مجلة حكمة
هابرماس الليبرالية السياسية

الرد على هابرماس: الليبرالية السياسية – جون رولز / ترجمة: نوفل الحاج لطيف


في البداية، أود أن أشكر يوغرن هابرماس على مناقشته المستفيضة وتعليقاته على حدتها على مؤلفي (الليبرالية السياسية)، وعلى تهيئة الأرضية لي للرد على الانتقادات المرافقة التي أثارها مما هيّأ لي السياق المثالي لشرح معنى الليبرالية السياسية ولتباينها مع نظرية هابرماس الفلسفية المتينة في خصوصيتها. ويجب أن أشكره أيضًا على إجباري على إعادة التفكير فيما قلته، حيث أدركت أن صيغتي لم تكن في كثير من الأحيان غير واضحة ومضللة فحسب، بل كانت غير دقيقة وغير متسقة مع أفكاري الخاصة. لقد استفدت كثيرا من خلال الردّ على اعتراضاته والتعبير عن وجهة نظري حتى تصبح ادعاءاته الرئيسية أكثر وضوحا وأكثر دقة.

ويبدأ ردي على هابرماس في الفقرة الأولى من خلال مراجعة اختلافين رئيسيين بين وجهات نظره ووجهة نظري، وهما اختلافان ناتجين في جزء كبير منهما عن تباين وتنوع أهدافنا ودوافعنا. وبهذا، سأسعى إلى الرد على انتقاداته الأكثر أهمية، رغم أنه لأسباب تتعلق بالمجال، أركز بشكل كبير على ما أعتقد أنه الأكثر أهمية في الجزأين الثاني والثالث من مقاله. نتفق على العديد من النقاط الفلسفية، رغم بعض الاختلافات الأساسية التي أحاول توضيحها، خاصة في الفقرتين 1 و2 أدناه. وفي جميع الحالات، استفدت في ذلك من اطلاعي على كتاباته، ويدور كثير من نقاشاتي حول ما قاله.

 

الفقرة الأولى: اختلافان رئيسيان

يتمثل الأول من الاختلافين الرئيسيين بين وجهة نظر هابرمـاس ووجهة نظري في أن وجهة نظره شمولية بينما وجهة نظري سياسية وتقتصر على ذلك. والاختلاف الأول هو الأكثر أهمية لأنه يهيئ الأرضية ويضع الإطار للثاني الذي يتعلق بالتناقضات بين جهازينا للتمثيل، كما أسميهما: الوضع المثالي للنقاش بوصفه جزءا من نظريته في الفعل التواصلي، والوضع البدئي بوصفه جزءا من نظريتي في العدالة إنصافا. فضلا عن أن لنظريتينا أغراضا وأدوارا مختلفة، بالإضافة إلى سمات مميزة تخدم أغراضًا مختلفة.

  1. أعتقد أن الليبرالية السياسية[1] مذهب يندرج في نطاق السياسي بشكل كامل ولا يُعنى بأي شيء خارجه. وتكمن وجهة النظر الأكثر شيوعًا للفلسفة السياسية في أن تصوراتها ومبادئها ومثلها العليا وغيرها من المقومات منظورا إليها كنتائج لمذاهب شمولية – دينية، ميتافيزيقية، وأخلاقية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الفلسفة السياسية، كما هي متصورة في الليبرالية السياسية، تتألف إلى حد كبير من تصورات سياسية مختلفة للحق والعدالة منظورا إليها على أنها قائمة بذاتها. وإذن، في حين أن الليبرالية السياسية هي بطبيعة الحال ليبرالية، فإن بعض التصورات السياسية للحق والعدالة التي تنتمي إلى الفلسفة السياسية بهذا المعنى قد تكون محافظة أو راديكالية. وقد ينتمي إليها أيضًا تصور الحق الإلهي للملوك، أو حتى تصور الدكتاتورية. ورغم أن الأنظمة في الحالتين الأخيرتين تفتقر إلى التبريرات التاريخية والدينية والفلسفية التي نعرفها، إلا أنه يمكن أن يكون لها تصورات مستقلة عن الحق السياسي والعدالة، مهما تكن غير قابلة للتصديق[2]، وبذلك تنتمي إلى الفلسفة السياسية.

وهكذا، فإن التصورات السياسية المختلفة للعدالة القائمة بذاتها في إطار الفلسفة السياسية، منها الليبرالي ومنها ما هو غير ليبيرالي. أعتقد أن نظرية العدالة إنصافا كتصور سياسي ليبرالي للعدالة تصلح لنظام ديمقراطي: تصور يمكن إقراره، لذا فإنه من المأمول أن تنتظم جميع المذاهب الشمولية المعقولة الموجودة في ديموقراطية وفقه أو وفق بعض وجهات النظر المماثلة. وللتصورات السياسية الليبرالية الأخرى مبادئ وعناصر مختلفة نسبيا، لكنني أفترض أن مبادئها تحدد في كل حالة حقوقًا وحريات وفرصًا معينة، وتمنحها أولوية معينة فيما يتعلق بالمطالبات الأخرى، وتوفر لجميع المواطنين مبادئ أساسية وضرورية للاستخدام الفعال لحرياتهم[3].

تكمن الفكرة الأساسية في أن الليبرالية السياسية تتنزل ضمن الميدان السياسي وتترك الفلسفة على ما هي عليه. إنها تترك جميع أنواع المذاهب الدينية والميتافيزيقية والأخلاقية وتقاليدها طويلة الأمد في التطوير والتفسير دون أن تغيّر فيها شيئا. وتعمل الفلسفة السياسية بمعزل عن كل هذه المذاهب، وتقدم نفسها وفق مصطلحاتها الخاصة بوصفها قائمة بذاتها. ومن ثم، لا يمكنها أن تجادل في قضيتها أيّ مذاهب شمولية، أو انتقادها أو إعادة النظر فيها، طالما أن هذه المذاهب معقولة من الناحية السياسية (الدرس الثاني: 3). وأما المقومان الأساسيان لتصور المعقول اللذان نعزوهما إلى الأشخاص فيتثملان أولا، في الرغبة في اقتراح شروط منصفة للتعاون الاجتماعي بحيث يمكن للآخرين أيضًا أن يكونوا متساوين في الحرية والمساواة وأن يتصرفوا وفقًا لهذه الشروط على أن يفعل الآخرون ذلك، حتى وإن تعارض ذلك مع مصلحتهم الشخصية، وثانيا في الاعتراف بأعباء الحكم (الدرس الثاني: 2-3) وقبول تبعاتها على موقف الشخص (بما في ذلك التسامح) تجاه مذاهب شمولية أخرى. تمتنع الليبرالية السياسية عن التأكيدات حول نطاق وجهات النظر الشمولية، إلا عند الضرورة عندما تكون وجهات النظر غير معقولة وترفض جميع الاختلافات بشأن المقومات الأساسية للنظام الديمقراطي. وهذا وجه من وجوه تكرها للفلسفة على ما هي عليه.

تناغما مع هذه الأهداف، تميز الليبرالية السياسية تصورا سياسيًا للعدالة من خلال سمات ثلاث:

أ. ينطبق الأمر في المقام الأول على البنية الأساسية للمجتمع (يُفترض أن يكون في نظرية العدالة إنصافا مجتمعًا ديمقراطيًا). تتألف هذه البنية من المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الرئيسية، والطريقة التي تنخرط بموجبها ضمن نظام موحد للتعاون الاجتماعي.

ب. يمكن صياغتها بشكل مستقل عن أي مذهب شمولي بعينه، دينيا كان أو فلسفيا، أو أخلاقيا. في حين نفترض أنه يمكن أن يكون مستمدًا من مذهب شمولي واحد أو أكثر، أو يدعمه أو يرتبط به بطريقة ما، (في الواقع، نأمل أن يكون مرتبطًا بالعديد من هذه المذاهب)، فلا يُقدم على أنه يعتمد على وجهة نظر من هذا القبيل أو تدعمه.

ج. من بين أفكاره الأساسية – مثل أفكار الليبرالية السياسية -فكرة المجتمع السياسي كنظام منصف من التعاون الاجتماعي، فكرة المواطنين بوصفهم “متعقلين” و “عقلانيين”، وأحرارا ومتساوين، وهي أفكار تنتمي إلى الميدان السياسي ومعروفة في الثقافة العمومية السياسية لمجتمع ديمقراطي وتقاليده في تفسير الدستور والقوانين الأساسية، فضلا عن الوثائق التاريخية الرائدة والكتابات السياسية المعروفة على نطاق واسع.

توضح هذه السمات الطريقة التي يكون من خلالها تصور سياسي للعدالة قائمًا بذاته (الدرس الأول: 2).

  1. ومن ناحية أخرى تعتبر وجهة نظر هابرماس بمثابة مذهب شمولي يتعلق بموضوعات كثيرة تتجاوز مجال اهتمام الفلسفة السياسية. وفي الواقع، فإن الهدف من نظريته في الفعل التواصلي هو تقديم تحليل عام للمعنى، والمرجع، والحقيقة أو الصلاحية سواء للعقل النظري ولأشكال متعددة من العقل العملي، حتى أنه يرفض النزعتين الطبيعانية والانفعالانية في الحجاج الأخلاقي ويهدف إلى الدفاع بشكل كامل عن العقل النظري والعملي. وعلاوة على ذلك، غالباً ما ينتقد هابرماس وجهات النظر الدينية والميتافيزيقية دون أن يكلف نفسه عناء مجادلتها بالتفصيل. بل إنه لا يهتم بها أو يرفضها أحياناً لأنه لا جدوى ترجى منها وغير موثوق في جدارة استقلاليتها في ضوء تحليله الفلسفي للافتراضات المسبقة للنقاش العقلاني والفعل التواصلي.

أذكر مقطعين من مقدمة كتابه بين الحقائق والمعايير Faktizität und Geltung[4]:

“تحاول نظرية النقاش أن تعيد بناء هذا الفهم الذاتي [الذي يتجلى في الوعي الأخلاقي الكلي والمؤسسات الليبرالية في الدولة الديمقراطية] بطريقة تمكن المعنى المعياري الذاتي والمنطقي من مقاومة الاختزالات العلمية والتمثلات الجمالية على حد السواء. . .. بعد قرن من الزمن علمنا أكثر من أي شيء آخر رعب وجود اللاعقل حيث تُقوض آخر بقايا الثقة الأساسية في العقل[5]. ومع ذلك، فإن الحداثة، التي تدرك الآن تطوراتها غير المتوقعة، تعتمد بشكل أكبر على عقل إجرائي، أي على عقل يحاكم نفسه. نقد العقل مهمة تخصه هو: هذا المعنى الكانطي المزدوج يرجع إلى وجهة النظر الراديكالية المناهضة للأفلاطونية التي مفادها أنه لا يوجد واقع أعلى أو أعمق يمكن أن ننشده – نحن الذين نجد أنفسنا بالفعل في أنماط حياتنا المبنية لغوياً” (FG 11).

وإذن، كما فهمت مما جاء على لسان هابرماس لما كانت الليبرالية السياسية لا تحتكم إلى المذاهب الدينية أو الميتافيزيقية، يمكن لها أن تقول شيئًا يشبه ما ورد في هذا المقطع فيما يتعلق بالعدالة السياسية[6]، ولكن رغم ذلك يظل هناك اختلاف جوهري. ومن أجل تقديم تصور سياسي قائم بذاته وعدم تجاوزه، أصبح الأمر مفتوحًا تمامًا أمام المواطنين والجمعيات في المجتمع المدني لصياغة طرقهم الخاصة للوصول إلى ما هو أبعد من ذلك، أو للتعمق أكثر، وذلك من خلال جعل التصور السياسي متوافقاً مع مذاهبهم الشمولية. ولا تنفي الليبرالية السياسية هذه المذاهب بأي شكل من الأشكال أو لا تشكك فيها، طالما أنها معقولة من الناحية السياسية. إن هابرماس نفسه يتذوق موقفاً مختلفاً في هذه النقطة الأساسية، هو أنه من وجهة نظره الشمولية: سيبدو أنه يقول إن جميع المذاهب الأعلى أو الأعمق تفتقر إلى أي قوة معقولة بمفردها. وهو يرفض ما يسميه بفكرة العقل الأفلاطوني الأساسية، مؤكداً أن مثل هذه الفكرة يجب استبدالها بعقل إجرائي يُخضع نفسه للمحاكمة ويحاكم على نقده.

وفي مقطع آخر في الفصل الخامس من كتاب بين الحقائق والمعايير، وبعد شرح لكيفية متابعة الوضع المثالي للنقاش، يشدد على أن مبدأ النقاش يتطلب أن تخضع المعايير والقيم لحكم النحن.

“ينصح بممارسة الحجاج لمثل هذا الدور الكلي والمشترك. وباعتباره شكلاً مترويا من أشكال الفعل التواصلي، فإنه يتميز بتأثير اجتماعي-أنطولوجي مميز، وكما يقال، من خلال الانعكاس التام لوجهات نظر المشاركين، ويطلق العنان لبينذاتية التداول الجماعي في أعلى مستوياتها. وبهذه الطريقة، فإن الكلي العيني عند هيجل [الأخلاق][7] يرقى إلى بنية تواصل متطهرة من جميع العناصر الجوهرية”. (FG 280).

وهكذا، وفقا لهابرماس، لما كانت العناصر الجوهرية لوجهة نظر هيجل في كتاب الأخلاق، التي تبدو وجهة نظر ميتافيزيقية للحياة الأخلاقية (واحدة من بين العديد من الأمثلة الممكنة)، صحيحة إلى حد كبير (أفسر له أنه يعني صريحًا، أو توضيحها، من خلال)، فإنها ترقى تماما إلى نظرية في الفعل التواصلي مع افتراضاته المسبقة الإجرائية للنقاش المثالي. أعتقد أن نظرية هابرماس الخاصة نظرية في المنطق بالمعنى الهيجلي الواسع: تحليل فلسفي للافتراضات المسبقة للنقاش العقلاني (العقل النظري والعملي) الذي يتضمن في حد ذاته كل العناصر الجوهرية المفترضة للمذاهب الدينية والميتافيزيقية. ومنطقه ميتافيزيقي بالمعنى التالي: يقدم تحليلا لمعنى[8] أن يكون البشر منخرطين في الفعل التواصلي في عالمهم المعيش. وأما فيما يتعلق بماهية “الجوهر” و “الجوهري”، سأخمن أن هابرماس ينوي القيام بشيء ما يشبه ما يلي: غالباً ما يعتقد الأشخاص أن طريقتهم الأساسية في فعل الأشياء – فعلهم التواصلي مع الافتراضات المسبقة للنقاش المثالي، أو تصورهم للمجتمع كنظام منصف من التعاون بين مواطنين احرار ومتساوين- في حاجة إلى أساس يتخطى حدود ذاته، يميزه عقل أفلاطوني يدرك الماهيات، أو تكمن جذوره في الجواهر الميتافيزيقية. في الفكر، نحن نذهب إلى ما هو أبعد أو أعمق من مذهب ديني أو ميتافيزيقي عسى أن نعثر على أساس ثابت. ومن المتوقع أيضا أن يوفر هذا الواقع دافعا أخلاقيا[9]. ففي غياب هذا الأساس قد نصاب بالدوار – الإحساس بالضياع لفقدان مرتكز صلب. لكن هابرماس يعتقد أن “هذه الحرية هي سبب هذا الدوار بحيث لم يعد هناك أي نقطة ثابتة خارج الإجراء الديمقراطي نفسه كما يتلخص معناه في نظام الحقوق”[10] (FG 229). (أعود إلى وجهة نظر هابرماس في نهاية الفقرة 5.)

تتعلق التعليقات السابقة بفقرتي هابرماس الأخيرتين (131)، حيث يقول إن كلانا يعتبر أن وجهات نظره الخاصة أكثر تواضعا من وجهات نظر الآخر. فهو يعتبر أن وجهة نظره أكثر تواضعا من وجهة نظري، لأنه يُفترض فيها أن تكون نظرية إجرائية تعتقد أن يكون تقرير المسائل الجوهرية نتيجة مناقشات حرة ينخرطوا فيها مشاركون عقلانيون وأحرار وواقعيون وفعليون وليسوا مخلوقات اصطناعية كأولئك الذين يسكنون الوضع البدئي. ويقترض، كما يقول، الحد من الفلسفة الأخلاقية لتوضيح وجهة النظر الأخلاقية وإجراءات الشرعية الديمقراطية، وتحليل شروط النقاشات العقلانية والتفاوض. وفي مقابل ذلك، يعتقد أن وجهة نظري تتبنى مهمة أكثر طموحا، لأنها تأمل في صياغة تصور سياسي للعدالة للبنية الأساسية للديمقراطية، وكل ذلك يتضمن تصورات جوهرية، تثير مسائل أكثر من تلك التي يطرحها النقاش الفعلي للمشاركين الواقعيين.

وفي الوقت نفسه، يعتقد هابرماس أنني أعتبر وجهة نظري أكثر تواضعا من وجهة نظره: فهي تهدف إلى أن تكون مجرد تصور سياسي وليس تصورا شموليا. ومع ذلك، يعتقد أني أخفق في تحقيق هدفي ذاك ذلك أن تصوري للعدالة السياسية ليس قائماً بذاته فعلا، كما أريد له أن يكون سواء أحببت ذلك أم لا، فهو يعتقد أن تصور الشخص في الليبرالية السياسية يتجاوز الفلسفة السياسية. وعلاوة على ذلك، يدعي أن البنائية السياسية تنطوي على المسائل الفلسفية التي تتعلق بالعقلانية وبالحقيقة. وقد يعتقد أيضًا، أنني تأسيّا بكانط، أعبر عن تصور ما قبلي وميتافيزيقي للعقل يعبر عنه في نظرية العدالة إنصافا ضمنيا عن طريق مبادئ ومثل عليا كما تصورتها.

ولكنني أنفي هذه الأشياء ذلك أنه في الليبرالية السياسية يُستبدل التصور الفلسفي للشخص بالتصور السياسي للمواطنين بوصفهم أحرارا ومتساوين. أما بالنسبة للبنائية السياسية، فتكمن مهمتها في ربط مضمون المبادئ السياسية للعدالة مع تصور المواطنين بوصفهم متعقلين وعقلانيين. ولقد عيّنا الحجة في الدرس الثالث: 1-3. فلا تعتمد وجهة نظري على العقل الأفلاطوني والكانطي، وحتى إن كان ذلك كذلك، فعلى طريقة هابرماس. ولا يمكن الحصول على أي وجهة نظر معقولة دون مفهومي المعقول والعقلاني كما استخدمهما. إذا كانت هذه الحجة تتضمن وجهة نظر أفلاطون وكانط في العقل، فإنها تشمل علوم المنطق والرياضيات في أبسط وجوهها. وسأعود إلى هذه المسألة في الفقرة الثانية.

  1. كما قلت، يهيئ الاختلاف الأول الأرضية للاختلاف الثاني بين وجهة نظر هابرماس ووجهة نظري. وذلك لأن الاختلافات بين الجهازين التحليليين للتمثيل – الوضع المثالي للنقاش والوضع البدئي[11] – تعكس اختلاف مواقعهما، حيث تتنزل الأولى ضمن مذهب شمولي، وتقتصر الثانية على المجال السياسي.

يُستخدم الوضع البدئي كجهاز تحليلي لصياغة تخمين يكمن في أننا عندما نسأل، ما هي المبادئ الأكثر معقولة للعدالة السياسية من أجل ديمقراطية دستورية يُنظر إلى مواطنيها على أنهم أحرار ومتساوون ومتعقلون وعقلانيون؟ – الجواب هو أن هذه المبادئ تُعطى من خلال جهاز التمثيل لشركاء عقلانيين (كمؤتمنين على المواطنين، ممثل عن كل مواطن) يوضعون في ظروف معقولة ومقيدة بهذه الشروط بشكل مطلق. وهكذا، يعتقد المواطنون الأحرار والمتساوون في قدرتهم على الاهتداء إلى اتفاق حول هذه المبادئ السياسية في ظل ظروف تمثل هؤلاء المواطنين بوصفهم متعقلين وعقلانيين. إن اتفاقنا على المبادئ الأكثر معقولية هو في الواقع تخمين، لأنه قد يكون، بطبيعة الحال، غير صحيح. يجب أن نتحقق من النقاط الثابتة لأحكامنا الموزونة جيدا على مستويات مختلفة من العمومية. كما يجب علينا فحص مدى إمكانية تطبيق هذه المبادئ على المؤسسات الديمقراطية وأيّ النتائج يمكن أن تترتب عن ذلك، وبالتالي التأكد من مدى توافقها مع أحكامنا الموزونة جيدا على أساس التروي المستحق[12]. وفي أي من الاتجاهين، قد ننقاد إلى مراجعة أحكامنا.

توفر نظرية هابرماس في الفعل التواصلي الجهاز التحليلي للوضع المثالي للنقاش، والذي يقدم تحليلا لحقيقة وصلاحية أحكام العقل النظري والعملي على حد السواء. وهي تحاول أن تحدد بشكل كامل الافتراضات المسبقة للنقاش العقلاني والحر الذي يسترشد بأقوى الأسباب، وإذا تحققت جميع الشروط الضرورية بالفعل واحترمت بالكامل من قبل جميع المشاركين النشطين، فإن إجماعهم العقلاني يمكن أن يعتمد كمسوغ للحقيقة أو الصلاحية. وبدلاً من ذلك، فإن الادعاء بأن أيّ مقولة من أي نوع صحيحة، أو أيّ حكم معياري صحيح، يعني الادعاء بأنه يمكن قبوله من قبل المشاركين في حالة النقاش إلى الحد الذي تتوافر فيه جميع الشروط الضرورية التي يعبر عنها المنوال المثالي. وكما أشرت إلى ذلك، فإن نظرية هابرماس نظرية في المنطق بالمعنى الهيجلي الواسع: تحليل فلسفي للافتراضات المسبقة للنقاش العقلاني الذي يتضمن في حد ذاته كل العناصر الجوهرية الواضحة للمذاهب الدينية والميتافيزيقية.

من أي وجهة نظر تتم مناقشة جهازي للتمثيل؟ ومن أي وجهة نظر تجري المناقشة بينهما؟ علينا دائما أن نحذر أين نتحدث ومتى نتحدث. الإجابة عن كل المسائل هي نفسها: جميع المناقشات من وجهة نظر المواطنين تتنزل في سياق ثقافة المجتمع المدني، والتي يطلق عليها هابرماس الفضاء العمومي[13]. ونناقش في إطاره كمواطنين بأي معنى تكون نظرية في العدالة إنصافا نظرية اساسية، وما إذا كان هذا الجانب أو ذاك يبدو مقبولا- على سبيل المثال، ما إذا كانت تفاصيل إنشاء الوضع البدئي تحددت بشكل صحيح وما إذا كانت المبادئ المختارة تعيّن إقرارها. وبنفس الطريقة، يُنظر في ادعاءات المثل الأعلى للنقاش وتصوره الإجرائي للمؤسسات الديمقراطية. وينبغي أن نأخذ في عين الاعتبار أن هذه الثقافة الخلفية تحتوي على مذاهب شمولية من جميع الأنواع التي تُطرح للتفكير والتفسير والنقاش فيما بينها، والتجادل بشأنها إلى أجل غير مسمى ما دام المجتمع يتمتع بالحيوية والروح. فالأمر يتعلق بثقافة المجتمع وليس بالسياسية العمومية، ثقافة الحياة اليومية بجمعياتها الكثيرة: جامعاتها وكنائسها وجمعياتها العلمية والتعليمية، والمناقشات السياسية المعتادة حول الأفكار والمذاهب حيثما وليت نظرك والتي لا تنتهي.

تشمل وجهة نظر المجتمع المدني جميع المواطنين، وهي حوارية على غرار الوضع المثالي للنقاش عند هابرماس، بل إنها، في الواقع، تفترض حوارا متعدد الأطراف[14]. لا يوجد خبراء: ليس للفيلسوف سلطة أكثر من المواطنين الآخرين. قد يدرك أولئك الذين يدرسون الفلسفة السياسية أحيانا الكثير عن بعض الأشياء، ولكن ذلك في متناول أيّ شخص آخر كذلك. يحتكم الجميع بالتساوي إلى سلطة العقل البشري الموجودة في المجتمع. ما ينبغي أن ينتبه إليه المواطنون الآخرون، هو أن ما هو مكتوب قد يصبح جزءًا من المناقشة العمومية المستمرة –كتاب نظرية في العدالة[15] وبقية المؤلفات- حتى تختفي في نهاية المطاف. قد تكون مناقشات المواطنين معقولة وقوامها المداولة، دون أن يعني ذلك أنها ضرورية، ويتم حمايتها على الأقل في نظام ديمقراطي لائق، من خلال قانون فعال لحرية التعبير. وقد تصل الحجة أحيانًا إلى مستوى عالٍ من الانفتاح والحياد، كما تظهر اهتماما بالحقيقة أو عندما تكون المناقشة متعلقة بالسياسة، من أجل المعقولية. يتوقف مدى ارتفاع المستوى الذي تصل إليه الحجة، بشكل واضح، على فضائل وذكاء المشاركين.

إن الحجة معيارية وتتعلق بالمثل والقيم، ورغم أنها في الليبرالية السياسية تقتصر على المجال السياسي، إلا أنها لا تنتمي إلى أخلاقيات النقاش. ومن خلال التوجه إلى هذا الجمهور من مواطني المجتمع المدني، كما يقتضي ذلك أيّ مذهب ديمقراطي، تحدد نظرية العدالة إنصافا التصورات السياسية الأساسية المختلفة للمجتمع كنظام منصف للتعاون، وللمواطنين بوصفهم أحرارا ومتساوين، وللمجتمع حسن التنظي، ثم تأمل في دمجها في تصور سياسي معقول وكامل للعدالة يصلح للبنية الأساسية للديمقراطية الدستورية، ذلك أن هدفها الأساسي يتمثل في عرضها على جمهور المجتمع المدني ويفهما حتى يتمكن مواطنوه من أن يأخذها في عين الاعتبار. المعيار العام للمعقولية هو التوازن المتروي العام والواسع [16]؛ لقد رأينا، وفقاً لـ هابرماس، أن اختبار الحقيقة أو الصلاحية الأخلاقية يكمن في قبول عقلاني تمامًا في الوضع المثالي للنقاش، مع استيفاء جميع الشروط الضرورية. ويشبه التوازن المتروي اختباره في هذا الصدد: إنه ينتمي إلى اللانهائي بحيث يتعذر الوصول إليه، ولكننا نستطيع الاقتراب منه، بمعنى أن مُثلنا ومبادئنا وأحكامنا تبدو لنا من خلال المناقشة معقولة أفضل مما كانت عليه من قبل.

 

الفقرة الثانية: الاجماع التقاطعي والتسويغ

  1. في فقرته الثانية، يثير هابرماس مسألتين[17]. تتمثل الأولى في أن الإجماع التقاطعي يسوغ تصور سياسي للعدالة هو في الأصل مسوغ بوصفه معقولا. وبعبارة أخرى، يتساءل عما إذا كانت المذاهب التي تنتمي إلى الإجماع تعزز وتقوّي تسويغ تصور قائم بذاته. أو عما إذا كانت مجرد حالة ضرورية للاستقرار الاجتماعي (119-22). أؤاخذ هابرماس، في الواقع، إذ يطرح هذه المسائل: ما الذي يمكن أن تحمله المذاهب في طاياتها في إطار إجماع تقاطعي ينبغي له تسويغ التصور السياسي بمجرد أن يعتبر المواطنون أن هذا التصور معقول وقائم بذاته على حد السواء؟

تتعلق المسألة الثانية بالطريقة التي تستخدم من خلالها الليبرالية السياسية مصطلح “معقول”: هل يعبر المصطلح عن صلاحية الأحكام السياسية والأخلاقية أم أنه يعبر فقط عن موقف متروّ من التسامح المستنير (123-26)؟

هناك علاقة وثيقة جدا بين المسألتين اللتين يثيرهما هابرماس. ويكمن الجواب عنهما في الطريقة التي تحدد من خلالها الليبرالية السياسية ثلاثة أصناف مختلفة من التسويغ وصنفين من الإجماع، وتصل تلك الأصناف كافة بفكرة الاستقرار للأسباب الوجيهة، وفكرة الشرعية. وسأبدأ بأصناف التسويغ الثلاثة حسب الترتيب التالي: أولاً، التسويغ واسع النطاق للتصور السياسي؛ ثانياً، التسويغ الكامل لهذا التصور من قبل الفرد كعضو في المجتمع. وأخيرا، التسويغ العمومي للتصور السياسي من قبل المجتمع السياسي. ومن ثم أشرح بقية الأفكار الأخرى.

لننظر أولا في التسويغ واسع النطاق. في العقل العمومي، لا يأخذ تسويغ التصور السياسي في عين الاعتبار إلا القيم السياسية، وأفترض أن التصور السياسي الذي تبلور بشكل صحيح اكتمل (الدرس الرابع 4: 4. 3، الدرس السادس 7. 2). أي أن القيم السياسية التي يحددها يمكن أن تكون منظمة بشكل مناسب، أو متوازنة، بحيث تعطي هذه القيم وحدها إجابة معقولة عن طريق العقل العمومي على كل المسائل المتعلقة بالأساسيات الدستورية والعدالة الأساسية أو معظمها. وذلك هو معنى تسويغ واسع النطاق. ومن خلال تفحص مجموعة واسعة من المسائل السياسية لمعرفة ما إذا كان التصور السياسي يمكن أن يقدم دائمًا إجابة معقولة يمكننا التحقق من مدى اكتماله. ولكن بما أن التسويغ السياسي هو تسويغ واسع النطاق، فقد يتم تجاوزه من قبل المذاهب الشمولية للمواطنين بمجرد أن يتم إحصاء كل القيم.

وثانياً، يتم التسويغ الكامل بواسطة المواطن الفرد كعضو في المجتمع المدني. (نحن نفترض أن كل مواطن يؤيد تصورا سياسيًا ومذهبا شموليا[18].) ففي هذه الحالة، يقبل المواطن تصورا سياسيًا ويبرر تسويغه من خلال تضمينه بطريقة أو بأخرى في المذهب الشمولي الذي يؤيده بوصفه حقيقيا ومعقولا على حد السواء، اعتمادا على ما يسمح به هذا المذهب. وقد يعتبر البعض التصور السياسي مسوغا تمامًا رغم عدم قبوله من قبل الآخرين. وهذا لا يعطي لوجهة نظرنا وزنًا كافيًا لتعليق التسويغ الكامل كما نراه.

وهكذا، يحق لكل مواطن، فردا كان أو في شراكة مع غيره، أن يتساءل كيف يجب أن تُنظم مقتضيات العدالة السياسية، وكيف نوازن بينها وبين القيم غير السياسية. لا يعطي التصور السياسي أي توجيهات بشأن مثل هذه المسائل، لأنه لا يتساءل كيف توزن القيم غير السياسية. فهذه التوجيهات من مشمولات المذاهب الشمولية للمواطنين. فالتصور السياسي للعدالة لا يتوقف على أي مذهب شمولي معين، بما في ذلك مذهب اللاأدرية. لكن على الرغم من أن التصور السياسي للعدالة قائم بذاته، فإن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن يُضمن بطرق مختلفة-أو يُدمج أو يدرج كجزء[19]في المذاهب المختلفة التي يؤكدها المواطنون.

وثالثا تعتبر فكرة التسويغ العمومي من قبل المجتمع السياسي فكرة أساسية في الليبرالية السياسية إضافة إلى ثلاث أفكار أخرى وهي: إجماع تقاطعي معقول، واستقرار للأسباب الوجيهة، والشرعية. يحدث التسويغ العمومي عندما يقوم جميع الأعضاء المتعقلون في المجتمع السياسي بتسويغ التصور السياسي المشترك من خلال تضمينه في وجهات نظرهم الشمولية العديدة المعقولة. وفي هذه الحالة، يأخذ المواطنون المعقولون بعضهم البعض في الاعتبار لأن لديهم مذاهب شمولية معقولة تؤيد هذا التصور السياسي، وهذا الاعتبار المتبادل يشكل السمة الأخلاقية للثقافة العمومية للمجتمع السياسي. وثمة هاهنا نقطة بالغة الأهمية تتمثل في أنه لما كان التسويغ العمومي للتصور السياسي للمجتمع السياسي يتوقف على مذاهب شمولية معقولة، فإن هذا التسويغ يفعل ذلك فقط بطريقة غير مباشرة. أي أن المضامين المعلنة لهذه النظريات ليس لها دور معياري في التسويغ العمومي؛ لا يهتم المواطنون بمضمون مذاهب الآخرين، وبذلك لا يتخطون حدود المجال السياسي. وبدلاً من ذلك، فهم لا يأخذون في الاعتبار ولا يعطون وزنا إلا لحقيقة وجود الإجماع التقاطعي المعقول نفسه[20].

وهذه الحالة الأساسية للتسويغ العمومي[21]  هي الحالة التي يكون فيها التصور السياسي المشترك هو الأرضية المشتركة لجميع المواطنين المتعقلين ككيان جماعي (لا ككيان تعاونيي[22]) يلتقون بشكل عام وبتوازن مترو واسع حول تأكيد التصور السياسي انطلاقا من عدة مذاهب شمولية معقولة. ولا يمكن لتصور المجتمع للتصور السياسي للعدالة أن يكون عموميا، إلا متى كان هناك إجماع تقاطعي، وإن استحال تسويغه تماما في النهاية. ويجب علينا أن نعطي وزناً للقناعات الراسخة جدا للمواطنين المتعقلين الآخرين، وذلك لأن التوازن المتروي العام والواسع النطاق فيما يتعلق بالتسويغ العمومي يعطي أفضل تسويغ للتصور السياسي الذي يمكن أن نتبناه في أيّ وقت[23]. لا يوجد إذن تسويغ عمومي بالنسبة للمجتمع السياسي دون إجماع تقاطعي معقول، وهذا التسويغ يرتبط أيضاً بفكرتي الاستقرار للأسباب الوجيهة والشرعية. وسأشرح الآن هذين الفكرتين بشكل مستفيض.

أميز أولاً بين فكرتين مختلفتين للإجماع، ذلك أيّ سوء فهمه سيكون باهظا. إحداهما تأتى من السياسة اليومية حيث تتمثل مهمة السياسي في الاهتداء إلى اتفاق. وبالنظر إلى مختلف المصالح والمطالبات القائمة، يحاول السياسيون تشكيل ائتلاف أو سياسة يمكن أن يؤيدهما الجميع أو عدد كافٍ للحصول على أغلبية. وتعني فكرة التوافق هذه وجود تقاطع قائم بالفعل أو كامن، ويمكن التعبير عنه ببراعة السياسي في الجمع بين المصالح القائمة التي يعرفها عن كثب. وتكمن الفكرة المختلفة للإجماع في الليبرالية السياسية – الفكرة التي أسميها إجماعًا تقاطعيا معقولًا – في أن التصور السياسي للعدالة يتم أولاً من خلال وجهة نظر قائمة بذاتها والتي يمكن تسويغها على نطاق واسع دون النظر إلى ما تكون المذاهب القائمة، أو محاولة الانسجام معها أو حتى معرفتها (الدرس الأول: 6.4) إنه يحاول ألا يضع أية عقبات في طريق كل المذاهب المعقولة التي تؤيد تصورا سياسيًا من خلال تخليص هذا التصور من أي فكرة تتجاوز المجال السياسي، والتي لا يمكن أن نتوقع على نحو معقول أن تؤيدها جميع المذاهب المعقولة (لأن في ذلك انتهاك لفكرة التبادلية). عندما يستوفي التصور السياسي هذه الشروط ويكتمل أيضاً، فإننا نأمل أن تكون المذاهب الشمولية المعقولة التي يؤكدها المواطنون المتعقلون في المجتمع قادرة على دعمها، وفي الحقيقة ستكون لديها القدرة على صياغة هذه المبادئ تجاه ذاتها (الدرس الرابع: 6-7).

لننظر في علم الاجتماع السياسي لإجماع تقاطعي معقول: بما أن هناك مذاهب أقل بكثير من المواطنين، يمكن تصنيف هذا الأخير وفقًا للمذهب الذي يؤيده. وأكثر أهمية من التبسيط الذي تسمح به هذه الحقيقة العددية هو أن المواطنين هم أعضاء في جمعيات مختلفة يولدون فيها، في كثير من الحالات، ويكتسبون منها عادة، ولكن ليس دائما، مذاهبهم الشمولية (الدرس الرابع: 6). فالمذاهب التي تتبناها الجمعيات المختلفة وتروجها – كأمثلة، ويتعلق الأمر هنا بالجمعيات الدينية بجميع أنواعها – تلعب دورا اجتماعيا أساسيا في جعل التسويغ العمومي ممكنا. وتلك هي الطريقة التي قد يكتسب بها المواطنون مذاهبهم الشمولية. وعلاوة على ذلك، فإن هذه المذاهب لها حياتها وتاريخها بعيداً عن أعضائها الحاليين وتصمد من جيل إلى جيل. إن إجماع هذه المذاهب متجذر بشكل مهم في طبيعة مختلف الجمعيات، وهذه حقيقة أساسية حول علم الاجتماع السياسي لنظام ديمقراطي قادر توفير أساس عميق ودائم لوحدته الاجتماعية بشكل حاسم.

يبدو أن الاستقرار للأسباب الوجيهة في مجتمع ديمقراطي يتميز بالتعددية المعقولة ممكنا وهو أيضا جزء من التسويغ العمومي[24]. والسبب هو أنه عندما يؤكد المواطنون نظريات معقولة ومختلفة، فإن تبيّن ما إذا كان إجماع تقاطعي حول التصور السياسي ممكناً يمثل طريقة للتحقق مما إذا كانت هناك أسباب كافية لاقتراح نظرية العدالة إنصافا (أو مذهب معقول آخر) التي يمكن أن يدافع عنها الآخرون بإخلاص دون انتقاد أو رفض أعمق التزاماتهم الدينية والفلسفية[25].وإذا ما أمكننا القول بأن هناك أسبابا كافية لكثير من الأشخاص المتعقلين لتبني نظرية العدالة إنصافا سويا باعتبارها تصورهم السياسي القابل للتطبيق، وأن هناك ظروفا لممارسة بعضهم على بعض المشروعة للسلطة السياسية القسرية- وهو أمر نأتيه كمواطنين حتما عن قناعة عن طريق التصويت، إذا لم يكن بأي طريقه أخرى (الدرس الرابع: 3.1-4). وستوضح الحجة، إذا ما نجحت، كيف يمكننا أن نؤكد بشكل معقول الاحتكام إلى تصور سياسي للعدالة كأساس مشترك للأسباب، مع افتراض أن الآخرين ليسوا أقل معقولية لتأكيد ذلك الأساس والاعتراف به. ومع ذلك لا تحول حقيقة التعددية المعقولة دون تحقق شروط الشرعية الديمقراطية[26].

وبالنظر إلى مجتمع سياسي قوامه مثل هذا الإجماع المعقول، تقول الليبرالية السياسية إننا كمواطنين في هذا المجتمع حققنا أعمق أساس للوحدة الاجتماعية المتاحة لنا في ديمقراطية حديثة[27]. ويمكن توضيح هذه الوحدة التي تسفر عن الاستقرار للأسباب الوجيهة كالتالي[28]:

أ. تُنظم البنية الأساسية للمجتمع بشكل فعال من خلال التصور السياسي الأكثر معقولية للعدالة.

ب. يؤيد هذا التصور السياسي للعدالة إجماع تقاطعي يتكون من جميع المذاهب الشمولية المعقولة في المجتمع وهي أغلبية دائمة بالنسبة إلى من يرفضون ذلك التصور.

ج. يمكن البت في المناقشات السياسية العمومية على نحو معقول دائما (أو في معظم الحالات)، عندما تكون الأساسيات الدستورية ومسائل العدالة الأساسية على المحك، على أساس الأسباب التي حددها التصور السياسي الأكثر معقولية للعدالة، أو عن طريق مجموعة متناسقة ومتكاملة معقولة من هذه التصورات.

وهنا أسوق ملاحظتين: تتمثل الملاحظة الأولى في أن أساس الوحدة الاجتماعية هو الأساس الأكثر معقولية لأن التصور السياسي للعدالة هو الأكثر معقولية – وهو ما تؤيده، أو تدعمه بطريقة ما، كل المذاهب المعقولة (أو فكرة المعقول) في المجتمع. وتتمثل الملاحظة الثانية في أن أساس الوحدة الاجتماعية هذا هو الأعمق لأن الأفكار الأساسية للتصور السياسي تؤيد المذاهب الشمولية المعقولة، وهذه النظريات تمثل ما يعتبره المواطنون أعمق قناعاتهم – الدينية والفلسفية والأخلاقية. ويترتب عن ذلك الاستقرار للأسباب الوجيهة. ويكمن التناقض في أن المجتمع الذي يتم فيه تجميع المواطنين من خلال تسويغاتهم الكاملة، لا تضمّن تصوراتهم السياسية في تصور سياسي مشترك أو لا ترتبط به. وفي هذه الحالة نجد أنفسنا أمام تسوية مؤقتة لا غير، ويعتمد استقرار المجتمع على توازن القوى في الظروف الطارئة وربما المتقلبة.

ويبدو أن هذه التفسيرات لأنواع التسويغ الثلاثة تثير تساؤلا خطيرًا. فقد نتساءل: إذا كان التسويغ السياسي دائمًا واسع النطاق، فأنى لنا تسويغ التصور العمومي للعدالة السياسية؟ يفترض الجواب عن هذا التساؤل، بطبيعة الحال، الإقرار بوجود إجماع تقاطعي معقول والاعتراف به عموميا. وفي هذه الحالة، يضمّن المواطنون تصورهم السياسي المشترك في مذاهبهم الشمولية المعقولة. ثم نتطلع إلى أن يقر المواطنون (انطلاقا من وجهة نظرهم الشمولية) بأن القيم السياسية ذات قيمة أعظم أو أنها (وإن لم تكن دائماً) ذات أولوية مقارنة مع أي قيم غير سياسية قد تتعارض معها[29].

إذا كان هذا يبدو غير واقعي بحيث ليس لنا أن نتطلع إليه، فذلك يعود إلى أمرين. أولاً، يجب على أولئك الذين يتبنون مذهبا شموليا معقولا أن يسألوا أنفسهم عن الشروط السياسية بحيث يكونون على استعداد للتعايش مع مذاهب أخرى في مجتمع حر ودائم. وبما أن المواطنين المتعقلين يتبنون مذاهب معقولة (11: 3. 1)، فهم مستعدون لاقتراح أو تأييد تصور سياسي للعدالة لتحديد شروط التعاون السياسي المنصف. ومن ثم، فهم يقدرون من داخل مذاهبهم الشمولية المعقولة أن القيم السياسية قيم عظيمة جدا ولأجل ذلك يجب أن تتحقق في إطار وجودهم السياسي والاجتماعي، والحياة العامة المشتركة شرط أن نتوقع أن يويدها جميع الشركاء المتعقلين.

وثانياً، نأتي أخيراً إلى فكرة الشرعية حيث يفهم المواطنون المتعقلون أن هذه الفكرة تنطبق على البنية العامة للسلطة السياسية (الدرس الرابع:1 .2 -3). إنهم يعلمون أنه نادراً ما يكون هناك في الحياة السياسية إجماع حول أي مسألة أساسية إن لم يكن مستحيلا، وبالتالي يجب أن يشتمل الدستور الديمقراطي على إجراءات التصويت بالأغلبية أو أيّ تعددية أخرى من أجل اتخاذ القرارات لأنه من غير المعقول عدم اقتراح أو تأييد مثل هذه الترتيبات. دعونا نقول إن ممارسة السلطة السياسية مشروعة فقط إذا تعلقت بالمسائل الأساسية وفقا لدستور وبالأساسيات الدستورية التي يُتوقع أن يؤيدها جميع المواطنين المتعقلين، الأحرار والمتساوين. وهكذا، يعترف المواطنون بالتمييز المتعارف عليه بين قبول (على نحو كاف) الدستور باعتباره عادلا وشرعيا وما يفترضه من ترتيبات خاصة بإجراء انتخابات نزيهة وأغلبية تشريعية، والقبول بشرعية قانون معين أو قرار معين (حتى عندما لا يكون عادلا[30]) يتعلق بمسألة سياسة معينة[31]. (أعود إلى فكرة الشرعية في الفقرة 5. 3.)

لذا فإن الكويكرز Quakers (أعضاء إحدى الجماعات بروتستانتية)، وهم من دعاة السلام، يرفضون الدخول في حرب، ومع ذلك فإنهم يدعمون أيضًا نظامًا دستوريًا ويقبلون شرعية قاعدة الأغلبية أو غيرها من قواعد التعددية. وبينما يرفضون الخدمة في حرب قد يقررها ديمقراطيون بشكل معقول، فإنهم سيظلون يؤيدون المؤسسات الديمقراطية والقيم الأساسية التي يمثلونها. إنهم لا يعتقدون أن إمكانية تصويت الشعب على الذهاب إلى الحرب سببا كافيا لمعارضة الحكومة الديمقراطية.

قد يتساءل المرء لماذا لا يشكك مذهب الكويكرز الديني الذي يحرم على أشياعه المشاركة في الحرب في ولائهم. ومع ذلك قد يبيح ديننا أشياء كثيرة. قد يتطلب دعمنا للنظام الدستوري باعتباره، من بين جميع الأنظمة السياسية القابلة الانطباق، الأكثر انسجاما مع الأمر الديني الذي يجب أن يهتم بالحقوق والمصالح الأساسية للآخرين فضلا عن حقوقنا ومصالحنا الأساسية. كما هو دأب أيّ مذهب معقول، تُمثّل وتنتظم العديد من القيم السياسية وغير السياسية داخله. ومع ذلك، قد ينتصر الولاء لنظام دستوري عادل ودائم في إطار المذهب الديني[32]. وهذا يبيّن كيف يمكن للقيم السياسية أن تكون مهيمنة في دعم النظام الدستوري نفسه، حتى لو تسنى لنا رفض بعض القوانين والقرارات المعقولة، وعند الضرورة الاحتجاج عليها عبر العصيان المدني أو الرفض الواعي.

يشرح ما تقدم فكرة وجود تصور سياسي مُسوغ وقائم بذاته، ويمكِّننا من الإجابة عن المسألة الأولى التي يطرحها هابرماس حول ما إذا كانت فكرة الإجماع التقاطعي تعزز تسويغ التصور السياسي، أو أنها ببساطة تضع شرطًا ضروريًا للاستقرار الاجتماعي. يتمثل الجواب على سؤاله الأول في المعنى الثالث للتسويغ – التسويغ العمومي – ومدى ارتباطه بالأفكار الثلاثة الأخرى، الإجماع التقاطعي، والاستقرار للأسباب الحقيقة، والشرعية.

  1. يمكننا الآن أن نناقش بإيجاز المسألة الثانية التي يثيرها هابرماس: هل تستخدم الليبرالية السياسية مصطلح “معقول” للتعبير عن حقيقة أو صلاحية الأحكام الأخلاقية، أو ببساطة للتعبير عن موقف مترو تجاه التسامح؟

ليس لدي ما أضيفه لما قيل فيما سبق. لا تستخدم الليبرالية السياسية تصور الحقيقة الأخلاقية المطبقة على أحكامها السياسية (الأخلاقية دائما). إنها تقول إن الأحكام السياسية معقولة أو غير معقولة. وترسي مثل ومبادئ ومقاييس ومعايير المعقول السياسية. وترتبط هذه المعايير بدورها بالخصائص الأساسية للأشخاص المتعقلين كمواطنين: أولاً، استعدادهم للاقتراح والالتزام، إذا قبلوا، بما يعتقدون أن الآخرين كمواطنين كمتساوين معهم قد يقبلون بشكل معقول الشروط المنصفة للتعاون الاجتماعي؛ وثانيا، استعدادهم للاعتراف بأعباء الحكم وقبول تبعات ذلك. وأما بالنسبة للغرض السياسي من مناقشة مسائل الأساسيات الدستورية والعدالة الأساسية، تعتبر الليبرالية السياسية فكرة المعقول كافية. ولا شأن لها بمفهوم الحقيقة لا على جهة الاستخدام ولا على جهة التشكيك، بل يترك أمر استخدامه أو رفضه أو استخدام مفهوم آخر بدلا عنه للمذاهب الشمولية. وأخيرًا، فإن المعقول، بطبيعة الحال، يعبر عن موقف مترو من التسامح، لأنه يعترف بأعباء الحكم، وهذا بدوره يقود إلى حرية الضمير وحرية التفكير (الدرس الثاني: 2-4).

ومع ذلك، يؤكد هابرماس على أن الليبرالية السياسية لا يمكن أن تتجنب مسائل الحقيقة والتصور الفلسفي للشخص (131). لقد أشرت من قبل إلى أنني لا أرى لماذا لا تتجنبها. بيد أن الليبرالية السياسية تتجنب في الآن ذاته الاعتماد على هذه الأفكار واستبدالها بأخرى – المعقول، من ناحية، وتصور الأشخاص كمواطنين ينظر إليهم على أنهم أحرار ومتساوون، من ناحية أخرى. عندما نتبنى في المجتمع المدني نظرية العدالة إنصافا، أو في الواقع، أي تصور سياسي، تُوصف هذه الأفكار دائمًا على أنها تعبّر عن تصورات ومبادئ داخل التصور السياسي نفسه. وما لم يَثبت أن هذا التمشي غير مقنع، أو أنه يفشل ضمن طرق معينة، فإن الليبرالية السياسية ليست مطالبة بأن تقدم تنازلات. أقر بأن فكرة الحاجات المعقولة تتطلب فحصًا أكثر شمولًا مما جاء في هذا الكتاب. ومع ذلك، أعتقد أن الخطوط الرئيسية للتمييز بين المعقول وبين الحقيقي والعقلاني واضحة بما فيه الكفاية لإظهار معقولية فكرة الوحدة الاجتماعية التي يضمنها إجماع تقاطعي معقول. وبالتأكيد سيستمر الناس في إثارة أسئلة حول الحقيقة والفكرة الفلسفية عن الشخص وفي الادعاء على الليبرالية السياسية دون مناقشتها. وفي غياب التفاصيل، لا ترقى هذه الادعاءات إلى مستوى الاعتراضات.

الفقرة الثالثة: حريات المحدثين ضد إرادة الشعب

 

  1. استهل ردي، في هذه الفقرة، على اعتراض هابرماس كما أثير في الجزء الثالث قبل تلخيص رأيه (130-31)؛ وأسترسل في ردي، في الفقرة الموالية، بداية بما يقوله في هذا التلخيص. تتعلق الاعتراضات بالعلاقة الصحيحة بين فئتين مألوفتين من الحقوق والحريات الأساسية-ما يسمى حريات القدماء وحريات المحدثين. يوافق هابرماس على أنني أشاطر آمال جان جاك روسو وكانط في استخلاص كلا النوعين من الحقوق من نفس الجذر. ويظهر ذلك في حقيقة أن كلا النوعين من الحريات يظهران بالتساوي في المبدأ الأول للعدالة، والذي يتم تبنيه في الوضع البدئي. ولهذه الحريات نفس الوسيلة الجذرية، كما يعتقد، أن حريات المحدثين لا يمكن فرضها كقيود خارجية على الإجراءات السياسية المتعلقة بتقرير مصير المواطنين. ثم يشير إلى الطابع ثنائي المراحل (127-28) للتصور السياسي لنظرية العدالة إنصافا، وأعاتبه إذ يعتبر أن هذا التصور يبدأ بالطابع الافتراضي للوضع البدئي حيث يتم اختيار مبادئ العدالة مرة واحدة وإلى الأبد من قبل الشركاء باعتبارهم متساوين خاضعين لحجاب الجهل، والانتقال بعد ذلك إلى تطبيق المواطنين المنتظم لتلك المبادئ نفسها في ظل الظروف الفعلية للحياة السياسية[33]. إن طبيعة التصور السياسي ثنائي المراحل تقود، كما يعتقد، إلى الحقوق الليبرالية للحداثة التي لها سمات ما قبلية تقلل من شأن العملية الديمقراطية (127 -28). وأنفي هذا التصريح الأخير.

يزعم هابرماس أيضًا أنني أبدأ من فكرة الاستقلالية الذاتية السياسية وأجسدها على مستوى الوضع البدئي. لكن في حين أن شكل هذه الاستقلالية الذاتية يُعطى لما يسميه “الوجود الافتراضي” في هذا الوضع، وبالتالي للنظرية، فإن هذا الشكل من الاستقلالية الذاتية لا “يتكشف بشكل كامل في قلب المجتمع الذي تم تأسيسه بشكل عادل”. وأستند في ذلك إلى مقطع طويل سأذكره بالكامل تقريبًا في ثلاثة أجزاء، مع التعليق على كل جزء على حده. أشير إلى المقطع الذي يبدأ بـ “من أجل رفع حجاب الجهل” (128) وينتهي بالكلمات “قبل كل تشكيل إرادة سياسية” (129). هذا المقطع هو أساس مناقشتي للعلاقات بين الحريات الأساسية. ويتضمن بعض العبارات المحيرة وأخشى ألا أفهمه. ورغم ذلك، يثير المقطع أسئلة عميقة حول مدى ترابط وجهات نظرنا.

  1. أبدأ بسوء فهم واضح لفكرة ما أسميه التسلسل المتكون من أربع مراحل، وحتى لو توقف الأمر عند هذا فقط، يتوجب عليّ أن أشرح ذلك. وتقول هذه الجملة: “فكلما ارتفع حجاب الجهل أكثر، وكلما تبدى مواطنو رولز لحما ودما، كلما وجدوا أنفسهم أكثر خضوعا للمبادئ والمعايير التي تم توقعها نظريًا وصارت فعلا ذات طابع مؤسسي خارج سيطرتهم” (128).

وهنا لا بد من التأكيد على نقطتين أساسيتين. تتمثل الأولى في أن التسلسل المتكون من أربع مراحل لا يصف العملية السياسية الفعلية، ولا العملية النظرية البحتة. وإنما هو بالأحرى جزء من نظرية العدالة إنصافا ويشكل جزءاً من إطار الفكر الذي يجب أن يستخدمه المواطنون في المجتمع المدني في تطبيق مفاهيم ومبادئ نظرية العدالة إنصافا التي يقبلون بها. وضمن هذا الإطار يتحدد نوع المعايير والمعلومات التي توجه أحكامنا السياسية للعدالة، اعتمادًا على موضوعها وسياقها.

نبدأ من الوضع البدئي حيث يختار الشركاء مبادئ العدالة؛ بعد ذلك، ننتقل إلى مؤتمر دستوري حيث نصبح بمثابة مندوبين – علينا أن نضع مبادئ وقواعد الدستور في ضوء مبادئ العدالة الموجودة بالفعل. ثم نتحول، بمعنى ما، إلى مشرعين يسنون القوانين بحسب ما يسمح به الدستور وبحسب ما تقتضيه مبادئ العدالة وتسمح به[34]؛  وأخيرا، نتقمص دور القضاة في تفسير الدستور والقوانين كأعضاء في السلطة القضائية. تتوفر مستويات مختلفة من المعلومات وأنواع المعلومات في كل مرحلة وفي كل حالة تفرض علينا تطبيق المبادئ (المبدأين) بذكاء، واتخاذ قرارات عقلانية وغير جزئية لخدمة مصالحنا أو مصالح كل ما تجمعنا به علاقة، كأصدقائنا أو ديننا، أو مكانتنا الاجتماعية أو حزبنا السياسي.

يوسع هذا الإطار نطاق فكرة الوضع البدئي، ويكيفها مع أوضاع مختلفة بحسب مقتضيات تطبيق المبادئ. من ذلك مثلا أننا نتبع في الحكم على الدستور، مبادئ العدالة بالإضافة إلى معلومات عامة عن مجتمعنا، يرغب واضعي الدستور في معرفتها وهي معلومات متاحة لنا، ولكنها ليست معلومات مخصوصة عن أنفسنا وارتباطاتنا، كما هو محدد أعلاه. وهذه المعلومات المهمة، التي تفترض معرفتها ما يكفي من الذكاء وقدرات العقل، يُعتقد أنها تضمن أن يكون حكمنا غير متحيز ومعقول، ومن شأن مبادئ العدالة هذه، إذا ما تبنيناها، أن توجهننا في صياغة دستور عادل وعلى نحو مماثل في المراحل الأخرى (كتاب نظرية في العدالة، الفقرة 31). وهاهنا أتجاوز سؤالًا صعبًا يتمثل في التالي: ما هي المعلومات المهمة عندما تنتشر في المجتمع القائم مظالم خطيرة كما يحدث في سائر المجتمعات دائمًا، وكما حدث في المجتمع الأمريكي في السنوات ما بين 1787و1791[35](وما زال يحدث ذلك) مثل تبرير الاسترقاق وحرمان النساء ومن لم يستوف حقوق الملكية من حق الاقتراع؟ يعتقد البعض أنه لم يكن ممكنا تبني أي دستور يلغي الاسترقاق في ذلك الوقت، فهل هذا المعطى مهم؟ يتفق كتاب نظرية في العدالة مع الرأي القائل بأن كل هذه المعلومات غير مهمة ويفترض أن الدستور العادل قابل للتحقيق. وما أن يوضع هذا الدستور في ظل ما أسميه ظروفاً مواتية بشكل معقول، حتى يضع هدفا له الإصلاح السياسي على المدى الطويل، من وجهة نظر المجتمع المدني، حيث اتضح أن الدستور العادل لا يمكن تحقيقه بالكامل. وبحسب عبارة هابرماس، إنه مشروع يجب تنفيذه (FG 163).

وأما النقطة الثانية، وهي على علاقة بالنقطة السابقة، فتتمثل في أنه عندما يستخدم المواطنون في المناصب السياسية أو المجتمع المدني هذا الإطار، فإن المؤسسات التي ينضوون تحتها ليست صنيعة فيلسوف سياسي أرسى أسسها نظريًا خارج سيطرة المواطنين. وإنما بالأحرى نحن ننشأ في كنف تلك المؤسسات التي توارثناها عن الأجيال السابقة. ولن يتسنّ لنا تقييمها إلا عندما نبلغ سن الرشد ونتصرف وفقا لذلك. وهكذا سيبدو كل ذلك بديهيا بمجرد أن يتوضح لنا الغرض من تسلسل المراحل الأربع واستخدامه[36]. وما قد يتسبب في سوء الفهم هو التفكير في استخدام فكرة مجردة مثل الوضع البدئي كجهاز للتمثيل وتخيل الشركاء لفهم اختيارهم للمبادئ وتبنيها إلى الأبد، وتفترض نظرية العدالة إنصافا على الأرجح أن يُثبّت تصور المواطنين للعدالة مرة واحدة وإلى الأبد. وفي ذلك تغاض عن النقطة الحاسمة التي تتعلق بالمجتمع المدني، وأن التصور السياسي للعدالة، مثل أي تصور آخر، يخضع دومًا للفحص من خلال أحكامنا المتروية والموزونة جدا. إن استخدام فكرة الأبد هنا يقودنا إلى أنه عندما نتخيل أن شركاءً عقلانيين (غير متعقلين) هم الذين يختارون المبادئ، فمن المعقول أن نفرض عليهم القيام بذلك على افتراض أن اختيارهم سيُتبنى إلى الأبد. وعلى هذا النحو تكون أفكارنا حول العدالة ثابتة: لا يمكننا تغييرها لتتناسب مع مصالحنا العقلانية ومعرفتنا بالظروف كما يحلو لنا[37]. وأما فحصها من خلال أحكامنا الموزونة جيدا فتلك، بطبيعة الحال، مسألة أخرى.

  1. وأما الوجه التالي من اعتراض هابرماس فيثير سؤالاً حول معنى الاستقلالية الذاتية السياسية وكيفية تحققها. تم التعبير عن السؤال بشكل جيد من خلال فكرة أنه بموجب الدستور العادل “لا يمكن للمواطنين إعادة إحياء جذوة الديمقراطية الراديكالية للوضع البدئي في الحياة المدنية لمجتمعهم” (128). وتُبلور الفكرة بشكل كامل في الجزء الثاني من المقطع. لذلك يقول بعد عبارة: “خارجة عن سيطرتهم”: “وبهذه الطريقة، تحرم النظرية المواطنين من الكثير من الأفكار التي سيتعين عليهم استيعابها من جديد في كل جيل. ومن وجهة نظر نظرية العدالة، لا يمكن أن نعيد تأسيس دستور ديمقراطي في ظل ظروف مؤسسية لمجتمع عادل قائم بالفعل، ولا يمكن تأمين عملية تحقيق منظومة الحقوق الأساسية بشكل مستمر. لا يمكن للمواطنين تجربة هذه العملية بوصفها عملية مفتوحة وغير مكتملة، كما تتطلب الظروف التاريخية المتغيرة ذلك. لا يمكنهم أن يعيدوا إحياء جذوة الديمقراطية الراديكالية على نحو ما هي عليه في الوضع البدئي في الحياة المدنية لمجتمعهم، ومن وجهة نظرهم، فإن جميع النقاشات الأساسية حول إضفاء الشرعية تقع بالفعل داخل النظرية؛ ويجدون نتائج النظرية مترسبة بالفعل في الدستور. ولأن المواطنين لا يستطيعون تصور الدستور كمشروع، فإن الاستخدام العمومي للعقل ليس له، في الواقع، أهمية ممارسة الاستقلالية الذاتية السياسية في الوضع القائم، بل إنه يعزز فقط الحفاظ على الاستقرار السياسي دون اللجوء إلى العنف” (128).

ينبغي أولا أن أسوق ملاحظة حول معنى الاستقلالية الذاتية، حيث تُفهم الاستقلالية الذاتية، في الليبرالية السياسية، على أنها سياسية وليست أخلاقية (الدرس الثاني: 6). وتمثل هذه الأخيرة فكرة أشمل بكثير وتنتمي إلى مذاهب شمولية كليبيراليتي كانط وجون ستيوارت ميل. يتم تحديد الاستقلالية الذاتية السياسية انطلاقا من المؤسسات والممارسات السياسية المختلفة، كما يُعبرّ عنها أيضا في بعض الفضائل السياسية للمواطنين في تفكيرهم وسلوكهم-مناقشاتهم، ومداولاتهم، وقراراتهم-في تنفيذ نظام دستوري. ويكفي الليبرالية السياسية هذا.

وإذا ما أخذنا هذه الملاحظة في الاعتبار، ليس من الواضح ما المقصود بالقول إن المواطنين في مجتمع عادل لا يمكن لهم أن “يعيدوا إحياء جذوة الديمقراطية الراديكالية على نحو ما هي عليه في الوضع البدئي في الحياة المدنية.” لا بد أن نسأل: لماذا لا يمكنهم ذلك؟ لأننا كما بيّنا أعلاه عند النظر في التسلسل المتكون من أربع مراحل أن المواطنين يستمرون في النقاش حول مسائل المبادئ السياسية والسياسة الاجتماعية إلى ما لا نهاية له. وعلاوة على ذلك، قد نفترض أن أي مجتمع واقعي لا يخلو من الظلم وإن بنسب متفاوتة وعلى نحو خطير في الغالب، وإذن فإن مثل هذه النقاشات تصبح أكثر من ضرورية. لا يمكن لأي نظرية (إنسانية) أن تتوقع جميع الاعتبارات الضرورية التي تؤثر على هذه المشاكل في ظل الظروف القائمة، ولا يمكن أن تكون هناك حاجة إلى الإصلاحات اللازمة لتحسين الترتيبات القائمة. إن المثل الأعلى للدستور العادل هو دائماً ما يتعيّن علينا أن نسعى إليه. ويبدو أن هابرماس يوافق على هذا النقاط حيث يقول: “يعتمد تبرير العصيان المدني على فهم ديناميكي للدستور كمشروع غير مكتمل. ومن هذا المنظور طويل المدى، لا تمثل الدولة الدستورية الديمقراطية بنية منتهية، بل تمثل مشروعا حساسا، وقبل كل شيء، قابلا للخطأ وللمراجعة، غرضها تحقيق نظام الحقوق من جديد كلما تغيرت الظروف، أي تفسير نظام الحقوق بشكل أفضل، لمأسستها بشكل أكثر ملاءمة، واستنتاج مضامينها بشكل أكثر جذرية. وتلك هي وجهة نظر المواطنين الذين يشاركون بفعالية في تحقيق نظام الحقوق والذين يرغبون في التغلب على التوتر بين الحقيقة الاجتماعية والصلاحية، واعون بالسياقات المختلفة” (FG 464).

يبدو هابرماس وكأنه يشكك في أن نظرية العدالة إنصافا لا تتوافق مع ما يقوله هنا. يشير (في المقطع الأول المذكور) إلى مجتمع عادل بالفعل (والذي يتضمن، فيما أفترض، دستورا وبنية أساسية لا غير) وأيضاً إلى “النقاشات الأساسية حول إضفاء الشرعية”. ويقول إنه لا يمكن تصور الدستور كمشروع – كشيء لم يتحقق بعد – ولذلك لا يمكن أن ينطوي العقل العمومي على ممارسة الاستقلالية الذاتية السياسية ولكن فقط الحفاظ على الاستقرار السياسي. ربما يعني أنه لا يمكن للمواطنين أن يكونوا مستقلين ذاتيا من الناحية السياسية إلا إذا كانوا مستقلين ذاتيا من رؤوسهم حتى أقدامهم، من خلال صياغة دستور لأنفسهم يصدر عن نقاشاتهم الأساسية، وعن “نقاشاتهم الأساسية حول إضفاء الشرعية”، وكذلك الشأن في جميع التشريعات من المستوى الأدنى. ومع ذلك، أشك أنه قد يعتقد أنه في مجتمع حسن التنظيم كما وُصف بشكل مثالي في نظرية العدالة إنصافا، لا يمكن إعادة إحياء جذوة ديمقراطية راديكالية لأن المواطنين لا يستطيعون فعليا أن يضعوا لأنفسهم ما يعتبرونه دستورًا عادلًا إذا كان بحوزتهم أصلا.

ولكن إذا كانت هذه هي الصعوبة، فمن السهل معالجتها. ولتوضيح فكرة الاستقلالية الذاتية السياسية نقول، أولاً، إن المواطنين يحصلون على استقلالية ذاتية سياسية كاملة عندما يعيشون في ظل دستور عادل معقول يؤمّن لهم الحرية والمساواة، إضافة إلى كل القوانين والتعاليم المناسبة المتفرعة عنه التي تنظم البنية الأساسية، ويجب أن يحفزهم دائما في فهم وتأييد هذا الدستور وقوانينه بشكل كامل، بالإضافة إلى قابلية ذلك الدستور وتلك القوانين للتعديل والتنقيح مع تغير الظروف الاجتماعية، إحساسهم بالعدالة وسائر القيم السياسية الأخرى. ونضيف إلى ذلك، ثانياً، أنه كلما كان الدستور غير عادل وغير كامل وكذا الشأن بالنسبة للقوانين في أنحاء مختلفة، يسعى المواطنون ذوو العقل إلى أن يصبحوا أكثر استقلالية ذاتية من خلال القيام بما ينبغي لهم القيام به، في ظروفهم التاريخية والاجتماعية، واضعين نصب أعينهم المضي قدما في تحقيق استقلاليتهم الذاتية بشكل معقول وعقلاني. وهكذا في هذه الحالة، فإن النظام العادل هو مشروع كما يقول هابرماس، وتتفق نظرية العدالة إنصافا مع هذا الرأي.

حتى عندما يكون الدستور على حق، يجب علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا لا يمكن للمواطنين أن يكونوا مستقلين تماما؟ هل مواطنو مجتمع روسو في كتاب العقد الاجتماعي ليسوا مستقلين ذاتيا بشكل كامل لأن المشرع صاغ لهم منذ البدء دستورهم العادل الذي نشأوا في ظله؟ لماذا يجب أن يبدو هذا الحدث البارز مختلفا عندما يفهم المواطنون الدستور العادل، وينفذونه بذكاء وحكمة؟[38]  كيف يمكن لحكمة المشرّع حرمان المواطنين من المعرفة التي استوعبوها عبر الأجيال؟ لماذا لا يتم استيعاب الأفكار المختارة من قبل المواطنين من خلال أفكارهم وتجربتهم مع هذه المؤسسات، عند محاولتهم فهم أسس صياغة الدستور؟ هل يحرمنا كتاب كانط أسس ميتافيزيقا الأخلاق من أن تكون لنا وجهات نظرنا للقانون الأخلاقي عبر تجسدها في هذا المؤلف؟ يقينا لا. وإلا فلماذا يختلف فهم عدالة الدستور؟

علاوة على ذلك، ليست كل الأجيال مدعوة إلى التوصل إلى نتيجة معقولة لجميع النقاشات الأساسية حول إضفاء الشرعية ومن ثم تنجح في أن تضع لنفسها دستورا جديدا وعادلا. لا يستطيع أيّ جيل أن يصوغ لنفسه دستوره دون أن يحتاج في ذلك إلى تاريخ المجتمع: فحتى مؤسسي 1787-91 لم يصوغوا الدستور بمعزل عما تحقق في التاريخ حتى أيامهم. وبهذا المعنى، فإن أولئك الذين يعيشون بالفعل في ظل نظام دستوري عادل ليس لهم أن يبحثوا عن دستور عادل، ولكن يمكنهم التفكير فيه بشكل كامل، وتأييده، وتنفيذه بحرية بكل الطرق الضرورية. ولكن أيّ أهمية خاصة للقول بأننا نصوغ لأنفسنا دستورًا عادلًا ومعقولًا وعقلانيًا عندما يكون في حوزتنا بالفعل دستورا نفهمه ونحتكم إليه بشكل كامل؟ ولما كانت الاستقلالية الذاتية السياسية تعبر عن حريتنا، ولكن ليس أكثر من أي نوع آخر من الحرية، فمن المعقول تأويج الأفعال المترتبة عنها، ولكن عند الاقتضاء فقط. وربما يعارض هابرماس التسلسل المتكون من أربع مراحل أربع كإطار للتفكير حتى عندما يتم تفسيره كما أشرت إليه في الفقرة 3.2 أعلاه؛ يستطيع أن ينظر إلى سلاسل حُجب الجهل الرقيقة على نحو متزايد كضرب من الحبس والتقييد المبالغ فيهما.

  1. أنتقل إلى الجزء الثالث والأخير من المقطع (128-129)، ينضاف إليه العبارة الأخيرة. يعترف هابرماس بأن الاستنتاجات التي يذكرها ليست ما قصدته، ومع ذلك يعتقد أن وجهة نظري تنتهي إلى هذه النتيجة. وهذا واضح في قوله: “من خلال الحدود الصارمة بين الهوية السياسية وبين الهوية غير العمومية للمواطنين. وفقا لرولز، فإن هذه الحدود تضعها الحقوق الليبرالية الأساسية التي تقيد التشريع الذاتي الديمقراطي، بالإضافة إلى الفضاء السياسي، منذ البداية، أي قبل تشّكل كل إرادة سياسية” (128-129).

وجاء في المقطع الإضافي (129) ما يلي: “ثم تشكل هاتان الهويتان النقاط المرجعية لنطاقين [أحدهما يتميز بالقيم السياسية، والآخر بالقيم غير العمومية]، يتكون الأول من حقوق المشاركة والتواصل السياسيين، والآخر محمي بالحقوق الليبرالية الأساسية. وتحظى الحماية الدستورية للفضاء الخاص [أود أن أقول الفضاء غير العمومي] بهذه الطريقة بالأولوية في حين أن “للحريات السياسية دورا أداتيا كبيرا في تأمين الحريات الأخرى”.[39] وهكذا استنادا لمجال القيمة السياسية، يتعيّن المجال السياسي المسبق للحريات السياسية بمعزل عن التشريع الذاتي الديمقراطي” (129).

أبدأ بمعنى العبارة التي ترد بالخط المائل في حدود نهاية الاقتباس الأول. يقول هابرماس أن عبارة “منذ البداية ” تعني قبل تشكل كل إرادة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن ما يقوله غير دقيق بالنسبة لنظرية العدالة إنصافا لهذا السبب. ومن وجهة نظر المواطنين في الثقافة الخلفية، افترضت أنه في مرحلة المؤتمر الدستوري، بعد اختيار مبادئ العدالة في الوضع البدئي، نتبنى دستورًا، مشفوع بشرعة حقوق وأحكام أخرى، يقيد تشريع الأغلبية فيما يتعلق بما يثقل كاهل مثل هذه الحريات الأساسية على غرار حرية الضمير وحرية التعبير وحرية التفكير. ومن ثمة يُقيد السيادة الشعبية كما يعبر عنها في السلطة التشريعية. ولا ننظر في نظرية العدالة إنصافا إلى هذه الحريات الأساسية على نحو ما هي عليه في مجال سياسي مسبق، وبالمثل لا يمكن أن ننظر للقيم غير العمومية على نحو ما هي عليه في مذهب شمولي (كما هو الحال في الحدسية العقلانية أو في نظرية القانون الطبيعي)، على أنها سابقة أنطولوجيّا، وبالتالي سابقة عن القيم السياسية. لا شك أن بعض المواطنين يتبنون مثل هذا الرأي، وتلك مسألة أخرى. إنه ليس جزءًا من نظرية العدالة إنصافا. ويسمح هذا التصور-ولا يفرض ذلك فرضا- بتضمين الحريات الأساسية في الدستور وحمايتها كحقوق دستورية على أساس مداولات المواطنين وأحكامهم مع مرور الزمن. إن إقرار دستور يقيد قاعدة الأغلبية لا يجب أن يكون سابقا لإرادة الشعب، وبهذه الطريقة لا يجب أن يعبر عن تقييد خارجي للسيادة الشعبية. إنها إرادة الشعب المعبر عنها في الإجراءات الديمقراطية مثل المصادقة على الدستور وسن التعديلات. ويزداد الأمر وضوحا بمجرد أن نرى التسلسل المتكون من أربع مراحل كإطار ضمن جهاز التمثيل لتنظيم أحكامنا السياسية كمواطنين.

وقد يتضح بشكل أكبر من خلال التمييز بين السياسة الدستورية وبين السياسة العادية، كما عاينت ذلك في الدرس السادس:6 [40]ونفترض فكرة وجود ديمقراطية دستورية ثنائية عند جون لوك: إنها تميز السلطة التأسيسية للشعب في صياغة الدستور والمصادقة عليه وتعديله عن السلطة العادية للمشرعين والمسؤولين التنفيذيين في السياسة اليومية؛ كما أنها تميز القانون الأعلى للشعب عن القانون العادي للهيئات التشريعية (ص 231 وما بعدها). لا مجال السيادة البرلمانية. إن الفترات الثلاث الأكثر ابتكارًا في تاريخ الولايات المتحدة الدستوري هي، دعنا نقول، لحظة التأسيس 1787-91، إعادة الإعمار، وبصورة أخرى، الصفقة الجديدة New Deal[41]. ولقد اتسعت رقعة النقاشات السياسية الأساسية في مختلف تلك الفترات. وهي تقدم ثلاثة أمثلة على أنه عندما أكد الناخبون التغييرات الدستورية التي تم اقتراحها وشجعوها، قبلت في النهاية. ويقينا تظهر هذه الحالات أن الحماية الدستورية للحقوق الأساسية ليست سابقة عما يسميه هابرماس تشكيل الإرادة. ويكفي أن نذكر وعد جيمس ماديسون للمناهضين للفيدرالية بتوجيه شرعة تتضمن حقوقهم إلى الكونجرس من جوان/ يونيو إلى سبتمبر من عام 1789؛ قبل المصادقة على الدستور.[42]

يتلاءم التسلسل المتكون من أربع مراحل مع فكرة أن حريات المحدثين تخضع للإرادة التأسيسية للشعب. ومن خلال هذا التسلسل، فإن الناس – أو بعبارة أوفى – هؤلاء المواطنين، إن كانوا ممن يؤيدون نظرية العدالة إنصافا، هم الذين سيصدرون الحكم في مرحلة المؤتمر الدستوري. وأعتقد أن هابرماس يتصور أن حريات المحدثين، من وجهة نظري، هي بمثابة نوع من القانون الطبيعي، وبالتالي، كما في تفسير كانط، فهي أفكار أساسية خارجية، وبالتالي تفرض قيودًا على إرادة الشعب العامة[43]. فنظرية العدالة إنصافا تصور سياسي للعدالة، وفي حين أنها ليست تصورا أخلاقيًا، فهي ليست صيغة من نظرية القانون الطبيعي. وهي لا تنفي ولا تؤكد أي وجهة نظر من هذا القبيل. لقد لاحظت ببساطة في ردّي أنه من خلال هذا التصور السياسي للعدالة، لا تفرض حريات المحدثين قيودا مسبقة على إرادة الشعب كما يعترض عليها هابرماس[44].

وإن صدق ذلك، فهذا معناه أن هابرماس لا يعترض على نظرية العدالة إنصافا، ولكنه يرفض الدستور الذي يعتقد أنها تقود إليه، والذي أعتقد أنه قد يؤمّن كلا من حريات القدامى وحريات المحدثين. قد يفترض أنه بما أن الأفكار التوضيحية المستخدمة في كتاب نظرية في العدالة، الفصل الرابع، مأخوذة من دستور الولايات المتحدة، فإن الدستور الذي تسوغه نظرية العدالة إنصافا يشبهه؛ وبالتالي يجب أن يكون عرضة للاعتراضات ذاتها. ومع ذلك، نحن (أنا وهابرماس) لا نناقش عدالة دستور الولايات المتحدة في حد ذاته، بل بالأحرى ما إذا كانت نظرية العدالة إنصافا تسمح بالسيادة الشعبية التي يكرسها وتتسق معها. ذلك ما ألح عليه. ومثلما كانت له اعتراضاته فلدي أيضا اعتراضات تجد أساسها (بالنسبة لي) في مبدأي العدالة على تسويغ دستورنا القائم وبنيتنا الأساسية للمجتمع كنظام للتعاون الاجتماعي. وأذكر ثلاثة اعتراضات: يفشل النظام القائم بشكل مؤسف في التمويل العمومي للانتخابات السياسية، مما يؤدي إلى اختلال خطير في الحريات السياسية المنصفة. فهو يسمح بتوزيع متفاوت جدا للدخل والثروة بما يقوض بشكل خطير الفرص المنصفة في التعليم والعمل، ويترتب عن ذلك كله تقويض المساواة الاقتصادية والاجتماعية، ويُقصي أيضا الأحكام المتعلقة بالأساسيات الدستورية مثل الرعاية الصحية للعديد من غير المؤمّن عليهم. ومع ذلك، فإن هذه المسائل الملحة لا تهم الموضوعات الفلسفية التي يثيرها هابرماس، مثل جهاز الوضع البدئي وعلاقته بنظرية النقاش، ومبدأي العدالة والتسلسل المتكون من أربع مراحل، والعلاقة بين حريات القدامى وحريات المحدثين.

قد يثبت هابرماس أفكارًا مشابهة إلى حد ما لأفكار جيفرسون، التي يبدو وكأن هذه المسألة أربكتها. ففي رسالته إلى صامويل كرشفال Samuel Kercheval من عام 1816، يناقش جيفرسون Jefferson أفكاره من أجل إصلاح دستور ولاية فرجينيا ويضع عناصر نظام الأجنحة، الذي يقسم المقاطعات إلى أجنحة صغيرة بحيث يمكن لجميع المواطنين الحضور والتعبير عن رأيهم في المسائل على مستوى الجناح ومن ثم على مستوى المقاطعة فالمستويات العليا. ومن المقرر أن توفر هذه الأجنحة، بالإضافة إلى نوع من التراتبية في التشاور، الفضاء العمومي الضروري للأشخاص للتعبير عن أنفسهم كمواطنين متساوين، وهو بند يفتقر إليه دستوري فرجينيا والولايات المتحدة الأمريكية. أذكر أن جيفرسون (في هذه الرسالة أيضا) يقترح عقد مؤتمر دستوري كل تسعة عشر أو عشرين عاما، بحيث يمكن لكل جيل اختيار دستور خاص به، ولا يكون للأجيال السابقة أي حقوق في هذا الصدد[45]. وإذ أذكر آراء جيفرسون فقط لأنها قد تلقي الضوء على ملاحظة هابرماس حول إعادة إحياء جذوة الديمقراطية الراديكالية في مجتمع عادل.

وأرى أيضا أن التصور الأنسب للدستور ليس مسألة ينبغي تسويتها بوفقا لاعتبارات الفلسفة السياسية وحدها، بل يحتاج إلى تمثل نطاق المؤسسات السياسية والاجتماعية وحدودها وآلية اشتغالها بفعالية. وهذه أمور تتوقف على التاريخ وكيفية ترتيب المؤسسات. وبطبيعة الحال هنا ينطبق مفهوم الحقيقة. وسأعود إلى مسألة صياغة الدستور في الفقرة 4. 3.

الفقرة الرابعة: جذور الحريات

 

  1. يرتبط الجزء الأول من اعتراض هابرماس على الحريات الذي تناولته في الفقرة 3 بالملخص الموجز [46] الذي أورده قبيل نهاية انتقاداته، والذي تعلق بما يسميه العلاقة الجدلية بين الاستقلالية الذاتية العامة والاستقلالية الذاتية الخاصة (130-31). استكمل ردي من خلال مناقشة هذا الملخص، والذي يشمل عبارات من الحجة المركزية لـكتاب الوقائع والمعايير FG، [47] التي تُعطى الأجزاء الأساسية منها بشكل رئيسي في الفصلين 3-4 من هذا العمل. كما استعيدت في الفصل 9، وكذلك في “الملاحظات الختامية”[48]. لهذا السبب، أبدأ بمراجعة بعض الملاحظات من هذه الأخيرة في إطار استكمال ردي على اعتراضه على ما يشير إليه بالليبرالية كمذهب تاريخي[49] .

يعتقد هابرماس أنه طوال تاريخ الفلسفة السياسية، فشل كلٌّ من الليبراليين والجمهورانيين المدنيين في فهم العلاقة الداخلية بين الاستقلالية الذاتية العامة والاستقلالية الذاتية الخاصة. من ذلك مثلا أن بعض المفكرين الليبراليين يدّعون عادةً أن مثل هذا الاستقلالية الذاتية، كما حددتها حريات المحدثين، تقوم على حقوق الإنسان، كالحق في الحياة، والحرية، والملكية (الخاصة[50])، وعلى قاعدة قانونية “غُفلة”[51]. ومن ناحية أخرى، تُستمد استقلالية المواطنين الذاتية (السياسية) العامة من مبدأ السيادة الشعبية ويعبر عنها في القانون الديمقراطي. ويُعتقد في التقاليد الفلسفية، أن العلاقات بين هذين النوعين من الاستقلالية الذاتية تتميز “بالمنافسة غير المحسومة” (“الملاحظات الختامية” III: 1).

ويتجلى هذا الخطأ في حقيقة أنه منذ القرن التاسع عشر، تذرعت الليبرالية بالخطر الكبير المتمثل في استبداد حكم الأغلبية، وافترضت ببساطة أولوية حقوق الإنسان كقيود على السيادة الشعبية. ومن جهتها، منحت الجمهورانية المدنية في تقليد أرسطو أولوية حريات القدامى على حريات المحدثين. وخلافا لجون لوك وكانط، ينفي هابرماس أن تكون حقوق المحدثين حقوقا أخلاقية سواءً كانت مبنية على القانون الطبيعي أو على تصور أخلاقي مثل الأمر القطعي. ويدعي أن الليبرالية، من خلال تأسيس تلك الحقوق على الأخلاق، تخضع النظام القانوني إلى أساس خارجي، مما يضع قيودا على القانون الديمقراطي الشرعي؛ في حين تؤسس وجهتي نظر روسو والجمهورانية المدنية حريات القدامى على القيم الأخلاقية لمجتمع معين وعلى أخلاقيات الخير العام، وتجذير تلك الحريات في صلب قيم محددة وضيقة.

ينتقل هابرماس بين ما يعتبره خطأين، ويرى أن حريات الاستقلالية الذاتية العامة وحريات الاستقلالية الذاتية الخاصة “تشترك في الأصل” و “تتساوى في القيمة”، دون أن تبسق هذه تلك أو أن تفرض نفسها على الأخرى (FG 135). وتتمثل المسألة الأساسية في هذا الصدد في أن العلاقة الداخلية بين الاستقلالية الذاتية العامة والاستقلالية الذاتية الخاصة، وقد سعى كلٌّ من كانط وروسو إلى صياغته ولكنهما فشلا في التعبير عنها، تلغي المنافسة غير المحسومة بين صيغتي الاستقلالية الذاتية. فبمجرد فهم العلاقة الداخلية بينهما، ندرك أن كلا منهما تفترض الأخرى (130): فإذا ما توفرت لنا صيغة من الاستقلالية الذاتية، كان معنى ذلك أنه تتوفر لنا الصيغة الثانية – ولسنا في حاجة إلى فرضها. يجب أن يسود تصور نظرية النقاش للديمقراطية وأن يتحقق التناغم والتوازن بين صيغتي الاستقلالية.[52].

لا يشكك هابرماس في أنه يمكن تسويغ حقوق الإنسان كحقوق أخلاقية. وتتمثل وجهة نظره في أنه بمجرد اعتبارها تنتمي إلى القانون الوضعي، والذي يكون دائما قسريا ومقبولا من قبل سلطة الدولة، لا يمكن فرضها من قبل فاعلية خارجة عن الهيئة التشريعية لنظام ديمقراطي. وهذا صحيح بالتأكيد: لنفترض (نتخيل بشكل كبير) أن مستشار بروسيا في أيام كانط، بدعم من الملك، سعى إلى التأكد من أن جميع القوانين التي تم سنها تتفق مع مبدأ كانط في العقد الاجتماعي[53]. إذا كان الأمر كذلك، فسيتفق معهما المواطنون الأحرار والمتساوون بعد تروّ مستحق. ورغم أن المواطنين لا يناقشون بحرية هذه القوانين ولا يصوتون عليها أو لا يسنوها، إلا أنهم ليسوا مستقلين ذاتيا من الناحية السياسية ولا يمكن لهم أن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم كذلك. ومن ناحية أخرى، يقول هابرماس إنه حتى الشعب الديمقراطي كمشرع سيادي، ومستقل ذاتيا بالكامل سياسياً، يجب ألا يسن أي شيء ينتهك حقوق الإنسان هذه. وهنا يعتقد أن الليبرالية تواجه معضلة (“الملاحظات الختامية” III.2)، لطالما أخفت الفلسفة السياسية في حلّها ويضع الحريات في منافسة غير محسومة. وتتمثل المعضلة المفترضة، في تقديري، في أنه في حين لا يمكن فرض حقوق الإنسان من الخارج على ممارسة الاستقلالية الذاتية العامة في نظام ديمقراطي، إلا أن هذه الاستقلالية الذاتية – مهما تكن عظيمة – لا يمكن أن تنتهك هذه الحقوق بشكل مشروع من خلال قوانينه (“الملاحظات الختامية” III.2).

  1. سأدافع ببساطة عن الليبرالية كما أفهمها ضد ما ذهب إليه هابرماس. وهكذا، فإنني أنفي أولاً، أن تكون الليبرالية تضع الاستقلالية الذاتية السياسية والاستقلالية الذاتية الخاصة في منافسة غير محسومة. وثانياً، أن معضلة الليبرالية المفترضة التي يقال إن علينا مواجهتها ليست معضلة حقيقية، لأن المقترحين وجيهين تماما؛ وثالثًا، أعتقد أن الليبرالية تُفسَّرُ بشكل صحيح، كما آمل ذلك في نظرية العدالة إنصافا وفي مذاهب ليبرالية أخرى تعود إلى لوك، فالاستقلالية الذاتية العامة والاستقلالية الذاتية الخاصة تشتركان في الأصل وتتساويان في القيمة (حسب تعبير هابرماس)، دون أن تفرض إحداهما نفسها على الأخرى خارجيا. وأبدأ بالأخيرة.

أنظر في ثلاثة أوجه تشابه بين نظرية العدالة إنصافا ووجهة نظر هابرماس لكي أوضح أنه في الليبرالية، متى فُسّرت بشكل صحيح، تشترك الاستقلالية الذاتية العامة والاستقلالية الذاتية الخاصة في الأصل وتتساويان في القيمة. إنهما تبيّنان، في اعتقادي، أن نظرية العدالة إنصافا مثلها مثل وجهات النظر الليبرالية الأخرى تدرك ما يسميه بالعلاقة الداخلية، أو الافتراض المتبادل، بين حريات القدامى وحريات المحدثين مثلما تدرك نظريته ذلك. أبدأ بالجملة التي يختتم بها الفقرة الأولى من الملخص[54] حيث يقول: “والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه إذن هو: ما هي الحقوق التي يجب أن يتفق عليها الأشخاص الأحرار والمتساوون بشكل متبادل إذا كانوا يرغبون في تنظيم تعايشهم بالوسائل المشروعة التي يفترضها القانون الوضعي والقسري” (130)؟

يتخذ هابرماس من هذا السؤال نقطة انطلاق لتفسيره لفهم الديمقراطية لذاتها (FG 109).

أليست هذه العبارة متشابهة، وإن لم تكن متطابقة تماماً، لما يحدث في المجتمع المدني عندما يناقش المواطنون ويقبلون (بالنسبة لمن يفعلون ذلك) مزايا الوضع البدئي واختيار المبادئ التي يفترضها؟[55] هل لا يختار الشركاء كمؤتمنين على المواطنين مبادئ العدالة لتحديد نظام الحريات (الأساسية) التي تحمي المصالح الأساسية للمواطنين وتعززها ثم يتنازلون عن بعضها لصالح البعض الآخر؟ وهنا أيضا، تشترك حريات القدامى وحريات المحدثين في الأصل وتتساوى في القيمة، دون أن تتفوق هذه على تلك. تُمنح حريات صيغتي الاستقلالية الذاتية العامة والخاصة جنباً إلى جنب ولا أساس لها في المبدأ الأول للعدالة. هذه الحريات تشترك في الأصل لسبب إضافي هو أن نوعي الحرية متجذران في واحدة من هاتين الملكتين الأخلاقيتين أو كليهما، على التوالي، بمعنى ملكة الإحساس بالعدالة وملكة بلورة تصور للخير. وكما رأينا سابقا، فإن الملكتين غير مصنفتين وتمثل كلتاهما أحد الوجوه الأساسية للتصور السياسي للشخص، حيث تكون لكل ملكة مصلحتها العليا التي تخصها[56].

3.ويوجد تشابه آخر في نظرية العدالة إنصافا يتمثل في أن لها بناءً يتكون كما هو الحال في نظرية هابرماس.[57] ويتمثل هذا التشابه في أن الأشخاص في المجتمع المدني الذين يقبلون نظرية العدالة إنصافا يستخدمون الوضع البدئي كجهاز للتمثيل لتحديد حقوق المواطنين الذين يعترفون على نحو متبادل بأنهم متساوون وأن حقوقهم يجب أن يضمنها نظام ديمقراطي. ثم، متى صار مبدأي العدالة في متناولنا (مع التركيز على المبدأ الأول)، فإننا نتحول (وفقا للتسلسل المتكون من أربع مراحل (الفقرة 3.2) إلى مندوبين في مؤتمر دستوري. وعند هذه النقطة فقط كما في نظرية هابرماس، “نمضي قدما في اتجاه الضبط الدستوري لسلطة الدولة المفترضة” (“الملاحظات الختامية” III: 8). ففي نظرية العدالة إنصافا، نتبنى في تفكيرنا وممارستنا المترتبة عنه دستوراً، كما قلت، قد يتضمن وقد لا يتضمن الحريات الأساسية، وبالتالي يخضع التشريعات البرلمانية لبعض القيود الدستورية كإحدى طرق ضبط وتنظيم سلطة الدولة المفترضة، ويفترض أن تتضمن نظرية العدالة إنصافا هذه السلطة، لأننا منذ البداية (الفقرة 1) نتعامل مع المبادئ والمثل العليا التي تصلح للبنية الأساسية للمجتمع والمؤسسات السياسية والاجتماعية الرئيسية، التي توجد فعلا في صيغة ما.

بينما يقول هابرماس إن الحقوق الليبرالية ليست أصلية في نظريته، بل تنشأ عن تحول في الحريات المتنازل عنها بشكل متبادل (“الملاحظات الختامية” III: 8)، يبين السياق أنه يشير إلى الحقوق ضد الدولة التي تتخذ شكل الحقوق المضمنة في الدستور: كشرعة الحقوق الأمريكية أو الدستور الألماني مثلا. إنه لا يناقش في البداية حقوق الأفراد التي يتنازلون عنها بشكل متبادل في خطوته الأولى[58]. هذه الحقوق الأخيرة أصلية بمعنى أننا نبدأ منها، تماماً كما نقول إن الحقوق الأساسية التي يشملها المبدأ الأول من العدالة أصلية. ويمكن أن نحيل على الحريات الأساسية التي يشملها هذان المبدآن، إلى جانب وجهة النظر التي تتعلق بآلية اشتغال الهيئات التشريعية والمؤسسات الاجتماعية، كأسباب لتضمين تلك الحريات في دستور مكتوب في مؤتمر دستوري؛ أو، بعبارات هابرماس، قد تشهد تحولا هي أيضا. إن الحريات الأساسية (كما يقول شأنها شأن الحقوق المتنازل عنها في البداية) أصلية (بالمعنى الذي يفهمه)، لكن القيود المفروضة على التشريعات ليست كذلك. ولا يشكك هابرماس في أن هذه الحريات قد تكون مرتبطة بشكل مناسب بالنظام الأخلاقي للحقوق. وإنما، تتمثل وجهة نظره (اتفق معه في ذلك) في أن تبيّن حقيقة هذه العلاقة في حد ذاته ليس كافيا في مجتمع ديمقراطي لإضفاء الشرعية على إنفاذ تلك الحريات شأنها في ذلك شأن القوانين. كما أنه لن يشكك في أن الاعتقاد المعقول للمواطنين في تلك العلاقة هو من بين الأسباب الوجيهة للدعوة إلى سن بعض الحقوق الخاصة في النقاش الديمقراطي.

وإذا كان ذلك كذلك، فإن نظرية هابرماس لا تختلف عن نظرية العدالة إنصافا أو عن وجهة نظر فرانك مايكلمان، الذي يعتبره جمهورانيا مدنيًا، أو في الواقع عن العديد من صيغ الليبرالية الأخرى. وتتفق كلٌّ من وجهة نظره ووجهة نظرنا (مع الكثير من المبادئ الدستورية الأمريكية) حول اعتبار مسألة تضمين حريات المحدثين في الدستور، مسألة يجب أن تقررها السلطة التأسيسية لشعب ديمقراطي،[59] وهذا توجه معروف في المذهب الدستوراني الذي ينهل من جورج لاوسون George Lawson عبر لوك.[60] وأعتقد أن وجهة نظر هابرماس حول الليبرالية لا تتناسب مع هذا التقليد التاريخي.

علاوة على ذلك، فإن المسألة الأكثر أهمية حقا، كما وردت في الفقرة 3، تتمثل فيما إذا كانت هذه الحريات ستكون مضمونة ومحمية بشكل أفضل إذا ما ضُمنت في دستور. وهذه المسألة هي واحدة من المسائل التي تتعلق بمشروع الدستور. وبطبيعة الحال، يفترض حلها مبادئ الحق والعدالة، ولكنها تتطلب أيضًا دراسة تاريخية وفهمًا لآلية اشتغال المؤسسات الديمقراطية في ظل ظروف تاريخية وثقافية واجتماعية معينة. ويعتبر هذا في نظرية العدالة إنصافا التقييم الذي يجب أن يتم في مؤتمر دستوري على أساس الايجابيات والسلبيات التي تفترضها وجهة النظر هذه. تتوقف الاختلافات في الرأي هنا بشكل كبير على كيفية تقييمنا للأدلة التاريخية لفعالية الحماية الدستورية وما إذا كانت لها عيوب تخصها، مثل العواقب الوخيمة على الديمقراطية نفسها. ومع ذلك، قد يثر تقييد التشريعات وفحص الأدلة والحالات التاريخية والفكر السياسي والاجتماعي الإعجاب للوهلة الأولى إلا أن ذلك كله قد يوحي بغير ذلك. وتتمثل النقطة الأساسية في أن مشروع الدستور ليس مسألة يجب تسويتها فقط بتصور فلسفي للديمقراطية – الليبرالية أو نظرية النقاش أو أي دراسة أخرى – ولا عن طريق الدراسة السياسية والاجتماعية وحدها – في غياب تفحص الحالات واحدة بواحدة مع الأخذ بعين الاعتبار التاريخ السياسي الخاص والثقافة الديمقراطية للمجتمع المعني. لذا فأنا أصر على أنه في الليبرالية (وفي نظرية هابرماس كذلك) لا توجد منافسة غير محسومة بين حريات القدامى وحريات المحدثين، وإنما تتعلق المسألة بتقييم الأدلة بطريقة أو بأخرى. وتنضاف إلى الحالة ذات الأربعة أضلع مسألة (الذي تمت مناقشته في نظرية في العدالة) ديمقراطية الملكية الخاصة مقابل الاشتراكية الليبرالية (نظرية في العدالة 270-274).

إنني أنفي، إذن، أن تضع الليبرالية الاستقلالية الذاتية السياسية والاستقلالية الذاتية الخاصة في منافسة غير محسومة. وتلك هي أطروحتي الأولى. وأما الثانية فتتمثل في أن المعضلة الليبرالية التي يفترض أن تواجهها هي معضلة حقيقية، لأن المقترحين، كما قلت، وجيهان. وقد يقول أحدهم: لا يمكن فرض أي قانون أخلاقي على شعب ديمقراطي ذو سيادة؛ ويقول آخر: لا يجوز من زاوية نظر العدالة لشعب ذي سيادة (ولكن يجوز له من زاوية نظر الشرعية[61]) أن يسن أي قانون ينتهك تلك الحقوق. وتعبر هذه التصريحات ببساطة عن خطر على العدالة السياسية لكل نظام سواءً كان ديمقراطيا أو غير ذلك؛ لأنه لا توجد مؤسسة إنسانية-سياسية أو اجتماعية، أو قضائية أو كنسية- يمكنها أن تضمن أن القوانين المشروعة (أو العادلة) هي التي تقرر دائمًا وأن الحقوق العادلة هي التي تحترم دائمًا. وإضافة إلى ذلك: يقينا، ولا يمكن التشكيك في ذلك البتة، يمكن لشخص واحد أن يتخّذ موقفا بمفرده فيقول، وهو محق في ذلك، إن القانون والنظام سيئان وغير عادلين. لا حاجة إلى أي مذهب بعينه يؤكد الاشتراك في الأصل والتساوي في القيمة لصيغتي الاستقلالية الذاتية لشرح هذه الحقيقة. من الصعب تصديق أن هذا الأمر كان غائبا عن أذهان جميع المنظرين الليبراليين والجمهورانيين المدنيين. ويتعلق الأمر بالسؤال القديم حول أفضل السبل لتوحيد السلطة والقانون لتحقيق العدالة.

4.أما التشابه الثالث بين نظرية العدالة إنصافا والفكرة القائلة بأن الاستقلالية الذاتية العامة والاستقلالية الذاتية الخاصة تشتركان في الأصل وتتساويان في القيمة فيتثمل في التالي: أعتقد أن العلاقة الداخلية بين صيغتي الاستقلالية الذاتية تكمن في نظرية هابرماس في الطريقة التي تعيد بها نظرية النقاش بناء شرعية القانون الديمقراطي. وأما في نظرية العدالة إنصافا، فإن بين صيغتي الاستقلالية الذاتية علاقة داخلية أيضًا، بمعنى أن علاقتهما تكمن في الطريقة التي من خلالها يعتبرهما هذا التصور بمثابة مثلين أعليين. ويعود مصدر نظام الحقوق والحريات الأساسية إلى فكرة المجتمع كنظام منصف من التعاون الاجتماعي، والممثلون العقلانيون للمواطنين الذين يختارون شروط التعاون في ظروف معقولة. وبينما ينخرط المشاركون في مثل هذا التعاون، يقال إن المواطنين يتمتعون بالملكتين الأخلاقيتين الضروريتين تنضاف إليهما المصالح العليا الثلاث التي تمكنهم من المشاركة في مجتمع متصور على النحو. وتتمثل هاتين الملكتين في القدرة على الإحساس بالعدالة والقدرة على بلورة تصور للخير. وتقترن الأولى بفكرة المعقول – القدرة على اقتراح والتصرف بشروط عادلة من التعاون الاجتماعي بافتراض أن الآخرين يفعلون ذلك؛ في حين تقترن الثانية بفكرة العقلاني[62] – القدرة على بلورة تصور عقلاني ومتماسك للخير لا يمكن متابعته إلا ضمن حدود هذه الشروط المنصفة.

من هنا تكمن الفكرة في ربط الحريات الأساسية بنظام ملائم تمامًا لصنفين من الحريات، وذلك في ست خطوات، أكتفي بالإشارة إليها فيما سيأتي:

أ. تحديد الظروف الاجتماعية المواتية لجميع المواطنين للتطوير الملائم والممارسة الكاملة والعليمة للملكتين الأخلاقيتين في الحالتين الأساسيتين (الدرس الثامن:8).[63]

ب. تحديد الحقوق والحريات الضرورية لحماية ممارسة هاتين الملكتين والسماح بها في الحالتين الأساسيتين. وتتعلق الحالة الأولى بتطبيق مبادئ العدالة على البنية الأساسية للمجتمع وسياساتها الاجتماعية. ولابد من التنصيص هنا على ضرورة الحرية السياسية وحرية التعبير السياسي والتفكير. فيما تتعلق الحالة الثانية بتطبيق العقل التداولي في توجيه سلوك الشخص على مدى حياته كاملة. وبوجه عام، تتداخل هنا حرية الضمير وحرية التفكير مع حرية تكوين الجمعيات (الدرس الثامن: 8).

ج. بما أن قدر الحريات أن تتصارع وليست أيّ واحدة منها مطلقة مقارنة بغيرها، يجب علينا التحقق مما إذا كان يمكن تحقيق النطاق المحوري لكل حرية في وقت واحد في بنية أساسية قابلة للتطبيق (الدرس الثامن: 2). وتتمثل المسألة ها هنا في أننا لا نستطيع أن نقول ببساطة أنها ممكنة: يجب أن تتجلى من خلال تحديد النطاق المحوري لهذه الحريات والطريقة التي يمكن من خلالها التوفيق بينها في مؤسسات قابلة للتطبيق تلبي مبدأي العدالة[64].

د. استخدام طريقتين – إحداهما تاريخية والثانية نظرية-لإعداد قائمة الحريات الأساسية. وبحسب الطريقة التاريخية، نتطلع إلى دساتير المجتمعات الديمقراطية، ونعدّ قائمة بالحريات المحمية عادة، ونفحص دورها في الديمقراطيات التي نجحت تاريخياً بشكل جيد. وفي ضوء النظرية، نتبيّن أيّ الحريات تكون أكثر أهمية للتطوير الملائم للملكتين الأخلاقيتين وممارستهما طوال حياة كاملة (الدرس الثامن: 1).

ه. إقحام الخيرات الأولية (التي تشمل الحريات الأساسية والفرص المنصفة) من أجل تحديد تفاصيل مبادئ العدالة بشكل أكبر لجعلها قابلة للتطبيق في ظل الظروف الاجتماعية العادية. إن الحقوق الأساسية، والحريات، والفرص التي نعرفها متساوية، ويجب أن يكون للمواطنين أفضل الوسائل الضرورية لاستخدامها بفعالية. ولكن ما هي هذه الحقوق والحريات والوسائل على وجه الدقة حتى تكون هذه المبادئ قابلة للاستخدام؟ تجيب الخيرات الأساسية على هذا السؤال (الدرس الخامس: 3-4). وبهذا، يمكن للمبادئ أن توجّهنا تحت ظروف مواتية بشكل معقول تتهيأ لنا في الوقت المناسب، بدءاً من وضع المجتمع القائم كنظام عادل من المؤسسات السياسية والاجتماعية التي تحمي النطاق المحوري لجميع الحريات، حريات القدامى وحريات المحدثين على حد سواء.

و. أخيرا، بيان أن هذه المبادئ سيتم تبنيها في الوضع البدئي من قبل المؤتمنين على مواطني المجتمع منظورا إليهم بوصفهم أحراراً ومتساوين، وأنهم يمتلكون القدرتين الأخلاقيتين وبلورة تصور محدد للخير.

وبهذه الطريقة، تم ربط مجموعات متناسقة ومتكاملة من التصورات التي تخص كل من صيغتي الاستقلالية الذاتية داخليًا عن طريق إنشاء نظرية العدالة إنصافا كتصور سياسي للعدالة. وإذن لا تضع هذه الصيغة من الليبرالية الحريات في منافسة غير محسومة. غالبًا ما تكشف الحالات الواقعية عن صراعات بين الحريات، ولا يمكن لأي تصور لنظام دستوري أو أي تصور آخر أن يتجنب ذلك تمامًا، ولا حتى وجهة نظر هابرماس قياسا لأي وجهة نظر أخرى، وليس لأنه ينفي ذلك.

أما بالنسبة لمسألة الاختلافات بين وجهة نظر هابرماس ووجهة نظري فيما يتعلق بالاشتراك في الأصل للاستقلالية الذاتية في صيغتيها العامة والخاصة وتساويهما في القيمة، فلا أدري ما تكون. ورغم أن وجهة نظره شمولية (الفقرة 1)، إلا أن لكلينا مثلا أعلى معياريا للديمقراطية يؤسس العلاقة الداخلية بين صيغتي الاستقلالية الذاتية، وهذان المثلان الأعليان متشابهان في أنحاء عديدة. ويبدو لي أن مثله الأعلى قد تحدد بشكل واسع جدا بحيث يمكن توقع ما هي المجموعة المتسقة والمتكاملة من الحريات التي قد يقود إليها إجراء النقاش المثالي. وفي الواقع، يبدو من غير الواضح ما إذا كان يمكن أن يؤدي إلى أي نتيجة محددة على نحو كبير على الإطلاق[65].

  1. مسألة أخيرة. إذا ما أخذنا في عين الاعتبار كلمات هابرماس حرفيا، قد يعتقد أن العلاقة الداخلية بين صيغتي الاستقلالية الذاتية تتوقف على “المضمون المعياري لطريقة ممارسة الاستقلالية الذاتية السياسية” (FG 133). وإذن، لماذا التركيز على المجال السياسي؟ هل كان يعني حقا بأن للاستقلالية الذاتية السياسية الدور الأولي والأساسي، عندما يقول إن صيغتي الاستقلالية الذاتية تشتركان في الأصل وتتساويان في القيمة؟ لماذا لا تسيران على قدم المساواة في كلا الاتجاهين في تصوره؟

وعلى أي حال، فإن نظرية العدالة إنصافا تنص على أنه حتى لو كانت الحريات المتعلقة بالاستقلالية الذاتية الخاصة يمكن أن تكون مرتبطة داخليًا بالاستقلالية الذاتية السياسية وتتأسس عليها، فإن هذه الحريات لا تتأسس فقط على هذه العلاقة. وذلك لأن حريات المحدثين في نظرية العدالة إنصافا تجد أساسها المميز في الملكة الأخلاقية الثانية وتصورها المحدد (رغم أنه في الوضع البدئي، غير معروف) للخير. وعلاوة على ذلك، فإن الملكة الأخلاقية الثانية والمصالح العليا المرتبطة بها تعبر بشكل مستقل، في نظام الحريات الأساسية، عن حماية الأشخاص وحرياتهم كأعضاء في المجتمع المدني وحماية حياتهم الاجتماعية والثقافية والروحية. وينطوي هذا الجزء من المجتمع على مؤسسات وجمعيات من جميع الأصناف والمنظمات الثقافية والجمعيات العلمية والجامعات والكنائس ووسائل الإعلام بشكل أو بآخر، والتي لا حصر لها. وتمثل قيمة وأهمية هذه الأنشطة في نظر المواطنين الذين تشكل أنشطتهم على الأقل أساسا كافيا، إن لم يكن حيويًا للحقوق المتعلقة بالاستقلالية الذاتية الخاصة. وحسب اعترافات هابرماس (FG 165)، تتوقف ديمومة الديمقراطية السياسية على الثقافة الخلفية للليبرالية التي تدعمها. لكن هذه الثقافة الخلفية لن تدعمها، ما لم يعتقد المواطنون المتعقلون أن مؤسسات الديمقراطية تؤيد ما يعتبرونه أشكالاً مناسبة للخير، كما تحددها مذاهبهم الشمولية وتسمح بها العدالة السياسية. لذا، حتى إذا كانت العلاقة الداخلية مع الحريات السياسية تفضي إلى استخلاص الحريات المدنية على نحو كاف ضمن نظرية النقاش، فلن تمنع هذه الأخيرة، في تقديري، من الاستفادة من تسويغ كاف على الأقل بشكل متساوٍ.

إن تركيز هابرماس الظاهر على المجال السياسي (إذا كان ذلك ما يقصده) ليس مقبول البتة إلا إذا افترضنا أن فكرة النزعة الإنسانية المدنية صحيحة: أي أن النشاط الذي يحقق فيه البشر تحققهم الكامل، وخيرهم الأعظم، هو في صلب أنشطة الحياة السياسية. ومن الواضح أن الانخراط في الحياة السياسية يمكن أن يكون جزءاً معقولاً من تصورات العديد من الأشخاص حول الخير، وفي الواقع، قد يكون بالنسبة للبعض خيرًا عظيمًا، كما هو الشأن بالنسبة لرجال الدولة العظماء مثل جورج واشنطن وأبراهام لينكولن. ومع ذلك، فإن نظرية العدالة إنصافا ترفض أي تصريح من هذا القبيل؛ لأنه من الخطأ أن نخضع خير المجتمع المدني لطبيعة الحياة العامة.

الفقرة الخامسة: العدالة الإجرائية في مقابل العدالة الجوهرية

 

  1. أختتم في هذه الفقرة دفاعي عن الليبرالية (الليبرالية السياسية كما أراها) بالرد على اعتراض هابرماس على أن نظرية العدالة إنصافا جوهرية وليست إجرائية، من ذلك أنه يقول إن نظريته الإجرائية “تركز بشكل حصري على الجوانب الإجرائية للاستخدام العمومي للعقل ويستمد نظام الحقوق من فكرة قانونية [شرعية[66]] مأسستها. وقد تترك مسائل كثيرة دون حلّ [أكثر من نظرية العدالة إنصافا] لأنها تعول كثيرا على عملية التقييم العقلاني وتشكيل الإرادة. فالفلسفة تحمل أعباء نظرية مختلفة عندما تدّعي، كما في تصور رولز، أنها تبلور المثل الأعلى للمجتمع العادل، في حين يستخدم المواطنون هذه الفكرة كقاعدة للحكم على الترتيبات والسياسات القائمة” (131).

أعتبر ردي كدفاع عن الليبرالية لأن أي رؤية ليبرالية يجب أن تكون جوهرية، وينبغي لها أن تكون كذلك دون مواربة. وعلاوة على ذلك، لا أرى لماذا لا تكون وجهة نظر هابرماس جوهرية أيضًا، رغم اختلاف المقومات الجوهرية.

أستهل ردي بالقول إني أتخذ التمييز بين العدالة الإجرائية والعدالة الجوهرية، على أنه تمييز على التوالي بين “عدالة” (أو إنصاف) الإجراء وبين عدالة (أو إنصاف) نتيجته[67]. ويعيّن كلا الصنفين من العدالة قيما معيّنة تتعلق على التوالي بالإجراء وبالنتيجة؛ ويلتقي كلا الصنفين من القيم معًا بحيث أن عدالة الإجراء تتوقف دائمًا (على أن نترك حالة المقامرة الخاصة جانباً) على عدالة نتيجته المحتملة، أو على العدالة الجوهرية. وبالتالي، فإن العدالة الإجرائية والعدالة الجوهرية متصلتين وغير منفصلتين. ولا يزال هذا يسمح بأن تكون للإجراءات المنصفة قيمة داخلية- كالإجراء الذي تكون له قيمة الحياد من خلال منح فرصة متساوية للجميع لعرض قضيتهم[68].

ويمكن توضيح العلاقة بين العدالة الإجرائية والعدالة الجوهرية بالتذكير بإيجاز بحالتين واضحتين تنطويان على عدالة إجرائية[69]. تتمثل الأولى في عدالة إجرائية كاملة كما يتضح من خلال إجراء تقسيم الكعكة كما يفترضه الحس السليم. ويقدم هذا الإجراء مثلا عن العدالة الإجرائية الكاملة فقط لأنه ينتهي دائمًا إلى النتيجة المنصفة المقبولة: التقسيم المتساوي. وأما إذا فشل الإجراء في الانتهاء إلى نتيجة منصفة، فلن يكون إجراءا من أجل العدالة، ولكن من أجل شيء آخر. وينطبق الشيء نفسه على محاكمة جنائية كلما تعلق الأمر بقضية تفترض عدالة إجرائية غير كاملة لأنه لا يوجد إجراء محاكمة، حتى إن وجد قانون عادل وفعال ينظمها-بما تفترضه قواعد الأدلة الخاصة بها وحقوق وواجبات الطرفين-يضمن إدانة المتهم بشكل معقول فقط لأن المتهم ارتكب الجريمة. ولكن ووفقا للطريقة التي سلكناها من قبل، فإن إجراء المحاكمة الجنائية لن يكون إجراءا عادلا ولا إجراءا من أجل محاكمة منصفة، ما لم يُعّد بذكاء بحيث ينتهي إلى القرار الصحيح، على الأقل في أغلب الحالات. وإذا كان لا مفر من ارتكاب بعض الأخطاء، فذلك يعود، من جهة، إلى تعقد مقياس تحديد الإثم ومحاولة تجنب إدانة الأبرياء، ومن جهة أخرى، إلى أن البشر غير معصومين من الوقوع في الإثم وما قد يطرأ على الأدلة من تغييرات غير متوقعة. ومع ذلك، لا يمكن أن تتكرر الأخطاء أكثر من اللازم، وإلا فإن إجراء المحاكمة لن يكون عادلاً.

في بعض الأحيان قد يبدو الأمر كما لو أن الخلاف يدور حول العدالة الإجرائية والعدالة الجوهرية، لكن تبين أن الأمر ليس كذلك. يتفق الطرفان على أن العدالة الإجرائية تتوقف على العدالة الجوهرية وليس على شيء آخر. ونعتبر أن وجهات النظر الديمقراطية التعددية التي تحث على صيغة من صيغ ديمقراطية قاعدة الأغلبية وترفض الديمقراطية الدستورية بأجهزتها المؤسسية – مثل فصل السلطات، أو الأغلبيات الكبرى في بعض المسائل، أو شرعة للحقوق، أو المراجعة القضائية-لا تتفق مع الحكم الديمقراطي أو أنها كذلك غير ضرورية. وتعتبر وجهات النظر هذه قاعدة الأغلبية كإجراء منصف يتحدد في صلب المؤسسات السياسية العمومية لحل النزاعات السياسية والاجتماعية. وبعض سمات الإجراء حاسمة بالنسبة للديمقراطية وتحدد أوجه الإجراء نفسه كالحق في الاقتراع، وقاعدة الأغلبية، وحرية التعبير السياسي، والحق في الترشح للمناصب السياسية. يجب أن يتضمن الحكم الديمقراطي هذه الحقوق ليكون ديمقراطيا؛ فهي المقومات الأساسية التي تحدد مؤسساته.[70]

ينشأ الجدل بين مناصري قاعدة الأغلبية والدستورانيين حول الحقوق والحريات الأساسية التي لا تشكل جزءاً من إجراء الحكم المعترف به – كالخطاب غير السياسي وحرية التفكير الديني أو الفلسفي أو الأخلاقي وحرية الضمير وحرية ممارسة الشعائر الدينية. لا شيء من هذه حاسمة بالنسبة للإجراء الديمقراطي. وبالنظر إلى تعريف قاعدة الأغلبية، فإن المسألة بين مناصريها والدستورانيين تتمثل فيما إذا كانت توفر إجراءات منصفة وتحمي تلك الحقوق والحريات الأخرى.

ويرى مناصرو قاعدة الأغلبية أنها قاعدة منصفة وتتضمن جميع الحقوق الضرورية بالنسبة إليها لأنها تسفر عن تشريعات عادلة ونتائج معقولة. في حين يقول الدستورانيون إن قاعدة الأغلبية غير مقبولة. وما لم يتم فرض قيود معترف بها دستوريًا على تشريعات الأغلبية ومختلف العناصر الأخرى، لن تتمتع الحريات الأساسية والحريات الأخرى بالحماية الكافية. كما لن يتم دعم الديمقراطية بحزم ولن تحصل على الموافقة الطوعية من شعبها. ولذلك، يردّ مناصرو قاعدة الأغلبية بأنهم يقبلون تماما الأهمية الأساسية للنقاش غير السياسي، وحرية التفكير وحرية الضمير وحرية ممارسة الشعائر الدينية. وهم يعتقدون، بدلا من ذلك، بأن القيود الدستورية غير ضرورية، وستُحترم هذه الحقوق والحريات من قبل الناخبين في مجتمع وثقافة ديمقراطيين حقاً. ويقولون إنه لكي يحترم الناس القيود المفروضة على الحريات الأساسية، يجب علينا أن نعتمد في جميع الأحوال على روح الناخبين، لأن الاعتماد على الأجهزة الدستورية له عواقب وخيمة على الديمقراطية نفسها.

قد يتفق كل من مناصري قاعدة الأغلبية والدستورانيين[71]على أن النقاش يدور حول ما إذا كانت ديمقراطية الأغلبية عادلة في نتائجها أم عادلة في جوهرها. لا يدعي مناصرو قاعدة الأغلبية أن الديمقراطية إجرائية خالصة: فهم يعلمون أنهم لا يستطيعون الدفاع عنها ضد الدستورانيين دون أن يثبتوا أنها ليست عادلة في نتائجها فقط، بل إن الأجهزة الدستورية ليست ضرورية، وإن كانت ستنتهي إلى نتائج أسوأ.[72] يتوقف الخلاف على مسائل جوهرية تتعلق بآلية اشتغال المؤسسات السياسية واقعيا وينهض على معرفتنا اليقينية بهذه المسائل.

  1. وفي ضوء هذا المنعطف، هل مازال هابرماس يعتقد أن وجهة نظره إجرائية فقط؟ مما لا شك فيه أنه يعتقد في الفكرة التي تقول بأن نظرية النقاش تقتصر على تحليل وجهة النظر الأخلاقية وإجراء إضفاء الشرعية الديمقراطية. وهو يترك مسائل جوهرية تحتاج إلى أجوبة “هنا والآن” لتسويتها بالنقشات المستنيرة للمواطنين (131). ولكن لا يعني أي من هذا أنه يستطيع الاستغناء على المضمون الجوهري. وهو يدرك أنه بمجرد أن تُنسب المعالجات على الطريقة المثالية إلى إجراء النقاش، تضمّن فيها عناصر المضمون (FG 18). وعلاوة على ذلك، فإن الإجراء المثالي الذي تم تشكيله أساسي في مقاربته للديمقراطية، حيث أن الفكرة الأساسية تتمثل في أن عملية النقاش العمومي يمكن أن تضمن نتائج معقولة عادلة إلى المدى الذي تتحقق فيه ظروف النقاش المثالي. وكلما كانت هذه العملية أكثر مساواة وحيادية، كلما كانت أكثر انفتاحاً وأقل قسرا للمشاركين. وسيكونون كذلك أكثر استعدادًا للاسترشاد بقوة الحجة الأفضل. ثم من الأرجح أن يقبل جميع الأشخاص المعنيين بشكل أساسي مصالح قابلة للتعميم. وفيما يلي خمس قيم تبدو كأنها قيم تتعلق بالإجراء: الحياد والمساواة، والانفتاح (لا يتم استبعاد أي شخص أو أي معلومات مهمة) وغياب القسر، والإجماع، وهي قيم إذا ما اجتمعت تقود النقاش والمصالح القابلة للتعميم إلى موافقة جميع المشاركين. ويقينا هذه النتيجة جوهرية، لأنها تشير إلى وضع تتحقق فيه مصالح المواطنين القابلة للتعميم. وعلاوة على ذلك، فإن كل قيمة من بين القيم الخمس السابقة تتعلق بأحكام جوهرية بمجرد أن يتم تضمين تلك القيم في الإجراء وهي ضرورية لجعل النتائج عادلة أو معقولة. وعندئذ نكون قد شكّلنا الإجراء ليتوافق مع حكمنا على تلك النتائج.

علاوة على ذلك، يعتقد هابرماس أن نتائج العقل العمومي التي تترتب عن الإجراءات الديمقراطية معقولة ومشروعة. فهو يقول مثلا إن التوزيع المتساوي للحريات يمكن تحقيقه من خلال إجراء ديمقراطي يدعم الافتراض بأن “نتائج تشكيل الإرادة السياسية معقولة” (“الملاحظات الختامية” III: 3-4). وهذا يعني أنه يفترض مسبقا فكرة معقولة لتقييم تلك النتائج، ووجهة نظره جوهرية. إنه خطأ شائع (لا أقول إنه ارتكبه) أن نعتقد أن الشرعية الإجرائية (أو العدالة) تسعى إلى القليل ويمكنها أن تكتف بذاتها دون أن تحتاج إلى عدالة جوهرية: لكنها لا تستطيع[73].

في الواقع، أعتقد أن هابرماس يعترف بأن وجهة نظره جوهرية، بمجرد أن يقول إنها أكثر تواضعا من وجهة نظري، وأنه يترك “مسائل كثيرة دون حلّ لأنه يعول أكثر على عملية التقييم العقلاني (المعقول) وتشكيل الإرادة.” وهو لا يقول إن وجهة نظره تترك جميع المسائل الجوهرية مفتوحة للمناقشة. ويصرح، في الفقرة الأخيرة من كتابه بين الحقائق والمعايير، بأن مقاربته لا يمكن أن تكون صورية فقط[74]: “مثله مثل دولة القانون ذاتها، يحتفظ [النموذج القانوني الإجرائي] بنواة دغمائية: فكرة الاستقلالية التي بموجبها يعمل البشر كذوات حرة فقط طالما أنهم يطيعون فقط تلك الشرائع التي يتخذونها لأنفسهم وفقًا لرؤاهم المكتسبة بينذاتيا. على أنه ينبغي علينا الإقرار بأن لفظ “دغمائية” يحمل فقط على معناه غير الضار. وتعبر هذه الفكرة عن توتر بين الحقائق والصلاحية، وهو التوتر الذي “ينتج” عن حقيقة البنية اللسانية لأنماط الحياة الاجتماعية والثقافية، وهذا معناه بالنسبة إلينا، نحن الذين طورنا هويتنا في مثل هذا النمط من الحياة، لا يمكن الالتفاف عليها” (FG 536f).

ويُفترض أن بعض المسائل قد تمت تسويتها عن طريق التحليل الفلسفي للوجهة النظر الأخلاقية وإجراء إضفاء الشرعية الديمقراطية. وبما أنها مسألة نسبية، فنحن بحاجة إلى فحص معقد يتم فيه تحديد العناصر الجوهرية في وجهتي النظر على حد السواء، ومقارنتها، وقياسها بطريقة ما[75]. ويستدعي هذا مقارنة دقيقة بين المسائل التي تتركها كل وجهة نظر مفتوحة للنقاش وفي ظل أي ظروف. ولا يسمح المجال لإجراء مثل هذه المقارنة هنا.

وأخيراً، وكما أشرت في الفقرة 1، فإن المواطنين في المجتمع المدني لا يستخدمون ببساطة فكرة العدالة إنصافا “كقاعدة [استلهموها من الفيلسوف كخبير] للحكم على الترتيبات والسياسات القائمة”. فلا وجود لفلاسفة خبراء في نظرية العدالة إنصافا. معاذ الله! لكن يجب أن يكون للمواطنين، فوق كل ذلك، بعض الأفكار عن الحق والعدالة في تفكيرهم وبعض الأسس المعقولة. ويشارك طلاب الفلسفة في صياغة هذه الأفكار ولكن دائمًا كمواطنين مثلهم في ذلك مثل غيرهم.

  1. قبل أن أختتم، أذكر طريقة يمكن أن نعتبر من خلالها أن هابرماس على أن يركز “بشكل حصري على الوجوه الإجرائية للاستخدام العمومي للعقل” (131). وهو يقترحه من خلال استخدامه المنتظم لفكرة الشرعية بدلا من العدالة. وإذ أذكره هنا، ليس لأنه هو الذي ابتدعه (لا أعتقد ذلك)، ولكن كفكرة أثبتت جدواها. ولنفترض أننا نهدف إلى إنشاء مؤسسات سياسية ديمقراطية حتى تكون شرعية، وبحيث تكون القرارات السياسية التي تتُخذ والقوانين التي تُسّن شرعية أيضًا. ومن هنا يتم التركيز على فكرة الشرعية لا على العدالة.

قد يبدو التركيز على الشرعية بدلاً من العدالة مسألة ثانوية، لأننا يمكن أن نعتقد بأن “الشرعي” و “العادل” نفس الشيء. والحال أنهما ليسا كذلك ببساطة. يمكن لملك شرعي أو ملكة شرعية أن يحكمان عن طريق حكومة عادلة وفعالة، لكنهما لا يستطيعان ذلك؛ وبالتأكيد ليس بالضرورة بشكل عادل، حتى لو كان بشكل شرعي. إن شرعيتهما على علاقة بنسبهما: الطريقة التي اعتليا من خلالها العرش. والمسألة التي تطرح نفسها تتعلق بما إذا كانا الوريثين الشرعيين للعرش، وفقا للقواعد والتقاليد المعمول بها، كما هو الحال في العرش الإنجليزي أو الفرنسي مثلا.

ويتمثل أحد الوجوه المهمة في فكرة الشرعية في أنها تسمح بهامش من الحرية يمكن للأنظمة الملكية أن تقره وأن تتسامح معه. والأمر سيّان في ظل نظام ديمقراطي. قد يكون شرعيا ويتماشى مع التقاليد العريقة التي تأصلت منذ أن تبنى الناخبين (الشعب) دستورهم لأول مرة في مؤتمر خاص للمصادقة عليه. ومع ذلك، قد لا يكون هذا الدستور عادلاً، أو يكاد يكون كذلك، وكذلك الشأن بالنسبة لقوانينهم وسياساتهم. وتعتبر القوانين التي تم تمريرها من قبل الأغلبيات الصلبة شرعية، رغم أن الكثيرين يحتجون عليها ويعتبرونها غير عادلة أو خاطئة.

وبالتالي، فإن الشرعية فكرة أضعف من العدالة وتفرض تقييدات أضعف على ما يمكن عمله. وهي أيضا ذات طابع مؤسسي، رغم أن لها، بطبيعة الحال، علاقة أساسية بالعدالة. وتجدر الملاحظة أولا إلى أن القرارات والقوانين الديمقراطية شرعية لا لأنها عادلة وإنما لأنها سُنّت بطريقة شرعية وفقا لإجراء ديمقراطي شرعي مقبول. ومن الأهمية بمكان أن يكون الدستور الذي يحدد الإجراء عادلا بما فيه الكفاية، حتى وإن لم يكن عادلاً تماماً، حيث لا يمكن لأي مؤسسة إنسانية أن تكون كذلك. ولكن قد لا يكون الدستور عادلاً ولكنه مع ذلك يظل شرعياً، بشرط أن يكون كافياً فقط في ضوء الظروف والأوضاع الاجتماعية. وتترتب عن الإجراء الشرعي قوانين وسياسات شرعية تتخذ وفقا له؛ وقد تكون الإجراءات الشرعية عرفية ومترسخة منذ أمد طويل ومقبولة بما هي كذلك. لا يجب أن تكون الإجراءات أو القوانين عادلة وفق معيار صارم للعدالة، حتى وإن يكن هو أيضا صحيحًا، فلا يمكن أن تكون تلك الإجراءات والقوانين غير عادلة بشكل كبير. وعند نقطة معينة، قد تفسد لاعدالة النتائج شرعية الإجراء الديمقراطي الشرعي، وكذلك الشأن بالنسبة للاعدالة الدستور السياسي ذاته. ولكن قبل الوصول إلى هذه النقطة، تكون نتائج الإجراء الشرعي شرعية مهما كانت. وهذا يعطينا شرعية ديمقراطية إجرائية خالصة وتميزها عن العدالة، حتى وإن لم يتم تأمين هذه العدالة من الناحية الإجرائية. وقد تسمح الشرعية بنطاق غير محدود للاعدالة قد لا تسمح به العدالة.

في حين أن فكرة الشرعية ترتبط بشكل واضح بالعدالة، من الجدير بالذكر التنويه بأن دورها الخاص في المؤسسات الديمقراطية (المشار إليه بإيجاز في الفقرة 2) يتمثل في السماح بإجراء مناسب لاتخاذ القرارات عندما تجعل الصراعات والخلافات في الحياة السياسية الإجماع مستحيلا أو يندر توقعه. وبالتالي، فإنها تعتبر أن عدد من الإجراءات مختلفة الأشكال وتعدديات مختلفة الأحجام كنتاج قرارات شرعية متوقفة على هذه الحالة: بدءًا من أنواع مختلفة من اللجان والهيئات التشريعية إلى الانتخابات العامة وبلورة إجراءات دستورية لتعديل الدستور. والإجراء الشرعي هو إجراء قد يقبله الجميع بشكل معقول باعتبارهم أحرار ومتساوون عندما يتم اتخاذ قرارات جماعية وحين ينعدم الاتفاق عادةً. وذلك ما يترتب عن أعباء الحكم حتى في حضور العقل والإرادة الطيبة من جميع النواحي[76].

  1. هناك شكوك جدية حول فكرة الشرعية الإجرائية. من المنطقي تماما بالنسبة لمجتمع حسن التنظيم على نحو معقول، مؤسساته ديمقراطية لائقة ومحكمة الترتيب، أن يسن المواطنون المتعقلون والعقلانيون قوانين وسياسات تكون في الغالب شرعية وإن لم تكن بطبيعة الحال عادلة. ومع ذلك، فإن هذا التأكيد على الشرعية سيضعف تدريجيًا إلى حد أن المجتمع لن يعود حسن التنظيم. وذلك لأن شرعية القوانين التشريعية، كما رأينا، تتوقف على عدالة الدستور (أيا كانت صيغته، سواء كان مكتوبا أم لا)، وكلما انحرف أكثر عن العدالة، كلما كانت لاعدالة نتائجه أكثر احتمالا. لا يمكن أن تكون القوانين غير عادلة إذا كانت شرعية. وقد تكون الإجراءات السياسية الدستورية بالفعل في ظروف طبيعية ولائقة – إجرائية خالصة فيما يتعلق بالشرعية. وبالنظر إلى عدم فعالية جميع الإجراءات السياسية البشرية، لا يمكن أن يكون هناك إجراء من هذا القبيل فيما يتعلق بالعدالة السياسية ولا يمكن لأي إجراء أن يحدد مضمونه الجوهري. ومن ثم، فنحن دائمًا نعتمد على أحكام العدالة الجوهرية[77].

وثمة شك جدي آخر يتمثل في أن الديمقراطية الدستورية لا تستطيع من الناحية العملية أن ترتب لإجراءاتها السياسية ومناقشاتها القريبة بما يكفي من المثل الأعلى للنقاش التواصلي عند هابرماس حتى تتأكد من أن تشريعها لا يتجاوز هامش الحرية الذي تسمح به الشرعية. فالظروف السياسية الفعلية التي تجري بموجبها البرلمانات والهيئات الأخرى أعمالها تفترض انزياحات عن ذلك المثل الأعلى. ويتمثل أحدها في ضغط الوقت: يجب أن ينتظم النقاش وفق قواعد النظام، ويجب أن ينتهي في الوقت المناسب؛ يجب أن تؤخذ الأصوات في الاعتبار. لا يمكن للجميع معاينة وتقييم كل الأدلة فغالباً ما يكون من الصعب قراءتها وفهمها. ولا يجب على المشرّعين أن يقرروا ويصوتوا في أغلب المناسبات تحت جنح الظلام، أو ما إلى ذلك وفقاً لما يريده قادة الأحزاب والناخبون المتحيزين دائماً. وحتى عندما تعمل الإجراءات السياسية المحكمة الترتيب على الحد من هذه الإخلالات وغيرها، لا يمكننا أن نتوقع بشكل معقول أي إجراء تشريعي، حتى لو كان إجرائياً طبيعيا فيما يتعلق بالشرعية، وكذلك فيما يتعلق بالعدالة. فالهوة في توسع دائم.

إن توصيف هابرماس لإجراءات التبرير والحجاج في النقاشات المثالية غير مكتمل. فليس واضحا في توصيفه ما هي أشكال الحجاج التي يمكن استخدامها، وذلك رغم أهميتها في تحديد هذه النتيجة. هل علينا أن نفكر، كما يبدو أنه يفترض ذلك، أن مصالح كل شخص يجب أن تُعطى الاعتبار المتساوي في النقاش المثالي؟ ما هي المصالح المهمة؟ أم هل تؤخذ جميع المصالح في الحسبان، كما يحدث أحيانًا في تطبيق مبدأ المساواة في الاعتبار؟ قد يؤدي هذا إلى مبدأ نفعي لتحقيق أكبر توازن للمصالح. ومن ناحية أخرى، فإن التصور التداولي للديمقراطية (الذي يبدو أن هابرماس منشدّ إليه كيثرا) يقيد الأسباب التي قد يستخدمها المواطنون في دعم التشريع لأسباب تتسق مع الاعتراف بالمواطنين الآخرين كمتساوين. وهنا تكمن الصعوبة في الحجج المتعلقة بالقوانين الداعمة للتمييز[78]. وتتمثل الفكرة الأساسية في أن ديمقراطية المداولة، والليبرالية السياسية، تختزلان المصالح الإنسانية المهمة في المصالح الأساسية من أصناف معيّنة، أو في الخيرات الأولية، وتتطلب أن تكون الأسباب متسقة مع الاعتراف المتبادل للمواطنين كمتساوين. وتكمن النقطة الأساسية في أنه لا يمكن لأي إجراء مؤسسي أن يلغي بديهية “القمامة في الداخل، القمامة في الخارج” لأسباب مقبولة في غياب مثل هذه الخطوط التوجيهية الجوهرية. بينما تميل شروط الديمقراطية الدستورية إلى إجبار الجماعات على الدفاع عن وجهات نظر أكثر توافقا ومعقولية إذا أرادت أن يكون لها نفوذ، قد يؤدي مزيج وجهات النظر والأسباب في التصويت الذي يفتقر فيه المواطنون إلى الوعي بهذه الخطوط التوجيهية إلى اللاعدالة بسهولة، رغم أن نتيجة الإجراء شرعية.

وأخيراً، يجب على المواطنين أن ينظروا إلى قوانين وتشريعات جميع الإجراءات المؤسسية على أنها معرضة للنقد. إنه جزء من شعور المواطنين بأنفسهم، ليس جماعيا فقط وإنما أيضًا فرديًا، للاعتراف بالسلطة السياسية على أنها نابعة منهم، وأنهم مسؤولون عما تفعله باسمهم. فليست السلطة السياسية غيبية، ولا هي مقدسة بحيث تتلحف برموز وطقوس لا يستطيع المواطنون فهمها في ضوء أغراضهم المشتركة. ومن الواضح أن هابرماس لن يختلف مع هذا. ومع ذلك، فإن هذا يعني أن أحكامنا الموزونة جيدا بنقاطها الثابتة – على غرار المؤسسات المدانة كالاسترقاق والقنانة، والاضطهاد الديني، واستغلال الطبقات العاملة، واضطهاد المرأة، والتراكم غير المحدود للثروات الهائلة، تنضاف إليها بشاعة القسوة والتعذيب، والتلذذ بممارسة الهيمنة-تحضر في الخلفية كعمليات تدقيق جوهرية تكشف عن الطابع الوهمي لأية أفكار إجرائية خالصة مفترضة للشرعية والعدالة السياسية.

لقد تناولت هذه المسائل في هذه الفقرة لأشرح لماذا لست مستعدًا لتغيير رأيي ولا أعبأ بالاعتراض على أن نظرية العدالة إنصافا جوهرية وليست إجرائية. لأنه إذا فهمت هذه الأفكار، فلا يمكن أن يكون الأمر على خلاف ذلك. أعتقد أن نظرية هابرماس هي أيضا جوهرية بالمعنى الذي وصفته، وليس له أن ينفي ذلك. وعليه فهي إجرائية بطريقة مختلفة. أفترض، بالعودة إلى الفقرة 1 حيث اقتبست مقطعين من كتاب بين الحقائق والمعايير، أنه يعني بمصطلحلي “جوهري” و “أساسي”، إما عناصر من المذاهب الدينية والميتافيزيقية، أو تلك المتضمنة في فكر وثقافة مجتمعات وتقاليد معينة، أو ربما في فكر وثقافة المجتمعات والتقاليد على اختلافها كافة. وتتمثل فكرته الرئيسية، على ما أعتقد، في أنه بمجرد أن يحددّ شكل وبنية الافتراضات المسبقة للتفكير والعقل والممارسة – النظرية أو العملية على حد السواء – بشكل صحيح وتحليلها من خلال نظريته في الفعل التواصلي، ثم استيعاب (أو انغمار) العناصر الأساسية المفترضة لهذه المذاهب الدينية والميتافيزيقية وتقاليد المجتمعات ضمن شكل وبنية هذه الافتراضات المسبقة. ويعني ذلك أنه بقدر ما تكون لهذه العناصر صلاحية وقوة في التسويغ الأخلاقي للحق والعدالة[79]، فإن قوتها تدرك بالكامل ويمكن الدفاع عنها من خلال تبرير ذلك الشكل وتلك البنية؛ سيما وأن هذه الافتراضات المسبقة صورية وكلية، وكذلك أوضاع أنواع العقل في التفكير والممارسة معا[80]. ليست نظرية العدالة إنصافا جوهرية، بالمعنى الذي وصفته (رغم أنها كذلك)، ولكن بمعنى أنها تنبع من تقليد الفكر الليبرالي والتماثل الكبير في الثقافة السياسية للمجتمعات الديمقراطية وتنتمي إليهما. وهي تفشل بعد ذلك في أن تكون صورية تماما وكلية حقا، وبالتالي لا تعدو أن تكون سوى جزءًا من الافتراضات المسبقة شبه المتعالية (كما يقول هابرماس في بعض الأحيان) التي وضعتها نظرية الفعل التواصلي.

لا تريد نظرية العدالة إنصافا كمذهب سياسي أن تكون جزءًا من أي وجهة نظر شمولية من هذا القبيل لشكل التفكير والممارسة وافتراضاتهما المسبقة البنائية. بل، كما قلت، تهدف إلى ترك هذه المذاهب على ما هي عليه ولا تنتقدها إلا بقدر ما تكون غير معقولة، من الناحية السياسية[81]. وبخلاف ذلك، حاولت الدفاع عن نوع الليبرالية المتضمنة في نظرية العدالة إنصافا ضد انتقادات هابرماس الحادة. وهكذا، حاولت أن أثبت في ليبرالية نظرية العدالة إنصافا، أن حريات المحدثين ليست ذات طابع سياسي يسبق كل تشكيل للإرادة. لقد ذكرت كذلك أن هناك علاقة داخلية في نظرية العدالة إنصافا بين الاستقلالية الذاتية العامة والاستقلالية الذاتية الخاصة وأنهما تشتركان في الأصل.

يجب أن أقاوم هذا الاتجاه، الموجود أيضا في تفكير قانوني جمهورانيي مدني أمريكي معين، لإيجاد أساس للاستقلالية الذاتية الخاصة (حريات المحدثين) فقط لارتباطها بالاستقلالية الذاتية العامة (حريات القدامى)؛ كما أشرت في الفقرة 4. 3، ولقد وجدت الاستقلالية الذاتية الخاصة في الملكة الأخلاقية الثانية أساسا إضافيا كافيا. ولتأمين حريات القدامى وحريات المحدثين ذات الأصل المشترك والقيمة المتساوية بشكل صحيح، علينا أن نعترف بأن أيّا منها ليست نابعة من الأخرى ولا ينبغي أن تختزل فيها. وهناك اختلاف آخر محتمل مع هابرماس وقد كنت ذكرته ويتمثل في مسألة مشروع الدستور. ورغم أن هابرماس لم ينتقده، إلا أني أؤكد بأنه لا وجود لمسألة يمكن للفلسفة وحدها أن تحلها (لا أفترض أن سيقول ذلك)، بل يمكن لها أن تساعد فقط، وذلك دأبها دائما، في توفير المبادئ السياسية للحكم النقدي والعليم.

الفقرة السادسة: خاتمة

 

هناك مسألة واحدة مهمة لم أناقشها بالتفصيل، ألا وهي مسألة كيفية فهم المؤسسات السياسية المرتبطة بالديمقراطية الدستورية على وجه الدقة على أنها تتوافق مع فكرة السيادة الشعبية. ولا يخلو الربط بين السيادة الشعبية وبين شيء ما مثل قاعدة الأغلبية عقب مناقشة حرة ومفتوحة وواسعة، من صعوبة بيّنة. وهي الصعوبة التي يشير إليها هابرماس عندما يقول: “إن صيغة الاستقلالية الذاتية السياسية … لا تتكشف تمامًا في قلب المجتمع الذي تم تكوينه بشكل عادل” (128). ولقد تناولت في ردي مسألة السيادة الشعبية التي أشرت إليها بفكرة الديمقراطية الثنائية كما تمت مناقشتها في الفقرة 3. 4، حيث يمكن، بطبيعة الحال، أن ينشأ نقاش حولها، لأنها مسألة ذات أهمية قصوى: فهي تتطلب تحليلا وشرحًا خاصًا للسمات الخصوصية للمؤسسات لممارسة القوة التأسيسية لشعب ديمقراطي في اتخاذ القرارات الدستورية، بدلا من المؤسسات السياسية الديمقراطية العادية في إطار تهيؤه تلك القرارات. ولكني أريد أن أعبر عن اعترافي بهذه المسألة هنا[82].

في ختام ملاحظاته الاستهلالية، يقول هابرماس، بما أنه يشاطر مقاصد نظرية العدالة إنصافا ويعتقد بأن استنتاجاتها الأساسية صحيحة، فإنه يتمنى أن يبقي معارضيه ضمن حدود السجال داخل العائلة الليبرالية. وتقتصر شكوكه حول ما إذا كنت أحدد وجهة نظري بأكثر الطرق إقناعا. وبقدر ما يمثل نقده تحديا جديّا، فإنه يقصد من وراء تكثيف الاعتراضات توفير الفرصة لنظرية العدالة إنصافا لتتعزز وتترسخ. أقبل بحرارة انتقادات هابرماس السخية ولقد حاولت مواجهة التحدي الذي فرضته عليّ. وفي إطار بلورة ردودي، أكرر ما قلته في البداية أنني أجبرت على التفكير وإعادة النظر في العديد من وجوه نظريتي، وأعتقد الآن أنني أفهمها بشكل أفضل من ذي قبل. ولذلك سأظل دائما مدينا لهابرماس.

 

ظهر هذا المقال في الأصل فيJournal of Philosophy   92 (1 مارس 995) مباشرة بعد مقال يورغن هابرماس “المصالحة من خلال الاستخدام العمومي للعقل: ملاحظات حول كتاب الليبرالية السياسية لجون رولز“.

“Reconciliation Through the Public Use of Reason : Remarks on John Rawls’s Political Liberalism.”

وعند إعادة نشرها قمت ببعض الملاحظات المتعلقة بالتحرير ولكن دون تغييرات جوهرية. من أجل الوضوح، أستخدم أرقام درس، ومقطع، فقرة، أو درس، وأرقام درس، مقطع، أو صفحة عند الإشارة إلى مؤلفاتي الخاصة، ورقم الصفحة عند الإشارة إلى هابرماس. أنا مدين كثيرًا إلى العديد من الأشخاص الذين ساعدوني في هذا الرد منذ بدأت التفكير فيه منذ عدة سنوات بناءً على اقتراح من سيدني مورجنبيسر. أمدني توماس مكارثي توجيهات لا غنى عنها بالإضافة إلى معرفته العميقة بآراء هابرماس من البداية. وكانت بيني وبين جيرالد دوبلت مساجلات سديدة للغاية في البداية. وفي مساجلات متأخرة، استفدت دائما من نصح كينيث باين ومشورته. كما أنني مدينٌ كثيرًا لصامويل فريمان وويلفريد هينش، ولإيرين كيلي وديفيد بيريتز لمساعدتهم وتعليقاتهم القيمة. أنا ممتن بشكل خاص لبورتون دريبن الذي كان ناقدًا رائعًا في كل منعطف، خاصةً في الفقرة 2، حيث آمل أن أكون قد اهتديت من خلال نقده ذاك إلى الأفكار الثلاثة عن التسويغ. لقد صار ردي على هابرماس أكثر متانة بفضل اهتمامهم واقتراحاتهم المتواصلة. وسأشير إلى غيرهم ممن أنا مدين لهم تباعا أثناء ردّي هذا.


[1] لا أعرف أي كتاب ليبراليين من جيل سابق طرحوا بوضوح مذهب الليبرالية السياسية. ومع ذلك، فهي ليست مذهبا جديدا. ويشاركني في وجهة النظر العامة هذه، إن لم يكن في كل عناصرها، هذه اثنين من المعاصرين واللذين طوراها بشكل مستقل تمامًا، وهما تشارلز لارمور – انظر على سبيل المثال مقاله،

“Political Liberalism,” Political Theory 18, no. 3 (August 1990)

وجوديث شكلر، انظر مقالها،

“The Liberalism of Fear,” in Nancy Rosenblum, ed., Liberalism and the Moral Life (Cambridge : Harvard University Press, 1989).

على الأقل هناك جانبين منه أيضا وردا ذكرهما في كتاب بروس أكرمان،

Social justice in the Liberal State (New Haven : Yale University Press, 1980). On pp. 357 – 61,

ويذكر أكرمان الاستقلالية النسبية للمناقشات السياسية التي يحكمها مبدأ الحياد، ثم ينظر في طرق مختلفة للوصول إلى فكرة النقاش السياسي.

من الجدير بالذكر هنا أيضاً وجهة نظر هامة لجوشوا كوهين في مقاربته حول الديمقراطية التداولية، انظر

Deliberation and Democratic Legitimacy,” in Alan Hamlin and Philip Pettit, eds., The Good Polity (Cambridge : Blackwell, 1 989), and his “Notes on Deliberative Democracy” (unpublished, 1 989).

إنه للغز عظيم بالنسبة لي أن أعرف لماذا لم يتم تطوير الليبرالية السياسية قبل ذلك بكثير: يبدو من الطبيعي أن نقدم فكرة الليبرالية، بالنظر إلى التعددية المعقولة في الحياة السياسية. هل رأى فيها مفكرون سابقون عيوبا عميقة فيما لم أراه، قادتهم إلى رفضها؟

[2] وهذا يثير التساؤل عما إذا كان مذهبا كمذهب الحق الإلهي للملوك أو الديكتاتورية يمكن أن يكون مقبولاً بطريقة ما رغم أنه لا يخرج عن المجال السياسي. هل يلقي الجواب أي ضوء على الظروف المؤدية إلى الديمقراطية؟

[3] هذه التصورات تختلف عن الليبرالية المعروفة عند كانط وعند ميل ومن الواضح أن وجهات نظرهما تتجاوز إلى حد بعيد المستوى السياسي، معتمدة على فكرتي الاستقلالية الذاتية والفردية كقيمتين أخلاقيتين تنتميان إلى مذهب شمولي.

[4] Frankfurt am Main : Suhrkamp, 1992

(يشار إليها فيما بعد باسم FG مع الاقتباسات وبين الحقائق والمعايير Between Facts and Normsفي الكتاب). ترجم وليام ريهج Rehg للعمل بأكمله، وأنا ممتن له ولتوماس مكارثي الذي مكنني من نسخة منه

(Between Facts and Norms [Cambridge : MIT Press, forthcoming [).

فبدونها ما كان لي أن أفهم هذا الكتاب الطويل والمعقد. وبما أنني أحيل على هذا الكتاب عديد المرات، أكتفي بالإشارة إلى الصفحة في النص الألماني.

[5] هناك عبارتان غريبتان في هذا المقطع: “وجود اللاعقل”، و “الثقة الأساسية في العقل”. ومع ذلك، فإن هابرماس يقول ب ” existierender Unvernunft” و “essentialischen Vernunftvertrauens”، على التوالي، لذا فإن ترجمة ريهج Rehg صحيحة. حسب العبارة السابقة أفترض أن هابرماس يعني وجود مؤسسات بشرية وسلوك ينتهك العقل (Vernunft)، ومن ثم، ينتهك الثقة في قدرة عقلنا على فهم الماهيات (الأفلاطونية) بشكل صحيح.

[6]ذلك هو معنى ملاحظة: نظرية العدالة إنصافا سياسية وليست ميتافزيقية.

[7] أفترض أن هذا الكلي العيني هو إشارة إلى فكرة هيجل في كتاب الأخلاق، كما شرحها في كتاب فلسفة الحق.

[8] أعني الميتافيزيقيا بوصفها وجهة نظر عامة على الأقل للمقولات العامة بما في ذلك المقولات الأساسية – مثل مقولات “كل حدث له سبب” و “كل الأحداث تحدث في المكان والزمان”، أو يمكن أن تتعلق بها. وعلى هذا النحو فإن كواين W. V. Quine هو أيضا ميتافيزيقي. إن نفي بعض النظريات الميتافيزيقية يعني في المقابل تأكيد نظرية أخرى مماثلة.

[9] حول هذه النقاط، انظر ملاحظاته على رونالد دووركين FG 86ff.

[10] وهناك مثال آخر حيث يقول هابرماس (130) بمجرد أن تضمن الاستقلالية الذاتية العامة والاستقلالية الذاتية الخاصة (سأناقش هذه النقطة في الفقرتين 3 و4) في القانون والمؤسسات السياسية وفقًا لتصور نظرية النقاش للديمقراطية، “يصبح من الواضح أن للحقوق الليبرالية الأساسية جوهرا معياريا كامن بالفعل في الوسيلة التي لا غنى عنها لإضفاء الطابع المؤسسي على العقل العمومي للمواطنين السياديين “. ويمكن للفظة دوار الواردة في الاقتباس في الكتاب أن تعني: الترنح، والدوار، أو، مجازيا، الهذيان، النشوة، الهيجان. وتبدو لفظة “دوار” كما ترجمها ريهج هي المناسبة هنا.

[11] لم أكن واضحا دائما فيما يتعلق بهذه النقطة، فقد فكرت في وقت ما في مقارنة أكثر جدوى بين الوضع المثالي للنقاش وبين وضع المواطنين في المجتمع المدني، أنت وأنا. حول هذه النقطة الأخيرة، انظر،

“Kantian Constructivism in Moral Theory, in the Journal of Philosophy 77 (September 1980) : 533f

والدرس الأول: 4.6. أنا مدين لجون ماندي Jon Mandie لمراسلاته القيّمة حول هذا الموضوع.

[12] انظر الهامش في نهاية هذه الفقرة لمزيد من الملاحظات حول التوازن المتروي

[13] See FG, ch. 8

وأيضا كتابه المميز الأول (1962)

The Structural Transformation of the Public Sphere, T. Burger, trans. (Cambridge : MIT Press, 1 989).

علينا أن نحذر في التعامل مع المصطلحات، فقد نخلط بين العمومي في الليبرالية السياسية والفضاء العمومي في نظرية هابرماس والحال أنهما يختلفان. ونقصد بالعقل العمومي في هذا الكتاب عقل المشرعين، والتنفيذيين (الرؤساء مثلا)، والقضاة (خاصة أولئك الذين يمثلون المحكمة العليا، متى وجدت). ويشمل أيضا تبرير المرشحين في الانتخابات السياسية وقادة الأحزاب وغيرهم ممن ينشطون في حملاتهم الانتخابية، فضلا عن تبرير المواطنين عندما يأخذون في عين الاعتبار الأساسيات الدستورية ومسائل العدالة الأساسية في التصويت. وليست للمثل الأعلى للعقل العمومي نفس المتطلبات في كل هذه الحالات. كما هو الحال بالنسبة إلى الفضاء العمومي في نظرية هابرماس، ولأنه يشبه تماما ما أسميه في الدرس الأول:3.2 الثقافة الخلفية، فإن العقل العمومي إذا ما اقترن بواجبه في المدنية غير قابل للانطباق. وهذا متفق عليه. لا أدري إن كان يقبل هذا المثل الأعلى (129-30). يبدو أن بعض عباراته في FG (انظر 18، 84، 152، 492، 534f.) تشير إلى ذلك بالتأكيد ولكني أعتقد أنها لن تكون متسقة مع وجهة نظره، ولكن للأسف لن يكون بوسعي مناقشة هذه المسألة هنا.

[14] ألوم كريستين كورسغارد على هذا المصطلح. يقول هابرماس في بعض الأحيان أن الوضع البدئي أحادي الخطاب (مونولوج) وليس حواريا. ذلك لأن جميع الشركاء يحكمون، في الواقع، إلى نفس الأسباب، ولذلك يختارون نفس المبادئ. ويقال إن هذا خطأ فادح بالنسبة لـ “الفيلسوف” كخبير وليس لمواطني مجتمع في سعي دؤوب لتحديد تصور سياسي للعدالة، انظر، الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي

Habermas’s Moralbewusstsein and kommunikatives Handeln (Frankfurt am Main : Suhrkamp, 1983).

وحملت المقالات الثلاث عنوان: “أخلاقيات النقاش: ملاحظات حول برنامج التبرير”.

“Diskursethik : Notizen zu einem Begründungsprogramm.”

[15] Cambridge : Harvard, 1971 (hereafter Theory).

[16] أضيف هنا ملاحظتين حول التوازن المتروي العام والواسع. التوازن المتروي الواسع (إذا تعلق الأمر بمواطن واحد) هو التوازن المتروي الذي ندركه عندما ينظر المواطن باهتمام في تصورات بديلة للعدالة ومتانة حججها. وبشكل أكثر تحديدًا، قد ينظر المواطن في التصورات الرائدة للعدالة السياسية الموجودة في تقاليدنا الفلسفية (بما في ذلك وجهات النظر المنتقدة لمفهوم العدالة في حد ذاته) ويعطي أهمية لقوة الأسباب الفلسفية المختلفة وغيرها من الأسباب التي تؤيدها. ونفترض أن قناعات المواطن العامة هذه، والمبادئ الأولى، والأحكام الخاصة هي في النهاية متطابقة. التوازن المتروي واسع، بالنظر إلى التفكير واسع النطاق وربما العديد من التغييرات التي عرفتها وجهات النظر التي سبقته. إن التوازن المتروي الواسع وغير الضيق (الذي نلاحظ فيه فقط أحكامنا الخاصة) هو بداهة المفهوم الفلسفي المهم. أذكر أن المجتمع حسن التنظيم هو المجتمع الذي ينظم بشكل فعال من قبل تصور سياسي عمومي للعدالة. ونعتقد أنه يمكن لكل مواطن في مثل هذا المجتمع أن يحقق توازنا مترويا واسعا. وحيث أن المواطنين يدركون أنهم يؤكدون التصور العمومي نفسه للعدالة السياسية، فإن التوازن المتروي هو عام أيضا: ويتم تأكيد نفس التصور في أحكام الجميع الموزونة جيدا. وهكذا، يحقق المواطنون توازنا عاما وواسعا أو ما يمكن أن نشير إليه على أنه توازن كامل ومترو. ففي مثل هذا المجتمع، ليس هناك فقط وجهة نظر عمومية يستطيع من خلالها جميع المواطنين أن يبتوا في مطالبهم بالعدالة السياسية، ولكن يُعترف بوجهة النظر هذه على نحو متبادل كما يؤكدها الجميع في توازن مترو كامل وهو توازن بينذاتي بشكل كامل: أي أن كل مواطن يأخذ في الحسبان تبرير وحجج أيّ مواطن آخر.

[17] لقد غنمت الكثير من المناقشات القيمة مع ويلفريد هينش Wilfried Hinsch وبيتر دي مارنيف Peter de Marniffe في المسودات السابقة لهذه الفقرة.

[18] قد لا يكون لدى بعض المواطنين مذهبا شموليا، باستثناء ربما مذهب عدمي، مثل اللاأدرية أو الريبية.

[19] تم استخدام هذه العبارة مرتين: في الدرس الأول: 2. 2، والدرس الرابع: 3. 1. يمكن أن نذكر أيضا، كما في الجبر، طريقة إدراج مجموعة كمجموعة فرعية في كل مجموعة من فئة معينة من المجموعات.

[20] هنا أفترض أن وجود مذاهب شمولية معقولة وتشكيل إجماع تقاطعي حقيقتان تتعلقان بالطبيعة السياسية والثقافية لمجتمع ديمقراطي تعددي، ويمكن استخدام هاتين الحقيقيتين مثل أي حقائق أخرى مماثلة. ولا تتوقف الإشارة إلى هذه الحقائق، أو الافتراضات التي تتعلق بها، على المضامين الدينية، الميتافيزيقية، أو الأخلاقية لمثل هذه المذاهب.

[21] إنني أشير إلى التسويغ العمومي كحالة أساسية لليبرالية السياسية بسبب دورها في ذلك المذهب وارتباطه بأفكار الإجماع التقاطعي المعقول والاستقرار للأسباب الوجيهة والمشروعية. إن فكرة التسويغ هذه جزء من إعادة بناء التصور الأساسي الوارد في الجزء الثالث من كتاب نظرية في العدالة، وعُبّر عنها في الفقرة 79 حول تصور الاتحاد الاجتماعي للاتحادات الاجتماعية وفكرة الاستقرار المصاحبة لها، والتي تتوقف على توافق الحق والخير. (حول هذه النقطة الأخيرة، انظر تحليل صامويل فريمان Samuel Freeman في

The Chicago-Kent Law Review 69, no. 3 (1994) : 619-68, sects. 1-11.)

غير أن هذا التصور يتوقف على تبني الجميع المذهب الشمولي نفسه وبالتالي لم يعد قابلاً للحياة كمثال سياسي بعد أن ندرك حقيقة التعددية المعقولة التي تميز الثقافة العمومية للمجتمع السياسي الذي يتطلبه مبدآ العدالة. وإذن نواجه مشكلة مختلفة ويتم استخدام أفكار الإجماع التقاطعي المعقول وبقية الأفكار بدلاً من ذلك. وبمجرد أن نتبين الطبيعة المختلفة للمهمة، فإن أسباب تقديم هذه الأفكار الإضافية تتنزل في سياقها الصحيح. وبالتالي يتسنى لنا تبيّن مثلا لماذا يجب أن يكون التسويغ السياسي واسع النطاق. لا أردّ على الاعتراضات بل أحاول إصلاح النزاع الأساسي المتأصل (المعترف به فيما بعد) بين الظروف الثقافية الضرورية لتحقيق نظرية العدالة إنصافا ومتطلبات الحرية المضمونة بمبدأي العدالة. وعليه أعتقد أن التعقيدات، متى كانت على نحو ما هي عليه، لم تعد مفاجئة.

[22] وأعني بذلك أنه لا توجد هيئة سياسية تصوت على الصور السياسي لأن ذلك يتعارض مع فكرة المعقولية. لا يمكن التصويت على تصور العدالة السياسية شأنها في ذلك شأن بديهيات ومبادئ وقواعد الاستدلال في الرياضيات أو المنطق.

[23] انظر ملاحظاتي في الهامش الأخير من الفقرة الأولى أعلاه

[24] أتحدث هنا عن الليبرالية السياسية. فما يقوله المواطن ضمن مذهبه الشمولي هو الأمر ذاته الذي يتوقف على هذا المذهب.

[25] كما أشرت في الفقرة 1، فإن مذهب هابرماس الشمولي ينتهك هذا.

[26] في هذه الفقرة، أنا مدين لمناقشة توماس هيل في لوس أنجلوس، أفريل / نيسان 1994، لمدى ارتباط الاهتمام بالاستقرار بأفكار التسويغ العمومي والإجماع التقاطعي. وقد شدد على جوانب المسألة التي لم أعالجها بوضوح.

[27] لم يعلن عن الهدف في الدرس الأول: 1. 3-4، من وجهة النظر هذه، في تقديري، على أفضل وجه حيث بدا وكأن ذلك الدرس يركز على كيفية تحقيق الاستقرار في ظل ظروف التعددية المعقولة ولكن هذا السؤال له إجابة هوبزية غير مثيرة للاهتمام. بدلاً من ذلك، يحاول هذا الدرس الإجابة عن السؤال المتعلق بأساس الوحدة الاجتماعية الأكثر معقولية في ضوء حقيقة التعددية المعقولة؛ انظر كتاب الليبرالية السياسية، الدرس الرابع: المقدمة، الدرس الخامس: 7، 1-2. حالما نجيب على هذا السؤال، يمكننا أيضا الإجابة عن السؤالين الآخرين اللذين أثرتهما: ما هو التصور الأنسب للعدالة في تحديد الشروط المنصفة للتعاون الاجتماعي بين المواطنين منظورا إليهم كأشخاص أحرار ومتساوين في نظام ديمقراطي؟ وما هو أساس التسامح، بالنظر إلى حقيقة التعددية المعقولة باعتبارها النتيجة الحتمية للمؤسسات الحرة؟

[28] عندما يتحقق الاستقرار للأسباب الوجيهة ويتدعم أساس الوحدة الاجتماعية هذا، تتطلع الليبرالية السياسية إلى تلبية المقتضى الليبرالي التقليدي لتبرير العالم الاجتماعي بطريقة مقبولة “في محكمة تصور أيّ شخص كان”،

Jeremy Waldron, Liberal Rights (New York : Cambridge University Press, 1 993), p. 61.

[29] لقد عُبر عن هذا التأثير في الدرس الرابع: 5 في صياغات مختلفة. إذا أخفق المرء في ملاحظة هذا الشرط الأساسي للإجماع التقاطعي، يبدو أن التأكيد في الدرس منظورا إليه بشكل مستقل يعبر عن وجهة نظر أخلاقية شمولية تؤكد على الواجبات المستحقة للمؤسسات الأساسية أكثر من جميع الالتزامات الإنسانية الأخرى. وبعبارة أخرى أنى لقيم المجال السياسي، كمجال فرعي لكل القيم، أن تكون لها قيمة أعظم من القيم التي تتعارض معها؟ غير أن هذا التأكيد المزعج لا يحدث إلا عندما ينسى المرء أنه يُفترض الحصول على إجماع معقول وتقاطعي، وأن الدرس يعلق على تسويغ أعضاء المجتمع عموميا للتصور السياسي.

[30] من غير المعقول أن نتوقع بشكل عام أن تكون الأوضاع والقوانين الإنسانية عادلة بالنسبة إلينا. لا أستطيع أن أناقش هنا مدى الاختلاف المعقول المسموح به.

[31] لقد كان ستيوارت هامبشاير Stuart Hampshireمحقا في تأكيده على هذه النقطة. انظر مراجعته لهذا الكتاب في

New York Review of Books (August 12, 1993), p. 44.

[32] نفس الاعتبارات، المعدلة قانونيا، تؤخذ في الحسبان في حالة أولئك الذين يرفضون حقوق الإجهاض التي يدعمها نظام ديمقراطي.

[33] أنا مدين لفرانك مايكلمان Frank Michelman لتوضيح هذه النقطة

[34] يوجد تعقيد هائل لا أستطيع ألا أتوقف عنده، أي أن هناك تمييزًا مميّزًا بين التشريع الذي يتعلق بالأساسيات الدستورية والعدالة الأساسية، والتشريع الذي يتعلق بالتفاوض السياسي بين مختلف المصالح في المجتمع المدني والتي تتم من خلال ممثليهم. هذا النوع الأخير من التشريعات مطلوب أن يكون هناك إطار للتفاوض المنصف في كل من الهيئة التشريعية والمجتمع المدني. وإنها لمسألة على قدر كبير من التعقيد لأنها مهمة صعبة أن توضح المعايير الضرورية للقيام بهذا التمييز وتوضيح ذلك من خلال المسائل المهمة.

[35] أستخدم هذه التواريخ لتشمل كامل الفترة من المؤتمر الدستوري إلى التصديق على شرعة الحقوق. وأنا ممتن لما ورد في هذه الفقرة والفقرات الموالية، لجيمس فليمنغ James Fleming لهذا الاقتراح وللكثير من الاقتراحات القيمة الأخرى حول القانون الدستوري، والتي آخذها في الحسبان عن طيب خاطر.

[36] حول هذين النقطتين في هذه الفقرة وفي الفقرة السابقة، انظر كتاب نظرية في العدالة، الفقرة 31، وص 196 وما بعدها، وص 200 وما بعدها

[37] في الفقرتين الأخيرتين، آمل أن أتطرق إلى مخاوف هابرماس بشأن إطار التسلسل المتكون من أربع مراحل. أشكر مكارثي ومايكلمان McCarthy وMichelman على مناقشتهما القيمة.

[38] The Social Contract, bk. II, ch. 7.

[39] هنا يقتبس هابرماس من الدرس الثامن: 2 (آخر الفقرة 2)، “الحريات الأساسية وأولويتها”(ويقول الشاهد النصي الذي اقتبسه من هذه الفقرة ليس كل الحريات الأساسية مهمة أو قيّمة للأسباب نفسها. أذكر أن هناك تيارا واحدا من التقاليد الليبرالية يثمن ما أطلق عليه بنجامين كونستان أسبقية “حريات المحدثين” على “حريات القدماء”، والذي ربما يكون فيه للحريات السياسية دورا أداتيا بشكل كبير في تأمين الحريات الأخرى. ثم أقول “حتى لو كان هذا الرأي صحيحًا، فإنه لا يمنعنا من أن نعتبر بعض الحريات السياسية من بين الحريات الأساسية وأن نحميها بأولوية الحرية. ولتخصيص الأولوية لهذه الحريات، فإنها تحتاج فقط إلى أن تكون مهمة بما يكفي كمؤسسة أساسية يعني لتأمين الحريات الأساسية الأخرى … “. لا أقول إن الحريات السياسية أداتية فقط، ولا مكان لها في حياة معظم الناس، وإنما أنصص على أن الحريات السياسية لها قيمة سياسية جوهرية بطريقتين على الأقل: أولا، في لعب دور مهم أو حتى مهيمن في حياة العديد من المواطنين المشاركين بطريقة أو بأخرى في الحياة السياسية. وثانياً، عندما تُحترم، تعتبر واحدة من القواعد الاجتماعية الخاصة باحترام ذوات المواطنين، وعلى هذا النحو، وفي أنحاء أخرى، هي خير أولي. انظر الدرس الخامس:6، وكذلك كتاب نظرية في العدالة ص 233 وما بعدها، حيث أقول: “بطبيعة الحال، فإن أسس الاستقلالية الذاتية ليست آداتية فقط.” ثم، بعد التعليق على دور الحريات السياسية بإيجاز في تعزيز احترام ذوات المواطنين، وأخلقة الحياة المدنية، وممارسة حساسياتنا الأخلاقية والفكرية، وما شابه، أختتم بالقول: “تبيّن [هذه الاعتبارات] أن الحرية المتساوية ليست مجرد أداة”. (في هذا المقطع أقول في الحقيقة “تقدير الذات” وليس “احترام الذات” لكني أدرك الآن، بفضل ديفيد ساخس، أن تقدير الذات واحترام الذات فكرتين مختلفتين. كان عليّ أن أختار مصطلحًا واحدًا مناسبًا وأتمسك به، وإن يكن أسلوبا ملعونا.) لا أقصد أن أتخذ موقفا مما ينبغي أن تكون ملامح الفضاء السياسي العمومي التي يفترضها دور الشعب. فتلك مسألة تنتمي إلى اتفاق دستوري، على معنى التسلسل المتكون من أربع مراحل، وأعتقد أن ذلك لا يثير إشكالا.

[40] استفدت في هذا الصدد من كتاب بروس أكرمان السديد

We The people Volume I : Foundations (Cambridge : Harvard University Press, 1991)

ومع ذلك، يمكن أن يكون تصور الديمقراطية الدستورية ثنائيًا بالمعنى العام للنص أعلاه دون إقرار إحساس أكرمان الأكثر تحديدًا بالثنائية والذي يسمح بـ “تعديلات هيكلية” للدستور خارج إجراءات التعديل الرسمي للمادة الخامسة. قد يكون لتحول سياسي مثل الصفقة الجديدة تأثير مهم في تغيير تفسيرات القضاة السائدة للدستور على سبيل المثال، ولكن، مرة أخرى، التعديلات شيء آخر. كما أنني لا أقبل تمييزه بين النزعة الثنائية والنزعة التأسيسية في الحقوق (كما يفهمهما). وهو يعتقد أن الثنائية تفترض أن أي تعديل وفقا لإجراءات المادة الخامسة يكون صحيحا دستوريا. وهو ما لا تقول به النزعة التأسيسية في الحقوق. ص 238 وما بعدها. وأما أنا فأقول عكس ذلك. ليس في واردي مناقشة هذه المسائل، وإنما أريد فقط التركيز على ما يثير اهتمام هابرماس. للمزيد انظر فريمان في

“Original Meaning, Democratic Interpretation, and the Constitution,” Philosophy and Public Affairs 21 (Winter 1992) : 3 -4 2 ; and Fleming, “Constructing the Substantive Constitution,” Texas Law Review 72 (December 1993) :211 -304 ; 287n380, 290n400.

أنا ممتن لفليمينغ Fleming لنصحه ومراسلاته القيمة التي توضح هذه المسائل، والتي استفدت منها الكثير.

[41] اقتفي هاهنا أثر أكرمان

[42] Stanley Elkins and Eric McKittrick, The Age of Federalism (New York : Oxford, 1993), pp. 58 – 75.

[43] يذكرني إلى جانب كانط كمنظرين للقانون الطبيعي FG 110

[44] هذا يتفق مع وجهة نظر مايكلمان في مقاله

“Law’s Republic,” The Yale Law Journal 97 (July 1 988) : 1493- 1537, pp. 1499f.

عندما يقول: “أفهم الدستور الأمريكي – كما هو واضح في النظرية الدستورية الأكاديمية، وفي الممارسة المهنية للمحامين والقضاة، وفي الفهم الذاتي العادي للأمريكيين عموما – انطلاقا من مقدمتين بشأن الحرية السياسية: أولاً، أن الشعب الأمريكي يتمتع  سياسيا بالحرية إلى درجة أنه يحكم نفسه بنفسه بشكل جماعي، وثانياً، أن الشعب الأمريكي يتمتع سياسيا بالحرية من حيث أنه محكوم بقوانين وليس بأشخاص، وأنا أعتبر أن أي مشارك جدي أو غير مخرب في الجدل الدستوري الأمريكي ليس له مطلق الحرية في رفض أي من هاتين الطائفتين من الاعتقاد، فأنا أعتبر العلاقة بينهما علاقة معضلة، وبالتالي كانت دائما موضع جدل لا نهاية له”.

[45] Thomas Jefferson : Writings, Merrill Peterson, ed. (New York : Viking, 1984), pp. 1399f. and 1401f

انظر أيضا رسالته إلى جيمس ماديسون James Madison، في 6 سبتمبر 1789، حيث يقول إن “الأرض حق ينتفع به من هم على قيد الحياة، ولا حقوق ولا قدرات للموتى للانتفاع به” (المرجع نفسه، ص 959). لا يستطيع جيل من البشر أن يرتبط بآخر. وفي هذا السياق، تشير حنة أرندت Hannah Arendt إلى الحيرة يتعذر تجاوزها فيما يبدو لروح ثورية تسعى إلى إقامة نظام دستوري. حيرة تتمثل في كيفية استيعاب روح ثورية داخل نظام دائم. كما تفترض أن عداء جفرسون لأولئك الذين ينظرون إلى الدساتير بتقديس لا يخلو من تظاهر بالورع ينبع من الشعور بالغضب من الظلم إذ يعتقد بأن جيله وحده القادر على أن “يبدأ العالم من جديد”، وهي عبارة وردت في كتاب توماس باين Thomas Paine

Common Sense   

انظر كتاب حنة أرندت

On Revolution (New York : Viking, 1963), p. 235.

ومع ذلك، فإن هذا الشعور بالظلم في غير محله تمامًا ولا يمكن تفهمه البتة. (قد أقضي حياتي أيضًا انتحب لأنني لم أكن كانط أو شكسبير أو موزارت.) أما بالنسبة إلى الحيرة بشأن إيجاد فضاء سياسي عمومي مناسب لإعطاء مجال للاستقلالية الذاتية السياسية للشعب، أعتقد، كما جاء في المتن أعلاه، أن المسألة تتعلق بمشروع الدستور. إن أي شعور بالحيرة يتعذر تجاوزه أمر خادع، وليس لأن أرندت تعترض عليه.

[46] يبدأ الملخص بعبارة “نظرية في العدالة” (130) وينتهي بالكلمات: “في السياق الحاضر” (131).

[47] David Rasmussen’s review in Philosophy and Social Criticism, 20, no. 4 (1994) : 21 -44, p. 41.

[48] تمت إضافة “الملاحظات الختامية” (بتاريخ 1 سبتمبر 1993) إلى طبعة لاحقة (Auflage)من FG 66 1 -80. ترجمها ريهج Rehg نشرت في الفلسفة والنقد الاجتماعي، 20، عدد. 4 (تشرين الأول / أكتوبر 1994): 135-50. Philosophy and Social Criticism أشكر راسموسن Rasmussen على إرساله لي صفحة تثبت ذلك.

[49] أشير إلى ترجمة ريهج Rehg للملاحظات الختامية حسب الجزء ورقم الفقرة. يَرد المقطع الرئيسي الذي يلخص الحجة المركزية في الجزء الثالث. وفيه ثماني فقرات: تعرض الأربع الأولى منها الحجة المركزية، في حين تتعلق الأربع الموالية بالرد على اثنين من النقاد هما اوتفريد هوفOtfried Hoffe ولارمور Larmore حيث خصص فقرتين لكل منهما تواليا.

[50] أدرج هذا لأن نظرية العدالة إنصافا لا تتضمن الحق في ملكية وسائل الإنتاج؛ انظر كتاب نظرية في العدالة 270-74.

[51] المصطلح مترجم عن الأصل الألماني “eine anonyme Herrschaft der Gesetze, ” والذي يعني قاعدة قانونية في حد ذاتها. بمعنى، غُفلة أو غير معروفة (في الاقتصاد يمكن أن يعني البضائع التي تفتقر إلى اسم العلامة التجارية)؛ ليس قانون مَلك أو هيئة تشريعية.

[52] الفقرات الثلاث السابقة تقدم تفسيرا لما جاء في “الملاحظات الختامية III.1، انظر أيضاFG 129-35 , 491ff.

[53] Metaphysics of Morals, Doctrine of Rights, sects. 47, 52, and Remark D in the general remarks after sect. 49 ; and “Theory and Practice,” Akademie Edition VIII :2 89f., 297f.

[54] هذه الجملة تشبه جملة وردت في الملاحظات الختامية” II: 3.2: “يمكن إعادة صياغة المسألة الرئيسية في القانون الطبيعي الحديث في ظل مقدمات نظرية نقاش جديدة: ما هي الحقوق التي يجب على المواطنين أن يتنازلوا عنها لبعضهم البعض إذا قرروا أن يكونوا إراديا جمعية من الفروع القانونية وتنظيم حياتهم بطريقة شرعية عن طريق القانون الوضعي؟”

[55] كما رأينا، إنها مسألة مهمة أن نعرف أين تدور هذه المناقشات. في نظرية العدالة إنصافا، تدور بين المواطنين في المجتمع المدني – بين وجهات نظرنا. أفترض أن الشيء ذاته يقول به هابرماس.

[56] هناك مصلحة ثالثة عليا من خلال تصور محدد للخير الذي يبلوره الأشخاص في أي وقت. ولكن بما أن هذه المصلحة تخضع للمصالح العليا للملكتين الأخلاقيتين، وبالتالي يجب أن يكونوا متعقلين وعقلانيين، لن أتوسع أكثر هنا في مناقشة هذه النقطة.

[57] فكرة بناء على مرحلتين ضمنية في ملخص الحجة (129-30)، ويتم وصفها بإيجاز باستخدام هذه العبارة:

” Reconstruktion eine zweistufige.”

“إعادة البناء على مرحلتين”. (“الملاحظات الختامية” III: 8) لا أعرف فيما يختلف البناء عن إعادة البناء. وعما إذا كان مهما هنا؟

[58] أنا مدين لمكّارثي في فهم هذه النقطة.

[59] حول وجهة نظر لوك بشأن سلطة الشعب التأسيسية، انظر

Second Treatise : 134,141.

قد أضيف أن هذا يناسب المبدأ الفيدرالي للشعب. انظر تحليل جوردون وودGordon Wood الرائع في

The Creation of the American Republic, 1776-1787 (New York : Norton, 1 969) ;

وتقدم فصول الكتاب 9-7 و13 جزءا مهما حول هذه الصورة.

[60] حول هذا انظر

Julian Franklin, Sovereignty of the People (New York : Cambridge University Press, 1978),

حيث يقتفي أثر وجهة نظر لوك في الرسالة الثانية حتى رسالة لاوسون Lawsonفي خمسينيات القرن السابع عشر (1650)

[61] المشروعية لا تمنع الانحراف بشأن هذا؛ انظر الفقرة 5 أدناه.

[62] أذكر هنا أن مفهوم العقلاني هنا أوسع وأعمق من مفهوم العقلاني المستخدم في الوضع البدئي، حيث يكون له معنى أضيق. ليس في واردي تعقب هذا الاختلاف هنا.

[63] وهذا يشير إلى “الحريات الأساسية وأولويتها “(1982)، كما هي مضمنة في الدرس الثامن من هذا الكتاب دون أي تغيير.

[64] هدف كتاب نظرية في العدالة إنشاء هذه المؤسسات. حيث يقول في ص. 195 إن الهدف من الجزء الثاني (المؤسسات) هو توضيح مضمون مبادئ العدالة من خلال وصف البنية الأساسية للمؤسسات التي تلبيها. إنها تحدد، كما يقول الكتاب، تصوراً سياسياً قابلا للتطبيق، وهو تصور يمكن بلورته في إطار مؤسسات فعلية ومصمم للعمل بالنظر إلى ما يمكن أن يتوقع المواطنون معرفته وكيف يمكن توقع تحفيزهم، وقد نوقش هذا الموضوع الأخير في الجزء الثالث. أذكر هذا لأن هابرماس يقول في الحقائق والمعايير FG، الفصل. 2 .2، كتاب نظرية في العدالة يتخلص من هذه المسائل ويتغاضى عنها.

[65] يقينا، أنا نفسي لم أقدم الكثير في هذا الصدد، لكن بعض الحريات الأساسية والحالات التي تنطبق عليها نوقشت قليلا في الدرس الثامن، “الحريات الأساسية”.

[66] ألا نحتاج إلى الشرعية هنا؟

[67] هنا آخذ في عين الاعتبار تمييز هامبشاير في مراجعته، ص. 44، المذكورة أعلاه في هامش سابق من الفقرة 2

[68] أنا مدين كثيرا إلى كوهين في مقاله

“Pluralism and Proceduralism,” Chicago-Kent Law Review 69 (1994) : 589-618.

إنها مناقشة شاملة ومستنيرة حول هذه القضية وأنا استخدمها بطرق عديدة. يتمثل موضوعها العام في التالي: بما أن العدالة الإجرائية تتوقف على العدالة الجوهرية، فإن الإجماع التقاطعي حول المسائل الجوهرية، بشكل عام، ليس أكثر طوباويًا من الاتفاق حول العدالة الإجرائية: فالإجماع الدستوري يعني ضمنيا اتفاقا واسعا حول المسائل الجوهرية. وبالتالي، يرفض كوهين الاعتراض على العدالة الجوهرية بأن العدالة الإجرائية، بشكل عام، أقل صرامة، لأنها مستقلة عن العدالة الجوهرية. وهذا يتسق مع وجهة نظر التي عرضتها في الدرس الرابع: 6-7: هناك اتجاهات تدفع الإجماع الدستوري نحو إجماع تقاطعي. لم استخدم حجة كوهين هناك لأنها تاهت عنّي تمامًا. يناقش تشارلز بيتز Charles Beitz أيضًا موضوع العدالة الإجرائية في

Political Equality (Princeton : Princeton University Press, 1 989), ch. 4.

حيث يقدم أطروحة أقتفي أثرها هاهنا: تتوقف عدالة العدالة الإجرائية في جزء منها على عدالة النتيجة. حول نقد يذهب في الاتجاه ذاته لجون هارت إليّ في كتابه،

Democracy and Distrust (Cambridge : Harvard University Press, 1981)

انظر دووركين،

A Matter of Principle (Cambridge : Harvard University Press, 1985), ch. 2, pp. 5 7-69 ;

وأيضا

Laurence Tribe, Constitutional Choices (Cambridge : Harvard University Press, 1985), ch. 2 : “The Pointless Flight from Substance,” pp. 9-20.

[69] ناقشت هذه المسائل (بما في ذلك المقامرة) في نظرية في العدالة 84-87.

[70] Rohen Dahl, Democracy and Its Critics (New Haven : Yale University Press, 1989), pp. 1 67ff.

[71] أقول “قد” هنا لأن البعض قد يعتبر قاعدة الأغلبية على أنها هي وحدها القاعدة النهائية والحاكمة. أما أنا فلا تعنيني هذه القضية.

[72] أعتقد أن هذا هو نوع الحجة التي ينوي دال أن يدفع بها في كتابه الديمقراطية ومنتقدوها لا ينفي الأهمية الكبرى للحقوق والحريات غير السياسية، بل إنه يتساءل، من زاوية نظر سياسية عامة، عن مدى فعالية وضرورة وجود الأجهزة الدستورية المألوفة؛ انظر الفصلين. 11 – 13.

[73] انظر مناقشة كوهين لكتاب هامبشاير Innocence and Experience (Cambridge: Harvard University Press, 1989)

في مقاله،

“Pluralism and Proceduralism” 589-94, 599f. 607-10.

[74] أشكر باينز Baynesعلى لفت نظري إلى أهمية هذا المقطع الأخير.

[75] يتفق هذا مع ما ذهب إليه مكارثي الذي يقول، في مقارنة وجهة نظر هابرماس ووجهة نظري، أن الفرق بين العدالة الإجرائية والعدالة الجوهرية عند هابرماس يتعلق بالدرجة. انظر

“Kantian Constructivism and Reconstructivism : Rawls and Habermas in Dialogue,” Ethics 105, no. 1 (October 1994) : 44-63, p. 59, fn. 13.

أشكر باينز Baynes أيضا لمراسلات مفيدة بما في ذلك حول هذه المسألة. وفي مناقشته لـ FG لفائدة Companion To Habermas (سيصدر قريباً) لديه المزيد من التعليقات حول هذه المسألة.

[76] أنا مدين لهنش Hinschلنقاش قيّم حول معنى ودور الشرعية، وتميزه عن فكرة العدالة؛ انظر Habilitationschrift (1995) حول الشرعية الديمقراطية. أنا أيضا مدين لديفيد استلوند David Estlundلورقته القيمة غير المنشورة حول هذا المفهوم كما استخدم في هذا الكتاب، وخاصة في الدرسين الرابع والسادس.

[77] أعتقد أن هابرماس سيوافق على هذا التمييز بين العدالة السياسية والشرعية، لأنه يناقش في مرحلة ما شرعية كل من التشريعات الخاصة والدستور نفسه، وكلاهما يتوقف على العدالة، أو على التسويغ. أو كما يقول في

The Theory of Communicative Action, Volume 2 : System and Lifeworld, McCarthy, trans. (Boston : Beacon, 1987), p. 178

“يفترض مبدأ التشريع مبدأ التسويغ والعكس صحيح. فالنظام القانوني ككل يجب أن يرسخ في المبادئ الأساسية للشرعية”. يبدو هابرماس هنا وكأنه يناهض ماكس فيبر، الذي فهم الشرعية على أنها قبول شعب لمؤسساته السياسية والاجتماعية. وهذا القبول وحده دون تسويغ لا يكفي حسب هابرماس، لأنه يسمح بالكثير. وأود أن أضيف فقط (أعتقد أن هابرماس يوافق على ذلك) على أن هذه المؤسسات ليست بحاجة إلى أن تكون كاملة، وربما، حسب الحالة، قد تكون غير عادلة ولكنها تظل شرعية. أشكر ديفيد بيرتز Peritz David الذي فهم هابرماس بشكل كبير، إذ يحيلني على هذا المرجع.

[78] انظر مراجعة كوهين لكتاب دال الديمقراطية ومنتقدوها

Democracy and Its Critics., in journal of Politics 53, no. 1 (October 1991) : 221 -25, p. 223f.

[79] لا يتحدث هابرماس عن الأخلاق، أو عن القيم الأخلاقية للأفراد والجماعات. ويمكن متابعة ذلك في نطاق القانون الشرعي والمسوغ.

[80] على سبيل المثال، في مقال منJustification and Application، المعنون “في الاستعمالات البراغماتية والايتيقية والأخلاقية للعقل العملي”

“On the Pragmatic, the Ethical, and the Moral Employments of Practical Reason,”

يحدد صيغة لأربعة أنواع من العقل العملي؛ انظر ص 1 – 17.

[81] هناك اعتراض على علاقة بهذا جاء في مراجعة لارمور الثاقبة لكتاب هابرماس الحقائق والمعايير FG ورد في المجلة الألمانية للفلسفة

Deutsche Zeitschrift für Philosophie 41 (1993) : 32 1 -27

ظهرت منها نسخة إنجليزية أطول في المجلة الأوروبية للفلسفة European journal of Philosophy (أبريل 1995).

[82] أشكر دووركين Dworkin وتوماس ناجلThomas Nagel ولاورنس صاجر Lawrence Sager على التأكيد على هذه المسألة. أنا ممتن لصاجر Sager لمناقشته الأخيرة السديدة.