة تنطبق على كل فلسفات الكوجيطو، ولا تصح إلا في ارتباطها الدائم بحقل الذاتية، ذلك لأن “الموضوع بما هو شيء “موضوع في مقابلنا” (Gegen-Stand) لا نعثر عليه إلا حيث يصير الإنسان ذاتا وحيث تصير الذات أنا، والأنا أنا أفكر ego cogito” (18). على هذا النحو بالضبط ينبغي أن ندرك الأسباب التي تلزم بعدم تمييز الموضوعية عن الذاتية؛ وهيدجر نفسه ما انفك يعلن عن ذلك في أكثر من مستويات : “فكل فكر يتحول إلى “النزعة الموضوعية” وإلى “الواقعية” يبقى فكرا “ذاتيا””(19).

2.2 – عندما نقول مع هيدجر إن العلم الحديث قد تحدد كنظرية للواقع، فإن لفظة “نظرية” ينبغي أن تفهم هنا في غير المعنى الذي أعطته الفلسفة الإغريقية لكلمة “theoria“. ترتبط “النظرية” (التيوريا) عند الإغريق بالنظر؛ ولـهذا كانت المعرفة هي الأخرى ضربا من الرؤية والنظر، الأمر الذي سيسمح لاحقا للمفكرين اللاتينيين باختيار “التأمل” contemplatio ” مرادفا للنظرية theoria.

لكن “النظرية” تتخذ في العلم الحديث مدلولا جديدا : فهي الآن عمل وممارسة وتقنية. إنـها تدبير للواقع وتدخل في طريقة ظهوره وسيره. وبما أن الواقع لا يظهر في عصر التقنية إلا من حيث هو ” موضوع”، فإن النظرية لن تكون بدورها سوى هذه الوسيلة التي تحرض الواقع وتدفعه إلى الكشف عن موضوعيته، ذلك لأن النظرية في معناها الحديث لا تكون كذلك إلا بقدر ما تكشف عن موضوعية الموضوع.

بذلك يكون عالم العلم مؤلفا من موضوعات متنوعة، معروضة أمام الممارسة التي أضحت تلاحقها في كل حين. لقد أصبح الواقع العلمي مجموعة من الميادين الموضوعية المتخصصة؛ أما العلم فهو هذه النظرية التي تتابع آثار “الواقع” مأخوذا بمعنى “موضوعية الموضوع”.

ولعل وقوفنا بشيء من التفصيل عند الدور الذي لعبته الرياضيات،كفيل بتوضيح بعض الجوانب المظلمة في النزعة الموضوعية وفي نظرية التقنية. فثمة، على ما يبدو، ترابط قوي في نظر هيدجر بين الذاتية والموضوعية والرياضيات : إن المكانة الإيبستمولوجية التي حظيت بـها الرياضيات عند ديكارت لا تعكس في الواقع سوى الرغبة في تأسيس المعرفة على مبدإ الذاتية ووضع ركائز فلسفة الكوجيطو. قد تبدو هذه العلاقة بين الرياضيات وفلسفة الذاتية أمرا مستبعدا للوهلة الأولى، لكن الإمعان الجيد في دلالة الرياضيات وفي مفهوم ” الرياضي” Ta mathemata على وجه التحديد من شأنه أن يزيل اللبس القائم. كيف ذلك إذن؟

تمثل الرياضيات حسب هيدجر أعلى مظهر لسيطرة النزعة الموضوعية . لكن فهم أبعاد هذه الملاحظة يتطلب منا الرجوع أولا إلى المعنى الأصيل الذي أعطاه الإغريق لمفهوم “الرياضي” Ta mathemata، فحيثما تحدثنا مع هؤلاء عن “الرياضي” إلا وتطلب الأمر أن نفترض معرفة ” لنا سابقا معرفة بها“، أي معرفة نحوزها بشكل مسبق ولا نعمل سوى على التعرف عليها. الرياضي حسب هذا التحديد هو “ما نعرفه مسبقا باعتباره ما يدخل في خاصية الأشياء. إنه ليس إذن ما نبدأ بفصله عن الأشياء، بل ما نحمله فينا على نحو مسبق بكيفية ما ” (20). والرياضيات Mathesis بـهذا المعنى ما هي إلا حيازة لـهذه المعرفة المودعة فينا على نحو مسبق.

يتضح مما سبق أن العلم الحديث لم يكن الوحيد الذي استمد مبادئه من الرياضيات، بل إن الميتافيزيقا الحديثة قد انبثقت هي الأخرى من روح الرياضيات بعد أن غدت هذه الأخيرة علما معياريا، علما شموليا scientia universalis يوجه كل العلوم ويضع لها قواعدها. لكن الأهم من هذا كله هو أن الدلالة الجديدة التي ستقترن ابتداء من الآن بالذاتية subjectum وبالموضوعية objectum لن تجد شروط تحققها إلا على أسس الرياضيات؛ وهي لا تفهم داخل تاريخ الوجود، كما يوضح هيدجر، ما لم تربط بالأساس الرياضي، ذلك لأن سعي ديكارت إلى تجذير الفلسفة على أسس الرياضيات لم يكن إلا تدعيما لفلسفة الذاتية (21). وبما أن الذاتية لاتتصور إلا في ارتباط بالموضوعية، فإن انبهار ديكارت بالرياضيات لن يكون سوى علامة على إقراره بـ النزعة الموضوعية .

لقد تبين لنا بأن الرياضيات في معناها الأصيل لا تكون كذلك إلا عندما يتوصل الفكر إلى التفكير في ذاته، أي عندما يتمكن من حيازة المعرفة التي يملكها بكيفية مسبقة. وهذا بالضبط هو نفس المعنى الذي كان يقصده ديكارت حين اعتبر أن الذاتية هي الأساس المطلق fundamentum absolutum لكل معرفة. معنى هذا أيضا أن الذاتية لن تلعب دور المبدإ الأول إلا في ارتباط بعملية تجذير الرياضيات لأن كلا الأمرين ليسا في الواقع سوى صورتين لوجه واحد (22).

ولاستكمال هذا المشهد الفلسفي الذي دشنه ديكارت، ينبغي أن نشير إلى أن ” الأشياء” في معناها الرياضي هذا تستمد “شيئيتها” من علاقتها بأساسها المطلق الذي يمثله مجال الذاتية. ولأنها لا يمكن أن تتحدد إلا على هذا النحو، فهي باستمرار تجسيد لمجال الموضوعية. إنها على الدوام “موضوعات” objets لا تتصور إلا في مقابل “ذوات”.

ها هنا نلمح إحدى القواسم المشتركة بين هوسرل وهيدجر : فكلاهما يرجعان ظاهرة سيادة التقنية و النزعة الموضوعية إلى عامل الرياضيات. غير أن الفرق يبقى قائما بحكم أن هوسرل لا يربط بين تمجيد الرياضيات وبين تأسيس المعرفة على مجال الذاتية؛ في الوقت الذي يقيم هيدجر رابطا قويا بين هذين المستويين.

3.2- تقترن هيمنة النزعة الموضوعية عند هيدجر بأمرين اثنين لا يشكلان في النـهاية سوى صورتين لمشهد واحد : الأمر الأول يتمثل في سيادة النـزعة الذاتية؛ أما الأمر الثاني فيتعلق بسيطرة التقنية. ولعل الذي يشهد على التحام هذين العنصرين هو تأكيد هيدجر في أكثر من مناسبة بأن الطبيعة لا تظهر في عصر التقنية الحديثة إلا وفق إرادة الإنسان، أي أن أمر ظهورها أصبح يتوقف كلية على هذه “الذاتية”التي جعل منها ديكارت منطلقا أوليا لبناء ركائز فلسفة جديدة.

من هنا تمييز هيدجر بين نمطين من التقنية : النمط الأول يخص التيخني في المعنى الأغريقي حيث لا دخل للإنسان في طريقة ظهور الفيزيس Phusis؛ فهذه الأخيرة تنكشف من تلقاء ذاتها دون أن تكون للذات المتأملة أية صلة بـهذا الانكشاف. أما النمط الثاني فيخص التقنية في معناها الحديث حيث “تستدعي” الطبيعة أمام الإنسان لكي تحرر ما فيها من طاقات وثروة Bestand (23) ولتكون بذلك تحت ” سيادة” و ” إرادة” هذا الإنسان. لذلك يقول هيدجر : ” إن ماهية التقنية الحديثة تلقي بالإنسان في الطريق الذي يقود نحو هذا الانكشاف الذي يغدو معه الواقع ثروة (Bestand) “(24).

تلك إذن هي الخاصية الأساسية للتقنية الحديثة، وكل فصل بين هذه التقنية وبين مفهوم “الذاتيةّ من شأنه أن يفرغ الروابط التي تجمع بين النزعة الموضوعية وبين الذاتية من كل مضامينها الفعلية؛ فضلا عن هذا فمن شأن هذا الفصل أن يفقد تمييز هيدجر بين التيخني الإغريقي والتقنية الحديثة معانيهما الحقيقية. أليس لذلك كله ظل هيدجر يرى في النـزعة الذاتية مظهرا آخر لسيطرة الإنسان على الطبيعة’ فكيفما كان الحال ” نحن لانفكر أبدا بما فيه الكفاية أن “الذاتية” الحديثة لوحدها بالضبط هي التي اكتشفت الموجود وجعلته في المتناول وقابلا للتحكم فيه في مجموعه، وأنـها بـهذا قد سمحت بوجود مطالب وصور للسيادة ما كان بإمكان العصر الوسيط أن يعرفها ولا أيضا للحركة الهيلنية أن تجعلها ضمن محيط اهتمامها.” (25)

والواقع أن لـهذا السبب يكون الحديث عن الطبيعة في عصر التقنية الحديثة بصيغة “التحريض” Herausfordern ، ذلك لأن الكيفية التي تنكشف بها الطبيعة لم تعد تكمن في الطبيعة نفسها كما كان عليه الحال في التيخني الإغريقي وإنما في تحريض الإنسان لها (26)؛ وهو ما يؤكد بدون شك تدخل ” الإرادة” : فحيثما تحدثنا عن التقنية الحديثة وعن النزعة الموضوعية من طرف هيدجر إلا وتطلب الأمر ربطهما بمجال أنثروبولوجي.

ليس غريبا بعد هذا أن يعلن هيدجر بأن تأويل الإنسان من منطلق كونه ” ذاتية” مع ديكارت، سوف يساهم في خلق الشروط الميتافيزيقية لكل أنثروبولوجيا مستقبلية(27)، فما يقصد من وراء هذا هو إبراز أن الميتافيزيقا الحديثة لن تعود ممكنة إلا على هذا الأساس الأنثروبولوجي. ولنفس السبب فهو يعد بقاء الميتافيزيقا الحديثة ومعها التقنية في صورتها الحديثة ، شأنا متوقفا باستمرار على التأويل الديكارتي للموجود. فعلى ضوء هذا الأساس الأنثروبولوجي وحده يمكن أن نفهم لماذا تظل التقنية الحديثة مرتبطة بالإنسان ولماذا تقتضي “الموضوعية” مجالا ذاتيا.

حتما إن العصور الحديثة هي التي وضعت دعائم فلسفة الذاتية؛ لكن لـهذه الوضعية انعكاس على زاوية أخرى ما انفك هيدجر يربط قيامها بسيادة النزعة الموضوعية وبسيطرة التقنية: نقصد هنا هذه الزاوية التي أعطت الإمكان لمفهوم “القيمة” ؛ فمنذ أن غدا الموجود موضوعا للتمثل ، سيفقد هذا الموجود وجوده لتحل ” القيمة” محله. كما أن هيمنة “الثقافة” die Kultur (28) سيزيد من اختفاء الوجود ليصبح هذا الأخير مجرد ” قيم ثقافية” ، أي تعبير عن غايات سامية تخطها الفعالية الإنسانية؛ ولذلك سينتهي الأمر إلى تنصيب هذه القيم في سماء التجريد بعد أن غدت موضوعات في ذاتها شأنها شأن ” الموضوعات المثالية” التي شيدتـها الفيزياء كما يخبرنا بذلك هوسرل.

هاهنا نجد أنفسها ثانية في المجال الأنثروبولوجي : فبقدر ما تبرز موضوعية الموضوع بقدر ما يصير العالم نظرية في الإنسان، أي أنثروبولوجيا. وبقدر ما يتحول الإنسان إلى ذاتية بقدر ما يصير العالم die Welt صورة Beld متصورة . تلك أهم الأسباب التي تدفع هيدجر إلى الحديث عن العصر الحديث باعتباره عصر “صور العالم” (die Zeit des Weltbildes). والواقع أن هناك أكثر من صلة بين الحديث عن العالم باعتباره “صورا” وبين تأسيس الموجود على مفهوم التمثل Repraesentatio، ففي هذا التصور وحده يكون الإنسان مقياسا لكل الموجودات، فضلا عن هذا فبدون هذه الذاتية، التي أصبحت أساس كل شيء، لما أمكن الحديث في عصر الأزمنة الحديثة عن ” رؤية للعالم” ((Weltanschauung.

أجل، إن أحدي سمات النزعة الموضوعية في نظر هيدجر، تتمثل في تحويل العالم إلى مجرد “رؤى” بحيث يغدو العلم بدوره صراعا بين “رؤى العالم”. لكن ألا يلتقي هيدجر هنا مع نفس النقد الذي وجهه هوسرل في “الفلسفة كعلم صارم” لكل المواقف الفلسفية التي حولت الفلسفة إلى مجرد “رؤى للعالم” مبددة قوة هذه الأخيرة’

فعلا إن كلا الفيلسوفين ينتقدان نظرية “رؤية العالم”، لكن من وجهتين مختلفتين : فهوسرل ينتقد هذه النظرية من منطلق دفاعه عن صرامة وشمولية الفلسفة ورفضه في المقابل تبديد وحدة هذه الأخيرة في مواقف نسبية (29). أما هيدجر فيعرض لـهذه النظرية من زاوية إلحاحه على اختفاء معنى الوجود في عصر التقنية الحديثة وتحول العالم إلى “صور” لاتعكس سوى قطاعات موضوعية محدودة من قطاعات الموجود.

غير أن إصرار هيدجر على ربط الموضوعية بذاتية وإرادة الإنسان، لا يعكس من جهة أخرى سوى الدور الكبير الذي أصبح يلعبه المنهج في عصر التقنية الحديثة.

4.2 – يتفق هوسرل وهيدجر على أن للمنهج أهمية بالغة في العلم الحديث، وبدونه لن يكون هناك أي معنى للكلام لا عن النزعة الموضوعية ولا أيضا عن التقنية اللتين اتضح لنا الآن أنهما تشكلان وجهين لعملة واحدة. والحال أن احتلال المنهج لمكانة سامية يرجع بالأساس إلى أن الطبيعة، كما ذكرنا سابقا، لم تعد تعطانا كما هي فعليا بل كما يريدها الإنسان. معنى ذلك أنها لم تعد تظهر إلا وفق الإرادة التي غدت طرفا رئيسيا لتسيير وتوجيه الواقع.

وهكذا فعندما يردد هيدجر، في أكثر من مناسبة، عبارة ماكس بلانك التي يقول فيها : “الواقعي هو ما نستطيع قياسية”، كان لا يعمل بذلك سوى على تنبيهنا إلى الأهمية التي أصبح يحظى بها المنهج منذ العصر الحديث. فمنذ الفيزياء الغاليلية إلى يومنا هذا ستؤخذ الطبيعة ككموم قابلة للقياس والحساب (30)؛ وعلى هذا المنوال سيبدو جليا أن كل عملية ” موضعة” للواقع هي بالضرورة حساب وتقنية حيث إن الطبيعة لا تكشف عن موضوعية موضوعاتها إلا حين يتدخل المنهج.

هاهنا يتبين لنا الفرق واضحا بين “الفيزيس” كما تصورها الإغريق وبين “الطبيعة” كما تعرض لها الفيزياء الكلاسيكية والذرية : لما كان التيخني يختلف بالنسبة للإغريق عن الإبستيمي (العلم)، فإن المجال الذي تستعمل فيه التقنية لا يتعدى دائرة الأعمال اليدوية (31). والحال أن التيخني يقتصر على الصناعات الحرفية ولا يتجاوزه إلى مجال الفيزيس والكوسموس ذلك لأن الطبيعة تبقى ميدانا للإيبستيمي، أي ميدانا للعلم الذي يعد نظريا theoria وتأمليا.

لكن هذه الملاحظة تبقى عديمة القيمة ما لم نعلم في المقابل أن الفيزيس هي ذاتها أعلى تجسيد للبويسيس Poièsis. والواقع أن هذه الفكرة لا تتناقض مع الملاحظة السالفة : فحين نتصور البوييسيس في معناها اليوناني نكون في ارتباط دائم بـهذا الذي يجلب الشيء إلى الانكشاف والانفتاح؛ في حين نكون بعيدين عن المعنى الحديث لمفهوم “الإنتاج”. لذلك فقد ميز الإغريق بين نوعين من البوييسيس : النوع الأول يخص الفيزيس وحدها ، وفيه تكون ” الطبيعة” مصدر انكشافها الذاتي والتلقائي دونما افتقار إلى قوة أو إرادة خارجية. أما النوع الثاني من البوييسيس فيقال على ما ينتجه الصانع اعتبارا لأن المادة المصنوعة تفتقر إلى طرف ثان يخرجها إلى الوجود.

حين ننتقل إلى ” الطبيعة” Natura في معناها الحديث نكون أمام مدلول آخر ينسجم تمام الانسجام مع ماهية التقنية الحديثة. ومع أن التقنية الحديثة تفترض بدورها فكرة الانكشاف، فإن هذا النمط الذي أصبحت الطبيعة تعطى بواسطته لم يعد هو نمط البوييسيس كما تصوره الإغريق، بل هو نمط “الإرادة” و “المنهج”.

والواقع أن هذا التلازم الذي يكتشفه هيدجر بين استفحال النزعة الموضوعية وبين المكانة السامية التي يحظى بـها المنهج لم يكن قط ليعبر في نظره عن مجرد حالة تسلح بآليات التقنية. إن الأمر أعظم من هذا كله لأن المنهج لم يعد مجرد عتاد في ملك العلم، فهو الآن ما يعطي للعلم أساسه، ذلك لأن موضوعات العلم لا تستمد موضوعيتها – كما قلنا – إلا انطلاقا من المنهج. إن الطريقة هي التي تحسم مسبقا في موضوعية الموضوعات؛ وهذا معناه أن التقنية هي التي تبت في حقيقة الأشياء.

لـهذه النتيجة قيمة بالغة، فهي التي تفسر ماهية التقنية الحديثة وكذا الصورة التي تنتهي إلى تكوينها حول الوجود، بل هي التي تفسر هذا التباين الذي بات جذريا بين العصر الإغريقي والعصر الحديث؛ كما تفسر من جهة أخرى الدور المنهجي الذي تلعبه الرياضيات، فهذه الأخيرة هي التي أصبحت ترسم مسبقا للموجودات الكيفية التي سيتحدد بـها وجودها. وإذا أضحت الطبيعة في عصر التقنية الحديثة خاضعة لتصميم مسبق، فلأنها أصبحت لا تمتثل سوى لقوانين قبلية. إنها لا تظهر إلا لكي تستجيب للمشروع Entwurf الذي يسبقها ويحدد زواياها الموضوعية. هذا بالضبط ما كان يقصده هيدجر حين يقول: “كل علم، بما هو بحث، إلا ويتأسس على مشروع يخص قطاع موضوعية محددة.” (32)

واضح إذن أن الوجود لم يعد ينكشف في عصر التقنية الحديثة بنفس المعنى الذي كان عليه مع الإغريق، فهو الآن متوقف على الإرادة، أي على التصاميم والمشاريع التي يضعها المنهج سلفا. ولـهذا يقول جون بوفري Jean Beaufret انسجاما مع نفس التصور الهيدجري : “إن فكر ديكارت هو واحد من عصور الوجود، أي واحد من بين هذه العصور التي يظهر فيها الوجود متجليا على نحو مفاجئ كفتحة في الموجود. ويستجيب لانفتاح الوجود في الموجود إسم غير منتظر، هو إسم المنهج. ذاك هو الإسم الخاص الذي يتخذه الوجود نفسه مع ديكارت. لكن أليس إسم المنهج أقدم من ديكارت؟ يقينا، إنه كذلك. غير أن المعنى الذي يعطيه ديكارت لـهذا الإسم هو الذي يعد جديدا كل الجدة. إن ديكارت لم يخترع المنهج ولا الوجود، لكنه مفكر الوجود بما هو منهج”(33) أجل، مع ديكارت يدخل الوجود عهد المنهج، ومعه يلج العالم الحديث عصر التقنية.

5.2 – بما أن الطبيعة أصبحت تتوقف على التقنية منذ العصر الحديث، فإن الفيزياء صارت غير قادرة على الإحاطة كلية بوجودها. صحيح أن هاته الفيزياء تملك صلاحية تمثل انسجامها العام، لا بل استخراج قوانينها الكونية، إلا أنـها تبقى رغم ذلك عاجزة عن تمثل وجود الطبيعة في جميع مظاهر اكتمالـها. إنـها لا تستطيع أن تتمثل سوى جانب من جوانبها؛ وهذا ما يدفع هيدجر إلى الحديث عن مستوى “لايقبل الإحاطة” (das Unumgängliche) في مجال الطبيعة (34).

إذا كانت الطبيعة إذن لا تعطي سوى زاوية فقط من بين زواياها؛ إذا كانت لا تعطي وجودها في كل اكتماله، فإن النمط الذي تنكشف به هو نمط الموضوعية. ولأن الموضوعية لا تعرض للطبيعة في كليتها وحضورها التام، فإن هذه الأخيرة لا تظهر إلا كمجموعة من الموضوعات، أي كمجموعة من الزوايا التي يتوقف انكشافها على مدى ما تكشف عنه التقنية.

وهكذا يتبين مرة أخرى أن إخفاق الفيزياء الحديثة في الإحاطة بالطبيعة، يرجع في نظر هيدجر إلى تصور هذه الأخيرة داخل العلاقة ذات/موضوع. إذا كان هذا الإخفاق يمثل في نظر هوسرل أعراض “أزمة” عامة تعصف بالعلوم وتحجب عنها إدراك أفقها، فإن هذه الوضعية تكشف في نظر هيدجر عن الأساس نفسه الذي تقوم عليه علمية العلم؛ وبعبارة أخرى : إن تضمن العلوم الحديثة لجانب “غير قابل للإحاطة به” هو مظهر آخر لاختفاء الوجود في عصر التقنية، شريطة بالطبع أن نكف عن النظر للتقنية كما لو أنها مجرد مقاييس ومعادلات وحسابات وأن نعاملها في المقابل باعتبارها نمطا من أنماط الميتافيزيقا.

ليست التقنية إذن في هذا المعنى الهيدجيري مرادفا بسيطا لتزايد مرافق الإنتاج ولا للتجهيز الآلي المعقد، مع أن هذه كلها ليست سوى مظاهر مادية للتقنية. إن التقنية هي أساسا “الميتافيزيقا في شكلها المكتمل”؛ إنـها الميتافيزيقا وقد بسطت سلطاتها على المعمور فأضحت فكرا “كونيا” (35). وبفعل هذا الاكتساح الجارف فإن الوجود يزداد تواريا واختفاء.

بالفعل إن هاته الخاصية التي تحجب الوجود عن الانكشاف، لا تنطبق في نظر هيدجر على الفيزياء لوحدها بل تتعدى هذا الحيز الضيق لتنطبق على جميع العلوم الحديثة التي واكبت عصر التقنية. ويكفي الرجوع إلى البعض منها ليتضح لنا بجلاء أن هاته العلوم لا تتصور موضوعها إلا عندما تبقي في نفس الآن على جانب ” غير قابل للإحاطة به“:وبـهذا يظل “وجود الطبيعة” هو المجال الذي يستحيل الإحاطة به بنفس المقدار الذي يعد الدازاين هو المجال الذي تصعب موضعته في الطب العقلي، والتاريخ الأصيل Geschichte المجال الذي لا يمكن للتاريخ في معناه التحقيبي Historie البت فيه (36)، واللغة المجال الذي لا تقوى الفيلولوجيا على النفاذ إلى وجوده.

هذه الميادين التي تبقي دوما على جانب “غير قابل للإحاطة به” لا تعكس في الواقع عجز العلوم عن وضع حد للتقنيات اللانـهائية التي تتابع بـها موضوعاتـها بقدر ما تعكس عجز النظرة الموضوعية عن بلوغ الأساس الذي تعطي فيه موضوعاتها العلمية. إن تفكيك الواقع إلى عدة ميادين موضوعية لا يسهل البتة ظروف الإحاطة بوجود هذه الموضوعات؛ ولذلك يقول هيدجر: “إن “غير القابل للإحاطة به” يسير وجود العلم. وقد كان من المأمول أن ننتظر من العلم نفسه التوصل إلى اكتشاف هذا الجانب ” غير القابل للإحاطة به” وتحديده بما هو كذلك. غير أن هذا ليس ممكنا لسبب رئيسي هو أن شيئا كهذا يظل مستحيلا من الناحية الماهوية (…) فلو أن العلوم نفسها كان بمستطاعها أن تكتشف في كل لحظة هذا الجانب “غير القابل للإحاطة به“، لكان بمقدورها أن تتمثل وجودها الخاص قبل كل شيء. لكنها تظل في كل حين عاجزة عن تحقيق هذا.” (37)

ولـهذا السبب يشير هيدجر في معرض ذكره للتقنية إلى عجز هذه الأخيرة عن مساءلة ” ما يستحق أن يساءل” (zum fragwürdigen). بيد أن هذا يستوجب منا وقفة إمعان لأن ” ما يستحق أن يساءل” في نظر هيدجر ليس هو ” عالم العيش” كما كان عليه الحال مع هوسرل بل هو الوجود نفسه. فهيدجر، شأنه في هذا شأن هوسرل، يرى في النزعة الموضوعية وفي التقنية تعبيرا عن بعد ” غير مساءل”، لكن مع الفرق التالي : هو أن هوسرل يربط هذا البعد بكل ما يمثل المستوى ما قبل العلمي؛ في حين يربط هيدجر هذا البعد بنسيان الوجود. وهذا هو الذي يفسر عودة هوسرل إلى الدوكسا وإلى الوعي الطبيعي قبل المرور إلى التأسيس الترنسندنتالي، في الوقت الذي يلح هيدجر على ضرورة مساءلة حقيقة الوجود.

6.2 – بناء على ما سبق، يمكن استخلاص بعض النتائج العامة التي سمحت بها هذه المقارنة : يضع هوسرل النـزعة الموضوعية في تعارض مع الذاتية الترنسندنتالية لأنه يقرن شروط رفع “الأزمة ” بتبني مبادئ الفلسفة الفينومينولوجية. وبذلك فهو يعزل الموضوعية عن الذاتية. أما عند هيدجر فلا يصح التمييز بين الجانبين، إذ حيثما انطلقنا من حقل الذاتية إلا ولزم ضرورة الحديث عن الموضوعية؛ والعكس أيضا صحيح. ولـهذا كانت الموضوعية في ارتباط دائم بالذاتية؛ كما كان كل”نقد” للنـزعة الموضوعية مستلزما لنقد فلسفات الكوجيطو.

صحيح أن هوسرل قد ربط بين النزعة الموضوعية والنـزعة السيكولوجية؛ صحيح أنه سيرى في استفحال ” الذاتية السيكولوجية” مظهرا آخر لترسيخ عقلانية ذات نزوع موضوعي، إلا أنه ظل على اقتناع تام بأن كل قضاء على النزعة الموضوعية ينبغي أن يمر حتما عبر ذاتية أخرى، هي الذاتية الترنسندنتالية. ولنفس السبب سيرى في النـزعة الترنسندنتالية مأخوذة في أسمى معانيها، لا مجرد بديل للعلم الموضوعي بل الطريق الأيسر لتأسيس “علمية من طبيعة جديدة تماما”(eine völlig neuartige Wissenschaftlichkeit)(38).

نلفي لدى هيدجر توجها آخر : كل قضاء على “النزعة الموضوعية” يتطلب انفصالا كليا عن مفهوم “الذاتية” سواء أتعلق الأمر بذاتية سيكولوجية أم ترنسندنتالية. وهذا معناه أن لا سبيل لتجاوز هذه النـزعة إلا بالصعود بعيدا ” فيما وراء” فلسفة الوعي حيث الإغريق، أي حيث ما تزال الفلسفة غريبة عن ثنائية الذاتية/الموضوعية.

هاهنا الفرق الجوهري بين هوسرل وهيدجر : فحيث يبقي الأول على نفسه داخل مقتضيات فلسفة الوعي، يشرط الثاني إمكانية الانعتاق من إسار ميتافيزيقا الموضوع ومن نمط التفكير التقني بضرورة التفكير فيما وراء مفاهيم ومقولات الميتافيزيقا.

3 – أصداء النزعة الموضوعية ما بعد هوسرل وهيدجر :

1.3 – سيتواصل نقد النزعة الموضوعية في الفلسفة الألمانية بشكل خاص وفي الفلسفة المعاصرة بشكل عام، أحيانا بصور تستلهم صراحة التصور الهوسرلي أو الهيدجري وأحيانا بصور تخالف في العمق محتويات النقد الذي تبيناه مع هوسرل وهيدجر. ولعل من بين هذه الصور البارزة، ذاك النقد الذي بلورته مدرسة فرانكفورت بدءا بماكس هوركهايمر : Max Horkheimer وانتهاء حاليا بأعمال يورجان هابرماس Jürgen Habermas.

والملاحظ أن التوجه العام الذي نهحته هذه المدرسة ينهل في الغالب بشكل غير مباشر من نقد هوسرل للنـزعة الموضوعية، لكن في اتجاه آخر يغدو فيه الأمر الرئيسي هو تأسيس “فلسفة اجتماعية” تكون بمثابة نقد للوضعية وللنـزعة التقنية.

فإذا حصرنا الآن انتباهنا بشكل خاص في كتابات هابرماس، فسيتبين لا محالة أن الدوافع التي تلزمه بنقد ما يسميه هو نفسه ” وهم الموضوعية” أو ” وهم النظرية الخالصة”، ينحو في اتجاه ترسيخ نوع من ” أنثروبولوجيا” الممارسة النظرية التي تسند لها مهمة استخراج “المصالح” التي تهيكل المعارف، بما فيها على وجه الخصوص المعرفة العلمية. من هذه الزاوية بالضبط ينبع اهتمام هابرماس بالنقد الهوسرلي للنـزعة الموضوعية وتشخيصه لأعراض الأزمة العلمية. غير أن ما يعيبه على الفينومينولوجيا الهوسرلية هو قصور ” النظرية الخالصة” عن استيعاب التداخل الفعلي الذي يحدث بين المعرفة والمصلحة، وهو ما يقودها في اعتقاده إلى السقوط في نوع آخر من النزعة الموضوعية . أما سبب ذلك، فيرجع حسب هابرماس إلى أن التصور الذي كونه هوسرل حول “النظرية” ما يزال تقليديا اعتبارا لأن هذه الأخيرة تستمد قوانينها من ذاتها دونما ربطها بالمصلحة (39). من هنا يخلص هابرماس إلى الاستنتاج التالي : ” في نفس الوقت الذي ينتقد فيه هوسرل التصور الموضوعي الذي كونته العلوم حول نفسها، يسقط في صورة أحرى للنـزعة الموضوعية التي لطخ بـها دوما المفهوم التقليدي للنظرية.” (40)

لقد سقطت الفلسفة الفينومينولوجية إذن مجددا في النزعة الموضوعية حسب هابرماس لأنـها حافظت على “الوهم الأنطولوجي للنظرية الخالصة”، وكأنـها بـهذا لم تنتقد النزعة الموضوعية إلا لتسقط ثانية في مظهر آخر لنفس النـزعة . وبذلك فإن نفس النقد الذي وجه ضد النزعة الموضوعية يرتد ضد هوسرل نفسه.

بيد أن ما يثير الانتباه في الابستمولوجيا التي سعى هابرماس إلى وضع أسسها في كتابه (المعرفة والمصلحة) ليس هو فقط سعيها الموازي إلى إنشاء نظرية نقدية للمجتمع، بل هو أيضا احتفاظها بالتوجه العام الذي حكم نقد هوسرل للنـزعة الموضوعية؛ فرغم كل المؤاخدات التي ستعيبها على هوسرل، لن تجد هذه الأيبستمولوجيا بدا من التحرك في نفس الإشكالية. فنحن نعثر عند هابرماس على نفس الانتقادات العامة التي نشأ عليها مؤلف (أزمة العلوم الأوروبية)، إذ يؤاخد على النزعة الموضوعية مثله في ذلك مثل هوسرل : أولا، كونها قادت العلوم إلى الاعتقاد في وجود وقائع “في ذاتها”، أي وقائع هي نتاج لبناءات نظرية وليدة قوانين صورية وكونية؛ ثانيا، كونـها أغفلت العالم الذي تصدر عنه هذه الوقائع وكذا الإطار الترنسندنتالي الذي بدونه لا يصح الحديث عن أية معرفة علمية (41) . ولعل استناد هذه الإبستمولوجيا إلى حقل الذاتية، دليل على الدور الذي ما انفك يلعبه عند هابرماس المجال الترنسندنتالي في معنييه الكانطي والهوسرلي.

لكن النقطة الأخرى التي تستحق منا وقفة إمعان هو أن هابرماس – جريا في هذا على التقليد الذي سنه كثير من أقطاب مدرسة فرانكفورت – ينتقد النزعة الموضوعية ضمن نظرية التقنية. إلا أن الفرق هنا بين هوسرل وهابرماس يظل قائما بحكم أن المسعى الرئيسي للأول هو بيان نسيان التقنية لعالم العيش؛ في حين أن مسعى الثاني هو اكتشاف “المصالح” الاجتماعية التي تحرك الفكر التقني. لـهذا كان نقد هوسرل يصب في البحث عن أسس جذرية لتأسيس الفلسفة الفينومينولوجية على أرضية ثابتة، في حين كان نقد هابرماس يتوخى “سوسيولوجية المعرفة”.

صحيح أن مواجهة النزعة الموضوعية تتم عند هابرماس عن طريق الرجوع إلى “عالم العيش” الذي بلورته الكانطية الجديدة مع تشارلز بيرس Charles Peirce ودلتاي Dilthey، غير أن محتوى هذا النقاش يبقى مبتورا وأجوف في غياب الخط الفينومينولوجي الذي يخترق بخفاء الكثير من الأطروحات الكبرى لمدرسة فرانكفورت، وعلى رأسها هذه الأطروحة التي توحد نقد النزعة الموضوعية والتقنية في تصور إشكالي واحد.

3.2 – مثال آخر يشهد على الوقع الذي خلفه نقد هوسرل للنـزعة الموضوعية، نتبينه هذه المرة مع الفلسفة التحليلية الأمريكية. وإذا كان هذا المثال يدل على شيء، فإنما يدل على مدى الأهمية التي ستتلقى بها هذه الفلسفة التحليلية النقد الهوسرلي للنـزعة الموضوعية، إلى حد دمجه ضمن قضاياها الكبرى حاليا.

يقر هيلاري بوتنام Hilary Putnam ، شأنه في ذلك شأن هوسرل، بأن النزعة الموضوعية تتجذر بعمق في صميم الفكر الغربي منذ القرن السابع عشر بحيث لا محيد سواء لأقطاب “الواقعية” أو “اللاواعية” عن التسليم بمبادئها. والواقع أن الفلسفة المعاصرة قد ورثت من العصر الحديث تمثلا ” موضوعيا” للعالم كانت له انعكاسات ميتافيزيقية على المعرفة العلمية وعلى الحس المشترك؛ وهذا التمثل هو الذي يفسر حسب بوتنام جل النقاشات التي ما تزال تتداول حاليا في أوساط الفلسفة التحليلية.

لكن في أي سياق يتم نقد النزعة الموضوعية هنا؟ إن حرص بوتنام على رد الصيغة التي عولجت بـها هذه الإشكالية إلى وليام جيمس وهوسرل (42)، لن يمنعه في المقابل من ربط الإشكالية ذاتها بواحدة من القضايا الكبرى التي تستأثر حاليا باهتمامه باعتبارها من بين المحاور الرئيسية للفلسفة التحليلية : إنها قضية التمييز بين “الواقعية الداخلية” (internal realism) و “الواقعية الميتافيزيقية” (metaphysical realism). فضلا عن هذا إذا كان تحليل خصائص التفكير الموضوعي قد تضمن، سواء مع هوسرل أو مع هيدجر، نقدا لمفهوم التقنية بالنظر للترابط القائم بين هذين المجالين، فإن نقد بوتنام لنفس النـزعة يسير في اتجاه مراجعة الأسس التي قامت عليها نظرية المعرفة الكلاسيكية، ولم يفض في المقابل إلى صياغة نظرية حول التقنية، ما ذلك إلا لأن الدوافع التي تحرك الفلسفة التحليلية بخصوص هذه النقطة بالتحديد تظل على العموم دوافع إيبستمولوجية. لـهذا فلا غرابة أن ينخرط نقد النزعة الموضوعية عند بوتنام ضمن الرغبة في تقويض الثنائية التقليدية: عالم الوقائع/عالم القيم من جهة، وضمن الطموح لتجاوز الطريقة التي طرحت بـها حتى الآن العلاقة بين اللغة والعالم من جهة أخرى.

وهكذا نستطيع القول بأن إقبال الفلسفة التحليلية حاليا مع بوتنام على طرح مشكلة الموضوعية ليس حدثا عارضا ولده مجرد الاطلاع على فلسفة هوسرل الأخيرة بقدر ما هو وليد التحول الهام الذي عرفته الفلسفة التحليلية في أمريكا؛ هذا التحول الذي أصبح يتطلب مراجعة عميقة للميتافيزيقا التقليدية. ومع أن هدفنا من هذه الملاحظة ليس هو الوقوف على مظاهر التأثير التي ستمارسها الفلسفة الفينومينولوجية على أقطاب هذه المدرسة، فإننا نبادر إلى التأكيد على أن استرجاع النقد الهوسرلي للنـزعة الموضوعية من قبل الفلسفة التحليلية، شاهد لوحده على أن الحلول التي تتطلع هاته الفلسفة لاقتراحها على نظرية المعرفة باتت في الغالب حلولا تتقاطع مع مشلكة الموضوعية بالمعنى الذي تبيناه سلفا مع هوسرل.

يطلق بوتنام على النزعة الموضوعية إسما آخر هو ” المنظور الإلـهي” the God’s eye-view ويعني به هذا التصور الميتافيزيقي الذي يقر مسبقا بوجود نقطة ثابتة ومحايدة يمكن فيها إبصار كل العلاقات من زاوية خارجية. هذا التصور هو الذي يفسر، في رأي بوتنام، اعتقاد الفلسفة في وجود أشياء في ذاتـها وإيمانـها بأن لعالم الأفكار وجودا موضوعيا. والظاهر أن هذا “المنظور الإلهي” الذي سيدرسه بوتنام في العديد من المقالات التي تكون كتابه (الواقعية في وجهها الإنساني) (Realusm with a Human Face)، لا يبتعد في صلبه عما كان يعني به هوسرل تحويل العالم إلى “موضوعات مثالية” وإلى ” بناء نظرية”.

لكن رتشارد روتي Richard – Rory – الذي يعد حاليا من الرموز البارزة لما يمكن تسميته بتيار ما بعد الفلسفة التحليلية – يعتبر أن اهتمام هوسرل بالبحث عن الأساس الجذري الذي تقوم عليه الموضوعات، لم يعمل سوى على شده من جديد إلى شراك النزعة الموضوعية وإلى مسلمات الميتافيزيقا الأفلاطونية. إن إقبال الفلسفة الفينومينولوجية على الصعود نحو الجهات التي تظهر فيها العلاقات المتبادلة بين جميع الأشياء لا ينم في نظر روتي سوى عن هذا “المنظور الإلهي” الذي كشف بوتنام عن تجلياته لدى العديد من الفلسفات التقليدية، أي هذا المنظور الذي يتعين عليه أن ينتصب دوما “خارج” موضوعات إدراكه ليحيط بعلاقاتها (43). ألم تتطلع الفلسفة الفينومينولوجية، بفضل عمليات الإيبوخي، إلى تنصيب الفيلسوف ” كمتفرج محايد” يلقي ببصره على الأشياء حيث تعطى في أصلها؟ ألم تبعث من جديد الاعتقاد في وجود نقطة أرشميذية يمكن فيها لـهذا :المتفرج” أن يوجه إدراكه بشكل خارجي؟ (44)

لـهذا كله لم يتردد رورتي في كتابه (الفلسفة ومرآة الطبيعة) Philosophy and the Mirror of Nature في وضع هوسرل وراسل في مكانة فلسفية واحدة اعتبارا لدافعي ” الصرامة” و”التأسيس” اللذين حركا فلسفتهما. وهكذا سيعد اكتشاف “الماهيات” من قبل هوسرل محركا رئيسيا للدفاع عن فلسفة “صارمة” و “خالصة”، فلسفة سيرى فيها روتي امتدادا للمبادئ التأسيسية التي شرعت لها نظريات المعرفة (45)، أي امتدادا لـهذه الفلسفة التي دشنها النقد الكانطي حيث ستصير مهمة الخطاب الفلسفي هي إقامة إطار محايد ودائم يتولى الاهتمام بمجموع الثقافة، ويكون فيه على هذا الإطار أن يميز بين المباحث التي تتخذ طابعا علميا وتلك التي تنصب على مجال الثقافة.

وعلى العموم فنحن مهما شاطرنا هذه الآراء التي يذهب إليها هابرماس و بوتنام و رورتي أو فندناها باعتبارها إما قراءات مغرضة وإما تأويلات “جزئية” للفلسفة الفينومينولوجية، فإننا لا يمكن إلا أن نقر بأنها قد ساهمت في تسليط أضواء أخرى على النزعة الموضوعية وعلى الفهم الذي أصبحت تكونه الفلسفة حاليا حول الشروط التي قضت بميلاد “الحداثة”.

مجلة الجابري – العدد الرابع


الهوامش

1 – Cf. Edmund Husserldie Krisis der europäischen Wisseschaften und die transzendentale PhänomenologieMartinus Nijhoff, the Hague, 1976, §9 und Beilagen I,II,III.

La crise des sicences européennes et la phénoménologie transcendantale,trad. G.Graneled. Gallimard 1976, §9 e appendices I,II et III.

2 – Cf. Die Krisis, §9 e, S. 41-42 ( La crise, §9 e, pp. 49-50)

3 – Cf. Husserl – Logique formelle et logique transcendantaletrad. Suzanne Bachelard? EdPUF 1957, §26 a, pp. 110-111.

4 – ينبغي أن نشير إلى أن ألكسندر كويري كان “فينومينولوجيا” في كثير من مواقفه، والمقام لا يتسع هنا للوقوف على هذه المظاهر الفينومينولوجية التي لازمت أغلب محاور تفكيره، بقي أن نلاحظ من جهة أخرى أن اسم كويري لم يكن مجهولا لدى هوسرل، فهو يحيل عليه بشكل مباشر في (التأملات الديكارتية، فقرة 20).

5 – Cf. Husserl, die Krisis, § 12, S, 67-68 ( La crise, § 12n p.77).

6 – Cf. Husserl, Philosophie als strenge WissenschaftVittorio Klostermann Frankfurt am Main 1965, S. 14

(La philosophie comme science rigoureusetrad. Quentin Lauer, ed. PUF 1955, p.59)

7 – Cf. Husserl, die Krisis, §9g, S. 48 ( La crise, §9g, p.56).

8 – Husserldie Krisis, §9 h, S. 52. (La crise , §9 h, p.60).

9 – لا يستعمل هوسرل مفهوم “التجربة” بالمعنى التجريبي أو بالمعنى الوضعي. التجربة عنده أساسا هي “المعيش” Erlebnis الذي يتمتع بوجود “قبل-علمي”. لـهذا فغالبا ما توضع “التجربة” في تعارض مع “العالم الموضوعي” الذي هو بالتحديد عالم التقنية والعلم. وبفعل هذا التعارض فإن عالم التجربة نسبي وغير دقيق. الأول مباشر ووليد الإدراكات الذاتية؛ أما الثاني فهو غير مباشر لأنه نتاج لبناءات نظرية-مثالية.

10 – CfParticuliérement : die Krisis, §9 k ( La crise, §9 k)

11 – Cf. Die KrisisAbhandlung III, S. 347-348 ( La criseAnnexe III, p.382)

12 – معلوم أن هوسرل لا يتناول أوروبا في كتابه ( أزمة العلوم الأوروبية) بصفتها كيانا جغرافيا. إن أوروبا عنده هي قبل كل شيء وحدة روحية وثقافية. وهو حين يعرض ” لمفهوم أوروبا” لا يرمي سوى الوقوف على البعد الغائي-التاريخي لـهذا المفهوم. أوروبا ” غائية” و “روح”؛ ولـهذا فإن ما يتطلع إليه في سعيه لرفع أسباب ” الأزمة” هو بعث “روح جديدة” في ما يسميه ب”الإنسانية الأوروبية” (europäischen Menschentums) لأن “الروح وحدها هي التي تتميز بالأزلية” (denn der Geist allein ist unsterblich) كما سيقول في نـهاية الملحق الثالث الذي يحمل بالضبط العنوان التالي :”أزمة الإنسانية الأوروبية والفلسفة”. ليس غريبا بعد هذا أن يعلن في غير ما مناسبة أن ما يهمه بالدرجة الأولى هو “الشكل الروحي لأوروبا” die geistige Gestalt Europas .

13 – HegelPrincipes de la philosophie du droittrad. Anddré Kaan, ed. Gallimard/collIdées 1940, préface, p.45.

14 – Husserldie Krissis, §9 l , S.60 ( La crise, §9 l, pp. 68-69)

15 – هذا التمييز هو من الأهمية البالغة بالنسبة لمسار الفينومينولوجيا؛ ولا عجب أن يربط هوسرل الحداثة بالصراع بين هذين النمطين الفلسفيين. وتكون لـهذه الملاحظة قيمة كبرى إذا علمنا أنه يسعى بـهذا إلى توسيع دائرة “الذاتية الترنسندنتالية” بحيث إن التأويل الذي يقترحه هوسرل هنا هو تأويل يعاد فيه تجذير الفلسفة الترنسندنتالية من منظور “تاريخي”. ولعل هذا واحد من بين العوامل الرئيسية التي تعطي لكتاب (أزمة العلوم الأوروبية) قيمته الكبرى؛ علاوة على أنه يمثل مواقف هوسرل الأخيرة.

16 – تعني اللفظة الألمانية Gegenstand الشيء الذي يوضع (Stehen) في وضعية مقابلة أو مواجهة لنا Gegenوهيدجر يركز كثيرا على هذا المعنى أكثر لكي يبين أن تصور “الموضوع” لا يستقيم إلا عندما نسلم مسبقا بوجود “ذات”؛ إذ يعلن في أكثر من مرة بأن اللفظ الألماني Gegenstand أو Objeckt ترجمة للكملة اللاتينية Obiectum انظر :

Heidegger, “ Science et méditation” in Essais et conférencestrad. A.Préaued. Gallimard 1958, p.57.

17 – Heidegger, “Science et méditation” , p. 64

18 – Heidgger, “Dépassement de la métaphysique” in Essais et conférencesp.97.

19 – HeidggerNeitzsche IItrad. P. Klossowski, ed. Gallimard 1971, p. 156.

20 – HeidggerQu’est-ce qu’une chose?, trad. J.Reboul et J.TaminiauxedGrallimard 1971p.86.

21 – لا يجب أن يخفى علينا بأن التأويل الذي يقدمه هيدجر لـهذه المسألة يخالف عموما التصور المألوف الذي ساد بين مؤرخي الفلسفة الحديثة، إذ أن هيدجر يربط بين الذاتية وبين الرياضيات. ويفترض هذا التأويل نقطتين أساسيتين : أولا، أن الرياضيات تجسيد لأعلى مظاهر النزعة الموضوعية؛ ثانيا، أن الذاتية تقتضي الموضوعية والعكس أيضا صحيح

22 – Cf. HeidggerQu’est-ce qu’une choseOp.cit, pp.113-116.

23 – ينبغي أن نشير هنا إلى أن لفظة “ثروة” أو “ذخيرة” لا تتضمن جميع المعاني التي تفترضها كلمة Bestand الألمانية، كما أن اللفظة الفرنسية ” fonds” لا تستوفي تماما المعنى الألماني. والحال أن اختيار هيدجر لكلمة Bestand دون غيرها لتعيين الكيفية التي يكون عليها الواقع في التقنية الحديثة، كان اختيارا مقصودا ومفكرا فيه بعمق اعتبارا لأن Bestand تشير من جهة إلى معنى الثروة والذخيرة والمخزون ( وهي الصورة التي تستدعي بـها الطبيعة إلى حيز الوجود في عصر التقنية الحديثة)؛ كما تشير من جهة أخرى إلى “الوضعية” التي يكون عليها الشيء في ثباته، بدليل أنها تتضمن فعل stehen الذي يشير إلى أكثر من معنى ، منها :ما يوجد أمامنا، ما يوضع في مقابلنا ، ما نيتصب مستقيما …الخ، وهي كلها معان ينبغي تقريبها من كلمة أخرى هي ” الموضوع” Gegenstand التي تتضمن هي الأخرى معنى الوضعية الثابتة Stand ومعنى الوضع stehen.

وهذه الملاحظة الاشتقاقية كافية للتأكيد على العلاقة التي يقيمها هيدجر بين النزعة الموضوعية وبين التقنية.

24 – Heidegger, “La question de la technique” in Essais et conférencesop.cit, pp. 32-33.

25 – Heidgger , Nietzsche II, op.cit.n p. 139.

26 – حول علاقة التقنية الحديثة بفكرة التحريض هذه يمكن الرجوع بشكل خاص إلى :

La question de la techniquep.20 et Sq.

27 – Cf. Heidgger, “L’époque des conceptions du monde” in chemins qui ne mènent nulle parttrad. W. Brokmeier, ed. Gallumard/ coll. Idées 1962, p. 130

28 – للثقافة هنا دلالة قدحية؛ علاوة على هذا فالتأويل “الثقافي” لتاريخ البشرية هو خاصية تميز الأزمنة الحديثة وتفصلها عن العصور السابقة. ولـهذا سيربط هيدجر في الغالب بين التقنية والثقافة.

29 – هذا الرأي سيبلوره، هوسرل، كما هو معلوم، في كتابه (الفلسفة كعلم صارم). فبالإضافة إلى نقده للنزعة الطبيعية، يتصدى هوسرل للفلسفات التاريخانية وفلسفات “رؤى العالم”، إذ يعيب على هيجل كونه أضعف القوة العلمية التي تفترضها الفلسفة حين إقراره بأن لكل فلسفة مشروعيتها النسبية. لقد تنحى هيجل عن مبدإ “الصرامة” في نظر هوسرل عندما اعبتر بأن كل فلسفة تمثل “رؤية للعالم” Weltanschauungsphilosophie، وبذلك يكون قد ساهم في تشتيت مجهودات الفلسفة وتفريق قوتها شأنه في ذلك شأن دلتاي Dilthey.

30 – بالرغم من أن هيذجر يفرق في بعض الأحيان بين الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الذرية اعتبارا على الأقل لأن موضوعات الأولى قابلة للتحديد، أي قابلة للحساب على نحو مسبق، في حين أن موضوعات الثانية لاتبدو كذلك إلا على نحو إحصائي؛ بالرغم من هذا كله فإنه يعترف بأن الفيزياء المعاصرة تحافظ هي الأخرى على مبادئ العلم الكلاسيكي بالنظر لأن علميتها ترتبط بمدى متابعتها لموضوعات الواقع في موضوعيته، أي مدى إحاطتها بوحدته الموضوعية. وهذا ما يستوجب ربطهما معا ( أي الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الذرية) بقواعد المنهج.

31 – يلاحظ هيدجر رغم ذلك أنه إلى حدرد عصر أفلاطون ظل التيخني مرتبطا بالإبستيمي من منطلق أن كلا اللفظين يطلقان على المعرفة في دلالتها الواسعة . أما التمييز بينهما فلن يغدو ممكنا وظاهرا إلا مع أرسطو. انظر :

Heidgger, “La question de la technique“, op.cit, pp.18-19.

32 – Heidgger, “L’époque des conceptions du monde“, op.cit, p. 109

33 – Jean Beaufret, “ Le “dialogue avec le marxisme” et la “question de la technique” “ in Dialogue avec HeidggerT.II, ed. Minuit 1973, p.164.

34 – Cf. Heidegger, “Science et méditation”, op.cit, p. 70 et sq.

35 – Cf. Heidgger, “dépassement de la métaphysique”, op.cit, pp. 92-93.

36 – معلوم أن هيدجر يفرق بين “التاريخ الأصيل” Geschichte و “التاريخ” كعلم Historie. الأول يدل على كل ما يحدث، وله ارتباط في الغالب بتاريخ الوجود من حيث هو “مصير”. أما الثاني فله مدلول ضعيف لأنه مجرد تحقيب لوقائع وأحداث. لكن هذا التمييز مألوف ومعمول به في الفلسفة الألمانية؛ ونستطيع تبين ملامحه عند فلاسفة ألمان آخرين غير هيدجر.

37 – Heidgger, “Science et méditation“, op.cit, p.73.

38 – Cf. Husserl, die Krisis, § 14, S.70 ( La crise , § 14, p.80).

39 – ينبغي أن نتساءل من جهتنا إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه الملاحظة التي يبديها هابرماس دقيقة تمام الدقة بالنظر لأن نقد هوسرل للنـزعة الموضوعية يفترض ضمنيا ربط المعرفة العلمية بالمصلحة. صحيح أن هوسرل لا يتحدث عن المصلحة في معناها السوسيولوجي، لكن فحصا جليا لبعض فقرات كتاب ( أزمة العلوم الأوروبية) من شأنه تبديد الكثير من الشكوك، وهو نفسه حين حديثه عن عالم العيش لا يتردد عن ربط هذا العالم بمجالات المصلحة.

40 – JürgenHabermas, la technique et la scicence comme “idéologie“, trad. Jean-René Ladmiraled. Gallimard 1973, p. 142.

41 – Cf. Habermas, Connaissance et intérêt , trad. G.Clémençon et J-M-Brohm,ed.Gallumard 1976pp.103-104.

42 – يعتبر بوتنام أن نقد النزعة الموضوعية من قبل هوسرل هو استمرار للمراجعة التي أجراها وليام جيمس لنظرية الإدراك التي انتعشت في القرن السابع عشر. انظر في هذا الصدد :

Hilary Putanam, “Peut-on encore parler de vérité et de réalité? Sur la crise des scicnes européennes in critique de la raison phénoménologique, (ouvCollectifà,trad.M.Imbeaulted. Du cerf/coll.Passages 1991,P.97.

43 – Cf. Richard Roty, “la philosophie comme science comme métaphore et comme politique”, in critique de la raison phénoménologiqueop.cit, trad. De l’article : C.Guillem, p.102.

44 – نكتفي بإثارة هذين السؤالين هنا دون تقديم جواب قطعي لهما، نظرا لأن هذه القضية تستحق دراسة مستقلة، كما تستدعي مقارنة بين نصوص متضاربة لا يتسع مجال دراستنا هذه للوقوف على حيثياتها. لكن ينبغي مع ذلك أن نشير في نفس السياق إلى أن حديث هوسرل عن ” المتفرج المحايد” ليس بـهذه البساطة التي يمكن أن نعتقد للوهلة الأولى لأنه يجر إلى سلسلة أخرى من المشاكل التي تقتضيها الفلسفة الفينومينولوجية كمسألة الإيبوخي والحدود بين المعرفة الطبيعية والمعرفة الترنسندنتالية…الخ.

45 – Cf. R. Rorty – l’homme spéculaire (philosophy and the Mirror of Nature), tradT.Marchaisse, ed. Seuil 1990, pp. 190-193.