مجلة حكمة
الفكر التشميلي

في احتمالية نقد جذري للفكر التشميلي: عدمية المعنى، واستعادة الطفرة – عبد الصمد الكباص


قد تكون مواجهة الـ-تشميل(*)، والتصدي الحازم لمفعوله الإكراهي، اختراقا مغامرا ومجازفا لتاريخ طويل مدجج بمنظومات إقصائية راهنت عبر مسيرتها على إلغاء وتهميش الـ-مختلف وكبت التعدد وامتصاص واستيعاب التشتت… والمغامرة هنا تتعلق أساسا بالتموقع المفترض للنقد الجذري للفكر التشميلي داخل حيز ادعاءات الحقيقة المقرونة بادعاءات الصلاحية. فحتى لا تكون هذه المواجهة مجرد سجال ينتقد احتمالا من احتمالات التشميل لينتصر في نهاية المطاف لتشميل أعم، يكون الموقف المتمسك بالنقد الجذري مدعوا لتجسيد إمكانياته كانقذاف خارج أرضية التشميل. مؤسسا مجالا مخالفا في أساسه للمجال التشميلي .

0-1 – السلب المعذب :

إن أرضية الـ-تشميل هي عبارة عن ثوابت تحظى بوضع اعتباري يمحنحها امتيازا يضفي عليها طابعا تقديسيا. وعلى أساس هذه الثوابت يتشكل بناء من العموميات والكليات تتجسد في تتويجها الأقصى كوحدة جاهزة، وثبات شامل، وماهية عمومية مباطنة للتاريخ، الذي يصبح معها مجرد استرجاع لصدى أصلي. ويصير العالم استعادة تكرارية لحقيقة بدئية. وترتبا على ذلك يكون الفرد مطالبا بأن يكشف عن تحققاته كنسخة للنموذج العام والشمولي، وتقوم مشروعيته الوجودية على أساس مدى مطابقته لهذا النموذج. إذ يكون الاعتراف به بدرجة أكبر كلما كان أكثر مماثلة، ويكون أقل كلما كبرت مسافة انزياحه عنه. وهكذا ففرادة الفرد تسقط واستثنائية تلغى. وتصبح الكثرة مجرد استنساخ لنموذج واحد يحل في نسخه التي يجب أن تكرره. إن خطورة الـ-تشميل تكمن في كونه يطرح ثوابته، لا كمجرد إمكانية وجودية تستعيد تناهيها الخاص وفق صيرورة الانهيار المركزي للتحقق،(1) يطرحها كواجب وجود يخترق التاريخ بإملاء من ضرورة متعالية، فوق التاريخ والتغير والسيلان، فيصبح دور الزمان مجرد تسويغ لهيمنة هذا الوجوب. ولكي يحافظ الـ-تشميل على ثوابته كإمكانية في وجه الاستحالة، يولد سلبه الخاص، الذي يجب أن يقصيه ويستبعده، دون أن يستنفذه. لأن وجود الإقصاء ووجود المستبعد هو وجود ضروري للـ-تشميل وذاك لحماية ثوابته واستعادة تطابقه وتماسكه الداخلي. وبهذا يعمل على الكشف عن هذا السلب، هذا المقصي الواجب استبعاده. ويضطلع بمسؤولية تسميته وتحديد سماته وخصائصه. إنه يخلقه ويعرف به ثم يقصيه. لكن، دون استنفاذه مطلقا. ويتجلى كل هذا على مستوى التفريع المزدوج للعالم الذي تقدمه الخطابات التشميلية المبنية ثنائياتها على أساس تفاضلي يمنح امتيازا إيجابيا للطرف المنسجم مع الثوابت المعطاة قبليا، الذي يحتل المركز ويشكل النموذج الأسمى. وبالمقابل تلصق بالطرف الثاني من الثنائية قيم سلبية، تجعله موضع إبعاد وإقصاء ونفي وتهميش. الطرف الأول يحتل المركز أي موقع “ال-هنا”، والثاني ينفى إلى موقع “ال-هناك-. لكن أهمية الطرف الثاني أي السلب بالنسبة للفكر التشميلي ، هي في نفس مستوى أهمية الطرف الأول. إذ أنه للحفاظ على الاستعادة الدائمة للماهية القارة لثوابته، واستبقائها كمركزية داخلية متمركزة في موقع “الـ-هنا-” حول نفسها، متعالية عن مفعولات التزحزح والخلخلة التي قد تخترقها وتعصف بثباتها عن طريق إجراءات النقد والتفكيك، فإنه يحول هذا المفعول إلى سلبه في تعارضه معه، ويجعله موضع نقد ونقض، في مواجهة تأخذ شكل مطاردة لخطر خارجي هو بمثابة مصدر لتهديد مستمر يجب القضاء عليه. لكن سلب فكر الـ-تشميل ليس سلبا محظوظا يقضي عليه فيرتاح نهائيا، بل هو سلب معذب. لا يجب أن يبقى ولا أن ينتهي.

لذلك لا غرابة في أن تظل بعض الخطابات الدينية [ المتمذهبة ] – كنمط من أنماط – تشميل – حتى ولو وصلت إلى “مدينة الله” التي تحدث عنها أغسطين، منفرة ومحذرة من المنافقين والزنادقة، والملاحدة، والكفار، وأعداء الحق وأنصار الباطل، وأتباع الشيطان، وأهل الزيغ وطريق الضلال… إنها ستظل مسترجعة لهذا الوجود السلب وملاحقة له. وذلك حتى تحتفظ – هذه الخطابات الدينية – بتمركزها الداخلي كمعقل لكينونة منزهة ومتعالية عن التخلخل والتغير. ففي تعارضه مع سلبه، حيث يكون هذا التعارض كسيرورة تخارج يحدد بموجبها السلب كخارج، كبرانية إزاء جوانية المركز المثماثل والمتطابق، يكرس الـ-تشميل تمركزه الذاتي كثبات يخترقه حضور أبدي، حضور لا يستنفد، يجعل من الزمان مجرد امتصاص للمتناهي في اللامتناهي. ويحدد نموذجه كنموذج شامل، لا محدود، ممتد، يجسد تناهيه الخاص كانعدام عبر نفيه وإقصائه واستبعاده وتهميشه لسلبه… ومن كل هذا وعبره، ومن خلاله يتولد شيء ما، يختزل في كلمة: الـ-مطلق الذي لن يكون الإله سوى احتمال من احتمالاته…

إن أرضية الـ-تشميل، هي إذن أرضية ثوابت لكي تحمي نفسها من الاستنفاد والانزلاق خارج إمكانها كوجوب توجه عنفها إلى سلبها الذي تفترضه كخارج. لذلك فإن النقد الجذري للتشميل والذي يتمسك بموقف يرفض أن يكون فيه مجرد مساجلة تشميلية ضد نمط تشميلي آخر، مساجلة يسقط فيها مطلق فإحلال آخر مكانه، يجب أن يؤسس مجالا مختلفا، لا تكون أرضيته مشكلة من ثوابت. وحتى يتمكن من ذلك يكون مطالبا بأن يوجه نقده إلى سلبه بقدر ما يوجهه إلى نفسه. وذلك لكي لا يتحول نقد الـ-تشميل إلى نقد يتم انطلاقا من تكريس ثوابت داخلية موثوق فيها ومسلم بها. ففي هذه الحالة يكون النقد مجرد مسوغ لإرساء وتدعيم ثوابت أخرى. وعلينا أن نتذكر أن فكرة الثابت هي أساس كل تشميل. هكذا فإن النقد الجذري الذي سيجسد إمكاناته كانقذاف خارج أرضية الـ-تشميل، عليه أن يرتكز حيث اللاثبات، مؤسسا تناهيه الخاص عبر تعدديته، واسترجاع احتماليته. فهل ستتوفر الجرأة والوقاحة، للانقلاب على كل الثوابت، والانزلاق الدائم خارج كل ارتكاز؟ بشكل احتمالي فقط، يمكن المغامرة بالقول إن النقد الجذري هو شبه منعدم. وما قد يكون هو احتمالات نقدية تتغيى تهديم نمط تشميلي خدمة لنمط آخر، خاصة عندما تكون فاعلية النقد مدفوعة باعتبارات سياسية/إيديولوجية لا يكون النقد فيها سوى مجرد مطية من أجل الانتصار النهائي لهذه الإيديولوجيا أو تلك… ومن كل هذا تظهر المغامرة والمجازفة التي تمت الإشارة إليها.

0-2 – تكميم الحقيقة وتنسيبها كإجراء تشميلي :

لكي يجسد النقد جذريته في مواجهة الـ-تشميل، يكون مدعوا للانفلات من إجراءات التوحيد والتعميم والاختزال. فالمنظومات التشميلية عندما توجه عنفها نحو سلبها عبر تعارضها معه تعمل على خلخلة ثوابت هذا السلب، لكن، لتضمن ثبات جوانيتها كمعقل لما يجب أن يكون. بهذا تتولد كينونة لا تشكل مرجع نفسها عبر غنى وتعدد وكثرة احتمالات حدوث ما تكونه. بل هي كينونة خاضعة لمرجع أسمى تحدث وفقه. يكون معه التاريخ مختزلا في كيانات توحيدية تجعله إما مشروعا، أو معقولا، أو مقبولا…مشكلة بذلك نموذجا صافيا يمنحه جوهره المنطوي على الأفق الغائي لكل كينونة بحسب ما يجب أن يكون.

إن مهمة النقد الجذري، لا تستطيع أن تنجز دون إسقاط تام لمصادرات قبلية تخضع التحييز الفكري لاحتمالات حدوث العالم للسلطة المتعالية للأصل، والمرجع والمنطلق، حيث تكون هذه السلطة غير متزمنة لكنها تخضع كل ما هو زمني لها، وترده إليها. إن هذه السلطة المرجعية تعمل كذلك كسلطة معيارية في الفكر التشميلي ، تنصب على تحديد مجال المشروعية، مركزه وهوامشه. وبتداخل المرجع والمعيار تتحدد شروط إمكان الحقيقة وفق توجيه قبلي يجعل هذه الشروط عامة وشاملة ومتعالية بشكل يحول دون خضوعها لمعيار الصحة والخطأ/الصدق والكذب/ الحقيقة والزيف… وبين أحضان هذا التعالي تسقط إمكانية تداول الاحتمالات المنزاحة عن هذه السلطة المرجعية والمعيارية، (تداول) نفسها كحقيقة. كما تسقط إمكانيات تحديد خاص لشروط إمكان حقائقها، أو إمكانية ورودها خارج أي شرك، بدون مراعاة إجراءات التطابق مع هذه السلطة المرجعية. وهكذا يبدو ادعاء الحقيقة في الفكر الـ-تشميلي مقرونا بادعاء توفر هذه الحقيقة لقاعدة إجماعية. ومن هنا يظهر الشرط الكمي لتحديد إمكان الحقيقة. إذ يتحدد (الحقيقي) على أساس معطى كمي هو: الأكثر، أو الأغلب، والكل،… ويكون اللاحقيقي هو الأقل، أو النادر، أو الجزء، أو الاستثناء… وبما أن الحسم التجريبي بين ما يشكل الأكثر وما يشكل الأقل، بدون اختزال وحصر، هو إجراء شبه مستحيل نظرا لتدفق احتمالات الحدوث وفق تدفق الصيرورة الزمانية وصدفها، فإن الفكر التشميلي يدعي أن ما يطرحه كحقيقة هو الوحيد المتوفر علة قاعدة إجماعية. ويتجلى هذا الادعاء على المستوى المنطقي في صيغة القضايا الكلية، التي تحيل إلى الكل من حيث هو فراغ باستطاعته احتواء كل شيء لكن بالشكل الذي يكون فيه مساويا للاشيء. إن ادعاء الإجماع يعمل على تذويب المختلف في أفق كلي متوهم. وعبر هذا الادعاء تتعزز سلطة الواحد المماثل لنفسه التي تجعل الكثرة مجرد امتداد لهذا الواحد الذي يتبدى في اللغة من خلال أداة التعريف “أل”.

إن النقد، بدون إسقاطه لقبلية شروط إمكان الحقيقة، وللهوس الإجماعي من نسيج ادعاءاته، وللقضايا الكلية و “أل” التعريف من لغته، لا يمكن أن يكون نقدا جذريا للتشميل.

“(نسبية الحقيقة) هي أساس الحوار، ومنطلقه (احترام حق الاختلاف)”. هذا ما تقرره بعض الاحتمالات النقدية التي تدعي مواجهتها للتشميل. لكن الحوار لا يجد أساسه في نسبية الحقيقة ولا في احترام حق الاختلاف، بل يجد فيهما أساس ادعاء شرعيته. إن الأطراف المتحاورة تشرعن الحوار بهذه الادعاءات لكنها لا تجعله يقوم عليها. فالاعتراف ب (نسبية الحقيقة) – هذه العبارة الميتافيزيقية – هو الاعتراف بالانتفاء المطلق لكل تولد أو استعادة لذلك الكيان المدعو الـ-حقيقة، مقابل الإقرار بأنه لا وجود إلا لاحتمالات ورج لها كحقائق تجاور بعضها البعض، دون الخضوع لإجراءات التطابق أو الاتفاق أو الاشتراك، حيث يكون مجال انتشارها مخترقا بمسافات اختلافية لا تلغى ولا وجود معها لحقيقة أحق من الأخريات. إنه بالأحرى الاعتراف بالانعدام التام لأي تنضيد تراتبي للحقائق تكون معه (أي مع التنضيد) مشدودة بعضها إلى بعض في شبكة اتصالية، ينضوي فيها الخاص تحت العام، والفردي تحت الكلي، والمختلف فيه تحت المشترك والمتفق عليه. أي أن تكون كل حقيقة نموذجا خاصا ومرجعا متناهيا لنفسها، غير قابل للمقارنة، ولا يصلح إلا لها وحدها… كما أن الاعتراف ب (حق الاختلاف)، هو الاعتراف بحق تداول احتمالات الحدوث خارج إطار كل معيارية ذات أساس تفاضلي، تخضع بموجبها هذه الاحتمالات لتصنيفات قيمية متدرجة. أي الإقرار بحق كل احتمال، من حيث يكون في حدوثه إما موقفا، أو تصورا، أو فهما، أو وجهة نظر، أو حلم، أو تعبير، أو تجربة، أو اعتقاد،… حقه في الاحتفاظ بنفسه كإمكانية غير قابلة للمطابقة أو الاشتراك أو التقاطع أو الاتفاق مع احتمالات أخرى، دون إخضاعها لاحتمال يفرض عليها كنموذج أمثل، أو حقيقة أحق، أو موقف أجدر، أو تصور أصح، أو حل أصلح… لكن الحوار كاستثمار ميتافيزيقي ذو بعد تذاوتي، يسعى لتأسيس أفق بينذاتي لا يراهن على الاختلاف ولا على نسبية الحقيقة، بل إنه يسعى لنفي كل اختلاف للخروج بتشميل يكون مفروضا على جميع المتحاورين. إنه يهدف إلى طمس كل اختلاف وكل نسبية، وفي حالة إذا ما أبقى على وضعية الاختلاف هذه، والنسبية المطلقة للحقيقة، دون الوصول إلى تشميل، يعتبر حوارا فاشلا، أي تلصق به قيمة سلبية. إن كل طرف من الأطراف المتحاورة، في الوقت الذي يدعي فيه اعترافه بنسبية الحقيقة وحق الاختلاف، إنما يكون مقرا لنسبية حقائق الآخرين من أجل إخضاع هذه الحقائق لما يدافع عنه كحقيقة. كذلك في ادعاءه الاعتراف بحق الاختلاف إنما يعمل على الدفاع عن اختلافه هو إزاء الآخرين، لكي يتحول إلى نموذج ويحول الآخرين إلى نسخ. إن الحوار هو استثمار ميتافيزيقي يجعل الاختلاف والتعدد والنسبية مجرد مسوغ للهيمنة و الـ-التشميل. ففي النهاية يجب على كل الاحتمالات التي تقدم نفسها كحقائق، أن تخلي مواقعها من أجل الخضوع لحقيقة أحق منها… إنها عملية تكريس لمفعول الهيمنة وإرساء لدواليب الإكراه والإخضاع والإقصاء والـ-تشميل… وبهذا، فإن الحوار، عبر تعدد أطرافه، لن يكون إلا فرصة لاستعادة المطلق في النسبي، واللامتناهي في المتناهي، والوحدة في التعدد. هكذا فإن أساس الحوار ومنطلقه يتمثلان في ادعاء الصلاحية لا في نسبية الحقيقة، وفي علاقات القوى لا في الاعتراف بحق الاختلاف…

إن هذه الإجراءات: تكميم الحقيقة وتنسيبها، تعمل على فرض الواحد المماثل لذاته أو المطلق في مختلف صيغه – السياسية والدينية والفكرية… – لكن بصيغة أكثر تلطيفا. لذلك فإن المواجهة الجذرية للتشميل لاتنفصل عن عملية تفكيك هذه الإجراءات…

* * *

إذن، هل باستطاعة الـ-عالم، أن يكف عن أن يكون أكذوبة اللغة الكبرى؟…

1 – الانهيار المركزي للتحقق هو مفهوم تناولناه في الفصول الأولى من عملنا: “هوامش فلسفة بدون مركز” الذي يشكل هذا النص فصله الأخير. ونقصد به أن التحقق لا يتمكن من تحقيق نفسه حتى ينهار ويتلاشى. إنه ليس وحدة ممتلئة متآنية مع نفسها. ولا كتلة تحدث في انسجام وتطابق مع نفسها. وإنما هو سلسلة من الشذرات التي لا تحدث الواحدة منها إلا بتعديمها لنفسها ولباقي الشذرات الأخرى. إن التحقق بهذا هو بمثابة واجهة متصدعة ومتفجرة بدون أي أساس.

الانهيار المركزي للتحقق هو سيرورة التعديم التي تخترق العالم من حيث هو احتمال حدوث، مخصبة إياه بالتشتت والاختلاف والتعدد… ومضفية عليه طابعا احتماليا…/

مجلة الجابري – العدد الرابع


*- (*) يستعمل الكاتب لفظ “التشميل” كمصدر لـ “شمَّل”  أي إضفاء الطابع الشمولي على شيء أو أشياء. يتعلق الأمر بالعقل الذي يصدر الأحكام المطلقة ولا يراعي النسبية، وهو قرين العقل الأحادي  الذي يحكم العولمة ومن قبلها والكليانية والتوليتارية وغيرها من المصطلحات التي تنحت للتعبير عن ظاهرة من أبرز ظواهر العقل  المتمركز على الذات كالعقل الأوربي الحديث والمعاصر. (المجلة).