مجلة حكمة
الكتابة النسائية

البعد التراثي في الكتابة النسائية – خديجة أميتي


1 – الكتابة النسائية “كوعي” مرتبط/وفي علاقة مع بروز مفهوم الاختلاف والمجتمع المدني.

إن أية كتابة ليست إلا تعبيرا عن وعي بالأنا، الأنا في بعده الفردي أو الجماعي. أي الوعي بالاختلاف. والاختلاف الذي نعنيه قيمة من قيم الحداثة وضرب للمركزية الثقافية، العرقية أو السياسية أو الجنسية (ذكور/إناث).

والاختلاف بصيغة أخرى يعني الاعتراف بالتنوع والتعدد: تعدد واختلاف الثقافات بمعنى نسبية الثقافة، أو الاختلاف بين الجنسين-ولا نقصد هنا التمييز بين الجنسين الذي يتنافى مع قيم الحداثة التي تتأسس على المساواة والإقرار بالحقوق الفردية والجماعية- بل الاختلاف الذي يؤسس الديموقراطية.

و الكتابة النسائية تدخل ضمن هذه التعددية وهذا التنوع، مقابل الكتابة “الذكورية” التي تنتج خطابا يقصي الاختلاف ويلغي الآخر لصالح التمركز “الذكوري”. وللتوضيح فإن هذا النوع من الكتابة لا يخص الذكور بل قد يكون بأقلام نسائية، لأنه مرتبط بالثقافة وليس بالجنس.

هذا لا يعني تبنينا لنظرة “نسوانية” منغلقة، بل الإقرار بوجود كتابة نسائية، اعترافا بوجود نمط مختلف من التعبير والكتابة، تتناول فيه المرأة الكلام عن نفسها دونما حاجة أن يقوم الرجل بذلك نيابة عنها. كيف كانت البداية؟

2 – البدايات الأولى: غلبة الوحدة على الاختلاف وأولوية السياسي.

بحكم الشروط التاريخية التي عرفها المغرب فترة الحماية، كانت النخبة في البلاد تعطي الأولوية للوحدة على الاختلاف لضرورة مقاومة الأجنبي (المستعمر). فبرغم وجود كتابات بأقلام نسائية (على ندرتها) فإن الهاجس السياسي كان يطغى عليها. ذلك أن المرأة في تلك الفترة لم تكن تعبر عن نفسها بقدر ما كان يعبر عنها. فالرجال هم الذين كانوا يتناولون الكلمة ويدافعون عن بعض قضاياها كحقها في التعليم، إلغاء تعدد الزوجات أو تقنينه… وذلك في إطار الإشكالية العامة المطروحةآنذاك: إشكالية النهضة (نموذج الحجوي، علال الفاسي.. والذين تأثروا بالفكر النهضوي في المشرق الذي طرح في إطار مشروعه المجتمعي تحرير المرأة: مثل محمد عبده، قاسم أمين.. وغيرهم).

أما النساء بحكم تفشي الأمية (نسبة قليلة هي التي استفادت من التعليم في البداية) فإنهن كن يشكلن أقلية. (وتبرز هنا أسماء كزهور الزرقاء، مليكة الفاسي، أخوات الصفاء… وكلهن يعتبرن رموزا من المقاومة).

3 – المرحلة الثانية: ظهور الحركات النسائية وتشكل المجتمع المدني

بروز وإعطاء الأهمية للاختلاف: البدايات الحقيقية للكتابة النسائية.

هذه المرحلة يمكن تقسيمها إلى مرحلتين:

-الأولى: انخراط النساء في الأحزاب السياسية الوطنية والدفاع عن قضية وتشكيل قطاعات نسائية داخلها.

-الثانية: وهي الأهم في نظرنا لأنها عرفت تحولا نوعيا في مسار الوعي النسائي. وقد بدأت منذ الثمانينات. وبالتحديد مع ظهور حركة نسائية نشيطة فاعلة في الساحة الاجتماعية والسياسية، وبتزامن مع ظهور معالم تشكل مجتمع مدني في المغرب – الذي يعتبر أساس المجتمع الحديث- حيث ظهرت أولى التنظيمات النسائية، ومعها صحافة نسائية. تتساءل زكية داود في كتابها “النسائي والسياسي في المغرب العربي” عن الدوافع لولادة هذه التنظيمات: “هل هي ذكرى السنة الدولية للمرأة بنيروبي؟ أم أنها نتيجة لمسار نضالي طويلي ساهم في إنضاج الشروط لذلك؟

ففي نفس السنة التي أحيت فيها النساء ذكرى السنة الدولية للمرأة 1985 عرفت ولادة ثلثي الجمعيات النسائية. وقبلها بقليل أي سنة 1983 ظهرت أول جريدة نسائية. وبعدها بسنة أي سنة 1986 ظهرت مجموعة مقاربات… وبعد ذلك وصل عدد هذه الجمعيات إلى عشرين جمعية (وهو عدد ضئيل إذا ما قورن بمجتمعات أخرى في نفس مستوى المغرب اقتصاديا واجتماعيا، ومع ذلك فإنه عدد له دلالته، ويؤشر على تبلور وعي نسائي بالمغرب).

منذ هذه الانطلاقة بدأت الكتابة النسائية تتزايد سواء على صفحات الجرائد أو المجلات، أو علة شكل كتب ذات صبغة أدبية، (روايات، أشعار إلى غير ذلك) أو ذات طبيعة تحليلية تبرز دور المرأة في المؤسسات الاجتماعية… لأن الكتابة النسائية التي نتحدث عنها لا تنحصر بالضرورة في الشعر والرواية والقصة، بل تتعداها إلى مجالات وتخصصات أخرى أهمها الكتابة حول المرأة ذاتها، قضاياها وحقوقها وكذا أوضاعها الاجتماعية والقانونية الخ… وهذا الصنف من الكتابة جاء كنتيجة لوعي المرأة ونخبها بضرورة أخذ المبادرة لتؤسس خطابها في استقلالية عن “هيمنة” سلطة الخطاب الذكوري التقليدي المحافظ الذي يكرس اللامساواة بين الجنسين.

لم يكن لهذا التحول في الوعي النسائي أن يظهر إلا بعد التحولات الاجتماعية التي عرفها المغرب من تراكم على المستوى العلمي والمعرفي لدى نخبة من النساء من جهة وظهور تنظيمات نسائية كما رأينا، تحركها أهداف واستراتيجيات مشتركة كـ:

-تغيير القوانين الخاصة بالمرأة (مدونة الأحوال الشخصية) في اتجاه إقرار المساواة بين الجنسين كما ينص عليها الدستور المغربي والمواثيق الدولية.

-حق المرأة في تولي مواقع القرار على المستويين الاقتصادي والسياسي

-تغيير صورة تولي مواقع القرار على المستويين الاقتصادي والسياسي

-تغيير صورة المرأة في وسائل الإعلام والكتب المدرسية…

لتحقيق هذه الأهداف تشكلت مجموعات البحث. نذكر منها: (مقاربات Approche) التي كانت تشرف عليها الأستاذة فاطمة المرنيسي وأصبحت تشرف عليها الأستاذة عائشة بالعربي، (“المرأة والمؤسسات” لفاطمة الزهراء زريول، “مجموعة نساء عام 2002″((Femmes 2002 لفاطمة المرنيسي و ذ. عمر عزيمان… و غيرها من المبادرات التي كانت تناقش مجموعة من القضايا النسائية).

4 – المرحلة الثالثة: الحركات النسائية في مواجهة التقليد ورد فعلها بالرجوع إلى الماضي/التراث.

أصبحت النخبة النسائية التي أفرزتها التحولات الاجتماعية والتي بدأت تعبر عن مطالبها في إقرار المساواة بين الجنسين، خصوصا على المستوى القانوني عن طريق تغيير المدونة، تواجه بمقاومة شديدة من طرف الاتجاه المحافظ الذي يكرس ترسيخ التوزيع التقليدي للأدوار ويرفض التحديث، مدعما بخطاب تراثي ومرجعيات دينية، يحاول من خلالها تبرير الواقع الدوني للمرأة، خصوصا ما تعلق منها بمدونة الأحوال الشخصية وتولي المرأة السلطة السياسية ومواقع القرار. ونذكر هنا المواجهة التي عرفتها الساحة المغربية بين بعض العلماء ورجال الدين وفصيل من الحركة النسائية (اتحاد العمل النسائي)، عندما طرح عريضة لجمع مليون توقيع بهدف تغيير المدونة بما يتماشى مع روح التحديث. وإصدار حماة التقليد لفتوى في حق المنتميات إلى هذا التنظيم النسائي. وما ترتب عنه من رد فعل المجتمع المدني لإدانة هذا الموقف الذي ينبذ الاختلاف ويلغي الحق في التعبير والمطالبة بالتغيير.

هذه المواجهة بين الحركات النسائية وخصوم التحديث أفرزت كتابات نسائية ذات طبيعة خاصة. فما هي طبيعة هذه الكتابات وعلى أية مرجعية تعتمد؟

إن المتتبع لهذه الأعمال يلاحظ حضور المرجعية التراثية فيها بحيث أصبحت الكتابة تنتصب أمامنا كفقيهة تجتهد في التراث.

لمقاربة العلاقة بين الكتابة النسائية والمرجعية التراثية سنحاول أولا توضيح مفهوم التراث.

لتوضيح هذا المفهوم اعتمدنا على التحديد الذي قدمه أركون لمفهوم التراث:

“إن للتراث محتويات ووظائف تختلف باختلاف الأطر الاجتماعية والاتجاهات الثقافية والمراحل التاريخية الخاصة بكل مجتمع”… ويرى أركون كذلك أنه “إطار من أحكام وشرائع استنبطها الأئمة والفقهاء المجتهدون ويخضع لها جميع المكلفين: أهل السنة والجماعية وأهل “العصمة والعدالة”.

وإن ما يتميز به الفكر العربي في ممارساته للتراث واستغلاله واستهلاكه ودراسته”

وبعض النظر عن كبيعة العودة إلى هذا التراث في الكتابة النسائية، هل هي عودة بهدف الاستهلاك، التوظيف أم الدراستة، فإن السؤال المطروح هو:

إلى ماذا تعزى هذه العودة إلى التراث/الماضي؟ هل لأن الخصم المحافظ دفع بهذه الكتابة إلى الإنكفاء على الماضي كرد فعل وكدفاع عن شرعية الاختلاف ومشروعية المطالب النسائية؟ وبالتالي الاعتماد على نفس المرجعيات لمواجهة التهديد الخارجي/الداخلي التقليدي.

هذا البعد التراثي في الكتابة النسائية، هل حقق تقدما في طرح المسألة النسائية؟ هل ساهم في الإبداع وفي إغناء المتخيل النسائي؟

بمعنى آخر هل ساهم هذا المنحى التراثي في الكتابة في تأصيل الحداثة في المجال النسائي، وفي المجتمع ككل؟ أي تأصيل قيم المساواة والحرية والفردانية وبالتالي الديموقراطية؟ أم أن هذه الكتابة لم تعمل إلا على تحديث “الأصالة” أي أنها سقطت في شباك التقليد وأصبحت محكومة بنموذج ماض. نموذج سالف تقيس عليه، وتندرج ضمن العقل الفقهي، تأخذ الأشباه والنظائر و “تقيس الغائب بالشاهد”. والشاهد هنا هو ما يقدمه النموذج/السالف أما الغائب فهو القضايا المستجدة. أو بكيفية عامة قضايا الواقع الحي. تقرأ المستقبل في الماضي أما الحاضر فهو غير حاضر على حد تعبير الدكتور الجابري.

وحتى لا يبقى الحديث عن هذا النوع من الكتابة مجردا، نقدم هنا بعد النماذج:

كتابات المرنيسي كنموذج لرد الفعل وقراءة الماضي.

يمكن اعتبار المسار الذي عرفته الكاتبة النسائية والأستاذة الباحثة فاطمة المرنيسي، والتي دشنت هذا النوع من الكتابة، نموذجا على هذه العودة إلى التراث والانخراط في ما سميناه “برد الفعل”.

فإذا كانت الكتابات التي أنجزتها فاطمة المرنيسي في بداية حياتها الثقافية أو التي أشرفت عليها ضمن شهادات إجازة ودكتوراه السلك الثالث وغيرها عبارة عن أبحاث سوسيولوجية عن المرأة تعتمد على الميدان وتحاول رصد الواقع وتحليله على ضوء المناهج الحديثة… الخ فإنها أصبحت تنحو منحى آخر بالعودة إلى التراث كمرجعية تحاول أن تمتح منه لتضفي المشروعية على المطالب النسائية.

كمثال على ذلك كتابها “الحريم السياسي الذي حاولت أن تكشف فيه الدور التاريخي الذي لعبته النساء في التاريخ الإسلامي، مركزة على “نساء النبي” كنموذج. والذي تبين في مقدمته الدافع وراء هذه العودة إلى التراث. محاولة تفنيد الفكرة السائدة عن المرأة القائلة إن الإسلام لا يبيح لها تولية سلطة سياسية بمبرر” ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة! “وكان هذا محفزا لها للبحث عن أصل هذا الإقصاء. تقول بهذا الصدد:” و قد دلتني على الأثر الذي يجب أن أقتفيه، كي أفهم بشكل أفضل النصوص الدينية التي يعرفها الجميع ولكن أحدا لم يتقصها فعلا، اللهم إذا استثنينا السلطات في هذا المجال: الأئمة والفقهاء…”

وبعد هذا تقول إنها عادت إلى مجموعة من الكتب الدينية كأحاديث البخاري (الصحيح)…الخ.

والنموذج الآخر هو “كتابها عن” “السلطنات المنسيات” Les sultanes oubliées” والذي طتبته عندما تولت بنازير بوتو مقاليد الحكم وكان رد فعل المحافظين سلبيا. فحاولت في كتابها إبراز أن “بنازير بوتو” ليست أول مسلمة تصل إلى موقع القرار السياسي وتقول في تبريرها لهذا البحث “طالما أن جهلنا بالماضي يستخدم ضدنا فليكن رد فعلنا قراءة الماضي..”

وحتى بعض الأعمال القديمة التي أعيد طبعها مجددا أصبحت تحمل عناوين من التراث كـ” شهرزاد ليست مغربية”. وتؤكد في مقدمة الكتاب على أهمية العودة إلى التراث…

وفاطمة المرنيسي في قراءتها للتراث من أجل تأصيل الحداثة وحقوق النساء في التراث الإسلامي لم تكتف بالكتابة. بل أصبحت تشرف على ورشات عمل تشتغل على هذا النوع من الكتابة. كالورشة التي أثمرت قاموسا يضم مجموعة من الأحاديث والآيات القرآنية وعنوانه “قاموس الآيات والأحاديث التي تقدس حقوق النساء في الإسلام”.

ولا ننسى هنا كتابات ذ. فريدة بناني التي اختصت في المسألة النسائية على ضوء الفقه الإسلامي و الاجتهادات التي قدمتها في هذا الإطار. وخصوصا منها ما تعلق بمدونة الأحوال الشخصية.

إن هذا في نظرنا لا يعني أن هذا النمط من الكتابة النسائية غير ذي فائدة. فالتعامل مع التراث واستثماره وتوظيفه مسألة كانت دائما حاضرة في الثقافة الإسلامية. كما أن هذا لا يعني أن هناك تعارضا بين الإسلام والاختلاف والحداثة وقيمها. القيم الإسلامية والقيم الديموقراطية ليستا متعارضتين في الجوهر. وإن كان هناك من يحاول خلق هذا التعارض. إلا أن كون الكتابة النسائية تنغمس في التراث/الماضي وتأخذ مضامينها ومرجعيتها من الخصم الذي تواجهه يجعلها عرضة للاكتفاء بالماضي والانغلاق. مما يؤدي إلى تهميش قيم الحداثة بفعل استعمال آليات الدفاع اتجاه الآخر “التقليدي”. وبالتالي تصبح الكتابة النسائية ذات طبيعة “سلفية”. بدل التقدم في الإبداع والانفتاح على الثقافات على الثقافات الأخرى. ونتيجة لهذا كله تفقد الكتابة النسائية أفضل ما لديها وما ظهرت من أجل الدفاع عنه وهو الاختلاف في حد ذاته كقيمة. ويصبح خطابها ضحية لهذا “المقدس” الذي عاد ليحد من تحقيق قيام مجتمع حداثي مدني تحترم فيه حقوق الأفراد والجماعات وتترسخ فيه قيم المساواة وتسود فيه حرية التعبير والخلق والإبداع.

كخلاصة

يمكن القول إن الكتابة النسائية التي عرفت هذا المسار برغم المزالف التي قد تقع فيها نتيجة وقوعها في فخ “التقليد”، فإنها تجربة لها إيجابياتها لأنها حاولت أن تعمل على:

-تأصيل الحداثة داخل التراث الإسلامي

-أنها لم تخلق تعارضا بين التراث وقيم الحداثة بما فيها المساواة بين الجنسين

-أنها كشفت عن بعض الجوانب المتنورة والمنسية في هذا التراث

-أنها ضربت الاحتكار التقليدي للتراث الذي أصبح متاحا للجميع. والكل له الحق أن يجتهد فيه.

مجلة الجابري – العدد الحادي عشر


(*) مداخلة ألقيت بالندوة الدولية “المرأة والكتابة” بجامعة المولى إسماعيل، مكناس.