مجلة حكمة
النزعة الإنسانية رسالة في

رسالة في النزعة الإنسانية – مارتن هايدغـر / ترجمة: عبدالهادي مفتاح


النزعة الإنسانية

إننا لا نفكر بعد في ماهية الممارسة بشكل حاسم، لذا فنحن لا ننظر إليها إلا باعتبارها نتاج أثر تكمن حقيقته الثمينة في ما يسديه من خدمات وصلاحيات. هذا في حين أن ماهية الممارسة تكمن في الإنجاز، والإنجاز معناه: بسط شيء ما في تمام ماهيته، وبلوغ ذلك التمام، بحيث يكون الإنجاز هو الإنتاج بمعناه الأصيل.

لا يمكننا إذن أن ننجز على الوجه الصحيح إلا ما “يوجد” مسبقا. والحال أن ما “يوجد” مسبقا هو الوجود. وإذا كانت مهمة الفكر هي أن ينجز العلاقة التي للوجود بماهية الإنسان، فإن هذه العلاقة لا تنتج أبدا عنه ولا تشكل من طرفه، بل إن الفكر لا يعمل سوى على عرضها عن الوجـود باعتبار ما من الوجود يعود على الفكر نفسه. هذا العـرض يكمن فيما يلي: في الفكر على الوجود أن يأتي إلى اللغة. واللغة هي مـأوى الوجود، حيث يقيم الإنسان. المفكرون والشعراء هم أولئك الـذين يسهرون ويحرسون على هذا المأوى. حراستهم وعنايتهم هما الإنجاز التام لتجلي الوجود، إذ من خلال قولهم وبه يحملون إلى اللغة ذلك التجلـي ويحتفظون به هناك. والفكر قبل كل شيء لم يرق إلى مرتبة الفعل لمجرد أن أثرا ما قد نجم عنه، أو أنه قابل لأن يطبق على… أو يوظف في… إن الفكر يتصرف ويمارس بقدر ما يفكر. هذه الممارسة ما دامت تخص العـلاقة التي للوجود بالإنسان، فهي على أعظم تقدير الأكثر بساطة. لكنها ولنفس السبب الأكثر رفعة في نفس الوقت. وعليه فإن كل فعالية إنـما تستقر في الوجود لتتجه من ثم صوب الموجود. بيد أن الفكر على العكس من ذلك يطاوع دعوة الوجود ونشدانه له ليقول حقيقته. إنه ينجـز هذه العفوية في التفكير في الوجود والتخلي عن الموجود. فالتفكير هو تـهيؤ الوجود لقول الوجود ذاته. لا أعرف ما إذا كانت اللغة تستطيع أن تجمع بين هذه الثنائية: “من” و”ل” في عبارة واحدة كهذه: “الفكر هو تجنيد الوجود”. إن صيغة الإضافة هنا “تجنيد الوجود” يجب أن تعبر عن كون المضاف إليه، هو في نفس الوقت الذاتي والموضوعي معا. (الفاعل والمفعـول). لكن مصطلحي “الذات” و”الموضوع” (الفاعل والمفعول) هما بالمقابل مصطلحان ميتافزيقيان غير بريئين، بقدر عدم براءة هذه الميتافزيقا التي استحوذت باكرا في شكل الـ “منطق” والـ “نحو” الغربيين على تأويل اللغة. إن ما يختفي في حدث من هذا القبيل، لا يمكننا أن نتبينه اليوم إلا بمشقة النفس. كما أن تحرير اللغة من قيود النحو لصالح تـمفصل أكثر أصالة بين عناصرها، يظل رهينا بالفكر وبالشعر. إن الفكر ليس فقط تجنيـدا في الفعل لأجل الموجود ومن طرفه وقد أدرِك باعتباره واقع الحال الراهن. بل إنه تجنيد من طرف حقيقة الوجود لصالح هذه الحقيقة. هذا الوجود الذي لم ولن يكتمل تاريخه أبدا، وإنما يظل دائما في حالة ترقب وانتظار لطور الاكتمال. إن تاريخ الوجود هذا هو الذي يتحمل ويحدد كـل ظرف وشرط إنساني. فإذا كان علينا بادي ذي بدء أن نتعلم كيف نختبر بصفاء ماهية الفكر هذه التي نتحدث عنها، الشيء الذي يعود على إنجازها، فإن هذا يقتضي منا أن نتحرر من التأويل التقني للفكر الذي ترجـع أصوله إلى أفلاطون وأرسطو. في ذلك العصر كان الفكر نفسه ذا قيمة تخنية (نسبة إلى تخني: t c n h ). لقد كان سيرورة من الفكر في خدمة العمل والإنتاج. لكن الفكر قد تم تمثله آنذاك من وجهة نظر البراكسيس ((p r a x i V ) الممارسة) والبويسيس (الشعر بمعناه الأصلي: (p r a x i V ). ولهذا فالفكر إذا ما نظرنا إليه في ذاته ليس ممارسة. هذه الكيفية في النظر إلى الفكر باعتباره “نظرية” (تيوريا ـ q e w r i c )، وهذا التحديد للمعرفة باعتبارها “موقفا نظريا”، حدثا مسبقا في قلب وبداخل تأويل تقني للفكر. إنـها محاولة رجعية وردة فعل استهدفت الحفاظ على ما تبقى للفكر من استقلالية في مواجهة الممارسة والعمل. ومنذ ذلك الحين و”الفلسفة” في نـزاع دائم مع ضرورة تبرير وجودها أمام الـ”علوم”. ولقد ارتأت أن النجاح المؤكد في هذه المهمة هو أن ترتقي بنفسها إلى مرتبة العلم. لكن هذا المجهود كان في حقيقة الأمر هو التخلي الفعلي عن ماهية الفكر. لقد بات يلاحقها الخـوف من ضياع مكانتها وصلاحيتها إذا هي لم تصر علما. إننا نقف هنا على ما يشبه نقصا يناط بما ليس ـ علمويا. هكذا تم ترك الوجود من حيث هو عنصر الفكر تحت رحمة التأويل الذي أصبح معمولا به منذ عصر السفسطائيين وأفلاطون. ومن ثمة أصبحنا نحكم على الفكر حسب قياس ليس من طينته. هذه الكيفية في الحكم تشبه إلى حد بعيد، تلك الطريقة التـي تروم التعرف على ماهية الأسماك وأصولـها من خلال القدرة التي لـها على العيش في اليابسة. وقد أبان الفكر عن فشله في اليابسة هذه منذ زمن بعيد وبعيد جدا. فهل يجوز لنا الآن أن ننعث هذا المجهود الذي يسعى إلى إرجاع الفكر إلى عنصره، بكونه “نزعة لاعقلانية”؟

إن الأسئلة الواردة في رسالتكم تتضح بيسر أكبر من خلال الحوار المباشر. أما في حالة الكتابة فإن الفكر يفقد بسهولة حافزه. لكنه لا يستطيع على وجه الخصوص الحفاظ على الأبعاد الخاصة بمجاله إلا بصعوبة. إن نجاعة الفكر لا تكمن فقط، بخلاف العلوم، في الدقة المصطنعة (أي التقنية ـ النظرية) للمفاهيم، بل ترجع إلى ما يلي: في عنصر الوجود على القول أن يبقى خالصا، ويسمح بـهيمنة ما في أبعاده المتنوعة من بساطة. لكن الشيء المكتوب يمنحنا من ناحية أخرى الحاجة الملائمة لفهم يقظ من خلال اللغـة. وسأكتفي اليوم بعزل سؤال واحد من بين أسئلتكم وعرضه، لعل الاختبار الذي سأجريه له يلقي بشيء من الضوء على الأسئلة الأخرى.

إنكم تسألون: “كيف يمكننا أن نعطي من جديد معنى لكلمة “النزعة الإنسانية؟” هذا السؤال يؤشر على الرغبة في الحفاظ على نفس الكلمة. وإني لأتساءل عمَّا إذا كان ذلك ضروريا. ألم تتجل بعد بما فيه الكفاية، المصيبة الكبرى التي تنجم عن مثل هذه الإضافات؟ صحيح أننا بدأنا منذ زمن بعيد نحتاط من إضافة ياء النسب وتاء التأنيث “…ية = …isme” (للدلالة على النـزعة إلى…). لكن سوق الرأي العام لم يتوقف عن المطالبة بالمزيد. كما أننا دائما على استعداد لتلبية هذا الطلب. إن مصطلحات من قبيل “منطق”، “أخلاق”، فيزياء” لم تظهر هي نفسها إلا في اللحظة التي أصبح فيها الفكر الأصيل على مشارف غروبه. أما الإغريق إبان عصرهم العظيم، فقد فكروا دونما حاجة إلى مثل هذه الإضافات إلى حد أنـهم لم يطلقوا على الفكر اسم “فلسفة“. لقد كانت هذه الأخيرة في طريقها إلى الأفول عندما ابتعدت عن عنصرها. والعنصر هنا، هو ما يستطيع الفكر انطلاقا منه أن يكون فكرا. إنه بحق ما ـ له ـ القدرة: إنه القدرة ذاتـها أو السلطة. فهو يتكفل بالفكر ليحمله بذلك إلى ماهيته. وبكلمة واحدة نقول: إن الفكر هو فكر الوجود. والإضافة هنا، لـها معنيان: الفكر من الوجود على قدر حصوله من هذا الأخير وانتمائه إليه ؛ الفكر فـي نفس الوقت تفكير في الوجود مادام إذ ينتمي إلى الوجود فهو يصغـي له. إن الفكر يكون بما هو عليه تبعا لمصدر حصوله الأساسي؛ بحيث بانتمائه للوجود إنما يصغي للوجود. الفكر يكون : وهذا معناه أن الوجود يتكفل في كل مرة تبعا لتجلي عصوره بماهيته. أن تتكفل بـ”شيء” ما أو بـ”شخص” ما في ماهيته، معناه أنك تحبه، أي ترغب فيه. هذه الرغبة إذا ما فكرنا فيها بشكل أصيل، تجلت لنا كهبة من الماهية. ومثل هذه الرغبة هي الماهية الخاصة بالقدرة التي ليس بوسعها فقط أن تحقق هذا أو ذاك، وإنما أن تعمل أكثر من ذلك على بسط شيء ما انطلاقا من مصدر حصوله، أي أنها تسمح بحصول كينونته. إن قدرة الرغبة وسلطتهـا هي هذا الذي “بموجب” ـه تكون لشيء ما بوجه خاص القدرة على الانوجاد(1). هذه القدرة عينها هي الـ “ممكن” الذي تستقر ماهيته في الرغبة. ما ينشده الوجود ويستطيعه انطلاقا من هذه الرغبة فيجعله ممكنا هو الفكر. فالوجود من حيث هو رغبة ـ تُـنْجَزُ ـ قُـدْرَة هو الـ “ممكن”. إنه من حيث هو العنصر، الـ “قوة الهادئة” للقدرة المحبة، أي للممكن. إن كلمتي: “الممكن” و “الإمكانية” لم يفكر فيهما بفعل هيمنة الـ “المنطق” والـ “ميتافزيقا” إلا في تعارضهما مع مفهوم “الواقع”، أي انطلاقا من تأويل ميتافيزيقي معين للوجود باعتباره وجودا بالفعل ووجودا بالقوة. هذا التعارض هو ما تتم مماهاته مع الوجود (existentia) بمعنى العرض ومع الماهيـة (essentia) بمعنى الجوهر. عندما أتحدث عن “القوة الهادئة” للممكن” فأنا أقصد بـها إمكان إمكانية متمثلة فقط، ولا أعني بـها الكمون باعتباره جوهر الوجود الفعلي كعرض، بل أقصد بـها الوجود ذاته. هذا الوجود الذي إذ يرغب، يحتفظ في رغبته بالسلطة وبالقدرة على الفكر. ومن ثمة على ماهية الإنسان، أي على العلاقة التي للإنسان بالوجود. فأن تقدر على شيء ما معناه : أن ترعاه في ماهيته وتحافظ عليه في عنصره.

حينما يكون الفكر على مشارف أفوله مبتعدا بذلك عن عنصره، يستعيض عن خسارته تلك بأن يضمن لنفسه قيمة ذات صبغة تقنية كأداة للتكوين، ليصير عاجلا تمرينا مدرسيا وينتهي بالتحول إلى ما يشبه مشروعـا ثقافيا. وشيئا فشيئا تصبح الفلسفة تقنية للتفسير من خـلال العلل والأسباب الأولى. هكذا نكف عن التفكير وننشغل ب “الفلسفة”. وفي لعبة السبق والتنافس هذه، يتم تقديم مثل هذه الانشغالات إلى المجال العمومي في شكل نـزعات… (… ية/…isme) تنـزع إلى المزايدة والمضاربة. وتفوق مثل هذه الملصقات وهيمنتها لا يرجع في شيء إلى الصدفة، وإنما يرتكز على ديكتاتورية الإشهار الخاص، خصوصا في الأزمنـة الحديثة. فما ندعوه بالـ “وجود الخصوصي” ليس بعد هو المهم ذلك الكائن الإنساني الحر، بل مجرد تصلب لنفي ما هو عمومي. ويبقى ذلك المطمور الذي يتوقف على كل هذا، ولا يقتات إلا من اختفائه في مواجهته، شاهدا بذلك رغما عنه على خدمته للإشهار. والحال أن الإشهار هو ذلك المجهـود اللامشروط ميتافزيقا ـمادام يمتح من هيمنة الذاتيةـ الذي يوجه انفتاح الموجود نحو الموضعة اللامشروطة لكل شيء ويدفع به نحو الإقامة هناك. لهذا السبب تسقط اللغة نفسها في خدمة الوظيفة التوسطية لوسائل المبادلة التي تستطيع الموضعة بواسطتها، من حيث هي ما يجعل كل شيء فـي متناول الجميع على نحو متشابه، أن تذهب إلى حد الاستهانة بكل الحدود. هكذا بصدد تقع اللغة تحت رحمة ديكتاتورية الإشهار. هذه الأخيرة هي التي تقرر مسبقا بصدد ما هو قابل للفهم وما هو بخلاف ذلك فينبغي التخلي عنه وإقصاؤه. إن ما قيل في “الوجود والزمان (1927″ عن الـ”هم” (الفصل : 27 و 35)(2) لم تكن الغاية منه أبدا أن يتحول هذا الموضوع إلى مساهمة في السوسيولوجيا. كما أن ضمير الـ “هم” لا يشير فقط إلى المطالبة على الصعيد الأخلاقي/الوجودي بالكينونة الحقة للشخص. إن ما قيل عن ضمير الـ “هم” يحتوي، من حيث انتماء الكلمة الأصيل للوجود، على إشارة مفكر فيها انطلاقا من السؤال عن حقيقة الوجود. إلا أن هذه الصلة تظل محتجبة مادامت تقع تحت هيمنة الذاتية التي تعرض نفسها كإشهار. ولكن عندما تصبح حقيقة الوجود وقد تذكرها الفكر، جديرة بأن يفكر فيها لذاتـها، آنذاك يصير التفكير في ماهية اللغة أيضا ملزما بأن يضمن لنفسه مكانة أخرى، فلا يسعه أبدا أن يكون مجرد فلسفة للغة. هـنا يكمن السبب الوحيد الذي من أجله يحتوي “الوجود والزمان” على إشارة إلى البعد الجوهري للغة تلامس هذا السؤال البسيط : على أي نحو من الوجود توجـد اللغة واقعيا كلغة ؟ إن اجتياح اللغة الذي طال كل الأنحاء وبوتيـرة سريعة، لا يتوقف فقط على المسؤولية ذات الطابع الجمالي والأخلاقي التي نتحملها في استعمالنا للكلام. بل يصدر عن وضع ماهية الإنسان موضع الخطر. وليست العناية البالغة التي قد نبديها في استعمالنا للغة، بدليل على أننا تخلصنا من هذا الخطر الجوهري، بل قد يكون اليوم دليلا على أننا لا نرى أبدا هذا الخطر، ولا يمكننا أن نراه لأننا لسنا بعد معرضين لبريقه. إن انحطاط اللغة الذي أصبحنا نتحدث عنه منذ وقت قريب وحتى وقت متأخر، ليس في جميع الأحوال سببا، بل نتيجة لسيرورة بموجبها خرجت اللغة شبه مرغبة تقريبا من عنصرها تحت سطوة الميتافزيقا الحديثة للذاتية. إن اللغة من حيث هي مأوى حقيقة الوجود، ما تزال تحجب عنا ماهيتها، رغم أنـها تقدم لنا نفسها في محض ما نريد وفي ممارساتنا كأداة للسيطرة على الموجود، حيث يتجلى لنا هذا الأخير نفسه في نسيج العلل والنتائج باعتباره الواقعي، فنعالجه من جانبا بـما هو كذلك ليس فقط بمواربة الحساب والممارسة، وإنما أيضا بواسطة علم وفلسفة ينهجان التفسيـر والتعليل. مع أننا نسمح لهما بدون شك، بالتخلي عن جزء مما ليس بقابل للتفسير، ونعتقد مع مثل هذه العبارات أننا في حضرة الغريب والعجائبي. كما لو كان من الممكن لحقيقة الوجود ألا تسمح لنفسها أبدا بأن تقوم على منوال العلل والأسباب المفسرة. أو وهذا نفس الشيء، على منوال عدم قابليتها للإدراك الخاصة بـها.

ولكن إذا كان على الإنسان أن يصل في يوم ما إلى الإقامة بالقرب من الوجود، فإن عليه قبل كل شيء أن يتعلم كيف يوجد فيما لا اسم له. وأن يعرف كيف يعترف بواقعة الإشهار على قدر اعترافه بضعف الوجود الخصوصي. إن عليه قبل أن ينبس ببنت شفة أن يدع نفسه أولا رهن إشارة دعوة الوجود له، وتحذيره إياه بفعل هذه الدعوة، من خطر عدم وجود ما يقوله سوى النزر اليسير، أو عدم وجود ما يقوله إلا نادرا. وحينئذ فقط يعود للكلام غنى ماهيته اللامتوقع، وللإنسان مسكنه في قلب حقيقة الوجود ليقيم فيه.

ولكن، أليس في دعوة الوجود هذه للإنسان، كما في محاولة إعداد الإنسان لـهذه الدعوة، مجهودا يهم الإنسان ذاته ؟ ما هي غاية “الـهمّ” (le souci) إذا لم تكن هي إعادة تشييد الإنسان في ماهيته؟ هل يعني هذا شيئا آخر غير جعل الإنسان إنسانا ؟ هكذا تحظى الإنسانية بمكانتها في قلب مثل هذا الفكر، لأن النزعة الإنسانية تقتضي ما يلي : لنفكر ونحرص على أن يكون الإنسان إنسانا لا “همجيا”، أي خارج ماهيته. والحال أين تكمـن إنسانية الإنسان ؟ إنـها تستقر في ماهيته.

كيف وانطلاقا مماذا تتحدد ماهية الإنسان ؟ إن ماركس يلح على أن “الإنسان الإنساني” تجب معرفته والاعتراف به. وقد وجد هذا الإنسان في الـ “مجتمع”. إن الإنسان “الاجتماعي” بالنسبة له هو الإنسان “الطبيعي”. إذ في “المجتمع” تؤمن بشكل منتظم “طبيعة” الإنسان، أي مجموع “حاجياتـه الطبيعية” (الغذاء ـ اللباس ـ إعادة الإنتاج ـ والضرورات الاقتصادية). أما المسيحي فيرى إنسانية الإنسان في تقاطعها مع الصفات الإلهية. فمن منظور تاريخ الخلاص، يكون الإنسان إنسانا باعتباره “ابن الله” الذي يبصـر نداء الأب في المسيح فيستجيب له. إنه ليس من هذا العالم مادام الـ”عالم” مفكرا فيه على نحو أفلاطوني/نظري، ليس سوى ممر عابر نحـو الماوراء. ولأول مرة تعرف فيه الإنسانية ويشار إليها صراحة بـهذا الاسـم، كان ذلك في عهد الدولة الرومانية، حيث الإنسان الإنساني يتعارض مع الإنسان “البربري”. لقد كان الإنسان الإنساني هو الروماني الذي يعظم ويعلي من شأن المهارة الرومانية من خلال “إدماج” ما كان قد باشره الإغريق تحت اسم الـ”بيديا” (p a i d e ß a ) (التكوين). والإغريق هنـا، هم أناس الهلينستية المتأخرة ذات الثقافة الملقنة في المدارس الفلسفية. هذه الثقافة تختص بالتنقيـب والتأسيس في الفنون الجملية. وقد كانت (البيدييا) مفهومة على هذا النحو تترجم بالإنسانية. وفي مثل هذه الإنسانية تكمن بحق رومانية الإنسان الروماني. هكذا انعثر على أول نزعة إنسانية في روما، وبهذا تكون الإنسانية في ماهيتها تجليا رومانيا محضا صادرا عن التقاء بين الرومانية والثقافة ذات النـزعة الهلينستية المتأخرة. وما سمي بالنهضة في روما إبان القرن الرابع عشر والخامس عشر، إنما هي نـهضة ذات نـزعة رومانية. ومادام الأمر يتعلق بالنزعة الرومانية، فالمسألة تتعلق بالإنسانية، ومن ثم بالـ”بيدييا” الإغريقية. لكن الهيلنستية المقصودة هنا، هي دائما تلك المعروفة في شكلها المتأخر ذي الصبغة الرومانية تحديدا. فالإنسان الروماني لعصر النهضة يتعارض بدوره مع الإنسان البربري (اللاإنساني). والمقصود باللاإنسانـي هنا، هو تلك البربرية المزعومة للسكولائية القوطية في العصر الوسيط. لـهذا السبب نجد أن النزعة الإنسانية في تجلياتـها التاريخية، تحتوي دائما على دراسة إنسانوية تقترن صراحة بالعهد القديم، وتقدم نفسهـا كل مـرة في شكل إحياء جديد للنـزعة الـهيلنستية. وهذا هو الشيء الذي يوقظ فينا النزعة الإنسانية للقرن الثامن عشر، كما جسدها “وانكلمان” Wincklman، غوته Goethe، وشلير Schillea. أما هولدرلين “Holderlin”فهو على العكس من هؤلاء لا ينتمي إلى النزعة الإنسانية، لسبب وجيه وهو أنه يفكر في قدر ماهية الإنسان بشكل أكثر أصالة مما تستطيعه هذه “النزعة الإنسانية”.

ولكن، إذا كنا نفهم من النزعة الإنسانية بصفة عامة ذلك المجهود الذي يرمي إلى جعل الإنسان حرا في إنسانية، ويخول له اكتشاف كرامته، فإن النزعة الإنسانية ستختلف والحالة هذه حسب المفهوم الذي لنا عن “الحرية” وعن “طبيعة” الإنسان. كما ستختلف بنفس الكيفية وسائل تحقيقها. فـ النزعة الإنسانية عند “ماركس” لا تقتضي أي رجوع إلى العهد القديم مثلها في ذلك مثل النزعة الإنسانية التي يدرجها “سارتر” تحت اسم: الوجودية. والمسيحية بدورها إذا ما نظرنا إليها بالمعنى الواسع المشار إليه سابقا، تمثل أيضا نـزعة إنسانية من حيث أن كل شيء في مذهبها رهين بخلاص الروح، وإن تاريخ الإنسانية يندرج في إطار تاريخ الخلاص هذا. ومهما اختلفت هذه النـزعات الإنسانية وتعددت من حيث هدفها، أساسها، نـمطها ووسائل تحقيقها أو من خلال شكل مذهبها، فهي تتفـق مع ذلك حول هذه النقطة الجوهرية : وهي أن إنسانية الإنسان الإنساني تكون دائما محددة انطلاقا من تأويل معد سلفا للطبيعة والتاريخ والعالم وأساس العالم، أي الموجود في كليته.

كل نـزعة إنسانية تقوم على أساس ميتافزيقي أو تكون هي نفسها هذا الأساس. وكل تحديد لـماهية الإنسان يفترض مسبقا، بوعي منـه أو بدون وعي، تأويلا للموجود دون أن يطرح السؤال بصدد حقيقة الوجود، يكون عبارة عن ميتافزيقا. لـهذا السبب نـجد أن كل ميتافزيقـا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الكيفية التي تحدد بـها ماهية الإنساني، تتجلى في كونـها ” تنـزع منـزعا إنسانيا” (إنسانوية). وبنفس الكيفية تظل كل نـزعة إنسانية ميتافزيقية. فـ النزعة الإنسانية في تحديـدها لإنسانية الإنسان، لا تكتفي فقط بعدم طرحها للسؤال عن علاقة الوجود بماهية هذا الأخير، وإنما تحول أكثر من ذلك دون طرحه متجاهلة إياه. والسبب في ذلك أنـها تضرب بجذورها في الميتافزيقا. هذا في حين أن الضرورة والشكل الخاص بـهذا السؤال الذي يروم حقيقة الوجود ـ وهو سؤال منسي في الميتافزيقا وبسببها ـ لا يمكنه أن يرى النور إلا إذا طرحنا في خضم الميتافزيقا ذاتـها هذا السؤال: “ماهي الميتافزيقا؟”. بل أكثر من ذلك أن على كل سؤال بصدد الـ “وجود”، وحتى ذلك الذي يروم حقيقة الوجود، أن يقدم نفسه منذ البداية كسؤال ميتافزيقي.

إن أو لنـزعة إنسانية، وأعني بـها تلك الخاصة بروما، وباقي أنواع النـزعات الإنسانية التي تلاحقت منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، يفترضن جميعا الـ “ماهية” الأكثر شمولية للإنسانية كبداهة. لقد اعتبر الإنسان حيوانا عاقلا. وهذا التحديد ليس فقط ترجمة لاتينية للكلمات الإغريقية التالية (x y o n l o g o n x c o n ) بل تأويلا ميتافزيقيا. وكل تحديد من هذا القبيل لماهية الإنسان لا يكون خاطئا بل مشروطا بالميتافزيقا. وما اعتبره “الوجود والزمان” جديرا بالسؤال، ليس فقط هو حدود هذا التأويل وإنما مصدره الأساسي كذلك. إن ما هو جدير بأن يوضع موضع سؤال، بـدل تركه تحت رحمة الفعل الهدام لنـزعة فارغة، قد أنيط بالفكر باعتباره ما ينبغي له هو نفسه أن يفكر فيه.

صحيح أن الميتافزيقا تتمثل الموجود في وجوده، وبذلك فهي تفكر في وجود الموجود. ولكنها لا تفكر في الاختلاف بين الوجود والموجود. (في ماهية السبب 1929 ص 8) (كانط ومشكلة الميتافزيقا. 1929، ص 225): (الوجود والزمان، ص 230). إن الميتافزيقا لا تطرح السؤال بصدد حقيقة الوجود نفسه، لهذا السبب فهي لا تتساءل ابدا عن الكيفية التي من خلالها تنتمي ماهية الإنسان إلى حقيقة الوجود. فهذا السؤال ليس فقط لم تطرحـه الميتافزيقا بعد، وإنما ليس في متناولها كميتافزيقا. إن الوجود ينتظـر دائما من الإنسان أن يتذكره باعتباره ما هو جدير بأن يفكر فيه.

بالنظر إلى هذا التحديد الماهوي للإنسان، سواء أحددنا عقلانية الحيوان أو عقل الكائن الحي كـ”ملكة مبادئ” أو كـ”ملكة مقولات” أو بأي كيفية أخرى، فإن ماهية العقل تتأسس دائما وفي كل جوابـها على ما يلي: بالنسبة لكل إدراك للموجود وفهم له في كينونته، يكون الوجود نفسه قد أضيء مسبقا وحصل في حقيقته. وبنفس الكيفية يقتضي مسبقا مصطلح “حيوان” ( x y o n ) تأويلا للـ “حياة” يستند بالضرورة على تأويل للموجود كبدن ( x w Þ ) وكفيزيس ( ö ý ü i V ) بداخلهما يظهر الكائن الحي. ولكن يبقى علينا من جهة أخرى أن نتساءل قبل كل شيء، ومن وجهة نظر أصيلة تقرر مسبقا بصدد كل شيء، هل ما إذا كانت ماهية الإنسان تكمن في بعد الحيوانية ؟ وبصفة عامة، هل نحن على الطريق الصحيح عندما نحدد الإنسان وطالما بقينا نحدده ككائن حي معارضين إياه بالنبات وبالحيوان وبالله ؟ بإمكاننا أن نسلك هذا النهج. وباستطاعتنا على هذا النحو أن نـموقع الإنسان داخل الموجود كموجود بين الموجودات الأخرى، فيكون بإمكاننا دائما أن نصدر في حقه عبارات صائبة. ولكن علينا أن نفهم جيدا أننا بـهذا ندفع بالإنسان إلى المجال الماهوي للحيوانية حتى وإن كنا نخصه باختلاف جوهري لنبتعد عن مماهاته بالحيوان. إذ مبدئيا سنفكر دائما في الإنسان الحيواني حتى وإن افترضنا أن هذا الحيوان حي وعاقل، واعتبرناه بعد ذلك ذاتا أو شخصا أو روحا. ومثل هذا الموقف هو ما تتوخاه الميتافزيقا. لكنه تقدير فقير جدا لماهية الإنسان، مادام لم يفكر فيها من خلال مصدر حصولـها؛ ذلك المصدر الماهوي الذي يظل باستمرار بالنسبة للإنسانية التاريخية المستقبل الأساسي.

إن الميتافزيقا تفكر في الإنسان انطلاقا من الحيوانية، لكنها لا تفكر باتجاه إنسانيته. إن الميتافزيقا تصدر عن أبسط معطى أساسي، وهو كون الإنسان لا يبسط في ماهيته إلا من حيث هو مدعو من طرف الوجود. إذ انطلاقا من دعوة الوجود هذه له ومطالبته به، أنوجد هناك حيث تقيم ماهيته. وانطلاقا من هذه الإقامة “كانت له” اللغة كمأوى يحرس لماهيته خاصيتها الدهولية اللدنية(3). وما ادعوه بالانوجاد هو المكوث في نور الوجود وانفتاحه. إنه كيفية تخص الإنسان وحده. ولهذا فالانوجاد من حيث هو كذلك ليس فقط أساس إمكانية العقل، بل هو الذي فيه ومن خلاله ترعى ماهية الإنسان مصدر حصولها وتحديدها.

إن الانوجاد لا يمكنه أن يقال إلا عن ماهية الإنسان، أي عن الكيفية الإنسانية في “الكينونة”. ذلك أن الإنسان وحده يكون وذلك بقـدر ما نمتلك عنه تجربة منخرطة في قدر الانوجاد. لهذا السبب فالانوجاد إذا ما افترضنا أن قدر الإنسان أن يفكر في ماهية كينونته، وليس فقط أن ينشيء صلات حول بنيته وفعاليته انطلاقا من رؤية العلوم الطبيعية والتاريخية، لا يمكن أن يفكر فيه كنمط متميز يخص الكائن الحي من بين أنماط أخرى. هكذا يستمد أيضا ما نسبناه للإنسان انطلاقا من مقارنته “بالحيوان” كحيوانية، أساسه من ماهية الانوجاد. أما جسد الإنسان فهو شيء أخر يختلف ماهويا عن الجهاز العضوي للحيوان. وخطأ النـزعة البيولوجية لم يتم تجاوزه بمجرد اقران الواقع الجسدي للإنسان بالروح والروح بالذهن والذهن بالخاصية الوجودية، والتأكيد بعد ذلك بقوة على القيمة العليا للذهن، ومن تم اخنزال كل شيء في التجربة الحياتية غير مدخرين جهدا في التنديد بكون الفكر يهدم مجرى الحياة بفعل مفاهيمه المتصلبة، وبأن فكر الوجود يشوه الواقع. إن قدرة الفيزيولوجيا وكذلك الكمياء الفيزولوجية على دراسة الإنسان كجهاز عضوي من وجهة نظر العلوم الطبيعية، لا يبرهن في شيء على أن ماهية الإنسان تكمن في هذه “الخاصية العضوية”، أي في الجسد المشرح علميا. فهذا يشبه إلى حد كبير محاولة حصر ماهية الطبيعة في الطاقة الذرية. في حين أن الطبيعة من المحتمـل جدا أن تكون قد اختفت ماهيتها بالضبط في الجانب الذي تقدمه لهيمنه التقنية بواسطة الإنسان. وبالمثل فماهية الإنسان لا تكمن أبدا في كونـها مجرد جهاز عضوي حيواني. وهذا القصور في التحديد الماهوي لإنسان لا يمكن استبعاده أو اختزاله بمجرد أن نخلع على الإنسان روحا خالدة أو ملكة عقلية أو خاصية تجعل منه شخصا. ذلك أننا في جميع هذه الحالات نكون قد انحزنا إلى جانب الماهية، ولكن من منطلق نفس المشروع الميتافزيقي.

إن ما يكونه الإنسان، أي “ماهيته” باللسان التقليدي للميتافزيقا، يكمن في انوجاده. لكن الانوجاد مفكر فيه على هذا النحو لا يتطابق مع الوجود (بالمعنى التقليدي، أي الوجود بالفعل) الذي يشير إلى الواقع في تعارضه مع الماهية. (بالمعنى التقليدي أيضا، أي الوجود بالقوة = الجوهـر = الشيء في ذاته) باعتباره إمكانية. نجد في “الوجود والزمان، ص 42). هذه العبارة مكتوبة بأحرف بارزة : “إن ماهية الدزاين تكمن في وجوده”. ولكن الأمر هنا لا يتعلق بتعارض بين الوجود والماهية (بالمعنى المشار إليه سابقا، لأن هذين التحديدين الميتافزيقيين للوجود بصفة عامة وأكثر من ذلك للعلاقة بينهما، ليسا بعد موضع سؤال. كما أن العبارة لا تحتوي على قضـية عامة عن الدزاين ـ هذا إذا ما كان ينبغي لـهذه التسمية (الدزاين= Da-sein) التي ظهرت في القرن الثامن عشر للدلالة على “الموضوع”(4) أن تعبر عن المفهوم الميتافزيقي الذي يشير إلى واقعية الواقـع ـ بل إنـها تريد القول بأن الإنسان يبسط ماهيته على نحو يجعله بالضبـط هو هذه الـ “هنا”، أي ضياء الوجود وانفتاحه. فـ “كينونة” الـ “هنا” هذه تشتمل بمفردها فقط على الخاصية الأساسية للانوجاد، أي على الإقامة اللدنية في حقيقة الوجود. فالماهية اللدنية للإنسان تكمن في الانوجاد الذي لا يتطابق بأي حال مع الوجود الفعلي مفكر فيه ميتافزيقيا. هذا الوجود الفعلي (الوجود بالفعل: existence) تجلى للفلسفة عبر العصور باعتباره عرضية: (Actualitas). وقدمه “كانط” كواقع بمعنى موضوعية التجربة. وحدده “هيغل” كفكرة للذاتية المطلقة التي تتعرف على نفسها. وتمثله “نيتشه” كعود أبدي لذات الشيء. أما فيما يتعلق بمعرفة هل ما إذا كان مفهوم الوجود الفعلي هذا في تأويلاته كواقع تأويلات لا تختلف إلا في الظاهر، يكفي للتفكير في كينونة الحجر أو حتى في الحياة ككينونة للنبات والحيوان، فإن هذا السـؤال سنتركه معلقا. يبقى أن الكائنات الحية تظل بما هي عليـه دون أن يكون بوسعها أن تقيم في حقيقة الوجود، أو تحرص في وضعها هذا على ما يجعل كينونتها تبسط ماهيتها. الظاهر أن الكائن الحي من اصعب الكائنات الموجودة التي يمكن التفكير فيها، لأن هوة من ماهيتنا الانوجادية تفصلنا عنه وإن كان أكثر قرابة منا بشكل من الأشكال. هذا في حين أن ماهية المقدس تبدو أكثر قربا منا من هذا الواقع الممتنع للكائنات الحية. وأعني بالقرب هنا مسافة ماهوية من طبيعة مغلقة على أسرارها لا يمكن تصورها إلا بصعوبة من حيث هي مسافة أشد حميمية مع ماهيتها الانوجادية من القرابة الجسدية التي لنا مع الحيوان. إن مثل هذه الأفكار والتصورات تلقي بأضواء غريبة على الطريقة المعتادة ومن تم المتهافتة في تحديد الإنسان كحيوان عاقل. فإذا كانت النباتات والحيوانات محرومة من اللغة فما ذلك إلا لأنـها تظل سجينة مجال محيطها دون أن يكون باستطاعتها أبدا أن تقيـم في نور الوجود وانفتاحه. والحال أن نور الوجود وانفتاحه هذا هو ما ندعوه بالـ”عالم”. وليس امتناع اللغة عن هذه الكائنات الحية هو ما يجعلها سجينة بيئتها دونـما عالم. ففي كلمة “المحيط البيئوي” يتكاثف بشكل عميق لغز الكائن الحي. إن اللغة في ماهيتها ليست وسيلة يتخارج من خلالها الجهاز العضوي. كما أنـها ليست تعبير الكائن الحي. لـهذا السبب ما كان بوسعنا أبدا أن نفكر فيها بكيفية تنسجم مع ماهيتها انطلاقا من قيمة دوالـها. ولا ربما حتى انطلاقا من قيمتها الدلالية. فاللغة هي المجيء ـ المضيء ـ المفسح ـ المفصح والكاتم في نفس الوقت للوجود ذاته.

إن الانوجاد مفكر فيه على نحو لدني (صوفي)، لا يلتقي أبدا سواء من حيث شكله أو محتواه مع الوجود الفعلي. إنه يدل بالنظر إلى حقيقة الوجود على الانخطاف والانتشاء. أما الوجود بالفعل (existence) فيـدل من جهته على الراهن، أو الواقع في مقابل الإمكانية المحضة باعتبارها فكرة. فالانوجاد إذن يدل على ما يكونه الإنسان في قدر الحقيقة. أما الوجود بالفعل فهو الإسم الذي نخص به تحقق ما يكونه شيء ما عندما يتجلى في فكرته. إن عبارة: “الإنسان ينوجد (يكون)” ليست جوابا على سؤال بصدد “ماهية” الإنسان. هذا السؤال يظل مطروحا بشكل سيئ سواء سألنا عما يكونه الإنسان ؟ أو عمن هو الإنسان ؟ لأننا مـع هذه الـ “من” أو الـ “ما”، ننظر إليه مسبقا باعتبار شخصا أو موضوعا. في حين أن مقولة الشخص مثلها في ذلك مقولة الموضوع، تسمح في نفس الوقت بانفلات وحجب ما يجعل الانوجاد التاريخي/الانطولوجي يبسط ماهيته. لـهذا السبب جاءت كلمة “ماهية” في الجملة الواردة في “الوجود والزمان، ص 42” والمذكورة أعلاه، موضوعة بين قوسين. والمراد بذلك هو الإشارة إلى كون الماهية لم تعد تحدد أبدا لا انطلاقا من الموجود الماهوي ولا انطلاقا من الموجود الوجودي، وإنما انطلاقا من الخاصية اللدنية للدزاين (الكينونة ـ هنا). فبقدر ما ينوجد الإنسان يتحمل الكينونة ـ هنا. لكن هـذه الأخيرة نفسها تبسط ماهيتهـا في ما يبسطه الوجود. هذا الوجود الذي هو قدر وبعث وحصول.

إن إرادة تفسير هذه القضية حول الماهية المنوجدة للإنسان، كما لو كانت نقلا وتحريفا دنيويا لفكرة اللاهوت المسيحي عن الله: “الله هو موجد الوجود”، وقد تم تطبيقها عن الإنسان، لهو أكبر احتقار. ذلك أن الانوجاد ليس أبدا تحقيقا لماهية حتى لا ينتج أو يضع هو نفسه مقولة الماهية، فأن نفهم “المشروع” الذي يتعلق الأمر به في “الوجود والزمان” كفعل لحمل شيء ما إلى التمثل، هو أن نعتبره كتحقيق للذاتية، فلا نفكر فيه مطلقا باعتباره الوحيد الذي بإمكانه التفكير في “وعي الوجود” في نطاق “التحليـل الوجودي” للوجود ـ في ـ العالم كعلاقة لدنية بنور الوجود وانفتاحه. إن الاتمام والاكتمال الكافي لـهذا الفكر المغاير الذي يغادر الذاتية، قد أصبح أكثر صعوبة ما دام الفصل الثالث من الجزء الأول من “الوجود والزمان”، لم ينشر غداة ظهور هذا الأخير. (انظر الوجود والزمان، ص 39). حيث في هذه النقطة بالذات ينقلب كل شيء رأسا على عقب. وإذا كان هذا الفصل لم ينشر فذلك لأن الفكر لم يصل إلى التعبير عن هـذا القلب بطريقة كافية، وما كان له أن يذهب بعيدا في التعبير عن ذلك بلسان الميتافزيقا.

إن المحاضرة التي تحمل عنوان: “في ماهية الحقيقة”، والتي تم التفكير فيها وإلقاؤها سنة 1930، ولم تنشر إلا في سنة 1943، تسمح لنا قليلا بتبين فكرة قلب الوجود والزمان إلى الزمان والوجود. هذا القلب لم يكن تعديلا لوجهة نظر “الوجود والزمان”، وإنما ما منه فقط أمكن للفكر الـذي يبحث عن نفسه أن يصل إلى منطقة بعدوية، انطلاقا منها احتك “الوجود والزمان: واكتملت خبرته من خلال التجربة الأساسية لنسيان الوجود.

إن “سارتر” يصوغ على العكس من ذلك، مبدأ الوجودية على النحو التالي : الوجود يسبق الماهية. وهو هنا يفهم الوجود (existence = الوجود بالفعل) والماهية (essentia = الوجود بالقوة)، بالمعنى الميتافزيقي الذي يرى منذ أفلاطون أن الماهية سابقة عن الوجود. إنه يقلب حقا هذه القضية. لكن أي قلب لقضية ميتافزيقية يظل قضية ميتافزيقية. فتظل من حيث هي كذلك استمرارا في نسيان حقيقة الوجود. سواء حددت الفلسفة بالفعل علاقة الماهية بالوجود بالمعنى المدرسي (الجدالي) للقرون الوسطى، أو بالمعـنى اللايبنيزي أو بأي كيفية أخرى، فإن علينا أن نتساءل أولا وقبل كل شيء عن قدر الوجود الذي انطلاقا منه حدث هذا التمييز في قلب الوجود بين الوجود الماهوي (الوجود بالقوة) والوجود الفعلي (الوجود بالفعل) أمام الفكر؟ وأن نفكر لماذا لم يطرح أبدا السؤال بصدد قدر الوجود، ولماذا لم يكن من الممكن التفكير فيه. ولكن أليس مصير هذا التمييز بين الماهية والوجود، دليلا على نسيان الوجود ؟ لنا كل الحق في افتراض أن هذا القدر لا يرجع سببه إلى مجرد إهمال الفكر الإنساني له، ولا حتى إلى ضعف مقدرة الفكر الغربي في بداياته. بل إن هذا التمييز المستتر مصدر حصوله الماهوي بين الماهية والوجود، يهيمن على قدر التاريخ الغربي وعلـى كل التاريخ مثلما حددته أوربا.

إن المبدأ الأول لوجودية “سارتر” الذي يقول بأسبقية الوجود على الماهية، يبرر بالفعل إطلاق اسم “الوجودية” على هذه الفلسفة. ولكنه لا يمتلك أدنى نقطة اتصال أو تشابه مع الجملة الواردة في “الوجود والزمان”. ناهيك عن الحديث عن كون أية فرضية حول العلاقة بين الوجود والماهيـة، لا يمكنها مطلقا أن تصاغ في هذا الكتاب، مادام الأمر فيه يتعـلق فقط بإعداد أرضية قبلية ذات أسبقية. أرضية لا يمكن بلوغها تبعا لما قلناه سابقا، إلا بكيفية مشوبة بكثير من النقص. يبقى أن الذي علينا قوله اليوم ولأول مرة، يمكنه أن يشكل حافزا يقود ماهية الإنسان نحو ما من شأنه أن يجعلها ـ وهي تفكر ـ تضع نصب أعينها بُعد حقيقة الوجود المهيمن كليا عليها. وأي حدث من هذا القبيل لا يمكنه أن يحصل في كل مرة إلا من أجل كرامة الوجود ولصالح هذه “الكينونة ـ هنا” التي يتحملها الإنسـان في الانوجاد، وليس لحساب الإنسان لكي تلمع بفعل فعاليته الحضارة والثقافة.

إذا كنا نحن اليوم، نريد الوصول إلى هذا البعد لحقيقة الوجود حتى نكون ونفكر فيه، فإن علينا قبل كل شيء أن نبين بوضوح، كيف أن الوجود يقتحم الإنسان، وكيف أنه يطالب به ويدعوه إليه. ومثل هذه التجربة الماهوية هي ما يعطي لنا عندما نبدأ بفهم أن الإنسان لا يكون إلا بقدر ما ينوجد. وإذا أردنا أن نعبر عن هذا بلسان التراث نقول: “انوجاد الإنسان “جوهرةُ”. لهذا السبب ما فتئت العبارة التالية الواردة في “الوجود والزمان”، ص 177 ـ 212 ـ 314 : (“جوهر” الإنسان وجوده) تتكـرر في عدة سياقات. إلا أن كلمة “جوهر” هذه، مفكرا فيها في إطار تاريخ الوجود، هي ترجمة محرفة سابقا لكلمة “أوسيا” (ousia) التي تدل على حضور ما هو حاضر، كما تشير في معظم الأحيان، بشيء من الغموض الملغز، إلى هذا الذي هو نفسه حاضر. أما إذا ما فكرنا في المصطلح الميتافزيقي للـ”جوهر” بـهذا المعنى الذي ينقال في الوجود والزمان، انسجاما مع “التقويض الفنومنولوجي” المنجز في هذا الكتاب، فإن معنى العبارة: (“جوهر” الإنسان وجوده) هو ما يلي ولا شيء غيره: إن الكيفية التي يكون الإنسان تبعا لـها حاضرا في ماهيته الخاصة بالنسبة للوجود، هي الإقامة اللدنية في حقيقة الوجود. وهذا التحديد الماهوي لماهية الإنسان لا يفترض إن التأويلات الإنسانوية لـهذا الأخير كحيوان عاقل أو كـ”شخص” أو ككائن ـ روحاني ـ مزود بروح وجسد، تأويلات خاطئة ومستبعدة من طرفه. بل إن قصده الوحيد هو قبل شيء التأكيد على أن أسمى التحديدات الإنسانوية لماهية الإنسان لم تتعرف بعد على الكرامة الخاصة به. بهذا المعنى يكون الفكر الذي يفصح عن نفسه في “الوجود والزمان” ضد النزعة الإنسانية. لكن هذا التضاد والاعتـراض لا يعني بأي حال من الأحوال أن مثل هذا الفكر يتجه بخلاف ما هو إنساني، داعيـا إلى اللاإنساني، مدافعا عن الهمجية وحاطا من كرامة الإنسـان. فإذا كنا نفكر ضد النزعة الإنسانية فذلك لأن هذه الأخيرة لا ترقى بإنسانية الإنسان إلى مرتبة سامية جدا. إن السمو الماهوي للإنسان لا يكمـن بكل تأكيد في كونه يشكل جوهر الموجود كـ “ذاتّ لـهذا الأخير، لينحل في “الموضوعية” المشهورة إلى حد الابتذال، من حيث هي مستودع قوة الوجود، أي موجودية الموجود.

إن الإنسان قد “ألقى ـ به” قبل كل شيء في حقيقة الوجود من طرف الوجود نفسه، حتى يحرص بانوجاده على هذا النحو على تلك الحقيقة، وينجلي له الموجود في نور الوجود باعتباره الموجود الذي يوجد. أما فيما يتعلق بمعرفة هل ما إذا كان الموجود يتجلى وبأية كيفية يتم له ذلك، وهل ما إذا كان الإله والإلهة وكذلك التاريخ والطبيعة يلجن في نـور الوجود وانفتاحه، وما هي الكيفية التي بـها يلجـن فيه، وهل ما إذا كن حاضرين أو غائبين، فإن الإنسان ليس له أن يقرر بشان ذلك. إن قدوم الموجود إلى نور الوجود يكمن في قدر الوجود. أما بالنسبة للإنسان فالمسألة تبقى رهينة بمعرفة هل ما إذا كان يجد الانسجام الخاص بماهيته للتوافق مع هذا القدر، مادام عليه من حيث هو من ينوجد، أن يحرص تبعا لـهذا القدر على حقيقة الوجود. إن الإنسان هو راعي الوجود. وهذا بالضبط ما حمل “الوجود والزمان” على عاتقه مهمة التفكير فيه عندما اختبـر الوجود اللدني باعتباره “هما” (SS44, a. p 226 sq). ولكن، ما هو الوجود يا ترى ؟ ـ إن الوجود هو ما هو، هذا ما يتوجب على الفكر مستقبلا أن يتعلم سبر غوره وقوله . فالـ “وجود” ليس إله أو أساس العالم. إنه من بين كل الموجودات الأكثر بعدا عن الإنسان. ومع ذلك فهو الأقرب إليه من أي موجود آخر سواء كـان صخرة أو حيوانا أو عملا فنيـا أو آلة أو ملاكا أو الإله نفسه. الوجود هو الأقرب إليه. لكن الإنسان، رغم أن هذه القرابة هي أكثر ما هو موغل في التواري عنه، لا يتعلق دائما وقبل كل شيء سوى بالموجود فقط. صحيح أن الفكر عندما يتمثل الموجود كموجود، يحال إلى الوجود. لكنه في حقيقـة الأمر لا يفكر باستمـرار إلا في الموجود كما هو وليس أبدا في الوجود بما هو كذلك. وبالتالي يظل “سؤال الوجود” هو دائما ذلك السؤال الذي يقصد الموجود (يحمل على الموجود). فسؤال الوجود ليس بعد بأي حال من الأحوال، هو ما تدعي هذه التمسية المزيفة : “السؤال الذي يُـحمَل على الوجود” الإشارة إليه. والفلسفة لا تحيد مطلقا عن خط التمثل الميتافزيقي هذا حتى عندما تكون “نقدية” كما عند “ديكارت” و “كانط”. إنـها تفكر انطلاقا من الموجود باتجاه هذا الموجود نفسه مرورا بنظرة وساطة عن الوجود، لأن كل خـروج من الموجود ورجوع إليه يتموقع مسبقا في نور الوجود.

إن الميتافزيقا لا تعرف نور الوجود وانفتاحه إلا باعتباره ذلك النظر المتجه صوبنا من جانب ما هو حاضر في “التجلي” (ß ò Ý á = أيدينا = فكرة = مثال). أو باعتباره من وجهة نظر نقدية، ما تبلغه الذاتية بواسطة التمثل المقولاتي. وهذا معناه أن حقيقة الوجود، من حيث هي ذلك النور والانفتاح نفسه، تظل متوارية عن الميتافزيقا. لكن هذا الاختفاء والتواري ليس بأي حال من الأحوال نقصا أو قصورا في الميتافزيقا، بل مصدر كنزها وغناها الخاص الذي هو محتجب عنها وإن كان ماثلا فيها. والحال أن هذا النور والانفتاح هو الوجود نفسه. إنه ما يخول للإنسان على امتداد قدر الوجود في الميتافزيقا فضاء الرؤية هذا، حيث ما هو حاضر يصيب الإنسـان الذي يكون بدوره حاضرا بالنسبة له على نحو به فقط يستطيع هذا الأخير نفسه أن يلامس الوجود في الإدراك (نوين: í ï å é í ) (Aristote. Met. T. 10). وحده فضاء الرؤية هذا يجذب إليه مرمى النظر، ويتفرغ إليه في الإدراك الذي أصبح تمثلا منتجا في الكوجيطو، أي في إدراك ذات التفكير والوعي بـها كذاتية لليقين. هل لنا أن نطرح هذا السؤال: كيف يأتي الوجود إلى الانوجاد؟ إن الوجود نفسه هو العلاقة: ذلك أنه يحمل الانوجاد إلى ذاته في ماهيته الانوجادية، أي اللدنية. يأتي بـهذه إلى ذاتـها باعتبارها المجال الذي تقيم فيه حقيقة الوجود في قلب الموجود. ومادام الإنسان يتوصل كمنوجد إلى الإقامة في هذه العلاقة التي فيها ينبعث الوجود ذاته ويصير، مناصرا إياها لدنيا، أي محتملا لـها في الـهم، فإنه يجهل هذا الذي هو أكثر قربا منه أولا (الوجود)، ويتعلق فقط بما لا يأتي إلا لاحقا (الموجود) إلى حد الاعتقاد أن هذا الأخير هو الأقرب إليه، هذا في حين أن القرب ذاته (La proximite = حركة الاقتراب ومسافة الجوار)، أي حقيقة الوجود، هي الأكثر قربا مما هو أقرب إليه، والأكثر بعدا في نفس الوقت بالنسبة للفكر العادي مما هو أكثر بعدا عنه.

أما ما يدعوه “الوجود والزمان” بالـ “سقوط”، هو نسيان حقيقة الوجود بفعل اجتياح للموجود غير مفكر فيه في ماهيته. وكلمة “سقوط” هنا لا تشير إلى خطيئة الإنسان بالمعنى الفلسفي الأخلاقي وقد جرد من سياقه الديني، أي بالمعنى الوضعي. بل إلى صلة ما هوية للإنسان بالوجود داخل علاقة الوجود بماهية الإنسان. وبنفس الكيفية لا يقتضي مصطلحا : “الأصيل” و “الزائف” اللذان يـمهدان لـهذا التفكير، أي اختلاف أخـلاق/وجودي أو انتروبولوجي، وإنما يشيران إلى هذه العلاقة “اللدنية” لماهية الإنسان بحقيقة الوجود التي تدعونا للتفكير فيها قبل كل شيء، لأنـها ظلت إلى حد الآن مستترة عن الفلسفة. إلا أن هذه العلاقة لا تكون بما هي عليه على أساس الانوجاد، بل إن ماهية الانوجاد هي التي تكون على العكس من ذلك وجودوية ـ لدنية انطلاقا من ماهية حقيقة الوجود. إن هذا وحده هو “الشيء” البسيط الذي أراد الفكر الساعي إلى التعبير عن نفسه لأول مرة في “الوجود والزمان” بلوغه. والوجـود من حيث هو هذا “الشيء” البسيط نفسه يظل ملغزا باستمرار. إنه القرب العاري لقوة لا جبرية. هذا القرب والجوار يبسط ماهيته باعتبارها هي اللغـة ذاتـها. إلا أن اللغة هنا، ليست أبدا مجرد لغة بالمعنى الذي نتمثلها به فقط، أي باعتبارها في أحسن الأحوال وحدة لعناصر ثلاثة هي : البنية الصوتية (الخط والرسم)، اللحن والإيقاع ثم الدلالة (أو المعنى)، لنرى بعد ذلك في البنية الصوتية والخطية جسد الكلمة، وفي اللحن والإيقاع روحها، وفي القيمة الدالة فكر اللغة. فنحن عندما نفكر في ماهية اللغة عادة ما نماثلها بماهية الإنسان، حيث الماهية هنا قد تم تمثلها كحيوان عاقل، أي كوحدة لجسد وروح وفكر. وكما أن الانوجاد، ومن تم علاقة حقيقة الوجود بالإنسان, قد ظل محتجبا في إنسانية الإنسان الحيواني، كذلك يخفي التأويـل الميتافزيقي للغة على نمط الحيوان، ماهيتها التاريخية/الانطولوجية التي تكـون اللغة تبعا لـها مسكنا للوجود، بفعلها يحصل وعليها يتجمع. لـهذا السبب من المفيد أن نفكر في ماهية اللغة في توافقها مع الوجـود من حيث هي هذا التوافق نفسه، أي من حيث هي مأوى ماهية الإنسان. لكـن الإنسان ليس فقط هو ذلك الكائن الحي الذي يتوفر على اللغة بالإضافة إلى مقدورات أخرى. بل إن اللغة قبل كل شيء هي مسكن الوجود حيث يقيم الإنسان. وعلى هذا النحو ينوجد منتميا إلى حقيقة الوجود التي هو حارسها.

يترتب إذن عن هذا التحديد لإنسانية الإنسان كانوجاد، أن المهم ليس هو الإنسان، بل الوجود كبعد للدنية الانوجاد. والبعـد هنا ليـس هو ما نعرفه كحيز فضائي، بل إن كل حيز فضائي وكل فضاء/زماني يبسط ماهيته في هذا البعدوي الذي هو الوجود نفسه بما هو كذلك.

إن الفكر شديد العناية بهذه العلاقات البسيطة، إنه يبحث في قلب اللسان التراثي القديم للميتافزيقا وفي نحوها عن الكلام الذي يعبر به عن تلك العلاقات. بقـي لنا أن نعرف هل ما إذا كان من الممكن لـهذا الفكر أن يتحدد كـ النزعة الإنسانية، مع افتراض أن مثل الملصقات يمكنها أن تكـون ذات محتوى. بكل تأكيد: لا، نظرا إلى كون النزعة الإنسانية تفكر من وجهة نظر ميتافزيقية، ولا إذا كانت هذه النزعة نزعة وجودية إليها تنتمي عبارة “سارتر” التالية: “إننا بالضبط على تصميم حيث لا يوجد إلا الناس فقط”. بحيث لواردنا أن نفكر في هذا انطلاقا من “الوجود والزمان” لوجب علينا أن نقول: “إننا بالضبط على تصميم حيـث مبدئيا هناك الوجود”. ولكن ما هو التصميم؟ وما مصدره؟ إن الوجود والتصميم يتماثلان. لذا قيل في “الوجود والزمان، ص 212” بحذر شديد وبمعرفة تامة بالأسباب: “هناك الوجود”. وهذه الـ “هناك” (Il y’a)(5) لا تترجم بدقة عبارة “esgibt”. لأن الضمير “es”: (Il) الذي يعطي (donne = gibt) هو الوجود نفسه. وكلمة “يعطي” هذه، تعين في كل الأحوال ماهية الوجود باعتبارها هي من يعطي ويخول ماهيتها، وما ينعطي بذاته لذاته في المنفتح بواسطة هذا المتفتح هو الوجود نفسه… إن العبارة: “هنـاك وجود” قد وظفت كذلك من أجل أن نتجنب مؤقتا قول: “الوجود يوجد”، لأن كلمة “يوجد” هذه تقال عادة عن شيء ما كائن ندعوه بالموجود. فأن تقول عن الوجود بأنه “يوجد” دون أن ترفق ذلك بأي تعليق معناه أن تتمثله بسهولة كـ “موجود” كائن على نمط الموجود المعروف الذي منتج باعتباره علة، ومنتوج باعتباره نتيجة. ومع ذلك فقد سبق لبارمنيدس أن قال: “يوجد بالفعل وجود” أو “هناك في حقيقة الأمر وجودا”. في هذا الكلام يختفي الأصل العجيب لكل فكر. ربما لا يمكن لكلمة “يوجد” “هناك” أن تقال بحق إلا عن الوجود، بحيث إن كل موجـود لا “يوجد” ولا يمكنه أبدا أن “يكون”. ولكن على الفكـر أولا أن يتوصل إلى قول الوجود في حقيقته، بدل أن يفسره كموجود انطلاقا من الموجود ذاته. كما ينبغي لـهذا السؤال أن يبقى مفتوحا أمام الحـذر اليقظ للفكر: هل يوجد الوجود؟ وكيف؟

إن عبارة بارمنيدس: “هناك في حقيقة الأمر وجود”، لم يتم التفكير فيها اليوم بعد. وباستطاعتنا أن نقيس من خلال هذا، مدى التقدم الحاصل في الفلسفة. فهذه الأخيرة عندما تكون حريصة على ماهيتها لا تتقدم، بل تراوح مكانـها بوعي منها لتفكر بتبات في ذات الشيء: Le Même. أما التقدم، أي الابتعاد عن هذا المكان فهو الخطأ الذي يلاحق الفكر باعتباره الظل الذي يصدر عنه. إن الوجود لم يفكر فيه بعد، لذا قيل في “الوجود والزمان”: “إنه هناك” [أي يوجد في حركة انعطائه التي هي ذاته باعتبارها ما يعطي ومن يعطي ]. ولكننا لا نستطيع أن نتحدث عن هذه الـ “هنـاك” أو الـ “يوجد” أو الـ “ينعطي” [وكلها عبارات لـها نفس المعنى المضمر في : Il y’a) أو (esgibt] من غير استعداد أو سند. إنـها تـهيمن كقدر للوجود الذي يأتي تاريخه إلى اللغة في كلام المفكرين الأساسيين. لـهذا السبب كان الفكر الذي يفكر من حيث هو فكر باتجاه حقيقة الوجود، فكرا تاريخيا (بالمعنى الأصيل). لا وجود إذن لفكر “نسقـي” تقترن به استوغرافيا الآراء السابقة على سبيل الشهرة. كما ليـس هناك نسق يستطيع، مثلما يعتقد “هيغل”، أن يضع قانون فكره كقانون للتاريخ، ليقوم من تم بتذويب التاريخ في النسق. ولكن هنـاك تاريخ للوجود مفكر فيه على نحو أصيـل، إليه ينتمي الفكر كفكر متـذكر ـ في ـ الوجود لهذا التاريخ الذي به يكون حصوله. وهذا الفكر ـ المتذكر ـ في ـ الوجود، يختلف ماهويا عن مجرد إحياء لذكرى التاريخ باعتباره ماضيا ينساب. فالتاريخ لا يقع باعتباره حدثا. والحدث ليس إنسيابا زمنيا. بل إنه ما يبسط ماهيته كقدر لحقيقة الوجود انطلاقا من هـذا الأخير. (هولدرلين وماهية الشعر: 1951، ص 47). إن الوجـود يأتي إلى قدره من حيث هو هو. إنه ينعطي الشيء الذي يعني أن الوجود وقد فكر فيه انسجاما مع هذا القدر، ينعطي ويمتنع في نفس الوقت، [يتجلى ويحتجب]. هذا في حين أن التحديد الهيغلي للتاريخ كتطور “للروح” ليس خاطئا. وهذا ليس معناه أنه مخطئ في جانب ومحق في آخر. بل إنه تحديد صحيح صحة الميتافزيقا ذاتـها، التي حملت لأول مرة عند “هيغل” ماهيتهـا مفكرا فيها على نحو مطلق إلى اللغة في النسق. إن الميتافزيقا المطلقة تنتمي شأنـها في ذلك شأن كل أشكال القلب التي ألحقها بـها “ماركس” و”نيتشه”، إلى تاريخ حقيقة الوجود. وما ترتب عنها لا يمكننا معالجته أو إلغاؤه من خلال دحضه. بل لا يسعنا إلا استقباله من حيث هو ماهيتها وقد أرجعت على نحو أصيل إلى الوجود نفسه، محتجبة فيه ومنسحبة من دائرة الرأي الإنساني المحض. إن كل دحض في حقل الفكر الماهوي، هو بمثابة لا ـ معنى. وما الصراع بين المفكرين إلا “خصام عشاق” مرده إلى ذات الشيء. إنه يساعدهم تباعا على بلوغ الانتماء البسيـط لذات الشيء، حيث يجدون التوافق مع قدرهم داخل قدر الوجود.

إذا قدر للإنسان مستقبلا أن يصل إلى التفكير في حقيقة الوجود فسيفكر فيها انطلاقا من الانوجاد. إنه يقيم من حيث هو منوجد، داخل قدر الوجود. وانوجاده هذا لا يكون إلا من حيث هو انوجاد تاريخي. وهذا ليس مرده أبدا إلى مجرد كون كل ضروب الأشياء تنبثق مع الإنسان والقضايا الإنسانية في مجرى الزمن. ولأن الأمر يتعلق بالتفكير في انوجاد الكينونة ـ هنا (الدزاين)، كان من الأهمية بمكان بالنسبة للفكر في “الوجود والزمان” أن يختبر تاريخية هذه الكينونة.

ولكن ألم نقل في “الوجود والزمان” حيث العبارة “هناك = ينعطي” ترد في اللغة بأنه “ليس هناك من وجود إلا بوجود الكينونة ـ هنا : الدزاين ؟”. لا شك في ذلك. وهذا معناه أن الوجود لا ينتقل إلى الإنسان إلا بقدر حصول نور الوجود وانفتاحه. إلا أن حصول الـ “هنا” باعتبارهـا هي هذا النور والانفتاح كحقيقة للوجود نفسه، هو بمثابة وصف للوجود في حد ذاته. ذلك أن الوجود هو قدر النور والانفتاح. وهذه العبارة لا تعني بأي حال من الأحوال أن كينونة الإنسان (الدزاين) بالمعنى التقليدي للوجود بالفعل وبالمعنى الحديث لواقع الأنا ـ أفكر (الكوجيطـو)، هي هذا الموجود الذي يُبْتَدع بواسطته الوجود. إنـها لا تقول بأن الوجود من إنتاج الإنسان. ففي مقدمة “الوجود والزمان” ص 38، ترد العبارة التالية خالصة واضحة المضمون، وموضوعة بين قوسين : “الوجود هو التعالي المجرد والبسيط”. فكما أن مقاربة المكانية تتجاوز كل شيء قريب أو بعيد عندما نتناولـها من وجهة نظر هذا الشيء، كذلك الوجود يظل ماهويا في منأى عن كل موجود لأنه هو هذا النور والانفتاح نفسه. هنا الوجود قد تم التفكير فيه وفق كيفية للرؤية لا يمكن تحاشيها للوهلة الأولى في الميتافزيقا التي ما تزال مهيمنة. ومن مثل هذا المنظور فقط ينكشف الوجود كمجاوزة ومن حيث هو هذه المجاوزة.

هذا التحديد التمهيدي : “الوجود هو التعالي المحض والبسيط” يجمع في عبارة بسيطة الكيفية التي بموجبها اتضحت واستضاءت ماهية الوجود للإنسان. كما أن هذا التحديد المعكوس لماهية الوجود انطلاقا من استضاءة الموجود وانفتاحه كما هو، يظل لا محيد عنه بالنسبة لكل فكر يسعى إلى طرح السؤال بصدد حقيقة الوجود.

هكذا يشهد الفكر على قدر انبعاث ماهيته الخاصة، بعيدا عن الرغبة في إعادة تناول كل شيء من البداية تحت دريعة عدم صحة الفلسفات السابقة. أما فيما يتعلق بمعرفة هل ما إذا كان هذا التحديد للوجود كمتعـال محض، يشير مسبقا إلى الماهية البسيطة لحقيقة الوجود، فهذا هو السؤال الوحيد الذي على كل فكر يسعى إلى التفكير في حقيقة الوجـود أن يطرحه قبل كل شيء. لـهذا السبب قيل في “الوجود والزمان” ص 230، بأنه لا يمكننا أن نفهم كيف يكون هناك الوجود، إلا انطلاقا من “المعنى” فقط، أي انطلاقا من حقيقة الوجود. فالوجود ينفتح ويستتر للإنسان في المشروع اللدني. لكن هذا المشروع لا يخلق الوجود. يبقى أن هذا المشروع في ماهيتـه مشروع ملقى به. لكن الذي يلقي فيما هو ملقـى به ليس هو الإنسان، بل الوجود نفسه الذي يقدر على الإنسان تحمل انوجاد ـ الكينونة ـ هنا (الدزاين)، كما لو يخلع عليه ماهيته. هذا القدر يحصل باعتباره نور الوجود وانفتاحه. إنه هو نفسه هذا النور والانفتاح. إنه يخول للوجود قربه. وفي هذا القرب، أي في هذه الـ “هنـا”، يقيم الإنسان من حيث هو منوجد دون أن يتمكن إلى يومنا هذا من اختبار هذه الإقامة بحق، وتحملها بالخصوص. هذا القرب “الـ” لوجـود “من” الوجود الذي هو نفسه “هنا” الكينونة ـ هنا (الدزاين)، هو ما يسميه الخطاب في مقالة حول (مرثية “العودة) لهولدرلين 1943) وقد فكر فيها انطلاقا من الوجود والزمان، بـ: “الوطن”. وهي كلمة مستعارة من شعر الشاعر نفسه وانطلاقا من تجربة نسيان الوجود. لذا فقد تم التفكير فيها هنا بمعنى جوهري، أي منظور تاريخ الوجود. الشيء الذي يعني أنـها لا تحيل إلى أية نزعة قومية أو وطنية. كما أن ماهية “الوطـن” هنا، قد دعيت بـهدف التفكير في معنى غياب الوطن بالنسبة للإنسان الحديث انطلاقا من التفكير في ماهية تاريخ الوجود. ولقد كان “نيتشه” آخر من اختبر هذا الغياب للوطن، ولم يجد له من مخرج داخل الميتافزيقا سـوى القيام بقلب لـها. إلا أن هذا القلب كان في حقيقة الأمر سدا نهائيا لكل المخارج. أما “هولدرلين” فقد كان كل همه عندما تغنى ب : “الرجوع إلى الوطن”، هو أن يحمل “مواطنيـ”ـه على بلوغ ماهيتهم. فهو لا يتغنـى أبدا بـهذه الماهية بدافع أنانية وطنية أو قومية، بل ينظر إليها قبل كـل شيء انطلاقا من الانتماء لقدر الغرب. والغرب هنا لم يفكر فيه بكيفية جهوية كمقابل للشرق،ولا حتى باعتباره أوربا. وإنما من منظور تاريخ العالم انطلاقا من القرب من الأصل. ولم نشرع نحن في التفكير في العلاقات العجيبة مع الغرب التي صارت كلاما في شعر “هولدرلين” إلا مؤخرا. إن “الحقيقـة الألمانية” لم يتم قولـها للعالم ليجد هذا الأخير شفـاءه في الماهية الألمانية، بل قيلت للألمان ليصيروا بموجب القدر الذي يربطهم ببقية الشعوب الأخرى مساهمين معها في تاريخ العالم. والقرب من الوجود هو موطن هذه الإقامة التاريخية.

في هذا القرب للوجود من الوجود وفيه وحده، يجب أن يتقرر وإلى الأبد، هل ما إذا كان الإله والإلـهة ستظل ممتنعة عن التجلي وكيـف يحصل هذا الامتناع ؛ وهل ما إذا كان الليل سيستمر ؛ وهل ما إذا كان نـهار المقدس سيشرق ؛ وكيـف سيكون ذلك الشروق ؛ وهـل ما إذا كان من الممكن لتجلي الإله والإلـهة في هذا الفجر المقـدس أن يبدأ من جديد وكيف. والحال أن المقدس الذي هو الفضاء الماهوي الوحيد للقداسة، التي هي بدورها وحدها من يخـول للإله وللإلـهة بعدها، لا يأتي إلى نور التجلي غلا عندما يكون الوجود قد استضاء مسبقا وبعد استعداد طويل، وتم اختباره في حقيقته. إذ بـهذا وحده، وانطلاقا من الوجود، يتم الشروع في مجاوزة غياب الوطن. ذلك الغياب الذي ليس الناس وحدهم هم الذين يتيهون فيه، بل ماهيتهم كذلك.

إن هذا الغياب للوطن الذي مازال ينبغي لنا أن نفكر فيه، يكمن في التخلي عن الوجود لصالح الموجود. إنه الدليل على نسيان الوجـود الذي تظل حقيقته بسبب هذا النسيان غير مفكر فيها. وهذا ما ينكشف بطريقة غير مباشرة في كون الإنسان لا يهتم أبدا إلا بالموجود ولا يشتغل إلا عليه. ولكن مادام الإنسان لا يستطيع والحالة هذه، الكف على أن يجعل من الوجود تمثلا، فإن هذا الأخير لا يحدد إلا باعتباره ذلك الـ “مفهوم الأكثـر عمومية” عن الموجود، وبالتالي باعتباره ما يشمله ويحيط به، أو باعتباره خلقا للموجود اللامتناهي، أو منتوج ذات متناهية. وفي نفس الوقت يتم النظر إلى “الوجود”، وقد حدث هذا منذ زمن طويل، على أنه هو “الموجود” والعكس صحيح. أي يتم اعتبار “الموجود” على أنه “الوجود” كما لو أنـهما يمتزجان في خليط عجيب لم نتمكن من التفكير فيه بعد.

إن الوجود من حيث هو القدر الذي يبعث الحقيقة يظل محتجبا. إلا أن قدر العالم هذا ينقال في الشعر دون أن يكون قد تجلى كتاريخ للوجود. لـهذا السبب، وبالنظر إلى إبعاد تاريخ العالم، يظل فكر “هولدرلين” الذي يعبر عن نفسه في قصيدة “ذاكرة”، أكثر أصالة ماهويا. وبالتالي أكثر مستقبلية من نزعة المواطنة الكونية الخالصة عند “غوثه” Goethe. ولـهذا السبب أيضا نجد في علاقة “هولدرلين” بالهيلينستية شيئا آخر يختلف ماهويا عن النزعة الإنسانية المجردة. لذلك كان ما فكر فيه الشباب الألماني الذي كانت له معرفة بهولدرلين، وما عاشه في مواجهة الموت شيئا آخر غير ما ادعى الرأي العام أنه وجهة النظر الخاصة بالألمان.

إن غياب الوطن قد أصبح قدرا عالميا. لـهذا ينبغي التفكير في هذا القدر بالنظر إلى تاريخ الوجود. وما أقربه “ماركس” منطلقا من “هيغل” بمعنى جد مهم وجوهري كاغتراب للإنسان، شيء ضـارب بجدوره عميقـا في غياب الوطن عند الإنسان الحديث. هذا الغياب للوطن يفصح عن نفسـه انطلاقا من قدر الوجود في مختلف أشكال الميتافزيقا التي تقويه وتخفيه في نفس الوقت كفقدان للوطن. ولأن ماركس قد بلغ وهو يختبر الاغتراب بعدا جوهريا للتاريخ، فقد جاء مفهومه عن هذا الأخير أكثـر سموا من بقية أشكال الاستوغرافيا. وبما أن “هوسرل” و”سارتر” كذلك حسب ما أعلم لم يتمكنا من الاعتراف بأن للتاريخي L’historique ماهويته في الوجود، فإن الفنومنولوجيا وحتى الوجودية لا يمكنهما بلوغ هذا البعد الذي بداخله وحده يصبح من الممكن قيام حوار بناء مع الماركسية.

ولكن، من أجل هذا ينبغي أولا التخلص من التمثلات الساذجة للنـزعة المادية، ومن الدحوضات الرخيصة التي تعتقد بلوغها. فماهية النزعة المادية لا تكمن أبدا في الإقرار بأن كل شيء ليس إلا مادة. بل تكمن على العكس من ذلك في تحديد ميتافزيقي يتجلـى تبعا له كل موجود كأداة للعمل. في “فنومنولوجيا الروح” كان “هيغل” قد فكـر مسبقا في الماهية الميتافزيقية والحديثة للعمل كسيرورة للإنتاج اللامشروط تنتظم تلقائيا، أي كموضعه للواقعي (Le reel) من طرف الإنسان وقد تعرف على نفسه كذاتية Subjectivite. إن ماهية النزعة المادية تختفي في ماهية هذه التقنية التي كتب عنها في الحقيقة الشيء الكثير، ولم يفكر فيها إلا قليلا. فالتقنية في ماهيتهـا قدر تاريخي/انطولوجي لحقيقة الوجود من حيث هي كامنة في النسيان. وهي لا ترجع إلى كلمة (تخني:ô Ý ÷ í ç ) الإغريقية من حيث الاشتقاق فحسب، بل إن جدرها التاريخي / الماهوي أيضا يجب البحث عنه في التخني كنمط للا ـ تحجب (اللا ـ اختفاء : Ž ‘ Ü ë ç q e ý å é í ). أي كصفة لتجلي الموجود وانكشافه. إن التقنية من حيث هي شكل للحقيقة لـها أساسها في تاريخ الميتافزيقا. هذه الأخيرة نفسها تشكل مرحلة حاسمة في تاريخ الوجود. إنـها الوحيدة التي يمكننـا أن نحيط بـها علما. بإمكاننا أن نتخذ موقفا بكيفيات مختلفة من تعاليم الشيوعية ومما يؤسسها. لكن من المؤكد أن تجربة أولية لصيرورة العالم التاريخية على صعيد تاريخ الوجود تفصح فيها عن نفسها. فأن نرى في “الشيوعية” مجرد حزب، أو مجرد “مفهوم عن العالم”، معناه أننا قصيرو التفكير أكثر من أولئك الذين لا يعنون من نعثهم ب “النزعة الأمريكية” سوى نمط حياة خاص، مستهينين بذلك منها. إن الخطر الذي تجد أوربا نفسها اليوم محشورة فيه دائما بوضوح، قد يكمن قبل كل شيء في كون فكرها الذي كان سابقا مصدر سموها وعظمتها، يتراجع عن الطريق الجوهري للقدر العالمي الذي يفصح عن نفسه. ذلك القدر الذي يظل مع ذلك أوربيا من حيث الملامح الأساسية لمصدر حصوله الماهوي. ليس باستطاعة أية ميتافزيقا سواء كانت مثالية أو مادية أو مسيحية أن تلحق بقدرها تبعا لـماهيتها أو للجهود التي تبذلها من أجل الانتشار. وأعني بذلك أن تبلغ في الفكر ما من الوجود قد أنجز راهنا. إن القدر المستقبلي للإنسان ينبني، بالنظر إلى الغياب الماهوي للوطن الذي أصاب هذا الأخير ومن أجل الفكر التاريخي/الانطولوجي كذلك، على ضرورة اكتشافه لحقيقة الوجود ووضع نفسه على درب هذا الاكتشاف. إن كل نزعة قومية هي على الصعيد الميتافزيقي نزعة انتروبولوجية. ومن ثم فهي نزعة ذاتية. كما أن هذه النزعة القومية لم يتم تجاوزها من خلال النزعة العالمية المحضة، بل تم فقط توسيعها وتنظيمها في نسق. وبالتالي فهي لم تبلغ مرتبة الإنسانية وتكتمل فيها إلا قليلا. مثلهـا في ذلك مثل النزعة الفردانية التي لم تبلغ اكتمالها في النزعة الجماعية إلا عبر مراحل تاريخية. فالجماعة هي ذاتية الإنسان على مستوى الكلية. إنـها تنجز الإقرار الخاص واللامشروط بـهذه الذاتية. هذا الإقرار لا يسمح لنا بتحطيمـه ولا حتى باختباره بطريقة كافية من خلال فكر لا يوسط إلا جانيا منه. ومع ذلك فإن الإنسان يدور، وقد نفي من حقيقة الوجود، حول محيط ذاته نفسها كحيوان عاقل.

لكن ماهية الإنسان تكمن في كونه أكثر من مجرد إنسان، مادام قد تم تمثله كحي ينعم بعقل. وعبارة “أكثر من” لا يجب فهمها هنا بمعنى الإضافة كما لو أن التعريف التقليدي للإنسان وجب أن يظل هو التحديد الأساسي، ليتم فقط توسيعه بعد ذلك بإضافة الخاصية الوجودية له. بل إن معناها، “أي أكثر من”، سيكون هو : أكثر أصالة، ومن تم أكثر تجدرا في الماهية. وهنا ينبري اللغز : إن الإنسان يوجد في وضعية الملقى به. الشيء الذي يعني أنه من حيث هو الجواب المنوجد للوجود، يتجاوز بكثير الحيـوان العاقل أكثر مما هو بالضبط على صلة بالإنسان الذي يعي نفسه بنفسه انطلاقا من الذاتية. إن الإنسان ليس سيد الموجود بل هو راعي الوجود فقط. وكلمة “فقط” هذه لا يخسر الإنسان بموجبها شيئا، وإنما يفوز على العكس من ذلك ببلوغه حقيقة الوجود. إنه ينال الفقر الجوهري للراعي الذي تكمن كرامته فيما يلي : إنه من ينادي عليه الوجود نفسه ليتولى حراسة وصيانة حقيقته. هذا النداء يأتي كإسقاط للمشروع الذي يتأصل فيه الكائن ـ الملقى ـ به للكينونة ـ هنا. فالإنسان في ماهيته التاريخية/الانطولوجية، هو هذا الموجود الذي تكمن كينونته كانوجاد في كونـه يقيم بالقرب من الوجود. إنه جار الوجود.

ولكن، هل أنتم حقا على استعداد للرد علي منذ وقت طويل، بأن فكرا من هذا القبيل لا يفكر بالضبط في إنسانية الإنسان الإنساني؟ ألا يفكر هذا الفكر في هذه الإنسانية بمعنى جد حاسم وبشكل لم تقم به أية ميتافزيقـا حتى الآن وليست بقادرة على القيام به؟ ألا ينطوي هذا الفكـر على “نـزعة إنسانية” بالمعنى القوي للكلمة؟ بلى، إنه كذلك بكل تأكيد. إنه النزعة الإنسانية التي تفكر في إنسانية الإنسان انطلاقا من علاقـة القرب والجوار مع الوجود. ولكنها في نفس الوقت النزعة الإنسانية التي ليس الرهان فيها على الإنسان، بل على ماهيته التاريخية التي مصدر حصولها من صميم حقيقة الوجود. وهذا معناه بدون شـك أن الأمر يتعلق والحالة هذه بانوجاد الإنسان كذلك.

لقد قيل في “الوجود والزمان” (ص 38) بأن كل سؤال للفلسفة “يحيل إلى الوجود”. لكن الوجود الذي نتحدث عنه هنا ليس هو واقع الأنا ـ المفكر (ذات الكوجيطو). كما أنه ليس أبدا مجرد واقع ذوات ينتج بعضها بعضا بصفة مشتركة ليقف بذلك كل منها على كنهه (ذاته). إن “الانوجاد” إذ يختلف في هذا جذريا عن كل وجود بالفعل، وعن الوجود (بـمعنى واقع الموجود)، هو الإقامة اللدنية بجوار الوجـود وعلى مقربة منه. إنه الرهبانية واليقظة والتبصر. أي همّ الوجود. ولأن الأمر يتعلق في هذا الفكر بالتفكير في شيء بسيط، فقد وجد فيه الفكر المعتمد على التمثل والذي انتقل إلينا عبر التراث كفلسفة، صعوبات جمة. إلا أن الصعـب ليس بالخصوص هو الارتباط بمعنى عميق أو صياغة مفاهيم مركبة. بل يكمن قبل كل شيء في طريقة الرجوع إلى الوراء التي تمكن الفكر من بلوغ سـؤال هو في حقيقته تجربة واختبار. وتجعل الرأي المعتاد عن الفلسفة تافها وبلا معنى.

لقد تردد كثيرا أن محاولة “الوجود والزمان” قد انتهت إلى الطريق المسدود. لندع هذا الرأي جانبا. إن الفكر الذي يقوم ببضع خطوات في هذا المؤلف ما يزال معلقا إلى يومنا هذا. ولكنه بمرور الوقت ربما يكون قد اقترب شيئا ما من موضوعه. وطالما أن الفلسفة لا تهتم دائما إلا بحرمان نفسها من كل إمكانية لبلوغ موضوع الفكر الذي ليس سوى حقيقة الوجود، فإنـها تنفلت بكل تأكيد من خطر القطيعة المطلقة مع صلابة موضوعها. لـهذا السبب نجد أن ثمة هوة تفصل فعل “التفلسف” حول الفشل عن الفكر الذي يجرب الفشل في حد ذاته. وإذا ما وجد إنسان ما الفرصة لبلوغ مثل هذا الفكر، فسوف لن يصيبه من ذلك أي شقاء. بل ستكون من نصيبه تلك الهبة الوحيدة التي تأتي من الوجود إلى الفكر.

علينا أن نضع نصب أعيننا ما يلي: إن موضوع الفكر لا يتم بلوغه بمجرد الشروع في الثرثرة حول “حقيقة الوجود” وحول “تاريخ الوجود”. بل المهم هو أن تأتي حقيقة الوجود إلى اللغة، ويتوصـل الفكر إلى هذه اللغة. ولعل اللغة تقتضي منا والحالة هذه، صمتا محقا أكثر بكثير من التهافت في التعبير. ولكن من منا اليوم يستطيع أن يتخيل بأن الموطن الأصيل لـهذه المحاولات في التفكير هو درب الصمت؟ لو أمكن لفكرنا أن يذهب بعيدا لاستطاع أن يدل على حقيقة الوجود، وإن يعلن عنها باعتبارها ما يجب التفكير فيه. ولا نسحب بذلك من دائرة الرأي والمصادفة، وانتقـل إلى هذه الطريقة الفنية في الكتابة التي أصبحت نادرة. فالأشياء التي لها وزنـها ولو لم ترسخ إلى اللأبد، تحصل في الوقت المناسب، رغم ما قد يطـرأ على هذا الوقت من تأخر إلى حد كبير.

أما فيما يتعلق بمعرفة هل ما إذا كان مجال حقيقة الوجود عبارة عن طريق مسدود أو كان هذا المجال هو البعد الحر حيث تضع الحرية ماهيتها، فإن كل واحد يستطيع أن يحكـم على ذلك بنفسه عندما يحـاول أن يسلك السبيل المشار إليه، أو ـ وهذا أفضل ـ أن يشق لنفسه طريقا آخر أنجع، أي أكثر انسجاما مع السؤال. في الصفحة ما قبل الأخيرة من “الوجود والزمان” (ص 437) يمكننا أن نقرأ الجمل التالية: “إن النقاش المتعلق بتأويل الوجود (ولا أقول بالموجود أو أكثر من ذلك بكينونة الإنسان)، لا يمكنه أن يتوقف لأنه لم يشرع فيه بعد. وفي كل الأحوال ليس لنا أن نفرضه بالقوة، ولكن علينا من أجل خوض غماره أن نستعد له. وهذا هو الـهدف الوحيد الذي يتجه صوبه البحث الراهن”. هذه الجمل ما تزال صالحة إلى يومنا هذا رغم مرور عشرين سنة على كتابتها. لنبق إذن في ما سيأتي من الأيام على هذا الدرب كمسافرين ماضين باتجاه مجاورة الوجود والتقرب منه. وإن السؤال الذي تطرحونه ليساعد على تحديد ما يكونه هذا السبيل بكل دقة.

إنكم تسألون: “كيف يمكننا أن نعطي من جديد معنى لكلمة “النزعة الإنسانية؟” وهذا السؤال لا يفترض فقط أنكم ترغبون في الإبقاء على نفس الكلمة، بل يحتوي كذلك على التصريح بكونـها فقدت معناها. ولقد فقدت معناها بالفعل لأننا نعي تماما أن النزعة الإنسانية ميتافزيقية في ماهيتها. وهذا يعني في الوقت الراهن أن الميتافزيقا لا تكتفي فقط بعدم طرحها للسؤال بصدد حقيقة الوجود، بل تحول أكثر من ذلك دون طرحـه من فرط استمرارها في نسيان الوجود. إلا أن الفكر الذي قادنا بالضبط إلى اقتحام ماهية النزعة الإنسانية على هذا النحو جاعلا منها سؤالا، قد حملنا في نفس الوقت على التفكير بأصالة أقوى في ماهية الإنسان. وبالنظر إلى إنسانية الإنسان الإنساني هذه الأكثر عمقا وماهوية، تتاح لنا إمكانية إعطاء من جديد لكلمة النزعة الإنسانية معنى تاريخيا أكثر قدما من ذلك الذي يمكننا أن نقيمه كرونولوجيا. عندما أقول بأن علينـا أن نعطيها معنى جديدا، لا أقصد بذلك أن كلمة “النزعة الإنسانية” خالية في حد ذاتـها من المعنى، وإنـها هراء. بل إن “الإنسية” في هذه الكلمة تدل على الإنسانية من حيث هي ماهية الإنسان. أما “…ية” (ياء النسب وتاء التأنيت التي تدل على النزعة إلى …) فتشير إلى أن ماهية الإنسان يجب النظر إليها كأساس. وهذا هو المعنى الخاص بكلمـة “النزعة الإنسانية” من حيث هي كلمة. وإذا كان علينا أن نعطيها معنى، فهذا يعني أن علينا فقط، أن نحدد معنى الكلمة من جديد، الشيء الذي يتطلب اختبار ماهية الإنسان، قبل كل شيء بشكل أكثر أصالة، لنبين فيما بعد بأي مقياس توجد هذه الماهية في كيفيتها تبعا لقدر حصولها. إن ماهية الإنسان تكمن في الانوجاد ـ والانوجاد هو المهم بالأساس ـ أي انطلاقا من الوجود نفسـه من حيث هو الذي يعمل على حصول ماهية الإنسان باعتباره من ينوجد للسهر على حقيقة الوجود داخل هذه الحقيقة نفسها. وبناء على هذا سيكون معنى “النزعة الإنسانية” ـ هذا إذا ما قررنا الاحتفاظ بنفس الكلمة ـ هو أن ماهية الإنسان أساسية جدا بالنسبة لحقيقة الوجود. وإنـها من الأهمية بحيث لن يكون الإنسان من الآن فصاعدا هو بالضبط الوحيد الذي يهمنا أمره. هكذا تتجلى الكلمة باعتبارها مصطلحا يتجاوز ما يحيل إليه في ذاته.

هذه “النزعة الإنسانية” التي تقوم ضد كل نزعة إنسانية سابقة، دون أن تدعي مع ذلك بأي حال من الأحوال، أنـها المبشر باللا ـ إنساني، هل يجب أن ننعتها أيضا بـ”النزعة الإنسانية”؟ ربما يكون مكسبنا الوحيد من هذا، ونحن نتبنى استعمال هذا الملصق، هو الانسياق بدورنا في التيارات المهيمنة التي اختنقت في النزعة الذاتية للميتافيزيقا، وانتهى بـها الأمر إلى الغرق في نسيان الوجود، ولكن، أليس على الفكر أن يحاول مقاومة مفتوحة لـ النزعة الإنسانية المجازفة باندفاع قد يمكـن أخيرا من الاعتراف بإنسانية الإنسان الإنساني وبما يؤسسها؟ هكذا يـمكن أن يستيقظ ذلك الفكر الذي يضع على عاتقه مهمة التفكير ليس فقط في الإنسان، بل في “طبيعتـ”ـه، وليس فقط في الطبيعة، وإنما فيما هو أكثر أصالة، أي في البعد الذي تجد فيه ماهية الإنسان نفسها ـ وقد حددت انطلاقا من الوجود ذاته ـ في مسكنها. وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال، إلا إذا كان الظرف الراهن لتاريخ العالم يدفع من تلقاء ذاته إلى مثل هذا التفكير. ربما يكون من الأجدى أن نتحمل ولو لبعض الوقت، الأخطاء المحتومة لـهذه التأويلات التي يجد مسار الفكر في عنصر الوجود وفي الوجود والزمان، نفسه عرضة لـها. ونتركها حتى تنهك وتتلاشى من تلقاء ذاتـها. فـهذه الأخطاء في التأويل هي الانعكاس الطبيعي لما فكرنا فيه مباشرة أثنـاء القراءة وكنا نعتقد قبلها أننا على علم به. إنـها تكشف في جملتها عن نفس البنية ونفس الأساس. وبما أن هذا الفكر يقوم ضد “النزعة الإنسانية”، فقد ساد الاعتقاد بأنه دفاع عن اللا ـ إنساني، وتمجيد للاندفاع المتوحش. إذ أي شيء أكثر “منطقا” من هذا، وهو أن من يفضح النزعة الإنسانية ويقوم ضدها، لن يجد له من مخرج سوى الدعوة إلى البربرية.

وبما أن هذا الفكر يقوم ضد “المنطق”، فقد ساد الاعتقاد بأنه إذ يتنازل عن نجاعة التفكير، فإنه يستعيض عنه ضرورة بـهيمنة اعتباطية الغرائز والأهواء وبالتالي فهو يطالب بال “نزعة اللاعقلانية” كواقـع. إذ أي شيء أكثر منطقا من هذا وهو أن من يصرح بأنه ضد ماهو منطقي، إنما يدافع عن اللامنطق.

وبما أن هذا الفكر يقوم ضد “القيم” فقد اعتبر بكل برودة أنه فلسفة تتجرأ على جعل القيم العليا للإنسانية عرضة للاحتقار. إذ أي شـيء أكثر منطقا من هذا، وهو أن الفكر الذي ينفي القيم، وجب بالضرورة أن يصرح بعدم وجود قيمة لأي شيء. وبما أنه قد قيل عن كينونة الإنسان بأنـها تكمن في “الوجود ـ في ـ العالم”، فقد اعتبر ذلك اختزالا لـها في ماهية دنيوية محضة. الشيء الذي يغرق الفلسفة في النزعة الوضعية. إذ أي شيء أكثر “منطقا” من هذا، وهو أن من يقر بعالمية كينونـة الإنسان، إنما يقيم وزنا للدنيا نافيا بذلك الآخرة، ورافضا لكل “تعال”؟!

وبما أنه قد تمت الإحالة إلى كلمة “نيتشه” عن “موت الإله”، فقد اعتبر مثل هذا الموقف نـزعة الحادية. إذ أي شيء أكثر “منطقا” من هذا، وهو أن من جرب واختبر “موت الإله” لا بد أن يكون ملحدا ؟!

وبما أن الفكر يقوم في كل ما أتينا على ذكره ضد كل ما تعتبره الإنسانية ساميا ومقدسا، فقد ساد الاعتقاد أن هذه الفلسفة ذات “نـزعة عدمية” هدامة ولا مسؤولة. إذ أي شيء أكثر “منطقا” من هذا، وهو أن من ينفي على هذا النحو الوجود الحق من كل شيء، إنما ينحاز إلى جانب اللاموجود ويعلن العدم المحض كمعنى للواقع؟!

ولكن ما الذي يحدث في حقيقة الأمر؟ إن سمعنا يشنف بحديث عن “نزعة إنسانية”، عن “منطق”، عن “قيم”، عن “عالم” وعن “الله”، ثم عن نواقض لـهذه الكيانات. إننا نتعرف فيها على ما هو إيجابي ونأخذها على أنـها الشيء الإيجابي. وما قيل ضدها، أو تم على الأقل تبنيه بإدعان ساذج ودون تمحيص يذكر، ينظر إليه بعجلة على أنه نفي لـها، منددين في هذا النفي بالـ “سلبي” باعتباره ما هو هدام. هذا مع أننا في مكان ما من “الوجود والزمان”، تحدثنا صراحة عن “التقويض الفينومنولوجي”. ولقد ساد الاعتقاد انطلاقا من العقل ومن هذا المنطق الذي ما فتئ يعتد به، بأن ما ليس إيجابيا فهو سلبي يفضي إلى تحجيم العقل. وبالتالي فهو يستحق أن يفضح ويندد به كانحلال وفساد. هكذا يدفع الاعتزاز المفرط بالـ “منطق” إلى التعجيل بضم كل ما يتعارض مع خمول الرأي المستقيل إلى خانة الأضداد التي ينبغي التخلص منها. فكل ما لا يمت بصلة للإيجابي المعروف والمستحب، يلقى به في خندق السلب المحض. ذلك الخندق المعد سلفا للطعن في كل شيء والزج به في العدم لتكمل بذلك النزعة العدمية. إذ بـهذه الطريقة المنطقية في “التفكير” يتم إغراق كل شيء في نـزعة عدميـة بنيت أساسا بمساعدة المنطق.

ولنا أن نسأل: هل تقود المعارضة التي يرفعها فكر ما في وجه الرأي المعتاد إلى النفي المحض وإلى السلبي بالضرورة ؟ إن هذا لا يحدث في حقيقة الأمر (وفي هذه الحالة بشكل محتوم وحاسم، أي دونما مفر باتجاه شيء آخر)، إلا إذا فرضنا مسبقا أن يكون هذا الرأي هو “الإيجابي”، وأنـه انطلاقا من هذا “الإيـجابي” يتقرر مطلقا وبصفة سلبية في نفس الوقت، مجال الاعتراضات التي بإمكانها أن تقوم ي مواجهته. إن مثل هذا التصـرف يكثـم الامتناع عن تعريض ما قدرنا مسبقا أنه “إيجابي” للنقد، وكذا الموقف والمعارضة اللذان يعتقد أنه قد نجا بواسطتهما. فمن خلال الإحالة المستمرة إلى ما هو “منطقي” نعطي الانطباع بأننا نسلك درب الفكر، بيد أننا في الحقيقة قد أنكرناه وتخلصنا منه. يمكننا بقليل من الكلمات أن نقيم الدليل على أن معارضة “النزعة الإنسانية” لا تعني بأي حال من الأحوال الدفاع عما هو لا ـ إنساني، وإنما تفتح على العكس من ذلك مخارج أخرى.

إن الـ”منطق” ينظر إلى الفكر على أنه تمثل للموجود في وجوده. وهذا الوجود يعرضه التمثل على ذاته في عمومية المفهوم. ولكن، ماذا عن التفكير في الوجود نفسه؟ أي عن الفكر الذي يفكر في حقيقة الوجود؟ لقد كان هذا الفكر هو أول من أدرك الماهية الأصلية للوغوس الذي ولد ميتا ومستهلكا عند كل من أفلاطون وأرسطو مؤسس الـ “منطق”. فأن نفكـر ضد الـ”منطق” ليس معناه أن نفتح نقاشا لصالح اللامنطـق. بل أن نعود فقط إلى التفكير في اللوغوس وفي ماهيته كما تجلت للفكر في عصره الأول، أي أن نتعاطى أخيرا لتحمل مشقة الإعداد لمثل هذا التفكير. ماذا تجدي كل هذه الأنساق المنطقية المهذارة إذا كانت تنطلق أولا وقبل كل شيء من العمل على استبعاد طرح السؤال بصدد ماهية اللوغـوس، دون أن تكون حتى على علم بما تفعل؟ وإذا شئنا أن نعكس وجهة هذه الانتقادات، وهذا شيء عقيم بكل تأكيد، أمكننا أن نقول بمزيد من السدادة أيضا، بأن النزعة اللاعقلانية من حيث هي رفض للعقل، تـهيمن بشكل خفي لا يمكن الطعن فيه، في سيادة الدفاع عن الـ “منطق” بالضبط، مـادام هذا الدفاع يعتقد أنه قادر على القيام بتأمل في اللوغوس وفي ماهيـة العقل اللذين يكمن فيهما أساسه.

إن الفكر الذي يتعارض مع “القيم” لا يدعي أبدا بأن كل ما نتحدث عنه من “قيم” وثقافة” و”فن” و “علم و”كرامة الإنسان” و”العالم” و “الله”، لا قيمة له. وإنما الأمر يتعلق فيه أولا بالاعتراف أخيرا بأن عملية إضفاء قيمة على شيء ما هي بالضبط التي تجرد ما اعتقدنا أننا نسمو به على هذا النحو من كرامته. وأعني بذلك أن التقدير الزائد لشيء ما كقيمة له، لا يسمح بتداول ما تم تقييمه إلا كموضوع للتقييم من طرف الإنسان. لكن ما يكونه شيء ما في كينونته لا يستنفـد في توضيعه، لاسيما إذا كانت لـهذه الموضعة(6) خاصية القيمة. فكل تقييم، حتى عندما يكون إيجابيا يكون عبارة عن تذويت (نسبة إلى الذات). إنه لا يدع الموجود يوجد، بل يجعل منه موضوعا لمساوماته فقط. وهذا تصرف غريب يسعى إلى إثبات موضوعية القيم دون أن يكون على علم بحقيقة ما يفعل. فنحن عندما نصرح بأن الله هو “أسمى قيمة” إنما نحط في الحقيقة من قيمته. هنا كما هناك نجد أن الفكر المصوغ في شكل قيم هو أكبر قذف يمكنه أن يقال في حق الوجود. أما عندما نفكر ضد القيم، فهذا لا يعني أننا ندعو بصخب كبير إلى غياب القيم وانتفاء الموجود، بل إلى ما يلي: أمـام هذا التذويت الذي يجعل من الموجود مجرد موضوع، علينا أن نعمل على حمل نور حقيقة الوجود وانفتاحها أمام الفكر.

إن الإحالة إلى “الوجود ـ في ـ العالم” كسمة أساسية لإنسانية الإنسان الإنساني لا تزعم أن الإنـسان مجرد ماهية “دنيوية” بالمعنى المسيحي. أي أنـها قد صدت عن سبيل الله وانفصلت نـهائيا عن “التعالي”. ونقصد بـهذه الكلمة ما سيكون واضحا عند تسميته ب “المتعـالي”. وهذا “المتعالي” هو الموجود ما فوق المحسوس. إنه هنا بمثابة الموجود الأكثر سموا بمعنى العلة الأولى لكل موجود. والله نفسه هو الذي فكر فيه هنا باعتباره هذه العلة الأولى. أما كلمة “العالم” في عبارة “الوجـود ـ في ـ العالم” فلا تشير مطلقا إلى الوجود الأرضي في مقابل الملكوت، ولا حتى إلى “الدنيوي” في مقابل “الأخروي”. إن كلمة “عالم” في هذا التحديد لا تشير أبدا إلى موجود ما، ولا حتى إلى مجـال معين للموجود، بل إلى انفتاح الوجود. فالإنسان يكون، ويكون إنسانا بقدر ما ينوجد. إنه يقيم في الانخطاف نحو انفتاح الوجود. هذا الانفتاح هو الوجود نفسه الذي يستقبل من حيث هو من يلقي، ماهية الإنسان بإلقاءها في الـ”هم”. إن الإنسان وقد ألقي به على هذا النحو يقيم “في” انفتاح الوجود. ومـا “العالم” إلا نور الوجود وانفتاحه حيث الإنسان غارق في قلب ماهيته الملقـاة. الـ”وجود ـ في ـ العالم” إذن يسمي ماهية الانوجاد بالنظـر إلى البعد المنفتح والمستضاء الذي انطلاقا منه وفيه تنتشر “أن” الـ (انـ) وجاد(7). هكذا يكون “العالم” بشكل من الأشكال، وإذا ما فكرنا فيه انطلاقا من الانوجاد، هو بالضبط الماوراء (المفارق) داخل الانوجاد ومن أجله. فالإنسان ليس أبدا إنسانا قبل كل شيء من جانب العالم كـ “ذات” حتى ندرك هذه الكلمة كـ “أنا” وكـ “نحن”. إنه ليس أبدا مجرد ذات فقط تكون في نفس الوقت على علاقة ثابتة بموضوعاتـها، على نحو تكون به ماهيته مقيمة في العلاقة: ذات/موضوع. بل إنه في ماهيته يكون منوجـدا أولا وقبل كل شيء في انفتاح الوجود. هذا التفتح وحده يضيء ويفسح ما “بين ـ الثنايا” (الوجود والموجود)، حيث يمكن لعلاقة ما بين ذات وموضوع أن “تحصل”.

إن العبارة التالية: “ماهية الإنسان تقوم على أساس الوجود ـ في ـ العالم”، لا تقرر أبدا بشأن هل ما إذا كان الإنسان بالمعنى الميتافزيقي/اللاهوتي كائنا دنيويا أو ينتمي إلى العالم الأخروي. لـهذا السبـب لم يتقرر بعد من خلال هذا التحديد الوجودي لماهية الإنسان شيئا بصدد “وجود الله” أو “عدم وجوده”، ولا أكثر من ذلك بإمكانية الإلـهة أو استحالتها. إنه إذن لمن السخافة والتهافت في التحليل الادعاء بأن هذا التأويل لماهية الإنسان انطلاقا من علاقتها بحقيقة الوجود، نـزعة الحادية. فهذا التصنيف الاعتباطي لا يكشف سوى عن نقص في الانتباه وضعـف في التركيز أثناء القراءة. ولقد ورد “في ماهية السبب” 1929، ص 28. ما يلي دون أن يكثرت أحد بذلك : “إن التأويل الانطولوجي للكينونة ـ هنا (الدزاين) كـ”كينونة ـ في ـ العالم” لا يقرر شيئا سلبا أو إيجابا عن إمكانية وجود الله. لكن عرض التعالي وتوضيحه يمكنه بدون شـك أن يقدم لنا ولأول مرة مفهوما كافيا عن الكينونة ـ هنا (الدزاين)، بناء عليه يمكننا من الآن فصاعدا أن نتساءل على المستوى الانطولوجي عن العلاقة بين الإله والكينونة ـ هنا”. فإذا كان التفكير الآن في هذه المسألة ضيقا وسطحيا للغاية كما العادة، فذلك ما تصرح به الملاحظة التالية ذاتـها : إن هذه الفلسفة لا تقرر هل ما إذا كانت مع أو ضد وجود الله ؛ إنـها تظل مستغرقة في اللاـ مبالاة ؛ إن المسألة الدينية ليست بالنسبة لـها ذات أهمية، وعليه فإن نزعة الحياد هذه (والعبثية حتى) تكون طعما للنـزعة العدمية.

ولكن، هل تدعو الفقرة الواردة أعلاه إلى نزعة الحياد ؟ لماذا تكون بعض الكلمات والحالة هذه، قد حددت وكتبت بمفردها بحروف بارزة في الملحوظة ؟ لقد كانت الغاية من ذلك هي الإشارة إلى أن الفكر الذي يفكر انطلاقا من السؤال بصدد حقيقة الوجود يتساءل بشكل أكثر أصالة مما تستطيع الميتافزيقا القيام به. إذ انطلاقا من حقيقة الوجود هذه تسمح لنا ماهية المقدس بالتفكير فيها. كما لا يمكننا التفكير في ماهية الألوهية إلا انطلاقا من ماهية المقدس. ولا يمكننا التفكير والحديث عما تسميه كلمة “الله” إلا انطلاقا من ماهية الألوهية (القداسة). ألا ينبغي لنا والحالة هذه، أن ندرك بعناية جميع هذه الكلمات ونتمكن من الإصغاء لـها، إذ أردنا أن نكون من حيث نحن بشر، أي من حيث نحن كائنات منوجدة، في مستوى اختبار العلاقة بين الإله والإنسان ؟ كيف يتمكن إنسان التاريخ الراهن للعالم ولو من التساؤل عما إذا كان الإله يقترب منه أو يبتعد عنه، مادام يهمل تجنيد فكره قبل كل شيء في البعد الذي بداخله وحده فقط، يمكن لـهذا السؤال أن يطرح ؟ هذا البعد الذي هو بعد المقدس، يظل بما هو كذلك منغلقا طالما أن تفتح الوجود لم يستنر ولم يقترب في نوره وانفتاحه من الإنسان. ولعل السمة المهيمنة لـهذا العصر من العالم تكمن في انغلاق بعد ما هو حميد، وفي هذا قد يكمن الضرر الوحيد. ومع ذلك فنحن لا نقصد مطلقا من خلال هذه الملاحظة أن الفكـر الذي يؤشر على حقيقة الوجود باعتبارها ما يجب التفكير فيـه، قد قرر الانحياز إلى جانب الإيـمان. إنه لا يستطيع أن يكون مؤمنا مثلمـا لا يستطيع أن يكـون ملحدا. وهذا ليس مـرده إلى موقف الحياد، بل إلى كونه يأخذ بعين الاعتبار الحدود الثابتة التي لا يمكن للفكـر من حيث هو فكر أن يتجاوزها. وهو لا يستطيع أن يتجاوزها بفعل هذا نفسـه الذي يقدم له باعتباره ما يجب التفكير فيه، ألا وهو حقيقة الوجود. وعندما يتشبت الفكر بمهمته هذه، فإنه يوجه للإنسان في هذا اللحظة من القدر العالمي، الدعوة ليقيم في البعد الأصلي لإقامته التاريخية. وبقوله لحقيقـة الوجود على هذا النحو، يكون الفكر قد عاد إلى ما هو أكثر أهمية من كل القيم ومن كل موجود. فلا يتجاوز الميتافزيقا بالقفز عليها، أي بالصعود عاليا إلى حيث لا ندري من أجل إكمالها، وإنما بالنزول إلى حد الاقتراب مما هو أقرب. وإن النزول لأصعب وأشد خطورة من الصعود، خصوصا هناك حيث الإنسان قدتاه قي ارتقائه إلى الذاتية: إنه يقود الإنسان الإنساني إلى فقر انوجاده حيث يغادر مجال الإنسان الحيواني للميتافزيقا. وهذا المجال هو الذي تشكل سيادته الأساس البعيد واللامباشر لعماء واعتباطية ما نحدده باعتباره نـزعة بيولوجية. وأيضا لما نعرفه تحت اسم: البراغماتية (النفعية). ذلك أن التفكير في حقيقة الوجود يعني في نفس الوقت التفكير في إنسانية الإنسان الإنساني. فالمهم إذن هو أن تكون الإنسانية في خدمة حقيقة الوجود من دون نزعة إنسانية بالمعنى الميتافيزيقي.

ولكن، إذا كانت الإنسانية تبدو بالنسبة لفكر الوجود ضرورية إلى هذا الحد، ألا يجب أن تكتمل “الانطولوجيا” بالـ “أخلاق”؟ أليس المجهود الذي تعبرون عنه في هذه الجملة والحالة هذه، من الأهمية بمكان:”إن ما أسعى للقيام به منذ زمن بعيد هو التحديد الدقيق للعلاقة بين الانطولوجيا وإمكانية الأخلاق”؟ لقد سبق أن سألني صديق شاب ولم يكن قد مضى عن صدور “الوجود والزمان” إلا وقت وجيز: “متى تكتبون في الأخلاق” والحق أن هناك حيث ماهية الإنسان قد تم التفكير فيها بشكل جوهري جـدا، أي انطلاقا من السؤال بصدد حقيقة الوجود، وحيث أن الإنسان لم ينظر إليه مع ذلك كمركز للموجود، تظهر الحاجة الملحة إلى بلاغ يتلوه وإلى قواعـد توضح كيف ينبغي للإنسان المجرب انطلاقا من انوجاد الوجـود أن يعيش انسجاما مع قدره. فبقدر ما يتنامى الاضطراب الظاهر في الإنسـان والخفي منه متجاوزا كل المقاييس، بقدر ما تدعو الحاجة إلى الأخلاق ضرورة تحقيقها بإلحاح كبير. والواجب أن نوجه عنايتنا واهتمامنا لمؤسسة الربط الأخلاقي هذه، خصوصا في زمن لم يعد فيه من الممكن لإنسان التقنية الواقع تحت رحمة الكيان ـ الجماعي، أن يبلغ استقرارا مضمونا إلا بتجميع وتنسيق مجموع تصاميمه وممارساته انسجاما مع هذه التقنية.

كيف لنا أن نتجاهل هذه الفاقة ؟ ألا تجب مراعاة وتقوية الروابط الموجودة، حتى وإن كانت لا تضمن تماسك ماهية الإنسان إلا بشكل ضئيل جدا وفي الظرف الراهن فقط؟ بلى، هذا ما يجب بكل تأكيد. ولكن، هل هذه الحاجة رغم كل هذا، تعفي الفكر من استذكار ما بقي له مبدئيا أن يفكر فيه، والذي هو، باعتباره الوجود وحتى قبل كل موجود، الضمانة والحقيقة؟ هل مازال بإمكان الفكر أن يتغاضى عن التفكير في الوجود بعد أن كشف هذا الأخير عن نفسه في الوقت الراهن للعالم، عبر اهتزاز كل موجود، وبعد أن ظل طي النسيان لزمن طويل ؟

ولكن، إذا كانت “الانطولوجيا” تفصح، مثلها في ذلك مثل “الأخلاق” وكل فكر وليد المذاهب عن عدم جدواها، وترتب عن هذا أن صار فكرنا أكثر مذهبية، فماذا سيكون مصير السؤال عن العلاقـة بين هذين الفرعين في الفلسفة؟

لقد ظهرت “الأخلاق” لأول مرة مع بداية ظهور “المنطق” و”الفزياء” في مدرسة أفلاطون. فكان أن نشأت هذه الفروع في العصـر الذي أصبح فيه الفكر “فلسفة”، وأصبحت الفلسفة (الإبيستيمي) والعلم كذلك مهمة للتدريس وعملا مدرسيا.

وقد مكنت هذه السيرورة التي فتحتها الفلسفة بهذا المعنى من نشأة العلم فكانت وبالأعلى الفكر وتقويضا له. قبل هذا العصر لم يكن المفكرون يعرفون الـ “منطق” أو الـ “أخلاق” أو الـ “فزياء”. ومع ذلك لم يكن فكرهم لا منطقيا أو لا أخلاقيا، بل فكروا في الفيزيس بعمق وسعة. وهو الشيء الذي لم يكن أبدا في مقدور أية “فزياء” لاحقة أن تقوم به. وإذا جاز لنا القيام بـهذه المقاربة قلنا: إن مسرحيات “سوفوكلس” تتضمن في نصوصها “الايتوس” بشكل أكثر أصالة من دروس أرسطو حول “الأخلاق”. إن عبارة وجيزة “لـهرقليطس” مكونة من ثلاث كلمات، تعبر عن شيء أكثر بساطة بحيث تتضح من خلالـها ماهية الايتوس (الأخلاق) مباشرة. هذه العبارة تقول ما يترجم عادة بما يلي: “الخاصية الأساسية للإنسـان هي شيطانه” (الشذرة، 119)، هذه الترجمة تفصح عن طريقة حديثة في التفكير ليست أبدا إغريقية، لأن (الايتوس) تعني: الإقامة ومكان السكن. إنـها تشير إلى المنطقة المنفتحة حيث يقيم الإنسان. هذا المنفتح الذي يقيـم فيه الإنسان يعمل على إظهار ما يتقدم باتجاه ماهية هـذا الأخير ليقيم في هذا الحصول على مقربة منه. إن مأوى الإنسان يحتوي ويحرس على مجيء ما عليه ينتمي الإنسان في ماهيته. وتبعا لكلمة هيرقلطس (Demon) فإن هذا الذي تنتمي إليه ماهية الإنسان هو الإله. إن الشذرة تقول: “الإنسان يقيم في القرب من الله بقدر ما يكون إنسانا”. والحكاية التالية التي أوردها “أرسطو”(8) تسير في نفس الاتجاه: “من المأثور عن “هرقليطس” هذه الكلمـة التي قالـها لبعض الغرباء الذين جاؤوا لزيارته في محـل إقامته، ولما اقتربوا منه وجدوه يستدفئ بالقرب من فرن لطهي الخبز. وقد كانت دهشتهم كبيرة لما رأوه على هذا الحال، فتسمروا في مكانهم مترددين بين الإقبال والأدبار، لكن هرقليطس الذي أدرك ما ألم بهم من دهشة وحيرة شجعهم على الإقدام ودعاهم إلى الدخول بالكلمات التالية: “هنا أيضا الإلـهة حاضرة.”

هذه النادرة واضحة من تلقاء ذاتـها ولا تحتاج إلى تعليق. ومع ذلك لنتوقف عندها قليلا: لقد أصيب وفد الزوار الغرباء الذين جاؤوا بدافع حب الاستطلاع، بالخيبة والحيرة بمجرد أن القوا نظرة على محـل إقامة المفكر. لقد كانوا يعتقدون أنـهم سيجدون هذا الأخير في ظروف تتسم، إذ تتعارض مع مجرى الحياة العادي للناس، بطابع الفرادة والندرة. ومن تم بالتشويق. الشيء الذي قد يمكنهم من استخلاص مادة من هذه الزيارة لثرثرة ولو لبعض الوقت. لقد كان هؤلاء الغـرباء الذين أرادوا زيارة المفكر في محل إقامته، يعتقدون أنهم سيفاجئونه في اللحظة التي يكون فيها بالضبط غارقا في تأمل عميق يفكر. إن رغبة الزوار هي أن يعيشوا تلك اللحظة، ليس لأن الفكر قد استهواهم قليلا، ولكن فقط ليستطيعوا القول بأنـهم رأوا وسمعوا شخصا اقل ما يقال عنه إنه مفكر. لكن بدل هذا وجد هؤلاء الفضوليون “هرقليطس” يجلس بالقرب من فرن. ها هنا مكان عـادي لا يثير الانتباه. إنه بالضبط المكان الذي يطهى فيه الخبز. الشيء الذي لم يكن يقوم به “هرقليطس” للأسف، بل ارتاد المكان من أجل التدفئة فقط. وبالتالي فقد فضح في هذا المكان العادي جدا كل ما في حياته من فاقة. فمشهد مفكر أحس بالبرد لا يدعو للاهتمام إلا قليلا، بحيث أن الفضوليين المحبطين فقدوا الرغبة في التقدم إلى الأمام بمجرد أن شاهـدوه على ذلك الحال. ماذا يصنعون في هذا المكان مادام هذا الحدث التافه والذي لا رونق فيه لشخص أحس بالبرد وجلس يستدفئ بالقرب من فرن، يستطيع كل واحد أن يشهده في أية لحظة عنده في مسكنه الخاص؟ أما “هرقليطس” فقد قرأ في وجودهم هذا الفضول المحبط. إنه يعرف أن حرمان الحشد من إثارة منتظرة كاف لرد هؤلاء الذين وصلوا للتو على أعقابـهم. لذلك أعاد لهم الشجاعة، ودعاهم صراحة للدخول رغم كل شيء بهذه الكلمات: “هنا أيضا الآلـهة حاضرة.”

إن هذا الكلام يلقي بضوء جديد على إقامة (إيتوس) المفكر وعمله. أما فيما يتعلق بمعرفة هل ما إذا كان الزوار قد فهموه في الحيـن، أو حتى أدركوه فقط مبصرين كل شيء عندئذ على ضوء هذا النور الجديـد بخلاف ما كانوا يعتقدون، فـهذا مالا تقوله الحكاية. ولكـن، أن تكون هذه القصة قد رويت إلى حد أنـها انتقلت إلينا نحن اليوم، فـهذا يرجع إلى كون ما تحكي عنه يصدر عن الانسجام الخاص الذي يسم هذا المفكر وحياته: “هنا أيضا” بالقرب من الفرن، في هذا المكان المتواضـع حيث كل شيء وكل ظرف وكل تصرف وكل فكرة هـي بـمثابة أشياء مألوفة وعادية، أي معهودة ومعتادة، “في هذا المكان نفسـه”، في هذا العالم المعهود، إنه بالضبط المكان الذي تكون “فيه الآلـهة حاضرة”. “إن الإقامة المعهودة والمألوفـة” ـ يقول “هيرقليطس” ـ هي المجال المنفتح لحضور الإله (المقدس) والعجائبي بالنسبة للإنسان”.

إذا كان إذن مصطلح “أخلاق”، انسجاما مع المعنى الأساسي لكلمة (ايتوس)، يدل على أنه كتخصص عليه أن يفكر في إقامة الإنسان، أمكننا القول بأن هذا الفكر الذي يفكر في حقيقة الوجود باعتباره العنصر الأصلي للإنسان من حيث هو منوجد، هو بمثابة الأخلاق الأصليـة. غير أن هذا الفكر ليس مع ذلك مجرد أخـلاق نظرا لكونه عبـارة عن انطولوجيا في حد ذاته، ذلك أن الانطولوجيا لا تفكر أبدا إلا في الموجود في كينونته (وجوده). والحال أنـها تظل بلا أساس طالما لا يتم التفكير في حقيقة الوجود. لـهذا السبب تعين الفكر الذي رام في “الوجود والزمان” التفكير باتجاه حقيقة الوجود كانطولوجيا أساسية. فـهذه الأخيرة ترقى إلى الأساس الجوهري الذي عنه يصدر التفكير في حقيقة الوجود. وقد أمكن لـهذا الفكر من خلال تقديمه لسؤال آخر أن ينفلت من “انطولوجيا” الميتافزيقا، (بما فيها تلك التي شيدها “كانط”). لكن “الانطولوجيا” سواء كانت متعالية أو قبل ـ نقدية، لا تسقط تحت ضربات النقد لأنـها لا تفكر في وجود الموجود وبالتالي تختزل الوجـود في المفهوم، بل لكونـها لا تفكر في وجود الموجود وتجهل بذلك أنـها فكر أكثر نجاعة من الفكر المفهومي، إن الفكر الذي يحاول التفكير باتجاه حقيقة الوجود لا يحمل إلى اللغة، نظرا لصعوبة مقاربته الأولى إلا جزءا ضئيلا من هذا البعـد الآخر. إن اللغة نفسها تفسد إذا لم ترق إلى دعم مساعدة الرؤية الفنومنولوجية، مع رفضها الادعاء المفرط للـ “علم” أو الـ “بحث”. إلا أنه لـجعل هذه المحاولة في التفكير بينة ومفهومة في نفس الوقت داخل الفلسفة القائمة، ينبغي أن نتحدث أولا انطلاقا من أفق هذه الفلسفة، ونستخدم المصطلحات التي من صلبها.

لقد علمتني التجربة مع مرور الزمن أن هذه المصطلحات نفسها تصبح مباشرة وحتما مضللة. ذلك أن القارئ لا يتجشأ عناء التفكير فيها وفي اللسان المفهومي انطلاقا من الواقع الذي ينبغي التفكير فيه أولا، بـل إن هذا الواقع ذاته قد تم تمثله انطلاقا من هذه المصطلحات وقد حافظت على دلالتها المألوفة. إن الفكر الذي يطرح السؤال بصدد حقيقة الوجود ليحدد بذلك الإقامة الماهوية للإنسان انطلاقا من الوجود وباتجاهه، لاهو بأخلاق ولاهو بانطولوجيا. لـهذا السبب لن يكون من الآن فصاعدا للسؤال عن العلاقة بين هذين التخصصين في هذا المجال أي أساس. هذا في حين أن سؤالكم سيظل وقد فكر فيه بأصالة أكبر محافظا على معنى ووزن أساسيين.

يجب علينا بالفعل أن نتساءل: هل هذا الفكر الذي إذ يفكر في حقيقة الوجود يحدد ماهية الإنسان كانوجاد انطلاقا من انتماء هذا الأخير للوجود، يظل مجرد تمثل نظري للوجود والإنسان، أم أن بإمكاننا أن نستخلص من مثل هذه المعرفة إشارات صالحة للحياة العملية وقابلة للتوظيف فيها ؟

الجواب هو كالتالي: إن هذا الفكر ليس بنظري ولا بعملي، إنه يحدث قبل هذا التمييز. وما دام يوجد على هذا النحو فهو فكر للوجود في الوجود ولا شيء غير ذلك. فهو إذ ينتمي للوجود لأنه من ألقى به لأجل الحراسة الصادقة لحقيقتـه ومن طالب به من أجل هذه الحراسة، إنـما يفكر في الوجود. ومثل هذا الفكر لا نتيجة له. لا ينتج أي أثر، بل يكتفـي بماهيته في اللحظة التي هو فيها. لكنه لا يكون إلا بالقدر الذي يقول فيـه ما عليه قوله. وفي كل لحظة تاريخية ليست هناك دائما إلا عبارة واحدة مما على الفكر قوله تكون من نفس طبيعة ما يجب عليه قوله. هذا الاقتضاء الذي يربط هذه العبارة بـما لـها وعليها قوله هو بالأساس أكثر سموا وتفوقا من صلابة العلوم، لأنه أكثر حرية منها، مادام يدع الوجود يوجد (بما هو عليه في طواعية حصوله).

إن الفكر يعمل على بناء مسكن الوجود، مسكن يفرض الوجود من خلاله من حيث هو من يجمع، على ماهية الإنسان أن تقيم كل مـرة في حقيقة الوجود انسجاما مع القدر. هذا السكن (المأوى) أو هذه الإقامـة هي ماهية “الوجود ـ في ـ العالم”. (الوجود والزمان، ص 54). فالإشارة الواردة في هذا المقطع عن “الوجود ـ في” باعتباره “مأوى” و “إقامة”، ليس لعبة اشتقاقية فارغة. وكذلك الأمر بالنسبة للإحالة في (محاضرة 1936) إلى كلام “هولدرلين”: “باستحقاق أكبر يقيم الإنسان شعريا على هذه الأرض”(9).

إن هذه الإحالة لم تكن أبدا تتويجا لفكر يبحث وقد غادر العلم، عن خلاصه في الشعر. فالحديث عن مسكن الوجود لا يعني أبدا أننا نستعير للوجود صورة “البيتّ. ذلك أن العكس هو الممكن. أي أنه انطلاقا من ماهية الوجود مفكرا فيها بما هي عليه، يمكننا في يوم من الأيام أن نفكـر فيما يكونه “المسكن” والإقامة”.

إن الفكر لا يبتدع أبدا مسكن الوجود، وإنما يقود انوجاد الإنسان التاريخي، أي إنسانية الإنسان الإنساني، إلى المجال الذي يشرق فيه فجر الحميد. لكن الحميد لا يتجلى في نور الوجود وانفتاحه إلا وبصحبته الخبيث. وماهية الخبيث لا تكمن في المكر المحض لممارسة الإنسان، بل في كيد الاندفاع. كلاهما : الحميد والاندفاع (الخبيث) لا يمكنهما بأي حال أن يبسطا ماهيتهما في الوجود إلا من حيث إن هذا الأخير هو مجال الصراع، فيه يحتجب ويختفي مصـدر الحصول الماهوي للانعدام. وما يُـعدِم يتجلى باعتباره ما يشتمل في ذاته على السلب والنفي : ليس…(10). هذا السلب والنفي يمكننا أن نستشفه في كلمة “لا”. فكل أدوات النفي، أي السلب لا تتأتى من قول ـ لاـ النافية. لأن كل “لا” لا تتطـابق مع تجلي القدرة التي للذاتية نفسها أن تطرحها وتظل سماحا بوجود الانوجاد، هي بمثابة استجابة لمطلب الانعدام الذي اتضح. فكل “لا” ليست إلا إقرارا وتصريحا بوجود السلب (ليس…). وكل إقرار هو بمثابة اعتراف. هذا الاعتراف يسمح لما يتعلق الأمر به [لغة] بالمجيء إلى ذاته. ولقد ساد الاعتقاد بأن الانعدام لا يمكننا العثور عليه في الموجود ذاته. وهذا صحيح طالما أننا نبحث عن المعدوم كشيء موجود، أي كنمطية لنظام الموجود الذي يؤثر في الموجود. لكننا بهذه الطريقة في البحث لا نكون حقيقة بصدد البحث عن المعدوم. الوجود نفسه ليس كيفيـة لـهذا النظام الذي يمكننا أن نستنتجـه في الموجود، ومع ذلك فهو أكثر وجودا من أي موجـود. ومادام الانعدام يبسط ماهيته في الوجود ذاته، فليس بإمكاننا أبدا أن ندركـه كشيء موجود يؤثر في الموجود. إلا أن الإحالة إلى هذه الاستحالة لا تبرهن في شيء وبأي حال من الأحوال، على أن مـصدر حصول السلب لغة يتأتى من القول ـ لا. فمثل هذا البرهان لا يبدو أنه محـق إلا إذا كنا ننظر للموجود على أنه الواقع الموضوعي للذاتية. يستنبط إذن من هذا الخيار (الحيرة) أن كل أساليب النفي التي تصاغ لغة، مادامت لا تتجلـى أبدا كشيء موضوعي، عليها بدون منازع أن تكون من إنتاج فعل الذات.. أما فيما يتعلق الآن بمعرفة هل ما إذا كان قول ـ لاهو الذي يضـع كل صفة للسلب كمجرد موضوع للفكر، أو أن الانعدام ذاته هو الذي يطالب قبل كل شيء بـ: “لا” باعتبارها ما يمكن قوله في إطار السماح بوجود الموجود، فإن تأملا ذاتيا في الفكر الذي وضع نفسه مسبقا كذاتية لا يمكنه بكل تأكيد أن يقـرر بصدد هذا. إن مثل هذا التفكير لن يتمكن بعد من الوصول إلى البعد الذي بداخله يمكن لـهذا السؤال أن يطرح كما ينبغي. بقي لنا أن نتساءل: إذا افترضنا أن الفكر ينتمي للانوجاد، ألا تكون كل “لا” وكل “نعم” بالنظر إلى حقيقة الوجود منوجدة مسبقا؟ إذا كان الأمر كذلك فهذا معناه أن “نعم” و “لا” هنـا من صميم حقيقة الوجود، إليه يصغيان وإياه يخدمان. وبما أن وجودهمـا من صميم هذه التبعية، فليس بإمكانـهما أبدا أن يضعا من تلقاء ذاتـهما ما إليه ينتميان.

إن الانعدام من صميم ماهية الوجود نفسه، فيها يبسط ماهيته لا في كينونة الإنسان التي هي كينونة ـ هنا، أي “وجود ـ في ـ العالم”. وإذا كنا ننظر إليه خطأ بخلاف ذلك فلأننا نفكر في هذه الكينونة ـ هنا كذاتية للأنا ـ المفكرة (للكوجيطو).

إذا كانت الكينونة ـ هنا تنفي وتسلب وتعدم فهذا لا يرجع أبدا إلى كون الإنسان هو من ينجز هذا العدم بفعل كونه ذاتا، بل لأن ما يخـول لـها القيام بذلك باعتبارها الماهية التي في قلبها ينوجد الإنسان، هو كونـها من صميم ماهية الوجود، فالتعديم من فعل الوجود بما هـو كذلك. لـهذا السبب تجلى السلب في المثالية المطلقة عند كل من “هيغل” و “شيلنج” باعتباره ما يحصل في ماهية الوجود كنفي للنفي. إلا أن الوجود قد فكر فيه آنذاك بمعنى الحقيقة المطلقة باعتبارها إرادة لا مشروطة ترغب في ذاتـها، وترغب فيها كإرادة للمعرفة والحب. في هذه الإرادة كـان الوجود من حيث هو إرادة اقتدار ما يزال محتجبا. لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نفحص هنا لماذا كان السلب في الذاتية المطلقة “جدليا”، ولماذا ظل في نفس الوقت النفي (التعديم) الذي حمله إلينا الجدل مستترا في ماهيته.

إن ما ينفي ويسلب ويعدم في الوجود هو ماهية ما ادعوه بالعدم أو (اللاـ شيء). لـهذا السبب كان الفكر الذي يفكر في الوجود يفكر في العدم كذلك. وحده الوجود يخول للحميد ارتقاءه للنعمة واللطف، وللاندفاع والتهور (الخبيث) ارتماءه باتجاه الإفلاس والخسران.

بقدر ما ينتمي الإنسان المنوجد في حقيقة الوجود إلى الوجود، بقدر ما يمكن أن يصدر عن الوجود ذلك التكليف بالفرائض التـي ينبغي أن تصبح بالنسبة للإنسان ضوابط وقوانين. والتكليف باللسان الإغريقي هو (نيمون). والناموس ليس فقط مجرد قانون(11)، بل إنه أكثر من ذلك التكليف المتستر في قرار الوجود. وحده هذا التكليف يمكن من حمل الإنسان إلى الوجود وإلزامه به. ووحده هذا الإيعاز والأمر يسمح بالحمل والربط. في حين تظل كل القوانين مجرد نتاج للعقل البشري. إن ما هو أكثر جوهرية من مؤسسة القوانين هو اكتشاف الإنسان لمواطن الإقامة بالنظر إلى حقيقـة الوجود. وحدها هذه الإقامة تخول تجربة ما يوثق الروابط، ذلك أن حقيقة الوجود هي التي تصنع هبة التماسك في كل عروة وثقى. إن كلمة: (هالت) (قف) في اللغة الألمانية تعني: “حراسة” (انتباه). فالوجود هو الحراسة التي تشتمل في حقيقتها على رعاية الإنسان في ماهيته الانوجادية، بحيث تقود الانوجـاد إلى مأواه في اللغة. هذا ما يجعل اللغة مسكنا للوجود ومأوى لماهية الإنسـان في نفس الوقت. ولو أنـها لم تكن كذلك لما أمكن للبشر وللإنسانيات التاريخية أن تغدو بلا مأوى في لسانـها الخاص الذي أصبح بالنسبة لـها حجرة قيادة لإدارة دسائسها.

لكن في أية علاقة يتموقع فكر الوجود بالموازاة مع التصرف النظري والعملي؟ إن هذا الفكر يسمو على كل تأمل لأنه يهتم بالنور الذي فيه وحده يمكن لرؤية ما أن تقيم وتتصرف كنظرية. إنه يكون شديد الاهتمام والانتباه إلى نور الوجود وانفتاحه عندما يدرج قوله للوجود في اللغة التي هي لغة مأوى الانوجاد. هكذا يكون الفكر ذاته عملا وممارسة. لكنه عمل يتفوق دفعة واحدة عن كل براكسيس. إن الفكر أرقى من كل فعل وإنتاج، وهذا ليس راجعا إلى عظمة ما يحققه أو إلى النتائج التـي تترتب عنه، وإنما إلى عدم دلالة فعل انجازه الذي لا نتيجة له. فالفكر فيما يقوله، لا يحمل إلى اللغة سوى كلام الوجود الذي لم يقل بعد. يجب علينا ابتداء من الآن أن نأخذ العبارة المستعملة هنا “الحمل إلى اللغة” بمعناها الحرفي. باستضاءته وانفتاحه يأتي الوجود إلى اللغة. إنه في طريقه إليها دون انقطاع. والفكر المنوجد يحمل من جانبه إلى اللغة فيما يقوله هذا القدوم والمجيء (الحصول). هكذا تكون اللغة نفسها قد ارتقت إلى نور الوجود وانفتاحه وسمت فيه. وحينئذ فقط يتجلى لنا كم أن اللغة غريبة وملغزة. وكيف أنـها مع ذلك هي من يوجهنا ويتحكم فينا باستمرار. وحينما تكون اللغة وقد حُملت إلى سعة ماهيتها على هذا النحو تاريخية، آنـذاك فقط يكون الوجود محروسا في ومن أجل الفكر ـ الذي يفكر ـ فيه. إن الانوجاد لا يقيم في مسكن الوجود إلا عندما يفكر. وكل هذا يحصـل كما لو أن لاشيء مطلقا يترتب عن هذا القول ـ المفكر.

يخطر لنا في هذه اللحظة نفسها مثال حي عن هذا التصرف للفكر الذي يحدث في صمت ودونـها مظهر ؛ فنحن عندما نفكر في هذه الصيغة المرسلة للغة بالخصوص: “يحمل إلى اللغة”،وعندما يكون كل همنا أثناء الكلام هو الإبقاء على ما أتينا على التفكير فيه، باعتباره ما سيكون علينا انطلاقا من الآن أن نفكر فيه دائما، نكون بالفعل قد حملنا إلى اللغـة شيئا ما فيه تنبسط ماهية الوجود ذاته. وما يدعو حقا للغرابة والدهشة في فكر الوجود هذا، هو احتواؤه على شيء بسيط. وهذا بالضبط هو ما يبعدنا عنه. ذلك أننا تعودنا البحث عن هذا الفكر الذي انتقل إلينا عبر التاريخ تحت اسم “فلسفة”، باعتباره المخالف للمالوف الذي لا يكون في متناول غير المعنيين به. إننا نتمثل الفكر على نمط المعرفة والبحث العلميين، ونقيس العمل بالانجازات الهامة المتوجة لانتصار الممارسة. لكن عمل الفكر لا هو بنظري ولا هو بعملي. كما أنه لا يكمن فوق ذلك في الجمع بين هـذين النمطين من التصرف. إن هذا الفكر الذي هو تفكير للوجود في الوجود يمنعنا من التعرف عليه بفعل بساطة ماهيته نفسها. وحتى عندما نحاول الاستئناس بما في ماهيته من شذوذ وغرابة، نجد أن ثمة صعوبة أخرى تترصدنا، فيساورنا الشك فيما إذا لم يكن يسقط ضحية الاعتباطية مادام لا يستطيع أن يتمسك بالموجود. على أي أساس إذن، وبأية معايير وضوابط يهتدي الفكر؟ ما هو قانون عمله؟

هنا بالضبط يجب أن يثار السؤال الثالث الوارد في رسالتكم: كيف ننقذ عنصر المغامرة الذي يتضمنه كل بحث دون أن نجعل من الفلسفة مجرد مجازفة ؟

لنكتف في هذه اللحظة وعلى سبيل الإشارة فقط، بذكر الشعر. فهذا الأخير يتموقع أمام نفس السؤال وبنفس الكيفية كما الفكـر. والكلمة التي ما صدق أرسطو أن قالها في كتاب “الشعر”، تظل دائما صالحة ومحقة، وهي إن الإبداع الشعري أكثر حقيقة وواقعية من التحري المنهجي للموجود.

والحال أن الفكر كبحث وسؤال بصدد اللاـ مفكر ـ فيه ليس مغامرة. إنه في ماهيته من يطالب به الوجود باعتباره فكرا للوجود في الوجود. فهو باقترابه من الوجود وتعلقه به إنما يتعلق بما يحصل. إنه يرتبط من حيث هو فكر بإقبال الوجود وحصوله. أي بالوجود من حيث هو هـذا القدوم والإقبال (الحصول). لقد أقبل الوجود إلى الفكر وانكتب له. والوجود لا يكون إلا من حيث هو قدر الفكر. لكن هذا القدر تاريخـي في ذاته، وقد حدث أن اقبل تاريخه إلى اللغة من خلال قول المفكرين الذين حملوه إليها.

إن المهمة الوحيدة الملقاة على عاتق الفكر هي أن يحمل في كل مرة قدوم الوجود إلى اللغة. وهو قدوم وإقبال مستمر يترقب الإنسـان على الدوام. لـهذا السبب يسعى المفكرون الأساسيون بثبات إلى قول ذات الشيء. وهذا ليس معناه : المتطابق. ومن المؤكد أنـهم لا يتحدثون عنه إلا لمن اضطلع بمهمة التفكير اقتفاء لأثرهم. وعندما يكون الفكر وهو يفكر تاريخيا في الوجود، شديد الانتباه لـهذا الأخير، آنذاك يكون قد اقترن مسبقا بالتلاؤم الذي ينسجم مع هذا القدر. وهذا الملاذ المتطابق ليس بالخطير. وإنما الخطر كل الخطر هو المجازفة في هذا التنافر الحاد لقول ذات الشيء، حيث التهديد بالتلعثم والتفكك المحض.

إن القانون الأول للفكر هو تلاؤم وتوافق قول الوجود كقدر للحقيقة، وليس هو قواعد المنطق التي لا تستطيع أن تكون قواعد إلا انطلاقا من قانون الوجود. لكن، أن نكون شديدي الاهتمام بالقول ـ المفكر لا يقتضي منا فقط أن نفكر في كل مرة فيما ينبغي قوله عن الوجود وكيف يجب قول ما يجب ـ التفكير ـ فيه ؟ وإلى أي حد ؟ وفي أي لحظة من تاريخ الوجود ؟ وأي حوار مع هذا التاريخ ؟ وأخيرا انطلاقا من أي مطلب؟ هذه النقط الثلاث التي أثيرت في رسالة سابقة(12) قد حددت في قرابتها انطلاقا من قانون توافق الفكر التاريخي/الانطولوجي: ألا وهو نجاعة التأمل والتفكير، الحذر اليقظ للقول والاقتصاد في الكلام.

لقد حان الوقت للكف عن التقدير الزائد للفلسفة، ومن تم مطالبتها بالشيء الكثير. وهذا ما يلزمنا لسد الخصاص الحالي للعالم: قليل من الفلسفة مع كثير من الاهتمام بالفكر؛ قليل من الآداب وكثير من العناية بالرسالة كما هي. إن الفكر الذي سيأتي لن يكون فلسفة لأنه سيفكر بأصالة أكثر من الميتافزيقا التي هي كلمة مرادفة لـها. إنه لن يتمكن أبدا من التخلي عن اسم “محبة الحكمة” كما أراد له “هيغل”، ليصير هو الحكمة عينها في شكل معرفة مطلقة. إن الفكر سيهبط من جديد إلى فقر ماهيته العابرة، ويجمع اللغة باتجاه القول البسيط. هكذا ستكون اللغة هي لغة الوجود، تماما مثلما هي السحب للسماء. إن الفكر بقوله يرسم في اللغة ثلاما لا مرئية، ثلاما أقل تجليا من تلك التي يحفرها بخطواته البطيئة على امتداد الحقل.

 

 

LETTRE A JEAN BEAUFRET

رسالة إلى “جان بوفريه”

لقد جعلتني رسالتك التي نقلها إلي م. بالمر MPalmer منذ بضعة أيام قي غاية السعادة.

إني لم أتعرف على اسمكم إلا منذ فترة وجيزة، وذلك من خلال مقالاتكم القيمة التي نشرتموها في مجلة Confluences، والتي لا أتوفر منها لسوء الحظ سوى على العدد الثاني والخامس. ولقد تبين لي منذ المقالة الأولى (العدد 2) المفهوم الرفيع الذي تخصون به “الفلسفة”. إنه هنا ما يزال ذلك المجال الخفي الذي وحده المستقبل كفيل بإضاءته. لكن هذا لن يحصل إلا إذا لقيت نجاعة الفكر وفطانة القول واقتصاد الكلمات اهتماما غير ذلك الـذي حظيت بـها حتى الآن. وإنك لترى أن الهوة التي تفصل هنا فكري عن فلسفة “كارل ياسبيرس” K. Japers جد شاسعة. ناهيك عن الحديث عن كون السؤال الذي يوجه فكري مختلفا تماما، وأنه قد قوبل بشكل يدعو للغرابة بتجاهل مطلـق. إني أقدر “ياسبرس” حق قدره كشخص وككاتب.. فتأثيره على الشباب الجامعي في غاية الأهمية. لكن المقاربة بين “ياسبرس وهيدغر” التي أصبحت متداولة في فلسفتنا بشكل كلاسيكي تقريبا، هي سوء الفهم بامتياز. وقد بلغ سوء الفهم هذا أقصى مداه في ذلك التمثل الذي يجعل من فلسفتي “نـزعة عدمية”، رغم أنـها لا تسـأل فقط عن وجود الموجود ككل الفلسفات السابقة، وإنما ماهية النـزعة العدمية تكمن على العكس من هذا في كونـها غير قادرة على التفكير في العـدم. إني أتنبأ في فكر فلاسفة فرنسا الشباب بقفزة رائعة تكشف بوضوح على أن تمة ثورة تتهيأ في هذا المجال، رغم أني لم أنتبه لذلك إلا منذ عدة أسابيع فقط.

إن ما تقولونه عن ترجمة (دزاين : Da-sein) بالـ”الواقع الإنساني” صحيح كل الصحة. وممتازة هي كذلك ملاحظتكم : “إذا كان للغة الألمانية منابعها فإن للغة الفرنسية حدودها”. هنا تكمن الإشارة الجوهرية لإمكانية المثاقفة بينهما وفق تبادل متكافئ ضمن فكر منتج. [نتمنى من خلال هذه الترجمة أن تنال العربية نصيبها من ذلك].

إن مصطلح “الكينونة ـ هنا” هي الكلمة المفتاح لتفكيري. كما أنـها تفسح المجال أمام أخطاء فادحة في التأويل. إن “الكينونة ـ هنا” (الدزاين) لا تعني بالنسبة لي “ها أنا ذا”، بل إذا أمكن لـي أن أعبر عن ذلك بفرنسية لاشك مستحيلة : etre-le-la (كينونة ـ الـ ـ هنا). والـ “هنا” هي بالضبط انكشاف ولا ـ اختفاء (أليتيا) أي انفتاح. لكن هذا ليس إلا إشارة عابرة. إن الفكر الخصب يمتح أكثر من حيوية النقـاش، ومن هذا العمل الذي هو تعلم وأخذ أكثر مما هو عطاء.

مجلة الجابري – العدد الحادي عشر


المصدر:

M. Heidegger “Lettre sur l’humanisme” in Questions III T.R. Munier. Ed. Gallimard 1966, pp. 73-157.


 

الهوامش:

1 ـ قد يبدو هذا المصطلح غريبا. لكن غرابته تتبدد إذا علمنا أنه يحيل إلى معنى جديد يستمده من الحقيقة التي توجد عليها ماهية الإنسان باعتبارها “وجودا ـ في ـ العالم”. بحيث تكون بذلك ماهيتها من صميم ماهية الوجود. وبما أن ماهية الوجود هي الحقيقة من حيث انكشاف وانفتاح وتفتح وتعال، يحيل إلى الحضور كفضاء زماني تفاضلي، الشيء الذي يجعل ماهية الوجود والزمان والحقيقة على حد سواء هي الشرط الانطولوجي المسبق لكل كينونة تدرك أبعاد ماهيتها كامتداد لماهية الحقيقة ـ والإشارة هنا للإنسان ـ فإن الانوجاد هو طواعية هذا الوجود : هو الحضور المنفتح على ماهية الحقيقة كنور وانفتاح ؛ هو الحقيقة إذ تحجب وتخفي وتنكشف وتتجلى فتكون بما هي عليه، مكتفية بذاتها، مضيئة لما يحضر ساترة في غياهبها لما يغيب. لذلك أدرك “هيدعر” أن الصـواب هو القول بأن الوجود ينوجد، وأن ماهية الإنسان انوجاد، فكان التغيير في البنية الصوتية للكلمة (Ek-sister بدل : Ek-sistences, exister بدل : Existence) هو الكيفية المثلى لحمل ماهية الوجود والإنسان والحقيقة إلى اللغة والتخلص من الحمولة الميتافيزيقية القديمة للمصطلح. أما المصطلح العربي : “أنوجاد” فبنيته الصرفية (الزيادة بالألف والنون للدلالة على المطاوعة) تسهل التفكير باتجاه المعنى المراد. لأن المصدر هنا بتسميته للفعل في طواعيته يدل على الحصول التلقائي. والحصول من صميم ماهية الوجود التي تجعل من الإنسان موجودا حاضرا متعاليا متفتحا على الحقيقة إلى حد القداسة. وهذا هو أقصى غايات الانوجاد كما يرى “هيدعر”، وأيضا بماله من قرابة بمعاني الوجد والوجدان والوجود، كما أن الفعل “انوجد” يتضمن اقتضاء معاني : وَجَد، وُجِد، أوجد. وكلهـا من معاني الوجود منه تمتح إمكانية تحققها مادامت علاقتها بالعدم كذلك هي سندها الانطولوجي القوي لأن تقول ما تتضمنه من حقائق هي بمثابة محددات أساسية لماهية الحقيقة المشار إليها.

2 ـ لقد احتل هذا الضمير “on” مكانة متميزة في تفكير “هيدغر” خصوصا في كتابه “الوجود والزمان” بحيث إن تحليل الكينونة ـ هنا (الدزاين) ينبني في معظمه على تحليل هذا الحضـور الدال له في اللغة، والشائع أنه تتم مقابلته في العربية ب ضمير ال “هم”. هذا في حين أن وظيفته الدلالية في اللغات الهندية ـ الأوربية التي تكاد تنفرد به دون العربية ـ على الأقل من حيث هو فاعل مصـرح به ـ هي أنه يدل على الجميع دون أن يعني أحدا على وجه التحديد. ومثل هذه الوظيفـة هي ما يتحقق مع ضمير الـ “نحن” و “نا” الجماعة في لغتنا، وكذلك في صيغة المصدر حيث الفعل والاسم مندمجان الشيء الذي يجعل العبارة صيغة للفعل الذي يمكن أن يقوم به أي كان. لذا قال هيدغر ” إن اللغة كالترام حيث يمكن لأي شخص أن يصعد إليه ويهبط منه”. (م)

M. Heidegger : Introdiction a la metaphysiqueed. Gallimard.

3 ـ إن ماهية الإنسان وبحكم علاقتها المتعالية بالوجود وانفتاحها على حقيقته، تنحو بالضرورة منحى صوفيا. أي أن كينونتها القائمة ـ في ـ نور ـ الحقيقة تنفتح بمعانقتها للموجود في كليته على ما في الوجود من قدسية (الغريب والعجائبي). هذه الأخيرة هي “السر” وقد تجلى كحضور وغياب، كانكشاف واحتجاب. وهذا معناه الحضور الدائم للسؤال الذي لا يشفع له إلا المقدس الماثل كاثر للوجود وقد تجلى في نوره الموجود، إن هذا الحضور المسبق للمقدس الذي هو من سمات الوضع الانطولوجي لماهية الإنسان في علاقتها بحقيقة الوجود، هو الشرط الانطولوجي المسبق الذي يجعل التصوف كما نعرفه تجربة ممكنة لكنها ضرورية. وما الوجود والحلول والإشراق الإدروة الدهشة والانبهار بالوجود والتجاوز والتعالي لمعانقته كلية الموجودة. (م)

4 ـ لقد أصبح مضمون هذا المصطلح (الدزاين) أو الكينونة هنا جديدا كل الجدة منذ أن استعمله “هيدغر” : فمنذ ظهور كتاب (الوجود والزمان 1927) تأكد أن الفنومنولوجيا ليس بوسعها أن ننجز التصميم الذي يعيد رسم الملامح الأساسية لماهية الإنسان وفق تشكلها الانطولوجي كوجود ـ في ـ العالم، إلا بالابتعاد عن مصطلحات ميتافزيقية من قبيل الذات، الماهية، الجوهر، الروح والوعي… التي نحتتها فلسفات الوعي والذاتية (ديكارت ـ هيغل…). وهذا الابتعاد هو ما توخاه “الهدم الفنومنولوجي” الذي كان هدفا للانطولوجيا الأساسية، هذه الأخيرة مكنت بحسن استعمالها لمصطلح (الدزاين) من إعادة تأويل ماهية الإنسان في علاقتها بالوجود، فكانت الـ “هنا” ـ التي يجب أن تظهر في الترجمة نظرا لأهميتها باعتبارها بيت القصيد ـ هي الإشارة الواضحة إلى التعالي والانفتاح، إلى الخروج من “الذات”، إلى الوجود ـ في ـ العالم، إلى اللغة كمأوى لحقيقة الوجود، والأفضل أن نتجنب النقرحة في ترجمتها. لذلك عندما نقول الكينونة “هنا” نكون بالفعل قد حققنا هذا المطلب. وقد نبتعد عنه إذا قلنا (الحقيقة الإنسانية) ولم نكلف نفسنا عناء التفكير فيما تنطوي عليه من معاني وأبعاد. (م)

5 ـ لمزيد من الإلمام بمقتضيات هذه العبارة وبقيمتها التعبيرية عن حقيقة الوجود التي تمكننا من التفكير فيه بـمعزل عن الموجود، بحيث نقر بوجوده دون أن نجعل منه موجودا متعينا على نـمط الكائن، يستحسن الرجوع إلى مقالة “هيدغر” “الزمان والوجود” في كتاب: “التقنية ـ الحقيقة ـ الوجود” ترجمة بالاشتراك مع د. محمد سبيلا المركز الثقافي العربي: بيروت / الدارالبيضاء 1995.

6 ـ من الغريب أن ثمة قرابة في اللغة العربية بين كلمة “موضوع” وكلمة “وضيع”. إن هذا يدعو إلى التفكير. ويؤكد ما يقوله هيدغر من أن كل “موضعة” للشيء هي “توضيع” له.

7 ـ الإشارة هنا إلى المطاوعة (الألف والنون). والتي معنـاها في هذا المصطلح ما قيل عن الـ “هنا” في الكينونة ـ هنا.

8 – Parties des animaux. A5, 645. a. 17.

9 ـ من قصيدة “هولدرلين” “كما لو في يوم عيد” انظر :

Friderich Holderlin : Deuze PoemesPar : Francois Fedier difference 1989.

انظر أيضا : “انشاد المنادى” بسام حجار. المركز العربي للإنماء القويم 1994. وقد خص “هيدغر” هذا البيت الشعري بكثير من الاهتمام متخذا منه عنوان لمقالة حلل فيها معنى الإقامة الشعرية للإنسان على هذه الأرض انظر :

M. Heidegger : L’homme habite en poete in : Essais et conferences. Ed: Gallimard.

10 ـ أدوات النفي كثيرة منها : (ليس ـ لم ـ لن ـ لا ـ ما ـ دون…) إن احتواء اللغـة على هذه الأدوات يقول “هيدغر”، هو أكبر دليل على كونـها تأوي حقيقة الوجود، وهي هنا كون العدم من صميم ماهيتها. لذلك فاللغة بتوظيفها لـهذه الأدوات إنما تستجيب في حقيقة الأمر لـهذا الـمطلب الأصلي، الشيء الذي لا يجعل السلب خاصية تضفيها الذات على الموجود كما لو تخلع عليه صفة من نتاج فكرها. (م)

11 ـ “الناموس” كلمة عربية تداولت منذ القديم. وهي لا تتطابق مع الكلمة الإغريقية من حيث البنية الصوتية فقط، بل كذلك من حيث المضمون، إنـها تعني التكليف بالفرائض (الشريعة). ما مصدر هذا التكليف؟… هذا ما لا يمكن تبينه لأنه “السر” في حد ذاته. وهو بالضبط ما يسمح بالحديث عن النبوة. وعن الرسالة السماوية. وعن الرسل كأشخاص مصطفين لهم حق النطق باسمه. وهو هنا “الله”. عندما ذهبت خديجة زوجة الرسول (ص) إلى بن عمها “ورقة بن نفيل” الذي كانت له معرفة بالكتب السماوية، لتستفسره عما ألم بزوجها وقد عاد من غار حراء يطلب منها أن تدثره (الغار: العزلة : السر : الارتباط المباشر بالمقدس). أجابـها بأن زوجها سيكون له شأن عظيم، وأن ما أصابه كان “الناموس” الأعظم الذي “كلم” موسى. “الناموس” إذن شريعة، والشريعة هي التكليف بالفرائض. لاتـهمنا هنا القرابة التي للسان العربي بالإغريقي (التي كانت ولا تزال موضوع عدة دراسات شيقة ومثيرة) سوى في التوكيد على أن الناموس (الشريعة بمعناها الأصلي والأصيل)، كانت قضية للفكر قبل أن تصبح موضوعا ومصدرا للوحي والتنزيل، وبما أن ماهية الإنسان والفكر من صميم ماهية الوجود حيث القداسة والألوهية من سماتـها وأسمى تجلياتـها فإن التفكير باتجاهها بناء على المواصفات التي يقدمها هيدغر للفكر، كفيل بأن يجعل هذا الأخير ليس فقط مصدرا للأخلاق والقوانين، بل الأخلاق عينها وقد تجلت كأسمى قانون للوجود. فالناموس الأعظم هو الوجود بكل هذه الأبعاد.(م)

12 ـ انظر الرسالة اللاحقة التي بعث بـها هيدغر إلى جان بوفريه. ت. عبد الهادي مفتاح.