مجلة حكمة
القديس أوغسطينوس المقولات العشر

القديس أوغسطينوس: في مقولات أرسطو العشر المنسوبة إلى القديس أوغسطينوس – ترجمة: لطفي خير الله

مقدمة المترجم

تنبيه في شأن هذه الرسالة

   اعلم أنا قد راجعنا النظر في هذه الرسالة الموسومة بالمقولات العشر في نسخٍ سبعٍ، وواحدة منها هي عتيقة جدا وموجودة في مكتبة سان جرمان، قد كتب في أولها هذا “توطئة ألكيونيوس إلى كاروليوس أوغسطس في أمر المقولات العشر لأوغسطينوس : إن هذا الكتاب الصغير قد ضم الألفاظ العشر الدالة على الطبيعة. والعجيب أنها قد أحاطت بكل ما يمكن أن يدخل تحت تصور العقل. فليكن من كل ذي اطلاعٍ عليه استحسان لفطنة القدامى الفريدة، وليجتهد في صقل قريحته وتهذيبها بمثل هذا الأثر، عسى أن يكون ذلك له زينةً كريمةً تحلي ما كتب له من أيام عمره. وأما العلامة أوغسـطينوس فكان قد رام أن يستخرج هذا الكتاب من بين كنوز الإغريق القدامى ناقلاً إياه إلى اللسان اللاتيني. فها أنا ذا، أيها الملك العظيم، والمؤثر للحكمة والمحب لها، أبعث إليكم بهذا الكتاب، فلأنتم ممن مثل هذه العطايا إنما تبهجه وتسره كثيرًا.” (مقولات أرسطو المنقولة من اليونانية إلى اللاتينية، بنقل أوغسطينوس.)  

   وأما نسخة ميكاييلينيوس وطبعة أمارباكيانيوس، فقد اشتملتا على الأبيات بعينها لكنهما خلتا من هذا العنوان : توطئة ألكيونيوس إلى… وظني أن هذه الرسالة بعينها هي الملمع إليها أيضًا في المقالة الأولى من أخبار أودوناس رئيس الدير بكلونياسونس، بهذه الكلمات : “وفي ذلك الوقت أتى أودوناس باريسيوس حيث أتم قراءة كتاب الجدل بحذافيره، وهو الكتاب الذي كان أوغسطينوس قد بعث به إلى ابنه أديودتوس. وكان قد أدمن نظره أيضًا في مارسيانيوس حتى يكتسب معرفةً بالصناعات الشريفة، متخذًا في ذلك ريمكس معلمًا له.”    

   إذًا، فقد كان يظن منذ زمنٍ بعيدٍ بأن صانع هذه الرسالة هو القديس أوغسطينوس الذي ليس أحد يجهل بأن القدامى قد نحلوه تأليف كتبٍ أخرى كثيرةٍ. ثم إن القديس أوغسطينوس لم يشر في موضعٍ واحدٍ أنه كان  قد تكلم قط في أمر المقولات، ولا نلفى له نحن في هذه الرسالة خواص الطريقة المذكورة آنفًا لكتاب الجدل والمنبه عليها في كتاب التبرأ : حيث قال إنه قد صاغ هذا الكتاب بنمط المحاورة لأنه يفيد في بلوغ، أو في العروج إلى الروحانيات بواسطة الجسمانيات. ولك أن تتبين أيضًا أن صاحب هذه الرسالة هو كلف جدا بمقولات أرسطو، فهو يقول إنه قد فقهها بعد مثابرةٍ وكد، وبدلالةٍ من الفيلسوف ثامسطيوس. وأما القديس أوغسطينوس في الفصل الرابع عشر من المقالة الخامسة من كتاب القول في الرد على جوليانوس، فهو يعيب على هذا المبتدع شغفه المسرف بمقولات أرسطو. وكان قد أخبر أيضًا في الفصل السادس عشر من المقالة الرابعة من كتاب اعترافاتي أنه قد وقف على أغراض المقولات بيسرٍ و بلا معونة معلمٍ. ثم إن القديس أوغسطينوس إنما هواه إلى أفلاطون على أرسطو، كما لك أن تتبينه في الفصل الثاني عشر من المقالة الثامنة من كتاب مدينة الله. وأما صاحب الرسالة فلا خلاف في أنه يؤثر أرسطو على غيره، فإنه في الأكثر إنما يدل عليه بالخصوص مستعملاً اسم العموم الفيلسوف. وأخيرًا فإنا لسنا نجد كما في الكتب المنشورة، اسم أديودتوس، مكتوبًا بعد المنادى أيا بني، بل يد غريبة قد كتبته إما في الحاشية، أو فيما بين الأسطر.    

جدول المحتويات

الفصل الأول : في القول وفي مدلول لفظة “أوزيا”

اعلم يا بني أنه وإن كان القول هو فقط ما شأنه أن يفحص عن أمر العلم وأمر الطريقة لكل صناعةٍ صناعةٍ، فإنه ما كان قد رئي إلى وقتٍ ما، رجل واحد ذو رسوخٍ في أنواعها جميعًا قد رام أن يبحث في مبدأ القول أو في منشئه. لذلك فهو حق علينا أن نشيد بهمة الفيلسوف أرسطو الذي لما أحب أن يفصل القول في الأشياء كلها، بدأ بالنظر في هذا الأمر الذي كان قد أهمله الجميع على ضرورته. إذًا فإنما هو أرسطو من بصرنا بأن الأشياء الثمانية التي يدعوها النحاة أجزاء القول(1) ليس منها ما يقال عليه هذا الاسم بالتحقيق إلا ذلك الشيء الذي دلالته إنما هي على معنى ما بواسطة الاسم. فعنده إنما الاسم(2) والكلمة(3) فقط ما ينبغي أن يؤخذا كجزء القول، وأما سائر الأشياء(4) فهي تابعة لذينك الاثنين، والأصح فيها أن تسمى باللواحق لا بأجزاء القول(5). فالاسم يدل على ذاتٍ(6)، والكلمة تدل على فعلٍ أو انفعالٍ(7). لذلك يقول الفيلسوف إنه إذا دقق في القول(8) ظهر لنا كيف أنه بحصره شيئًا فشيئًا فهو يعم بأخرةٍ الموجود كله حينما يجمع تحت لفظةٍ واحدةٍ(9). إذ أن الأسماء المقولة(10) على عباد الله الفانية هي مختلفة لا يحصرها عدد، ولا يمكن لأحدٍ أن يحيط بهذه الأسماء الكثيرة جدا. فأما إن نطقت بلفظة إنسانٍ(11)، فإنك تكون قد أحطت بها جميعًا. وكذا في سائر الأشياء كالفرس المسمى، أو المسمى أي النقي، أو      أي الإلاهي، أو غيره من الأفراس جميعًا، فإن مدلولات هذه الأسماء هي لا محدودة، لكنه إذا قيل فرس فقد دل عليها بأسرها. وأيضًا لو أعطي اسم لكل أسدٍ أسدٍ، كما هو عادة بعضهم، أو لكل ثورٍ ثورٍ، فإن المعرفة بأفرادهما ستتعلق بما لا نهاية له، وهو ما لا يقوى عليه ذهن : وأما إذا قيل أسد أو ثور، دخلت إذًا كل أفراد كل واحدٍ من النوعين المنتشرة في العالم تحت هذا الاسم أو ذاك. لكن القول الذي قد جمع تحت أسماءٍ مخصوصةٍ أفراد الأنواع الحيوانية المختلفة بالخلق اختلافًا لا متناهيًا كان سيلحقه التقصير إن هو لم يجمع أيضًا هذه الأنواع بعينها تحت اسمٍ واحدٍ(12). لذلك كان قد سمي بالحيوان الإنسان والسبع والفرس. وهو اسم قد أعطي لكل واحدٍ من هذه الأشياء حتى يحيط بها كلها معًا. وفعل ذلك في الأشياء الغير متنفسة ذوات الأسماء الكثيرة بأن اتخذ لها أيضًا دال يدل عليها بإجمالٍ. إذ لما كان هناك أشجار يسمى بعضها شجر الجوز وبعضها شجر الكستنة وبعضها شجر البلوط وبعضها شجر التفاح وأنواع أخرى كثيرة، فإن القول إنما قد جمعها كلها تحت اسمٍ مخصوصٍ ومشتركٍ لها جميعًا حينما دل عليها باسم الجنس الخشبي. وأيضًا أصناف الحجارة الصالحة للزينة قد أجملت دلالتها بتسميتها حجرًا كريمًا. ثم إنه وإن كان جمع الأجناس المتفرقة تحت دال مخصوصٍ لكل واحدٍ منها هو عملاً فيها وافيًا، فإنه قد ريم أيضًا أن يجمع الموجود كله تحت اسمٍ تكون دلالته لا متناهيةً، فاستعملت إذًا لفظة “أوزيا” أي الجوهر، وهي اسم لا يمكن أن يوجد شيء ولا أن يتخيل خارجًا عن دلالته ألبتة(13)، وإحدى المقولات العشر. 

وبين أن المقولات إنما سميت مقولاتٍ لأنها لاتعرف إلا بموضوعٍ، إذ هي محمولة على موضوعٍ(14). فمثلاً لا يمكن لأحدٍ أن يعرف ما الإنسان إلا إذا وضع نصب عينيه إنسان ما مشار إليه. واعلم أن أرسطو لما كان في مواضع من كتابه مضطرا لإيراد أمثلةٍ كثيرةٍ ولكنه قد خشي من أن يكرر الأسماء بعينها دائمًا وأنه سيسئم القارئ إن هو ردد عليه مرارًا، مثلاً، لفظة زيد، أو لفظة الإنسان الأعم، أو لفظة الحيوان الأعم من الثانية، أو لفظة الجوهر المشتملة على الموجود كله، فإنه قد استبدل بهذه الألفاظ ألفاظًا أخرى مصنوعةً نافعةً للفلاسفة في أقوالهم(15). لذلك فهو قد خص الألفاظ التي مثل هذه : زيد، أو شخص شجرة الجوز، أو الفرس السابح، أو ما أشبهها، بهذه الأسماء :   كالفرس المسمى     ، أو  المسمى     ، أو   النقي      ، أو     الإلهي     . فأما أيستيطا(16) فمن قبل أنها مدركة بالحس. وأما أطوما(17) فمن قبل أنها لا تقبل التجزئة أو القسمة : إذ من يظن بأن زيدًا قابل للقسمة، بل في قسمته فناؤه. وأما إيناريثما(18) فمن قبل أنها واحدة بالعدد. وأما كاث إيكسطا(19) فمن قبل انفراد كل واحدٍ منها عن الآخر : فإن هذه الأشياء ليس يمكن أن تجمع اثنين اثنين مثلاً. وأما الأسماء التي دلالتها أعم من الأسماء المذكورة فإن الفلاسفة يخصونها باسم     إيدياس، أو     أيديا(20) : مثل الإنسان والفرس والأسد والشجرة، فهي تدخل من الأجناس كجزئياتٍ(21)، ومن الأشياء كصورٍ. لذلك فإن الألفاظ التي هي أعم من هذه فيسمونها أيضًا الأجناس مثل : الحيوان والجنس الشجري والحجر الكريم والحجر، لأنه منها إنما تحدث الجزئيات أو الصور. لكن هذه الأجناس بعينها يطلق عليها أيضًا اسم النوع لأنها أخص من معنًى يعمها، وهو الجوهر الذي يظن أنه منه هو خروجها وحدوثها. أما الجوهر الذي ليس شيء أعلى منه فقد اختارت له الفلاسفة وصف الجنس. 


إشارات على الفصل الأول

1) “.. يدعوها النحاة أجزاء القول أو أنواع اللفظ، وهي في اللاتينية : الاسم، والنعت، والضمير، والفعل، والحال، وحرف الجر، وحرف العطف، وحرف التعجب. فتلك أنواع ثمانية.

2) ..إنما الاسم فالتعريف المنطقي المشهور للاسم : لفظ مفرد دال على معنى من غير أن يدل بهيئته على زمان المعنى، وليس لجزءٍ منه دلالة بمفرده، مثل زيدٍ وإنسانٍ وحيوانٍ وبياضٍ.

3) ..والكلمة هي المسماة فعل عند النحاة، والتعريف المشهور : لفظة دالة على المعنى و تدل بهيئتها على زمان ذلك المعنى، مثل مشى، ويضرب، ويتكلم.

4) ..سائر الأشياء يريد بها الحروف عند النحويين، والمسماة أداةً في المنطق. ويخص الحرف أنه ناقص المعنى، أعني هو لا يدل إلا إذا قرن باسمٍ أو كلمةٍ.

5) ..باللواحق..  لقد قلنا إنها الحروف، والفارابي قد حصر أصنافها، وهي : الخوالف، والواصلات، والواسطة، والحواشي، والروابط.

6) ..على ذاتٍ ليست الذات الحقيقية التي هي الجوهر، بل كل معنًى يدل عليه اللفظ الموصوف بالاسم، ولا يدل بنفس هيئته على زمان المعنى. أعني كل المعاني المحصورة في المقولات العشر، وهي : الجوهر، والكم، والإضافة، والكيف، وأن يفعل، وأن ينفعل، والوضع، ومتى، وأين، وله.

7) ..أو انفعالٍ لا تفهم اللفظ الدال على الفعل والانفعال، بمجردهما، والمسمى في علم النحو بالمصدر، مثل ضربٍ، وانضرابٍ. فذلك اسم، والمعنيان من المقولات العشر. بل الكلمة تدل على فعلٍ وانفعالٍ مصرفين : مثل ضرب الذي يدل على فعل الضرب في الماضي، أو سينضرب الذي يدل على الانضراب في المستقبل.

8) ..القول أي اللفظ الذي هو الاسم، وليس اللفظ المركب الدال على معنًى مركبٍ، وهو ذو أنواعٍ خمسةٍ كما سنرى.

9) ..لفظةٍ واحدةٍ ليس يريد لفظةً تعم كل الموجودات جميعًا، وهي لفظة الموجود، أو قد يقال الهوية، بل لفظة تعم كل المعاني المندرجة تحت مقولةٍ مقولةٍ من المقولات العشر.

10) ..الأسماء المقولة. الأسماء الدالة على الأشخاص، وهي أسماء الأعلام، كزيدٍ، أو كالفرس المسمى الحرون. 

11) ..إنسانٍ فبعد الاسم الذي لا يحيط إلا بشخصٍ واحدٍ، وهو العلم، فهناك الاسم الذي يحيط مرةً واحدةً بلا متناهٍ من الأشخاص المشتركة في معنًى ما، ولا تختلف فيما بينها إلا بأحوالٍ عرضيةٍ، وهو اسم النوع، مثل “الإنسان”. 

12) ..اسمٍ واحدٍ وهذا الاسم دلالته أعم من دلالة اسم النوع، إذ هو يحصر كل أفراد النوع، ويحصر أيضًا أفرادًا آخرين، يشاركون الأفراد الأول في معنًى جوهري، ويخالفونها في معنًى جوهري لا عرضي، وهو اسم الجنس، مثل الحيوان المقول على أفراد النوع الإنساني، وأفراد النوع الفرسي، إلى غيرهما.

13) ..دلالته ألبتة يريد أنه لا يوجد لفظة تحصر كل الموجدات بما هي ذوات قائمة بذاتها أعم من لفظة “الجوهر” أو “أوزيا” في اليوناني. وقد قيل في مدلوله إنه جنس عالٍ، لأنه ليس يوجد له معنًى خارجه يحتويه، ويكون له اسم دلالته أعم من دلالة اسم “الجوهر”.

14) ..محمولة على موضوعٍٍ فالمقولات هي كليات، ولا يوجد في الخارج إلا الأشخاص. لذلك فهو بتجريد المعاني من المحسوسات الشخصية، إنما تعرف المعاني وتكون معقولةً، و بصيرورتها معقولةً إنما تصير كليةً وممكنة الحمل على الموضوع. 

15) .. نافعةً للفلاسفة في أقوالهم يريد اللفظة الدالة على كل اسمٍ دلالته محصورة في شخصٍ، وألفاظ الكليات الخمس المنطقية، وهي : الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض. وهذه مذكورة في إيساغوجيا فورفوريوس.

16) المحسوسات. 17) اللامنقسمات. 18). الواحدة بالعدد.19)  الأفراد. 20) الأنواع.

21) .. كجزئياتٍ النوع إن كان ما تحته هو أفرادًا يختلفون بالعرض فقط مثل الإنسان، والفرس، والأسد، كان نوعًا مطلقًا، أو نوع الأنواع. وهو أيضًا يقال نوع بالإضافة إلى شيءٍ أعم يسمى الجنس، يحويه ويحوي أنواعًا أخرى، مثل الحيوان. وكل معنًى كلي يشتمل على معنًى كلي آخر، فإما أن يكون تحت معنًى كلي أعم أو لا يكون. فإن كان، قيل إنه نوع بالإضافة إلى الأعم، و جنس بالإضافة إلى ما تحته. وإن لم يكن قيل إنه جنس مطلقًا أو جنس الأجناس. أما المعنى الكلي الآخر، فإن كان تحته كلي آخر، قيل إنه جنس بالإضافة إليه. وإن كان لا يحتوي إلا على الأفراد، قيل إنه نوع الأنواع. وهاؤم هذا المثال :  

الفصل الثاني : في المتفقة أسماؤها وفي المتواطئة أسماؤها   

   إذًا فبعد هذه التقدمة، ومع هم أرسطو بالنظر في الأشياء التي إذا تصورها الذهن، صارت مدلولةً ومشارًا إليها، فإنه قد أغفل أيضًا البحث في نفس الألفاظ وبيان ما حقيقتها(1) : إذ هو لاحظ أنه في اللغة المستعملة هناك أمور كثيرة يدل عليها اسم واحد، وهناك أسماء كثيرة تدل على شيءٍ واحدٍ. فأما الأشياء التي يجمعها اسم واحد، فقد قسمتها الفلسفة قسمين : قسمٍ سمته “المتفقة أسماؤها”، وقسمٍ سمته “المتواطئة أسماؤها”(2). والاتفاق هو أن تكون أشياء متكثرة لها اسم واحد مختلفةً بالمعنى، مثل إنسانٍ وإنسانٍ مصورٍ : فالاسم واحد لكليهما، لكن حد الإنسان أو معناه هو لأحدهما غيره للآخر. وذلك أنه إذا أتي بحد الإنسان قيل حيوان ضاحك ناطق، وأنت لا تستطيع أن تأتي بهذا القول بعينه في حد الإنسان المصور. فبينهما فرق اضطرارًا. وأيضًا أسماء الأعلام التي تدل على أكثر من شخصٍ واحدٍ فينبغي أن نعدها من المتفقة(3) : مثل شيشرون الذي ليس يسمى به واحد فقط بل هم كثيرون. إذ لو أنت أضربت عن الاسم وأحببت أن تدلنا على شيشرون الأول ثم الثاني ثم الثالث بواسطة الصفات، فلا محالة سوف ينبغي أن تذكر لكل واحدٍ منهم صفاته التي ينحاز بها عن غيره : كقولك الأول بدين والثاني نحيل، أو الأول كبير والثاني صغير، أو الأول أشقر والثاني أدكن. لذلك فهذه الأشياء إذ هي مختلفة والجامع بينها هو الاسم فقط، تقال بالمتفقة أسماؤها، أعني أنها واحدة بالاسم ومختلفة بالمعنى. وأما المتواطئة أسماؤها فهي الأمور التي يكون الاسم لها واحدًا و المعنى لها واحدًا مثل الحيوان : إذ هو اسم يشترك فيه الإنسان والفرس والسبع والطير، ويقال بهذا المعنى : موجود مغتذٍ مائت حساس.

Text Box: Ensis, gladius, mucro   وأما في الحال التي الشيء فيها يكون واحدًا وله أسماء كثيرة تدل عليه، فإن أرسطو قد أهمل هذا القسم لما قلنا إنه كان يرى الواجب أن ينظر في المدلول، لا في الدال(4). كذلك هاهنا فليس المنظور فيه الأشياء بل الألفاظ. ثم إن هذه الألفاظ تنقسم قسمين : قسمًا يشتمل على الألفاظ المسماة بالمترادفة، وقسمًا يشتمل على الألفاظ المسماة بالمستعارة. فأما الترادف فإذا كان المدلول واحدًا والأسماء الدالة متكثرةً إلا أن كثرتها لا تكون بسبب اختلافٍ في معنًى، كالمسمى سيفًا، وهو تنطلق عليه هذه الأسماء الأخرى أيضًا :  ، إذ أنه لا يمكن أن يرى من هذه الأسماء المقولة على شيءٍ واحدٍ علة موجبة لكثرتها(5). وأما الاستعارة فإذا كان المدلول واحدًا والأسماء متكثرةً أيضًا، إلا أن كثرتها تكون حينئذٍ معلولةً، مثل  إنسانٍ، وأرضي، ومائتٍ : فالمدلول الواحد له اسم “إنسان” من قبل الإنسانية الموجودة فيه، وله اسم “أرضي” من قبل الأرض التي منها كان خلق الأشياء جميعًا، وله اسم “مائت” من قبل أنه ميت حتمًا. فبين إذًا أن هذا البحث إنما هو عن منشأ الأسماء، وأما هنالك فعن منشأ الأشياء. لذلك ما كان أرسطو قد أغفل الأولى مؤثرًا الانصراف إلى الثانية(6). ثم لنرجع إلى المتفقة أسماؤها إذ هي قسمان : قسم وقع له الاشتراك بالعرض، كالذي أوقع عليه اسم عرض أن كان قد سمي به غيره. وقسم ثانٍ وقع له الاشتراك بالإرادة إذا تعمد واضع الاسم أن يضعه مشابهًا لما سمي به شيء آخر. وهذا القسم يشتمل على أربعة أصنافٍ هي : المشابهة، والتناسب، والنسبة إلى مبدأٍ واحدٍ، والنسبة إلى غايةٍ واحدةٍ. فأما الاشتراك بحسب المشابهة فمثل الإنسان المصور والإنسان اللذين لا يشتركان بالمعنى بل بالمشابهة فقط. وأما الاشتراك بحسب التناسب فمثل قولنا “مبدأ” على القلب والعين معًا بالتناسب : إذ العين مبدأ للماء كالقلب هو مبدأ لجسم الحيوان(7). وأما بحسب النسبة إلى مبدأٍ واحدٍ، فكقولنا بالنسبة إلى لفظة طب : مبضع طبي، وعلم طبي، وعمل طبي، ووصية طبية، نازلين من الواحد إلى الكل. وأما بحسب النسبة إلى غايةٍ واحدةٍ، فكقولنا : هذا شراب صحي، وهذا طبيب صحي، وهذا مبضع صحي : فإنها كلها أشياء تؤم غايةً واحدةً الصحة.     

الفصل الثالث : في ما الشيء الذي يفحص عنه أرسطو في كتاب المقولات

   إن أول ما قد يسأل دائمًا هو : ما الأشياء الأولى التي أراد أرسطو أن يتكلم فيها. إنه يتكلم أولاً في الأمر الموجود(8)، وثانيًا في الأمر المتصور(9)، وثالثًا في الأمر المنطوق(10). إذ يكون أولاً كل الأشياء الحادثة بالطبيعة، ثم الأشياء المدركة بالحس التي بالبصر تحصل صورها في النفس، ثم يدل للغير بواسطة الألفاظ عن الأشياء المرتسمة صورها بالنفس. فإن كل ما هو صورة بالذهن يدل عليه باللغة. لكن أرسطو، على ما يرى علامة زماننا وفيلسوفه ثامسطيوس(11)إنما شرع بالفحص عن الأشياء المتصورة أعني صور الأشياء المرتسمة بالذهن : وإذ هو قد قصد إلى النظر في الأشياء المتصورة، فلا سبيل إلى ذلك حتى يتكلم أيضًا في الشيء الموجود وفي الشيء المنطوق. فإن الصور هي حادثة عن الشيء الموجود، والحس يكون بالبصر(12). ولكنه لا يمكن أن ندل على الصور إلا ببيانها بواسطة الكلام. لذلك فإنه وإن كان البحث في الموجود هو بحثًا منفصلاً و متأخرًا، فإنه لا يمكننا أن ندفع أن يكون النظر هاهنا إنما تجتمع فيه الأمور الثلاثة، إذ كل قولٍ في الصورة فهو مشروط ضرورةً بذكرٍ لمنشأ الأشياء، وباستعمالٍ للعبارة. إذًا فسؤال بلا طائلٍ ذلك الذي يريد أن يعرف لم كان أرسطو قد بدأ كتابه بالكلام في المشتركة أسماؤها أو بين أحكامها إن كان الغرض إنما هو البحث في الأشياء المتصورة(13)، وذلك أنه ليس بالخافي أن ليس يمكن أن يقال إلا ما كان متصورًا، ولا يمكن أن يتصور إلا موجود حصلت منه الصورة بواسطة حس البصر.

إشارات على الفصل الثاني والثالث

1) ..ما حقيقتها لأن النظر البحت في الألفاظ هو من شأن اللغوي، وذلك له بالقصد الأول، أما المنطقي فإنما ينظر في الأشياء من جهة ما يعرض لها أن تكون مدلولةً بالألفاظ. أعني أن نظره في الألفاظ إنما بالقصد الثاني.

2) .. المتواطئة أسماؤها الأشياء التي تدل عليها الأسماء، إما أن تكون أسماؤها مختلفةً، وإما أن يكون اسمها واحدًا. والتي اسمها واحد، فإما أن تكون الحقيقة التي لكل واحدٍ منها بحسب ذلك الاسم مختلفةً، فتوصف إذًا بالمشتركة أسماؤها، مثال ذلك : العين الباصرة اسمها العين، وأيضًا عين الماء اسمها العين، فإذا أخذتا بحسب خصوصية دلالة اسم العين لهما، لا بحسب لا خصوصية هذه الدلالة، كدلالته بالتضمن على معنى الجسمية الثابت لهما معًا، قيل إن الاثنين اسم العين إنما يقال عليهما بالاشتراك. وإما أن تكون الحقيقة التي لكل واحدٍ منها بحسب ذلك الاسم واحدةً، فتوصف إذًا بالمتواطئة أسماؤها. مثال ذلك الكلب والفرس، فاسم الحيوان لهما يقال بالتواطئ، لأنه مع اشتراكهما في اسم الحيوان، فإن المعنى الذي للاثنين بحسب الاسم الواحد وهو الحيوانية، هو واحد بعينه.        

3) .. من المتفقة وبين أن موجب الاتفاق في اسم العلم الواحد المقول على أشخاصٍ كثيرةٍ، ليس اختلافها بحسب ذلك الاسم بمعنًى جوهري، كما في الكليات، بل بمعانٍ عرضيةٍ سيذكر المصنف لنا منها أمثلةً.

4) .. لا في الدال لقد قلنا إن المنطقي ينظر في الألفاظ نظرًا تابعًا لنظره في الأشياء. وهو قد عرض له النظر في الألفاظ من جهة أن غاية المنطقي إعطاء الأحكام الكلية لتحصيل مطلوبٍ مطلوبٍ صادقٍ، إما بحسب الظن والإقناع، كما في الأمور العملية والمدنية والسياسية، أوبحسب القطع واليقين كما في التعاليميات والطبيعيات والإلاهيات. وهذه الأحكام إنما تعرض للأشياء لا من حيث هي أشياء بل من حيث هي معانٍ وصور في النفس ثابتة من الأشياء. وهذه المعاني لا يمكن أن تعرف للغير إلا بواسطة الألفاظ الدالة. لذلك اقتضى نظر المنطقي في أحكام ترتيب المعاني من أجل المعرفة، أن ينظر أيضًا في أحكام الألفاظ وترتيبها من جهة دلالتها على المعاني المأخوذة بالقصد المذكور. وأنت تعلم أن المقدمة أو المطلوب إنما هو قضية جازمة، والقضية تنحل إلى موضوعٍ ومحمولٍ، أو مسندٍ ومسندٍ إليه. والقضية الصحيحة هي التي يكون موضوعها واحدًا ومحمولها واحدًا. إذًا فمتى صح أن الموضوع كان واحدًا والمحمول واحدًا، كانت القضية منطقيةً حقا. لذلك فلما كانت الأسماء المترادفة إنما تدل على شيءٍ واحدٍ، فإنها إذا استعملت كلها كانت في قوة الموضوع الواحد، أو المحمول الواحد، ولم يختل معها شرط الصحة. وهو لهذا السبب قد أهملها أرسطو، وكان سيكون لو خاض فيها دخولاً في مقصود اللغوي وخروجًا عن مقصود المنطقي.

   واعلم أنا قد ترجمنا هذه الجملة هكذا ” إنه كان يرى الواجب أن ينظر في المدلول، لا في الدال”، والموجود في الترجمة الفرنسية هذا “c’est parce qu’il a pensé devoir traiter non de ce qui est signifié, mais de ce qui signifie” ” الذي كان سيكون نقلها هكذا “إنه كان يرى الواجب أن ينظر في الدال، لا في المدلول” وهو خلاف المعنى. ولا شك في خطأ المترجم. كذلك فالعبارة في المتن اللاتيني، على ما لي من معرفةٍ واهيةٍ باللاتينية، إنما هي موافقة للمعنى الصحيح، إذ فيها “idcirco quod de his quae significantur, non de his quae significant disserendum putavit.”” فصيغة “significantur” إنما هي اسم مفعولٍ جمع من مصدر “significare”.

5) .. لكثرتها ونظير ما للسيف من أسماء مترادفةٍ في اللاتينية، في العربية: السيف، والصارم، والحسام، والمهند.

6) .. إلى الثانية لكنه هو يبحث في الأشياء من حيث ما دلالة الألفاظ عليها. لذلك كان هذا البحث منطقيا لا فلسفيا مثلاً.

7) .. لجسم الحيوان قد يكون لشيءٍ مع شيءٍ حال ما. وهذه الحال تقال نسبة. فمثلاً الواحد له مع اثنين حال ما وهي النصفية. فإذا كان شيء ثالث له مع شيءٍ رابعٍ حال هي بعينها حال الأول مع الثاني، قيل نسبة الثالث إلى الرابع هي بعينها نسبة الأول إلى الثاني، أو قيل الأشياء الأربعة هي متناسبة. وفي المثال، فإن حال العين إلى الماء في كونها مبدأً هي بعينها حال القلب إلى الجسم.

8) .. الأمر الموجود وهو نفس قسمة الموجودات إلى الأجناس العشرة، ورسم كل جنسٍ جنسٍ وذكر ما له من خواص.

9) .. الأمر المتصور لأن المحسوس إذا صار متصورًا، عرضت له المعاني المنطقية التي هي الشخصية، والكلية والجنسية، والنوعية، إلى غير ذلك. وهو بذلك إنما يصير موضوعًا لحملٍ، أو محمولاً لموضوعٍ.

10) .. الأمر المنطوق لأن النطق هو تصوير للأمر المتصور في النفس ليعرفه الغير، وهو لابد أن يكون على هيئةٍ موافقةٍ للهيئة المتصورة من الأمر، مع ما قد يعرض لها من المعاني المنطقية المذكورة.

11) .. ثامسطيوس فيلسوف وخطيب يوناني من القرن الرابع الميلادي. له شروح وتلاخيص في بعض مقالات أرسطو، والمذكور له منها خاصةً تلخيص مقالة اللام تلخيصًا تاما علمناه مما أورده ابن رشدٍ في صدر شرحه على هذه المقالة.

12) .. بالبصر يريد بالحواس، فهو من الدلالة على الكل بالبعض.

13) .. المتصورة ليس فقط كذلك. أعني أن بحثه في المقولات ليس في الأشياء التي قد عرض لها أن تكون متصورةً، فذلك للعلوم والصنائع، ولا في الأشياء المتصورة، أي في صور الأشياء المرتسمة بالذهن، فذلك لعلم النفس، بل في ما عرض للأشياء من حيث إنه لصورها الحادثة عنها في النفس، أعراض ما.  

الفصل الرابع : في المشتقات وفي أن المشتقة أسماؤها مخالفة للمتفقة أسماؤها 

فإذ تقرر ذلك فلننظر في أمر المشتقة أسماؤها التي هي وسط بين المتفقة والمتواطئة، والتي لولا أنها قد جمعت بين خواص هاتين معًا لما صح لها الاسم المذكور، على معنى أنه لها شركة في الاسم كما في المتفقة، وشركة في المعنى كما في المتواطئة. ومثال ذلك قولنا حكيم من الحكمة(1) أو طبيب من الطب، إذ الطبيب والطب إنما يتشابهان بالاسم والمعنى. إذًا فأن ينعت الشيء الذي لقب من شيءٍ بحسب اسمه(2) بالمشتق هو صواب وسديد. لكنه ولمنع التوهم بأن لا فرق بين المشتقة والمتفقة المأخوذ اسمها في اليونانية من لفظة     ، أي المشابه، فلا بد من أن نبين هذا الفصل وهو أن المشتقة وإن كان لها شركة في الاسم بسبب المشابهة في الاسم، فإن اسمها هو مشتق من اسم الشيء الذي وضع له الاسم(3). مثال ذلك : لفظة حكمةٍ اشتق منها اسم الحكيم، فقيل رجل حكيم، وموعظة حكيمة. إذًا فالموعظة الحكيمة والرجل الحكيم إذا قيس الاسم منهما إلى الآخر، قيل إنهما من المتفقة أسماؤها(4)، وأما إذا قيس كلاهما إلى اسم الحكمة، قيل إنهما من المشتقة أسماؤها. وأنت ترى أن اختلاف المشتقة من الاسم الأول إنما يكون بتغيير المقطع الأخير، وأن أواخرها مخالفة لآخره(5). مثال ذلك آخر لفظة  هو غير آخر لفظة ،  ذلك إذًا ما به تخالف المشتقة المتفقة، مع كونها لها أيضًا شركة في المعنى كما في المتواطئة. فمثلاً لو لفظة “فاجر” قد أخذت من “خبثٍ”، فهي توافق المتواطئة بالمعنى، وتباين المتفقة بالاسم. إذ بين أن “فاجر” و”خبث” متشابها المعنى، لكن الاسمين مختلفان بالكلية. أما الاسم المشتق “خبيث”، والاسم المشتق منه “خبث” فبين أنهما يتشابهان معًا في الاسم وفي المعنى. وإذ قد تحمل لفظة كهذه       أي “حكمة”، هكذا “أقوال حكمة”، من غير أن يتغير المقطع الأخير(6)، فإن الاسم إذًا لا يوصف بالمشتق بل بالمتفق، وقس عليه أيضًا كل اسمٍ آخر شبيهٍ به. ثم لتعلم أن الألفاظ منها البسيطة(7) ومنها المركبة. ومثال المركبة قولك : الفرس يعدو. والألفاظ بسيطة إذا كان قولها بإفرادٍ مثل : فرس، يعدو. هنا انقضى الكلام في المدلولات.

إشارات على الفصل الرابع

1) .. من الحكمة أي ما يدل عليه اسم الحكيم، وما يدل عليه اسم الحكمة، يشتركان أولاً في الاسم، لا على جهة التشابه التام كما في الاشتراك، بل على جهة أن أحد الاسمين هو المثال الأول، وهو الحكمة، والثاني هو نفس الأول بعد تصريفه بالاشتقاق، وهو الحكيم، وذلك شبه المشتق بالمشترك. كذلك المعنى المدلول عليه بالحكمة هو بعينه المدلول عليه بالحكيم، لكن الحكيم إنما يدل مع دلالته على معنى الحكمة، على أنها معنًى في موضوعٍ. وذلك شبه المشتق بالمتواطئ. 

2) .. بحسب اسمه بحسب اسم الشيء، وهو الاسم الدال على المعنى المجرد، والمثال الأول، مثل حكمةٍ. والشيء الذي يتخذ له اسم مشتق من ذلك المثال الأول، يسمى “المشتق الاسم”، مثل حكيمٍ.

3) .. له الاسم وهو المثال الأول والاسم المستقيم.

4) .. المتفقة أسماؤها يريد أن الاسم هو لها واحد غير مختلفٍ بأي نحوٍ من أنحاء التصريف، وليس حال أحد الاسمين من الآخر حال المشتق من المشتق منه، وليس مراده أنها متفقة بالاتفاق البحت، إذ لا جرم أن الموعظة الحكيمة، والرجل الحكيم، مع اشتراكهما في الاسم إنما يشتركان أيضًا في بعض المعنى الواحد الموجود في الرجل وفي الموعظة.

5) .. مخالفة لآخره في العربية قد يكون الاشتقاق من الاسم بزيادةٍ في آخره، لا بتغيير آخره فقط كما في المثال هاهنا، مثل “نحوي”، المشتق من الاسم المستقيم “نحو”، بزيادة ياءٍ مشددةٍ في آخره. وقد يكون أيضًا بزيادةٍ في أوله، مثل “أبيض” المشتق من البياض.

6) .. المقطع الأخير وهنا يكون الاسم منقولاً لا مشتقا. وهذا المثال في اللاتينية يشبه ما يوجد في العربية من حملٍ لبعض المصادر، مثل “رجل عدل”، و”امرأة عدل”، و”قوم عدل”.

7) .. البسيطة اللفظ البسيط هو الذي لا يدل جزء منه على جزء المعنى الذي يدل عليه كله، وإن كان ذا معنًى. مثال ذلك : “أسد” اسم يدل على حيوانٍ بعينه، و”أ” هي جزء الاسم وليس لها معنًى أصلاً. وأيضًا “عبد الملك” اسم لرجلٍ بعينه، و”الملك” وإن كان له معنًى بمفرده، لكنه ليس جزءً من معنى اسم “عبد الملك”، إذ أن عبد الملك بن مروان، مثلاً، لم يكن عبدًا لملكٍ ما.

الفصل الخامس : في الجوهر. – وفي العرض.

   ولننظر الآن كيف كان كلام أرسطو في الأمور الموجودة. فهي إما أن تكون الأشياء المدركة بالحس، وإما أن تكون أشياء حاصلةً في الذهن(1). والمدركات بالحس هي المبصرات والملموسات والمسموعات والمذوقات والمشمومات. والمدركات بالذهن فكحينما نبصر فرسًا ما أو إنسانًا ما أو حيوانًا ما، فنعلم بأن هذا هو جسم ما، فنعلم بهذا العلم أنه مركب من أجزاءٍ كثيرةٍ. مثل أن الرأس هو جزء والساق جزء وكذا سائر الأعضاء. والرأس أيضًا ذو أجزاءٍ كالأذن وكاللسان. وآحاد الأجزاء أيضًا هي ذوات أجزاءٍ منحازةٍ، مثل أن اللحم هو جزء والجلد جزء والعروق جزء والأعصاب جزء والشعر جزء. إذًا فبالذهن إنما تحصل هذه المعاني التي ليست تقع تحت الحس(2). كذلك فهو بعملٍ من الذهن إنما يحصل لنا العلم بأن الإنسان أو غيره من الحيوان، فيمكن أن ينمو أو أن يهرم أو أن يسكن أو أن يمشي، أو أن تختلجه الهموم أو أن يكون ناعم البال مطمئن الخاطر أو أن يكون صحيح البدن وأحيانًا به وجع، أو أنه يمكن أن يتغير من الأبيض إلى الأسود أو من الأسود إلى الأبيض، أو من البليد إلى الحاذق، أو من الجاهل إلى العالم، أو من الحليم إلى القاسي، أو من القاسي إلى الحليم(3). إذًا فالعلماء لما تبينت أن الأشياء منها المعلوم بالحس ومنها المعلوم بالذهن، وسمت كلا الصنفين باسمٍ مخصوصٍ : فسمت المعلوم بالحس “أوزيا” أي الجوهر، وسمت المعلوم بالذهن وهو دائم التغير            أي العرض(4). وإذ هو بين أن الأعراض إنما تقوم بالجوهر الثابت، فإنها قد أحبت أيضًا أن تنعت الجوهر ب         ، أي الموضوع(5)، وليس هو الذي في موضوعٍ. أما الأعراض فقد نعتتها ب               أي التي في موضوعٍ(6). ثم لتعلم يقينًا أنه كما أنا نقر بأن الجوهر هو قبل الأعراض(7)، كذلك فإنا نقر أيضًا بأن اللامنقسم المسمى في اليونانية “أطوما”، أو الفرد المسمى في اليونانية “كاط إيكسطون”، مثل هذا الإنسان المشار إليه، أو هذا الأسد المشار إليه هو قبل الكلي النوعي، أو الكلي الحيواني(8).        

إشارات على الفصل الخامس

1) .. في الذهن لأن الذهن موجود، والحاصل في الموجود موجود. لذلك كانت الأشياء الحاصلة في الذهن من الموجودات أيضًا.

2) .. تحت الحس إن الحس لايلتقط من متعلقه إلا المحسوس الشخصي. فمثلاً بصري إنما يقع على جسمٍ ما، ويقع أيضًا في نفس وقوعه على الجسم على شيءٍ مدورٍ، وعلى شيئين مستقيمين في الأعلى، وشيئين مستقيمين في الأسفل، إلى غير ذلك. فهذا غاية ما يمكن أن ينال بحاسة البصر. لكن ما يحصل لي من إدراكٍ في نفس إبصاري للجسم بأنه كل، وبأن المدور هو رأس هو جزء من الكل، فليس بشيءٍ محسوسٍ ينال بالحس. إذًا فهو من إنشاء الذهن، وهو من الموجودات الذهنية. 

3) .. إلى الحليم يريد أن معنى الحدوث، أي معنى تجدد شيءٍ لشيءٍ، هو أيضًا من إنشاء الذهن وموجوداته، وليس من الأمور المحسوسة.

4) .. أي العرض لا ينبغي أن تفهم أن الجوهر فقط الثابت بالحس، وأن العرض كمادة مدرك بالذهن، لذلك كان عرضًا، فهذا واضح البطلان، فالبياض مثلاً هو عرض، وهو معلوم بالحس. بل المراد أن الجوهر الثابت بالحس، فإن ثبوته في نفسه هو نفس ثبوته في الحس. أما المادة العرضية، كالبياض، فإن ثبوتها في نفسها لا يكفي فيه أن تكون مدركةً بالحس، بل لا بد أن تكون أيضًا محفوفةً بمعنى أنها قائمة بغيرها، وذلك كونها عرضًا. وبين أن هذا المعنى إنما هو من إنشاء الذهن.    

5) .. الموضوع الموضوع الوجودي، وهو غير الموضوع الذي هو جزء القضية المنطقية. لأن المقصود به هاهنا إنما هو الشيء الشخصي المحسوس الثابت بنفسه، كزيدٍ المشار إليه. أما الموضوع المنطقي فقد يكون كلي الموضوع الوجودي، مثل الإنسان العام الذي هو نوع زيدٍ، وهذا ليس ذا وجودٍ في الأعيان أصلاً. وقد يكون عرضًا، مثل البياض الذي هو موضوع في هذه القضية “البياض هو لون”.

6) .. في موضوعٍ أي أن الأعراض هي التي نفس وجودها إنما وجودها في موضوعٍ الذي هو الجوهر الشخصي المحسوس.

7) .. قبل الأعراض يريد أن الجوهر متقدم بالوجود على الأعراض. والمتقدم بالوجود هو الذي إذا فرض ارتفاعه ارتفع الآخر، ولم يجب ارتفاعه هو إن فرض ارتفاع الآخر. 

8) .. الكلي الحيواني هذا الإنسان المشار إليه كزيدٍ، هو الجوهر الشخصي الموجود. أما الكلي النوعي الإنسان، فهو النوع، ويطلق عليه الجوهر الثاني، وهذا ليس بثابتٍ في الأعيان. وأيضًا الكلي الحيواني الحيوان، فهو الجنس، ويطلق عليه الجوهر الثاني، وليس بذي ثبوتٍ في الأعيان.     

الفصل السادس : ما يقال على موضوعٍ، وما يوجد في موضوعٍ.

Text Box: καθ έκαστονText Box: κοινὸν    ثم إن أرسطو يكر على الأشياء بما هي يدل عليها باللفظ ليبين كم هي الأنحاء التي بها إنما يدل عليها. إذًا فالموجودات منها ما يقال على موضوعٍ(1) وليست في موضوعٍ(2)، مثل الإنسان. فالإنسان يقال على موضوعٍ لأنه لا يمكن أن يقال إنسان إلا إذا كان شخص ما موجودًا يحمل عليه(3). أما الإنسان فليس هو موجودًا في موضوعٍ ألبتة(4)، لأنه هو أيضًا جوهر، والجوهر كما قلنا آنفًا ما لا يوجد في موضوعٍ أصلاً، بل إنما هو موضوع لغيره(5). ومنها ما ليس هو في موضوعٍ ولا يحمل على موضوعٍ، مثل شيشرون. فإنه ليس في موضوعٍ لأنه جوهر(6)، ولا يحمل على موضوعٍ أصلاً(7)، فلأن الاسم الدال عليه مخصوص به هو فقط، ولا يعم غيره(8). لقد قلنا إن الجوهر يقال بنوعين : الأول أعم ويطلق عليه “الكلي”(9)، وفي اللسان اليوناني    ، والثاني أخص ويطلق عليه “الجزئي”(10)، وفي اللسان اليوناني           . وأما الأعراض فتقال هكذا : فمنها ما هو في موضوعٍ ويقال على موضوعٍ(11)، مثل العلم واللون. وهي في موضوعٍ إذا كانت في النفس أو في الجسم. فالعلم لا يمكن أن يوجد إلا في النفس، و يمكن أن يقال على موضوعٍ، كالنحو مثلاً، واللون أيضًا لا يمكن أن يوجد إلا في موضوعٍ أي في جسمٍ، ويمكن أن يقال على موضوعٍ وهو لون ما(12). إذًا فهذه هي الأعراض التي توجد في موضوعٍ وتقال على موضوعٍ.

   ولكن من الأعراض أيضًا ما يوجد في موضوعٍ ولا يحمل على موضوعٍ(13)، مثل هذا النحو المشار إليه وهذا البياض المشار إليه. فكلاهما هو في موضوعٍ حقا، إما في نفسٍ أو في جسمٍ، ولا واحد منهما هو يقال على موضوعٍ ألبتة(14). على معنى أنهما ليس يستفيدان التسمية من الموضوع، بل لكل اسمه الخاص المخصوص. إذًا فالقسم الأول من الأعراض يطلق عليه “العرض العام”، والقسم الثاني الذي هو جزء الكل، فيطلق عليه “الجزئي”(15)، وفي اللسان اليوناني “كاط إيكسطون”. واعلم أن أرسطو توقيًا من أن يترك بيانه ناقصًا في موضعٍ، فترد عليه شكوك كثيرة، فإنه قد زاد استقصاءً معنى الموجود في موضوعٍ(16)، ووفاه رسمه، حتى يخرس لسان كل طاعنٍ. إذ هو قد رسمه هكذا:”الموجود في موضوعٍ هو الموجود في شيءٍ لا كجزءٍ منه، ولا يمكن أن يكون قوامه من غير الشيء الذي هو فيه”(17). وهو رسم قد زيد لأنه لقائلٍ أن يقول إن الإصبع أو الرجل أيضًا هي في موضوعٍ وهو البدن. لذلك فأرسطو إنما قد تحرز من هذا الاعتراض بهذا الرسم السديد جدا : “هو الموجود في موضوعٍ لا كجزءٍ منه”. أما الإصبع أو الرجل فمن البين أنها جزء في البدن. ولمستدركٍ أن يستدرك أيضًا : أليس الماء أو الخمر هو في الإناء كالذي في موضوعٍ. لكن الرسم المحيط قد منع هذا الاعتراض لما زيد فيه أن الشيء هو موجود في موضوعٍ ولا يمكن أن يكون خلوًا منه. أما الخمر والماء فمعلوم أنه قد يوجدان في الإناء أو في غير الإناء. فأنت ترى إذًا بأي صناعةٍ وحذقٍ قد وضع هذا الحد : إذ الجودة فيه إنما تكون بأن يبدأ أولاً بذكر العام جدا وهو الجنس، ثم ينحدر منه إلى الأقسام، قسمًا بعد قسمٍ، وصولاً إلى المعنى المطابق وحده للشيء المقصود بالحد. إذًا فتوفية الحدود هي كنحت التماثيل، إذ فكما في هذه إنما يؤخذ أولاً صخرة عظيمة، ثم ينفى عنها الزوائد بالتهذيب والتشذيب شيئًا بعد شيءٍ قبل أن تخرج صورة الوجه والأعضاء، كذلك في الحد إنما يؤخذ أولاً الجنس العام، ثم ينفى منه المعاني العامة الزائدة شيئًا بعد شيءٍ، طلبًا لحصر معنى المحدود بعينه، ما أمكن. ولكن لنعد إلى غرضنا الذي هو النظر في الموجود من حيث ما هو مدلول عليه باللفظ : وإذ كنا قد أشبعناه قولاً، فإن النتائج المستفادة منه إنما هي هذه : كل شخصٍ شخصٍ والواحد بالعدد واللامنقسم والمحسوس، كهذا الإنسان المشار إليه، أو هذا الفرس المشار إليه، أو هذه الشجرة المشار إليها، فلا يقال على موضوعٍ أصلاً(18). وأما إن كان الشخص أو الواحد بالعدد أو اللامنقسم أو المحسوس هو عرضًا، مثل لونٍ ما أو علمٍ ما، فإنه يكون في موضوعٍ(19). وهذا بين مما قلناه بأن العرض لا يوجد ألبتة خلوًا من الموضوع. إذًا فقد عرفنا المقول على الموضوع والموجود في موضوعٍ(20).    

إشارات على الفصل السادس

1) .. ما يقال على موضوعٍ يريد ما يحمل على الموضوع حملاً دالا على ذاته وجوهره.

2) ..ليست في موضوعٍ أي ليست محمولاً دالا من الموضوع على أمرٍ خارجٍ عن جوهره.

3) .. يحمل عليه يحمل عليه حملاً جوهريا.

4) .. في موضوعٍ ألبتة أي ليس يمكن أن نلفى للإنسان الكلي موضوعًا يحمل عليه حملاً خارجًا عن جوهره.

5) .. إنما هو موضوع لغيره على معنى أن الإنسان لو كان يقال على موضوعٍ من غير طريق ذاته، أي ذات الموضوع، لكان الإنسان الذي هو جوهر مما يقوم بغيره، وهذا خلاف معنى الجوهر. 

6) .. لأنه جوهر ولأنه ليس في موضوعٍ لأنه جوهر، فليس يمكن أن يحمل على الموضوع حملاً دالا على غير ماهيته.

7) .. على موضوعٍ أصلاً أي لا يحمل على الموضوع حملاً دالا على ماهيته أصلاً.

8) .. ولا يعم غيره إذًا فإذا حمل على غيره لم يدل على ذاته، لأنه مخصوص بشخصٍ واحدٍ، كشيشرون، أو كزيدٍ.

9) ..”الكلي” وأرسطو يسميه بالجوهر الثاني.

10) ..”الجزئي” وهو الجوهر الأول.

11) .. على موضوعٍ وهو العرض العام الذي هو في موضوعٍ، أي يحمل على الموضوع حملاً غير جوهري، لذلك فالاسم المحمول يكون مشتقا، خلافًا للكلي الجوهري : فمثلاً الكلي الجوهري الإنسان يحمل على زيدٍ بلا اشتقاقٍ، إذ يقال زيد هو إنسان. أما العلم الموجود في نفس زيدٍ، فإنما يحمل على زيدٍ بالاشتقاق، فيقال زيد هو عالم. وأيضًا العرض العام فهو يقال على موضوعٍ، أعني يحمل على موضوعٍ حملاً جوهريا، أعني يحمل اسمه بلا اشتقاقٍ على موضوعٍ، مثل العلم : فإنه يقال النحو هو علم، فالعلم جنس للنحو.

12) .. وهو لون ما فاللون هو عرض عام، لذلك فهو يحمل على الموضوع بالاشتقاق، مثل “سطح ملون”، وهو أيضًا يحمل على موضوعٍ حملاً جوهريا مثل لونٍ ما هو لون، و”ما” للتخصيص والتعيين، والمراد لون مخصوص، كالبياض، فيقال : البياض هو لون. فاللون محمول على البياض بلا اشتقاقٍ.  

13) .. على موضوعٍ وهو العرض الشخصي المشار إليه، كهذا البياض الذي يعلو هذه الخشبة.

14) .. موضوعٍ ألبتة أي أن العرض الشخصي لا يمكن ألبتة أن يقال على موضوعٍ قولاً جوهريا باسمٍ غير مشتق.

15) ..”الجزئي” أو الشخصي.

16) .. الموجود في موضوعٍ يريد أن أرسطو قد استقصى بيان معنى العرض، ووفاه رسمه التام بقدر الممكن.

17) .. من غير الشيء الذي هو فيه فالعرض هو “موجود في شيءٍ”، وهذا يفصله من الموجود المجرد من الكون في شيءٍ، مثل الماهية المجردة لو ثبت وجودها. “لا كجزءٍ منه”، وهذا يفصله من جزء الجوهر، لأن جزء الجوهر موجود في شيءٍ، وهو الكل، وجزء الجوهر هو جوهر أيضًا : مثل الهيولى، أو الصورة، فكلاهما جزء الجوهر المركب، وكلاهما جوهر. “ولا يمكن أن يكون قوامه من غير الشيء الذي هو فيه”، وهذا يفصله من الشيء الموجود في شيءٍ، وليس بجزءٍ من الشيء، كالماء الموجود في الإناء : فهو موجود في الإناء، وليس بجزء الإناء، إذ قد يفارق الإناء، ويبقى الإناء بحاله، والماء ماءً، بل الماء هو جوهر. أما العرض، فلا يمكن أن يكون قوامه خلوًا من الشيء الموجود فيه كالبياض، فإنه لو باين السطح، انتفى في نفسه.

18) .. على موضوعٍ أصلاً ولا يوجد في موضوعٍ. وهو شخص الجوهر.

19) .. يكون في موضوعٍ ولا يقال على موضوعٍ. وهو شخص العرض.

20) .. والموجود في موضوعٍ فالمقول على الموضوع هو الكلي الجوهري، ولا يوجد في الموضوع. والموجود في الموضوع، وهو يقال على الموضوع، فهو الكلي العرضي.

الفصل السابع : في رسم الجنس والنوع.            

   ثم إن أرسطو يرينا كيف يمكن أن نعرف الشيء المحمول على الموضوع. وذلك بالإشارة إلى هذه الخاصة وهي أن الموضوع إنما يحمل عليه المحمول على المحمول على الموضوع. مثال ذلك إن الحيوان يحمل على موضوعٍ كالإنسان أو الفرس، والإنسان أيضًا يحمل على موضوعٍ وهو شخص الإنسان. لكن شيشرون مثلاً، هو معًا إنسان وحيوان. إذًا فكل ما يحمل على الحيوان يحمل على الإنسان وعلىشيشرون. لذلك فإن كل ما يوجد لما يحمل على الموضوع موجود بالضرورة للموضوع. مثل أن الحيوان هو مغتذٍ مائت حساس، والحيوان هو محمول على الإنسان، إذًا فهذه الأشياء بعينها هي محمولة بالضرورة على الإنسان، ولأنها محمولة على الإنسان، فهي محمولة أيضًا على سقراط. على معنى أن سقراط هو موضوع تحت الإنسان الكلي، والإنسان موضوع تحت الحيوان. إذا فكل ما يقال على ما يقال على الموضوع يقال أيضًا على الموضوع. لكن الأشياء التي لا تعرف بذاتها هي دائمًا محمولة على موضوعٍ : مثل الحيوان فإنه لا يعرف إلا إذا كان محمولاً على موضوعه الإنسان، ومثل الإنسان أيضًا الذي لا يعرف إلا إذا كان محمولاً على شخص الإنسان المشار إليه والموضوع. وإذ أن أرسطو هاهنا سيأخذ في الكلام عن أجناس المقولات كلها والأنواع والفصول، فحري أن نذكر أولاً ما الجنس وما النوع وما الفصل.

   فالجنس(1) هو المقول قولاً ذاتيا على كثرةٍ مختلفةٍ بالنوع، كالجوهر. فالجوهر هو كلي ينقسم إلى أنواعٍ كالحيوان أو الحجر(2). إذًا فمن الأشياء ما يعمها اسم واحد وتختلف بالنوع. والفصل هو ما يدل من كل شيءٍ شيءٍ من أشياء مختلفةٍ ليس على ما ذاته(3)، بل على أي شيءٍ هو في ذاته(4): مثل الحيوان الذي ينفصل فيه الماشي والطائر والسابح وذو الرجلين وذو الأربعة أرجلٍ. إذًا فالنوع يعرف به الجنس والفصل. على معنى أنه بالنوع يمكن أن نعرف ما الجنس وما الفصل(5). وأما النوع الذي قد يسميه بعضهم بالصورة، فهو المقول على كثيرين مختلفين بالعدد(6)، ويدل في واحدٍ واحدٍ على حقيقةٍ واحدةٍ كالإنسان. فلفظة الإنسان إنما تحمل على أفراد الإنسان المختلفين بالعدد، وتقال على واحدٍ واحدٍ منه، أعني على الأول وعلى الثاني وعلى الثالث. ثم لتكن هذه الأمثلة على كل ما ذكرنا : فمثال الجنس الحيوان، ومثال الفصل ذو الرجلين أو ذو الأربعة أرجلٍ، ومثال النوع الإنسان أو الفرس. واعلم أن الجنس لا يخلو ألبتة من الفصل(7)، والفصل أيضًا لا يخلو أبدًا من النوع(8). لذلك فإن الأسود والأبيض لا يوجد لهما فصل أصلاً(9)، لأنه لا يتولد منهما أي نوعٍ. فإنه ليس لواحدٍ أن يدعي لهما ولو نوعًا واحدًا.

   وبعد هذا الاستطراد الذي بينا فيه على الانفراد ما الجنس والفصل والنوع، فلنعد الآن إلى كلام أرسطو. إذ المستفاد من مذهبه أن الفصول والأنواع التي للأجناس المتباينة هي متباينة. فمثلاً نوع الجوهر وفصله إنما يختلفان عن اللذين للكيف أو عن اللذين للكم. فإن أنت أحببت أن تحصي فصول الحيوان قلت : طائر وذو رجلين ومشاء، أو أنواعه قلت : إنسان وطائر وفرس. لكن هو لا يمكن لفصلٍ من هذه الفصول أو لنوعٍ منها أن نلفاها أيضًا للعلم. لأن كلا الجنسين، أعني الحيوان والعلم هما متباينان. فالحيوان هو من مقولة الجوهر، والعلم من مقولة الكيف(10). وأما الأجناس التي بعضها مرتب تحت بعضٍ، ففصولها واحدة وأنواعها واحدة(11)، كالجوهر الذي من أنواعه الحيوان. وإذ الحيوان هو مقول على أشياء تحته، فهو أيضًا جنس كما كان نوعًا. لذلك فلما كان أحد الجنسين مرتبًا تحت الآخر، وكلاهما يسميه أرسطو           فإن فصول واحدٍ منهما هي بعينها فصول الآخر: مثال ذلك فصول الحيوان هي فصول للجوهر، أعني جوهرًا ذا رجلين ضاحكًا مائتًا. وأيضًا فصول الإنسان هي فصول الحيوان. فبين إذًا أن الفصول والأنواع في الأجناس المرتب بعضها تحت بعضٍ قد تكون واحدةً هي هي بعينها، وأما في الأجناس المتباينة فذلك ممتنع.

إشارات على الفصل السابع

1) .. فالجنس كل هذه الفقرة حتى “..نوعًا واحدًا” فليست من مبحث المقولات، بل هي زيادة من المصنف تذكيرًا بمعاني الكليات المنطقية الثلاثة : الجنس والنوع والفصل. 

2) .. أو الحجر الجوهر هو جنس عالٍ، والقسمة الأولى له بالفصول المقسمة إنما تعطي أنواعه القريبة. أما الحيوان والحجر، وما في مرتبتهما، فهي أنواعه بالقسمة البعيدة. لذلك فقد نضع الأنواع القريبة للجوهر : جسم، ولا جسم. 

3) .. على ما ذاته فالذي يدل على ما ذات الشيء إما أن يكون الجنس، كالحيوان الذي هو جواب لسؤال ما الفرس، وإما أن يكون حدا، وهو الماهية المركبة من جنسٍ وفصلٍ، كحيوانٍ صاهلٍ في جواب سؤال ما الفرس.

4) .. أي شيءٍ هو في ذاته والفصل إذا كان جوابًا بمفرده، فهو جواب لطلب كيف هو الشيء في ذاته، وبأي شيءٍ هو قد ثبت في ذاته. فمثلاً إن طلب ما الفرس، وكان الجواب بإعطاء الجنس : إنه حيوان. والحيوان يقال على أنواعٍ كثيرةٍ، فسيطلب أيضًا، وأي الحيوان. أي بما ينفصل النوع المسمى الفرس من سائر الأنواع الحيوانية، وكيف هي حيوانيته في نفسه : فالذي يجاب به يسمى “الفصل”، وهو صاهل.

5) .. وما الفصل لا شك أن الحد النوعي هو متأخر عن الجنس والفصل لأنه مركب منهما، لذلك فحد النوع إنما يعرف بالجنس والفصل لا العكس. أما مقصود المصنف هاهنا فهو أن الأنواع هي الموجودة، وأول الصور الحاصلة لنا بتجريد المحسوسات الشخصية إنما هي صور الأنواع. ثم إن الذهن يعمل فيها بالفصل والقياس، فتحصل له حينئذٍ صور أخرى كصورة الجنس وصورة الفصل. لذلك ما قال “..أنه بالنوع يمكن أن نعرف ما الجنس وما الفصل”

6) .. مختلفين بالعدد وهو النوع الأخير، أو نوع الأنواع.

7) .. ألبتة من الفصل الجنس هو جنس بالقياس إلى أنواعه. والنوع هو حقيقة مركبة من جنسٍ قريبٍ ومن فصلٍ. وإذ الأنواع التي تحت الجنس الواحد هي متباينة، فبين أن تباينها إنما هو بما فيها من فصولٍ، إذ المعنى الجنسي هو واحد لها كلها. لذلك فالفصل إذا قيس إلى النوع كان مقومًا له، وإذا قيس إلى الجنس، فلم يكن مقومًا له، بل كان مقسمًا. لأنه لو كان الفصل الموجود في النوع مقومًا أيضًا للجنس، لكانت كل الأنواع نوعًا واحدًا. لذلك فقول المصنف ” واعلم أن الجنس لا يخلو ألبتة من الفصل” إنما يريد به أن الجنس لا يخلو ألبتة من فصولٍ مقسمةٍ لا من فصولٍ مقومةٍ. لأن التقويم للفصل لا يقال إلا بالقياس إلى النوع. وأيضًا فليس كل جنسٍ هو نوعًا، إذ الجنس العالي ليس بنوعٍ، لذلك فله فصول مقسمة محدثة لأنواعه، وليس له فصل مقوم أصلاً.

8) .. لا يخلو أبدًا من النوع على معنى أن الفصل أبدًا إنما هو كيفية في الجنس. إذ كما لا يمكن أن توجد كيفية مجردةً عن موضوعها، كذلك فلا يمكن أن يوجد فصل مجردًا من الجنس. إذًا فوجود الفصل يلزمه على جهة الدليل لا العلية أن يكون الجنس المكيف بالفصل موجودًا. والجنس المكيف بالفصل إنما هو النوع. فذلك ما معنى قوله “..والفصل أيضًا لا يخلو أبدًا من النوع”.  

9) .. لهما فصل أصلاً الأبيض والأسود ليس لهما فصل أصلاً، أي الفصل المقسم، أما الفصل المقوم فلهما قطعًا : فالأبيض هو نوع لوني متقوم من جنس “اللون” ومن فصل “مفرق للبصر”، والأسود نوع لوني متقوم من جنس “اللون” ومن فصل “قابض للبصر”. ولكن لما كان كلاهما نوعين أخيرين، لم يدخل تحتهما إلا المختلف بالعدد. فلو جاز أن يكون لهما أيضًا فصول مقسمة، لكانت تلك الفصول مقومةً لأنواعٍ تحتهما، وبطل أن يكونا نوعين أخيرين.  

10) .. والعلم من مقولة الكيف أي أي نوعٍ من الأنواع، أو أي فصلٍ من الفصول المقومة أو المقسمة للأجناس التي تحت جنسٍ واحدٍ أعلى، فلا يمكن أبدًا، ولا واحد منها أن يكون موجودًا تحت أي جنسٍ أعلى آخر.

11) .. وأنواعها واحدة لقد قلنا إن الجنس الأعلى، كالجوهر ليس له فصل مقوم، وله فصول مقسمة هي مقومة للأنواع التي تحته. وهذه الأنواع التي هي أنواع بالإضافة إلى الجنس المحيط بها، هي أيضًا أجناس بالإضافة إلى أنواعٍ أخرى تحتها حادثةٍ من قسمتها هي بعينها بفصولٍ أخرى، وهكذا إلى الأنواع الأخيرة المنقسمة بالأعراض فقط، والمقولة على كثيرين مختلفين بالعدد. لذلك فإنه إذا أخذت فصولاً مقسمةً لأي جنسٍ في أي مرتبةٍ ما بين الجنس الأعلى والأنواع الأخيرة، فإن تلك الفصول بعينها يمكن أن تقسم الجنس القريب المحيط بالجنس المقسم، وأيضًا الجنس القريب المحيط بالجنس الثاني، وأيضًا الجنس القريب المحيط بالثالث إلى الجنس الأعلى المحيط بالكل. مثال ذلك : 

   ففرس هو حساس صاهل، وكلب هو حساس نابح. فالصاهل والنابح فصلان مقومان للنوعين الفرس والكلب، ومقسمان للجنس القريب الحساس. لكن الحساس هو تحت الجنس المغتذي، والمغتذي هو تحت جنس الجسم، والجسم هو تحت جنس الأجناس الجوهر. إذًا، فالفصول المقسمة لجنس الحساس يمكن أيضًا أن تكون مقسمةً للأجناس المترتبة العليا. على معنى أنه يمكن قسمة الجسم مثلاً هكذا : جسم صاهل، وجسم نابح. فأما إذا كانت الأجناس متباينةً ولو كانت في مرتبةٍ واحدةٍ فلا يمكن ذلك. مثاله :  

   فالحيوان جنس من مقولة الجوهر، واللون جنس من مقولة الكيف، فكلاهما متباينان، ومن مرتبةٍ واحدةٍ، لأنه كلاهما جنس قريب. إذًا فالفصول المقسمة للحيوان والمقومة مثلاً للفرس والكلب، وهما صاهل ونابح، ليست مقسمةً لجنس اللون، ولا لأي جنسٍ أعلى محيطٍ بجنس اللون. وكذا الأمر إن أخذت فصول اللون.   

الفصل الثامن : القول في المقولات بإجمالٍ.       

   ثم إن أرسطو يعود إلى الأمور بما هي مدلول عليها بالألفاظ. وقد قلنا إن البحث في أحدهما يوجب البحث في الآخر، إذ المتكلم إنما يقول شيئًا، والشيء لا يمكن أن يفهم الغير إلا بواسطة الكلام. إذًا فالألفاظ إذا أخذت مفردةً دلت على واحدٍ من هذه المعاني(1) : إما على جوهرٍ وإما على كم وإما على كيفٍ وإما على إضافةٍ وإما على وضعٍ وإما على أن يفعل وإما على أن ينفعل وإما على أينٍ وإما على متى وإما على له. فهذه هي المقولات العشر، وأولها الجوهر، وسائرها جميعًا إنما قوامه بالجوهر، على معنى أن التسع الباقية هي أعراض ويمكن أن نقسمها إلى أصنافٍ ثلاثةٍ : إذ صنف موجود في الجوهر(2)، وصنف موجود خارج الجوهر(3)، وصنف موجود معًا في الجوهر وخارج الجوهر(4) : أما الكيف والكم والوضع ففي الجوهر، إذ إذا أشير إلى جوهرٍ ما، كإنسانٍ ما أو فرسٍ ما، فسنتبين فيه ضرورةً أنه ذو رجلين أو ذو أربعة أرجلٍ، وأنه أبيض أو أسود، وأنه واقف أو متكئ. فكل هذه الأشياء موجودة في الجوهر ولا يمكن أن تكون خلوًا منه. والتي هي خارج الجوهر فالأين والمتى وله : إذ الأين والمتى والثوب والهوى إنما هي أشياء مباينة للجوهر ليست بموجودةٍ فيه. وأما الأخرى فهي موجودة معًا في الجوهر وخارج الجوهر، وهي : الإضافة، وأن يفعل، وأن ينفعل. فمثال الإضافة أكبر أو أصغر. فلا يمكن أن نقول واحدًا منهما إلا إذا كان شيء آخر هو أكبر أو أصغر. وأيضًا أن يفعل هو موجود معًا في الجوهر وخارج الجوهر، إذ لا يمكن أن يصح أن ضاربًا يضرب إلا بمضروبٍ، أو قارئًا يقرأ إلا بقارئٍ و بمقروءٍ. إذًا فهذا العرض مما يوجد في الجوهر وخارجه معًا. وكذا الأمر في أن ينفعل، إذ كل مضروبٍ أو مكوي بالنار فله ضرورةً فاعل ينفعل منه. لذلك فهو عرض موجود معًا في الجوهر وخارجه. وكل واحدةٍ من هذه الأعراض إذا أخذت مفردةً فليست تثبت شيئًا(5). فإذا ركبت بعضها إلى بعضٍ حينئذٍ يحدث قول(6). والقول ينقسم أولاً إلى هذه الأنواع الأربعة : إلى الأمر، وإلى المتضرع، وإلى السائل، وإلى المنادى(7). ولكن هذه الأجناس الأربعة من القول هي منفصلة وناقصة المعنى : إذ لا الأمر ولا التضرع ولا السؤال ولا المنادى يستقيم فهمه إلا باقترانه بهذا الجنس من القول وهو القول الجازم(8) الذي يحكم بثبوت شيءٍ أو رفعه، وأما الحكم بالثبوت فيسميه أرسطو إيجابًا، مثل “السماء تتحرك دورًا”، وأما الحكم بالرفع فيسميه سلبًا، مثل “السماء ليست تتحرك دورًا”. كذلك فالقول الجازم إما أن يكون صادقًا وإما أن يكون كاذبًا(9). لذلك فإن أرسطو قد أهمل أقسام القول الأربعة الأولى بأنها من شأن النحاة أو الخطباء، وانصرف فقط إلى القول الجازم بأنه هو الذي من شأن الفلاسفة.    

إشارات على الفصل الثامن  

1) .. واحدٍ من هذه المعاني أي أن المعاني المفردة المستفادة من كل الأمور المحسوسة هي هذه العشرة. فالألفاظ الموضوعة بإزائها ليدل بها عليها لدى السامع توصف أيضًا بالمفردة، وعددها عشرة كالمعاني.

2) .. موجود في الجوهر وهي الأعراض الملابسة للجوهر.

3) .. خارج الجوهر وهي الأعراض الغير ملابسةٍ للجوهر بأي جهةٍ، لكنها غير خاليةٍ من نسبةٍ ما به، وإلا لما كانت أعراضًا له على الخصوص.

4) .. في الجوهر وخارج الجوهر وهي الأعراض التي من جهةٍ هي ملابسة للجوهر، ومن جهةٍ غير ملابسةٍ.

5) .. فليست تثبت شيئًا بل هي فقط مدركة أو غير مدركةٍ. وحصولها في النفس اكتساب محض بانفعال الحس من المحسوس. لذلك فالمعنى المفرد هو متزه من زيادةٍ تطرأ عليه من عمل الذهن.

6) .. يحدث قول والقول هو تركيب للألفاظ المفردة محاكيًا للمعاني المركبة. والمعاني المركبة إنما تصير مركبةً بعملٍ من الذهن.

7) .. وإلى المنادى  أ) الأمر : قم يا فتى. ب) التضرع : اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. ج) السائل : هل جاء زيد. د) المنادي : يا زيد. وهذه الأصناف الأربعة من القول وإن كانت معانيها مركبةً، فإنها لا تقبل الصدق و لا الكذب.

8) وهو القول الجازم الأصناف الأربعة المذكورة لا يستقيم فهمها إلا بالصنف الخامس، وهو القول الجازم، فمن قبل أن هذه ليست مقصودةً لذاتها، بل هي من أجل الشيء الذي يدل عليه بالجزم : فالأمر قم يازيد، إنما هو في نفسه طلب لحالٍ متأخرةٍ عن الأمر يكون فيها زيد قائمًا، والقول الواصف لها هو قول جازم. وقس عليه الأصناف الثلاثة الباقية.

9) .. أن يكون كاذبًا القول هو ما يوصف بالصدق والكذب. أما الأشياء فتوصف بالحق وبالباطل. والقول يكون صادقًا إذا كان مطابقًا للأشياء كما يصفها، ويكون كاذبًا إذا كان غير مطابقٍ. والقول يكون مطابقًا إذا إن هو أوجب شيئًا لشيءٍ، كان أيضًا في الأعيان الشيء ثابتًا للشيء، وإن هو سلب شيئًا عن شيءٍ كان أيضًا في الأعيان الشيء مسلوبًا من الشيء. ويكون كاذبًا إذا إن هو أوجب شيئًا لشيءٍ كان في الأعيان الشيء مسلوبًا من الشيء، وإن هو سلب شيئًا عن شيءٍ، كان في الأعيان الشيء ثابتًا للشيء.

الفصل التاسع : في الذات أو الجوهر.- في الجوهر المقول بالتحقيق وفي الجوهر الثاني.

   وإذ قد قيل فيما لا بد منه للمتكلم، فإنه كان واجبًا بعدئذٍ من الشروع في تعريف المقولات مقولةً مقولةً. ولما كان الجوهر لا يمكن أن يبين بالحد العلمي لأنه سيقتضي أن يذكر فيه أولاً الجنس العام، لكن الجوهر هو جنس ليس من جنسٍ أعلى منه(1)، فإن أرسطو قد اتخذ لبيانه طريق بيان أقسامه، غير مقتصرٍ فقط على بعض التعريفات. إذًا فالجوهر المقول بالتحقيق والتقديم هو الذي لا يقال على موضوعٍ ولا هو في موضوعٍ مثل هذا الإنسان المشار إليه، وهذا الفرس المشار إليه. وأما التي يقال فيها إنها جواهر ثوانٍ فهي الجنس والنوع، مثل الحيوان والإنسان. ويقول أرسطو إن هذه قد سميت بالجواهر الثواني فلأن الأولى هي متقدمة عليها، أعني التي لا تقال على موضوعٍ و لا توجد في موضوعٍ(2). ولكن الأجناس والأنواع هي موصوفة بالجواهر الثواني فلأنها هي فقط المحمولة على الجواهر الأولى(3). مثلاً لو أحد لم يرم نطق اسم سقراط أو كان جاهلاً به، فإنه لو دل عليه بلفظة الجنس وهي حيوان، أو لفظة النوع وهي إنسان، فقد دل على ماهية سقراط. أما لو دل عليه بغير ذلك كقوله “يعدو أو يتنزه” فلن يفيدنا هذا به أي معرفةٍ أصلاً. وأنت تعلم أن الأشياء المحمولة على الموضوع إنما يحمل على الموضوع اسمها وحدها(4). مثال ذلك اسم “إنسان” هو محمول على هذا الإنسان المشار إليه، وأيضًا حد هذا المحمول على الموضوع هو محمول على الموضوع. والأنواع من الجواهر الثواني أولى بأن تسمى جوهرًا من الأجناس، لأنها أقرب إلى الجواهر الأول من الأجناس. وذلك أن الجواب بالنوع عند السؤال عن ماهية جوهرٍ ما أولٍ أكمل تعريفًا من الجواب بجنسه. مثال ذلك لو رام قائل أن يقول ما هو سقراط كاتمًا لاسمه، كان قوله بأنه إنسان أكمل تعريفًا من قوله بأنه حيوان، إذ لفظة “حيوان” إنما تدل أيضًا على فرسٍ ما أو نسرٍ ما. ودليل آخر وهو أن الجواهر الأولى هي موضوعة لسائر الأمور(5)، كذلك فإن الأنواع هي موضوعة للأجناس، وهي بذلك أولى باسم الجوهر من الأجناس(6).

   واعلم أنه ينبغي أن نتبين إن كان الذي نظنه بأنه نوع فقط إنما هو أيضًا جنس، مثل “حيوان”(7). فأما إن قيل : إنسان وفرس وسمك وطير، فهل هذه كلها أنواع فقط. لا شك في أن “إنسان” و”فرس” كلاهما هو نوع فقط(8). أما “سمك” و”طير”، فكلاهما جنس ونوع معًا. فإن صور السمك هي مختلفة وكذلك صور الطير(9). لذلك يوصفان بالجنس وبالنوع. لكن الأشياء التي هي نوع فقط مثل “إنسان” و”فرس” و “نسر” و “ثور” فإنها جواهر من مرتبةٍ واحدةٍ، على معنى أن الإنسان في كونه جوهرًا ليس أكثر أو أقل من الفرس في كونه جوهرًا أو النسر أو الثور. ثم إن أرسطو بعد أن بسط القول في أصناف الجوهر، فقد قصد إلى بيانها بطريقٍ آخر وهو أن يذكر ما يوجد لها بالطبع والضرورة. فالموجود بالطبع(10) لنوعٍ نوعٍ، فإما أن يوجد للنوع وحده ولكل أفراده، أو للنوع وحده وليس لكل أفراده، أو لكل أفراده وليس له وحده، أو ليس له وحده وليس لكل أفراده. فمثال الأول : أن يرسم(11) راسم الإنسان بأنه موجود قوي على الضحك. فهذا يوجد للنوع وحده ولكل أفراده، لأن خاصة الإنسان أنه ضاحك، وكل إنسانٍ أيضًا هو ذو قوةٍ بالطبع على الضحك. ومثال الثاني : أن يرسم راسم الإنسان بأنه موجود عالم، فهذا يوجد للنوع وحده، وليس بموجودٍ لكل إنسانٍ إنسانٍ، فليس كل إنسانٍ هو عالمًا(12). ومثال الثالث : أن يرسم راسم الإنسان بأنه موجود يمشي ويأكل الطعام. فهذا يوجد لكل أفراد النوع، وليس له وحده. إذ أن يمشي وأن يأكل الطعام هو موجود لكل إنسانٍ، لكن ليس للإنسان فقط، بل الدواب الأهلية والسباع أيضًا هي مما يمشي ويأكل الطعام. ومثال الرابع أن يرسم راسم الإنسان بأنه موجود أبيض. فهذا ليس  يوجد للنوع فقط، وليس لكل أفراده، إذ البياضية ليست موجودةً للإنسان وحده، وأيضًا ليس كل إنسانٍ هو أبيض، و لا كل ثورٍ ولا كل فرسٍ. إذًا فهناك أمران نافعان في معرفة الشيء، وأمران غير نافعين: فأولاً ما لا يوجد للنوع وحده، ولا يكون لكل أفراده. وثانيًا، ما يوجد لكل أفراد النوع، ولا يكون له وحده، فكلاهما غير مفيدٍ وينبغي تركه(13). أما الصفتان الباقيتان فكلاهما يفيد فائدةً صحيحةً في معرفة الشيء الذي هي موجودة فيه، أعني : أولاً ما يوجد للنوع وحده ولكل أفراده، إذ لا شك أن مثل هذه الصفة هي مبينة حقا للشيء الموجودة فيه. وثانيًا، ما يوجد للنوع وحده، وليس لكل أفراده. وهذه دون الأولى في قوة البيان، وإنما ينبغي ضرورةً أن نستعملها لرسم شيءٍ ما، كلما تعذرت علينا الأولى. إذًا فأرسطو حتى يعطي رسمًا للجوهر بدأ بذكر أقسامه قبل بيان خواصه. لذلك فهو يقول بأن هناك جواهر ثوانيًا هي قد استحقت اسم الجوهر لوجود معنًى فيها موجود للجوهر الأول. وهذا المعنى المشترك هو أن كل جوهرٍ لا يوجد في موضوعٍ. وإذ لا الجنس ولا النوع هو موجود في موضوعٍ، استحقا بلا مريةٍ أن يوصفا بالجواهر الثواني. ثم إنه يبين أن النوع والجنس كانا جواهر ثوانيًا فمن قبل أن الموجود في موضوعٍ(14) وإن كان قد يحمل اسمه(15) على موضوعٍ، فإنه لا يمكن أن يحمل حده. وأما النوع أو الجنس، فيحمل اسمه وحده معًا، مثل “الإنسان” المحمول اسمه وحده على إنسانٍ ما مشارٍ إليه. وبعد الكلام في الجواهر الثواني، أعني الأجناس والأنواع، فقد بقي فقط الكلام في الفصل الذي إن تؤمل مليا بدا بأنه عرض. إذ إن قيد الحيوان بأنه ذو رجلين، أو مائت، أو ناطق، لم يفدنا ذلك معرفةً بماهية الشيء(16)، بل بأي شيءٍ هو : ويشبه أن يكون هذا العرض من الكيف. لكن الفصل إذا أخذ مقومًا للنوع بعد تقسيمه للجنس، فلا ينبغي أن يوصف حينئذٍ بالعرض. لذلك كان أرسطو قد نعته بالمختلط بسبب معناه. أما من جهة ما أنه ذو قوة، فقد أوجب أن يكون داخلاً في الجواهر: إذ الخواص المذكورة لسائر الجواهر هي موجودة فيه أيضًا، على معنى أن الفصل اسمه وحده إنما يقالان معًا على الموضوع. مثال ذلك الإنسان محمول عليه “مشاء”، فالموضوع المحمول عليه “إنسان” محمول عليه اسم “مشاء” وحده، كسقراط الذي هو إنسان مشاء(17). ثم إن أرسطو يذكر أقوالاً كثيرةً يبين فيها أن للجواهر خواصا لا يشاركها فيها غيرها وموجودةً لكلها(18)، وخواصا لا يشاركها فيها غيرها وليست بموجودةٍ لكلها(19)، وأخرى يشاركها فيها غيرها وموجودة لكلها(20)، وأخرى يشاركها فيها غيرها وليست بموجودةٍ لكلها(21). وهذا كله قد بسطه أرسطو ببيانٍ، لذلك فليس في تفصيله من ضرورةٍ، ولا سيما وأنا في هذه الرسالة ما كان من غرضنا أن ننقل كل ما قاله أرسطو، بل فقط توضيح ما قد يبدو غامضًا لكل ذي ابتداءٍ.

إشارات على الفصل التاسع

1) .. جنسٍ أعلى منه أنت تعلم أن الحد هو قول دال على ماهية الشيء بتركيب جنس المحدود القريب، وفصله الذاتي المقوم. لكن الجوهر وسائر المقولات ليس من شيءٍ أعم منها ولا محيطًا بها. فإن قال قائل : فما بال الوجود، أفليس بعام لها جميعًا. أجيب : حقا إنه لكذلك، ولكن ليس عمومه عموم الجنس لأنواعه. أما بيان ذلك فموكول إلى الفلسفة الأولى. 

2) .. لا توجد في موضوعٍ يريد أن الجواهر الثواني إنما وصفت بالثواني فلأن الجواهر الأولى هي موضوعة لها ومتقدمة عليها.

3) .. على الجواهر الأولى كذلك فإن الجواهر الثواني إنما وصفت بالجواهر فلأنها هي فقط ما يحمل على الجواهر الأولى حملاً مبينًا لذاته وماهيته.

4) .. اسمها وحدها معنى أن يحمل الشيء على الموضوع أنه يدل منه على ذاته. وإذا كان كذلك فإن الاسم يحمل على الموضوع بلا اشتقاقٍ، وحد ذلك الاسم هو محمول أيضًا، خلافًا للأعراض، فاسمها يحمل على الموضوع، إن حمل، بالاشتاق، ولا يحمل أصلاً حدها  : مثال ذلك “الإنسان” هو جوهر ثانٍ نوعي يحمل على زيدٍ بلا تغييرٍ في الاسم، إذ “زيد هو إنسان”. وأيضًا حد الإنسان “حيوان ناطق” فهو بعينه محمول على زيدٍ، إذ “زيد هو حيوان ناطق”. أما العرض “البياض”، فإن حمل على الجسم، لم يحمل اسمه المستقيم، إذ لا يقال “هذا الجسم هو بياض”، بل اسمه المشتق، إذ يقال “هذا الجسم هو أبيض”. وأيضًا حد البياض “لون مفرق للبصر” هو غير محمولٍ أصلاً على الجسم، إذ لا يقال “الجسم هو لون مفرق للبصر.”  

5) .. موضوعة لسائر الأمور  سائر الأمور، وهي الجواهر الثواني الأجناس والأنواع المحمولة حملاً جوهريا على الجواهر الأولى، وأيضًا الأعراض المقولة قولاً غير دال على ماهية الجوهر الأول.

6) .. الجوهر من الأجناس يريد لما كانت حال الأنواع إلى الأجناس في أنها موضوعة لها، هي كحال الجوهر الأول إلى سائر الأمور، وكان الجوهر الأول إنما استحق التقدم لأجل ذلك، لزم أيضًا أن الأنواع هي أحق بالجوهرية من الأجناس.

7) .. مثل “حيوان” فالحيوان هو نوع بالإضافة إلى الجنس المحيط به كالنامي، وهو جنس حقيقي لأنه مقول على كثيرين مختلفين بالماهية. لذلك فإنه بعد ما قيل بأن الأنواع أحق بالجوهرية من الأجناس، فقد وجب التنبيه على أن الأنواع المتقدمة أما بإطلاقٍ فإنها الأنواع الأخيرة، وأما الأنواع بالإضافة، وهي أجناس أيضًا، فإن كانت من مرتبةٍ واحدةٍ فليس لأحدها تقدم على الآخر، وإن لم تكن من مرتبةٍ واحدةٍ، فإن التي هي أقرب إلى الأنواع الأخيرة فهي متقدمة على التي أبعد.

8) .. هو نوع فقط أي نوعًا أخيرًا، لأنه يقال على كثيرين مختلفين بالعدد، لا بالماهية.

9) .. صور الطير يريد أن الطير وإن كان نوعًا للحيوان، فهو جنس، لأنه يقال على كثيرين مختلفين بالماهية : إذ الطير ينقسم أيضًا بفصولٍ ذاتيةٍ، مثل “ذو ريشٍ”، كالنسر، و”غير ذي ريشٍ” كالذباب. والنسر والذباب كلاهما نوعان.

10) .. فالموجود بالطبع يريد الصفة الموجودة للنوع موافقةً لطبيعته، وهي غير الأمور المقومة لذاته، لأنها هي نفس طبيعته لا أشياء موجودة بالطبع لطبيعته.

11) .. أن يرسم الرسم نوع من الحد أقل توفيةً بماهية المحدود من الحد الحقيقي، ويكون بالإتيان بالعرض أو بالخاصة، مع الجنس، كما في هذا المثال.

12) .. إنسانٍ هو عالمًا قد يوصف الإنسان بالعالم على ثلاثة معانٍ : الأول، إذا كان عالمًا بالفعل مستعملاً لعلمه، مثل فلان الطبيب الذي الآن يداوي الناس بعلمه. والثاني، إذا كان عالمًا بالفعل، أي مكتسبًا إياه غير مستعملٍ له في عملٍ أو تعليمٍ، مثل فلان الطبيب النائم الآن. فهو عالم أي ذا ملكةٍ في الطب، ومتى شاء أخرج ما له بالملكة إلى الفعل. وثالثًا، وقد يوصف الإنسان بالعالم، لا لأنه مكتسب للعلم، بل على معنى أنه بالطبع قابل للتعلم، ليس بممنوعٍ منه من جهة الاستعداد، مقابلةً مثلاً للحمار الذي هو غير عالمٍ، أي أنه ليس من طبعه أن يصير عالمًا. إذًا فالعالم المأخوذ في هذا المثال إنما هو العالم بالملكة والاكتساب. إذ بمعنى القوة والاستعداد إنما هو موجود لكل أفراد النوع قطعًا.

13) .. لكل أفراده إن المقصود من كل تعريفٍ أن يفيد في الذهن تمييزًا وفرزًا للمعرف مما قد يختلط به. لذلك فإن الخاصة لو كانت غير وافيةٍ بهذا الأمر لم تكن مفيدةً في التعريف. وهذا هو حال الخاصة من النوع الثالث والخاصة من النوع الرابع، إذ هما تدلان على النوع وعلى غيره. لذلك وجب تركهما. 

14) .. في موضوعٍ وهو الأعراض.

15) .. يحمل اسمه ولكن يحمل بالاشتقاق لا بالاستقامة.

16) .. بماهية الشيء إذا أخذ الفصل مبينًا لأي شيءٍ هو الجنس الذي هو  جواب مطلوب ما الشيء. أما الفصل الذي هو جزء مقوم لماهية الشيء، فإنه جوهر وليس بكيفيةٍ. مثلاً إذا قيل ما الإنسان، قيل : إنه حيوان. ثم قيل أي شيءٍ من الحيوان، قيل : إنه الناطق. فالناطق هو كيفية موجودة للحيوان. لكن حد الإنسان هو “حيوان ناطق”، فالناطق هو فصل مقوم للماهية الإنسانية، والماهية جوهر، وجزء الجوهر جوهر، فالفصل جوهر.

17) .. هو إنسان مشاء الفصل هو جوهر ثانٍ كالأنواع والأجناس، لأن اسمه محمول بلا اشتقاقٍ على الموضوع، وحد الفصل يقال أيضًا على الموضوع. ف”مشاء” فصل مقوم للإنسان، وهو يحمل بلا اشتقاقٍ على سقراط، إذ “سقراط مشاء”. وحد مشاءٍ “يسعى بقدميه”، وهو بعينه محمول أيضًا على سقراط، إذ “سقراط حيوان يسعى بقدميه”.

18) .. وموجودةً لكلها أي موجودةً لأنواعها كلها، وهي الجواهر الأولى والجواهر الثواني. والخاصة الموجودة للجواهر فقط ولكل أنواعها هي أنها ليست توجد في موضوعٍ.

19) .. وليست بموجودةٍ لكلها وهذه الخاصة هي القول على موضوعٍ. إذ هي لا تشاركها فيها الأعراض، وليست توجد للجوهر الأول. وأيضًا خاصة قبول الأضداد فهي لا توجد لغير الجواهر، وليست لكل الجواهر، بل للجوهر الأول فقط.

20) .. وموجودة لكلها وهذه خاصتان : الأولى عدم قبول المضادة، والثانية : عدم قبول الأكثر والأقل. فكلاهما يشارك الجواهر فيهما الكم، وكلاهما يوجد لكل أنواع الجوهر. 

21) .. بموجودةٍ لكلها لقد استوفيت فيما ذكر آنفًا كل الخواص الواردة في كتاب المقولات للجوهر. لذلك فلست أرى لهذا الضرب الرابع من وجهٍ.

الفصل العاشر : في الكم.

   وبعد أن وصف أرسطو الجوهر كما وصفه، إذ ليس ممكنًا أن يحده لما بينا من أسبابٍ(1)، مضى إلى بيانه الأعراض على النهج الذي كان أوجبه على نفسه. وأولها الكم، وذلك لسر : إذ كلما لاح لنا شيء بدا لنا واجبًا أن يكون إذًا مقداره مقدرًا عندنا. لكن المقدار لا يمكن أن يعلم إلا بالقياس إلى مقدرٍ. إذًا فلو لم نعتبر العرض وقصدنا تقدير الطول، فإن الطول المقدر بإسقاط النظر عن العرض يسمى خطا. بلا ريبٍ هو لا يوجد طول بلا عرضٍ ألبتة(2)، لكن المقدر للطول فقط يقال إنه يقدر خطا. كذلك الطول المقدر مع العرض يسمى سطحًا. فإذا انضم إلى البعدين المذكورين العمق حصل من الثلاثة الجسم(3). لكن الجسم هاهنا هو غير الجسم الطبيعي، فإن هذا الجسم إنما هو جوهر. والمكان إذ يشغله المتمكن يلحقه التقدير أيضًا(4). والزمن كذلك هو مما يقدر : فإن المتحرك إنما تقدر حركته بالزمن الذي تكون فيه الحركة، كقولنا إنها دامت سنةً أو سنتين أو ثلاث سنين أو شهرًا أو يومًا أو آنًا(5). كذلك إذن إنما تعرف كمية كل شيءٍ من الأشياء. والكم ينقسم إلى متصلٍ ومنفصلٍ(6). أما المتصل فهو الخط والسطح والجسم والمكان والزمان. لأن كل واحدٍ من هذه إذا عرفت أجزاؤه بالتقدير لم تكن نهاية كل جزءٍ منحازةً عن نهاية الجزء الذي يليه. إذ لو توهمت نقطة وسط خط مفروضٍ، نصفته إلى جزئين، وكانت بنحو الحد المشترك لهما، وهذا الحد لم يتميز لأحد الجزئين دون الآخر، بل هو واصل لأحدهما بالآخر(7). كذلك السطح فهو متصل وأجزاؤه متصل بعضها ببعضٍ : إذ يمكن قسمته بتوهم خط خارجًا فيه فاصلاً إياه جزءين، وهو بعينه يكون حدا مشتركًا واصلاً أحدهما بالآخر، ولا يتعين نهايةً لأحدهما دون الآخر. وكذا الأمر في الجسم، إذ يمكن فيه أن يوجد له حد مشترك يصل بعض أجزائه ببعضٍ، وهذا الحد إما أن يكون خطا أو سطحًا(8). فإن حدث الخط أو السطح بقطع الجسم، كان الخط بعينه أو السطح بعينه نهايةً لأجزاء الجسم، ولم يتعين لأحدها دون الآخر. إذًا فالجسم هو متصل لأنه يوجد له حد مشترك فاصل لأجزائه. ومن المتصل الزمان، إذ لأجزائه الماضي والمستقبل حد مشترك وهو الآن لا يتعين نهايةً لأحد الأجزاء دون الآخر الذي يليه(9). وأيضًا المكان المحيط بالجسم، أو المكان الذي يشغله الجسم ذو الأجزاء فإن له حدا مشتركًا، مثل الجسم، فهو إذًا من المتصل كالمذكورين آنفًا(10). وأما العدد والقول فمن المنفصل. إذ في العدد حد الواحد مثلاً هو مباين لحد اثنين، أو حد اثنين مباين لحد ثلاثةٍ(11). والقول كذلك ظاهر بأنه من المنفصل، إذ هو ينقسم بالطبع والعدد إلى أجزاءٍ هي مقاطع منفصلة : فنقول مقطع مقصور، مقطع ممدود(12)، ونقول مقطع واحد أو مقطعان. فبين إذًا أن العدد والقول هما من الكم المنفصل. وهناك قسمة أخرى للكم إلى كم أجزاؤه لها وضع بعضها عند بعضٍ به إنما يعرف بأي جزءٍ محدودٍ هي متصلة، وإلى كم ليس لأجزائه وضع(13). وأعني بالوضع ما تجده من الشيء إما اليمين أو الشمال أو الفوق أو التحت أو القدام أو الخلف أو البعد أو القرب(14). أما أنواع الكم التي لأجزائها وضع فهي : الخط، والسطح، والجسم، والمكان. إذ لو توهمت حدودًا في الخط أو السطح أو في غيرهما، فإنه ستحدث أجزاء وإن كانت هي في نفسها متصلة بالفعل، فسيمكنك أن تتبين من كل جزءٍ جزءٍ متوهمٍ جهته وبأي جزءٍ هو ملاصق ومتصل. وأما أنواع الكم التي ليست لأجزائها وضع فهي : الزمن، والعدد، والقول. فأما العدد المجرد من المعدود الجسماني فلسنا نجد فيه يمينًا ولا شمالاً، لأن وجوده وجود لفظي خالٍ من الجسم، بل إنما نجد لأجزاء العدد ترتيبًا فقط : إذ اثنان هو متأخر في الترتيب عن الواحد. لذلك فليس لأجزاء العدد بمجرده وضع أصلاً. وكذا الأمر في الزمن والقول، فكلاهما ليس له ثبوت بل منقضيان. وأما في القول فما لم يلفظ به كان عدمًا، وإذا ما لفظ به انتقل إلى العدم. فظاهر إذًا أن هذه الأنواع الثلاثة من الكم ليس لأجزائها وضع بعضها عند بعضٍ. ولتعلم أن هذه الأنواع المذكورة من الكم هي فقط التي بالحقيقة وأولاً، وما عداها مما تلحقه الكمية فإنما يقال إنه كم بالعرض. إذ العرض قد يصير معروضًا أيضًا لبعض الأشياء. مثال ذلك أنا نقول أبيض كبير، لا من أجل أن البياض في نفسه هو كبير، بل من أجل أنه في سطحٍ كبيرٍ، على معنى أن الكمية المحمولة على البياض إنما تحمل عليه بواسطة السطح الموجود هو فيه. وكذلك إنما نقول في العمل إنه طويل ليس من أجل أنه في نفسه هو طويلاً، بل من أجل أنه يكون في زمانٍ طويلٍ. 

   ثم لتعلم أن من خواص الكم أنه لا مضاد له أصلاً(15). فإن السطح والخط ليس له ضد، وكذلك ذراعان أو ثلاثة أذرعٍ، وليس لقائلٍ أن يقول إن الكبير والصغير هما ضدان(16)، لأمرٍ أولٍ : وهو أنه ليس الكبير والصغير من الكم، بل هما من المضاف. وذلك أن الكبير أو الصغير إنما يقال فقط بالقياس إلى شيءٍ ما : مثل أن نقول في جبلٍ إنه أصغر بالمقايسة إلى جبلٍ آخر أعظم منه، أو نقول في حبة السمسم إنها أعظم بالمقايسة إلى المعروف من حب السمسم. إذًا فالأعظم والأصغر، أو الكبير والصغير، إنما هي معانٍ متولدة من مقايسة شيءٍ إلى شيءٍ آخر. ولأمرٍ ثانٍ وهو أن الكبير والصغير ليس فقط ليسا هما من مقولة الكم، بل ليسا هما في نفسيهما بضدين. وذلك أنه لو كان الكبير والصغير ضدين، لوجد الشيء الواحد بعينه قابلاً للمتضادات معًا. فإن الشيء الواحد بعينه قد يوصف معًا بأنه كبير بالإضافة إلى شيءٍ أصغر، وبأنه صغير بالإضافة إلى شيءٍ أكبر. و محال في الطبع أن يوجد الضدان معًا. فقد تبين من هذا زيف دعوى من ادعى أن الكبير والصغير ضدان. وأكثر ما يظن أن التضاد يلحق الكم في النوع منه الذي هو الفلك : فالقدامى إنما ظنوا أن الأعلى والأسفل ضدان للبعد الذي بين السماء والأرض، إذ الأرض في كل جهاتها هي أسفل، والسماء في كل جهاتها هي أعلى(17). والأرض إذ هي وسط العالم، فهي أسفل في كل جهاتها، حتى أن الذين يقطنون في النصف الثاني المقابل للنصف المعمور والذين أرجلهم تقابل أرجلنا، فإن السماء هي لهم أيضًا فوق. إذًا فالأرض هي دائمًا أسفل(18). وللطبيعانيين حجة أخرى، وهي أن الأرض بأجزائها كلها إنما تقابل السماء التي هي دائمًا فوق، والأرض هي دائمًا أسفل، فمن قبل أن الأجسام الثقيلة إنما تميل بالطبع إلى الأرض، والأجسام الخفيفة إنما تصعد بالطبع إلى السماء(19). لذلك فالسماء والأرض متضادتان، لأن هناك ضرورةً طبيعيةً أوجبت للثانية الأين الأسفل، وللأولى الأين الأعلى. وهو من هذه المضادة إنما استجلب الحد لسائر المتضادات : فقيل في حدهما اللذان البعد بينهما في غاية البعد وهما في جنسٍ واحدٍ. ولكن نحن نقول لكل هؤلاء إن هذا المعنى إنما هو من مقولة الإضافة، لأن الفوق إنما يقال بالقياس إلى أسفل. فإن لج بعضهم في العناد، قلنا له : إذًا فهما من مقولة الأين : فإنا إذا قلنا فوق عرفنا أنه أين شيءٍ ما، وإذا قلنا أسفل عرفنا أنه أين شيءٍ آخر. وعلى أية حالٍ فهذا خلاف لفظي نتركه إلى علماء اللغة، أما ما هو بين للمنطقي فهو أن الكم ليس له ضد. ومع ذلك فلا بأس هاهنا من أن ننبه كذلك على أمرٍ : وهو أن الفوق بالطبع والأسفل بالطبع يختلفان عن الفوق والأسفل المقولين بالإضافة إلينا : إذ ما هو بالطبع فلا يمكن أن يختلف أصلاً. وما يقال بالإضافة إلينا فإنه يختلف بانتقال الإنسان بالصعود أو النزول، كالذي كان فوق ثم نزل، فإنه يرى ما كان يراه أسفل، فوق.

   ومن خواص الكم التي يشاركه فيها غيره(20) أنه ليس يقبل الأكثر ولا الأقل. فإنه ليس هذا الكم ذو ذراعين بأكثر أو أقل من هذا الآخر الذي هو أيضًا ذو ذراعين، بل الكم الثاني هو مساوٍ للكم الأول. وإن كان كم أعظم منه، فلن يكون الذي هو ذا ذراعين، بل كما آخر. والعدد أيضًا لا يقبل الأكثر ولا الأقل، إذ من الخلف أن يقال ثلاثة هي أكثر أو أقل من ثلاثةٍ. ولا يقال أيضًا في زمانٍ واحدٍ إنه أكثر أو أقل من زمانٍ آخر. فبان بما سلف أن الكم لا يمكن أن يقبل الأكثر ولا الأقل. وأما الشيء الذي هو أخص خواص الكم، والذي يوجد له فقط ويوجد لكل أنواعه، فهو أن أقسامه كلها إنما توصف بالمساوي والغير مساوي(21) : فالعدد هو مساوٍ بالكم وغير مساوٍ بالكم، ولا يقال هو مساوٍ أو غير مساوٍ بالارتفاع. وما عدا الكم فلا يوصف بهذا، بل يقال شبيه، وذلك أنا نقول : إن هذا الأبيض هو شبيه بهذا الأبيض أو غير شبيهٍ. إذًا فالمساواة إنما هي مخصوصة فقط بالكميات.        

إشارات على الفصل العاشر

1) .. من أسبابٍ وهي أن كل مقولةٍ هي جنس أعلى ليس يحيط بها جنس أعم. وحد الشيء إنما يكون بالإتيان بجنسه القريب وفصله المقوم.

2) .. بلا عرضٍ ألبتة هو لا يوجد طول بلا عرضٍ بلا عمقٍ، إذ المدرك بالذات بالحس إنما هو الجسم. والجسم ذو أبعادٍ ثلاثةٍ. لكن الرياضي إذا أخذه بما هو ذو أبعادٍ ثلاثةٍ مجردًا عن حقيقته الطبيعية، حصل من تجريده الجسم التعليمي أو الرياضي الذي هو من مقولة الكم لا الجوهر. وهو أيضًا قد يأخذ الجسم المحسوس بما هو جسم تعليمي غير معتبرٍ منه سوى بعد الطول فقط : وذلك هو الخط التعليمي. أو قد يأخذه غير معتبرٍ منه سوى بعد الطول مع بعد العرض : وذلك هو السطح التعليمي. 

3) .. من الثلاثة الجسم حصل الجسم التعليمي أو الرياضي.

4) .. يلحقه التقدير أيضًا هناك قولان مشهوران في المكان : قول أفلاطون وأشياعه، وقول أرسطو وأتباعه من المشائين : أما الأول فيرى أن المكان إنما هو بعد فاصل بين نهايات جسمٍ، هو الذي يكون فيه الشيء المتمكن بتداخل حجم المتمكن في البعد الذي هو المكان. وأما الثاني فيرى أن المكان إنما هو نفس السطح المحيط بسطح الجسم المتمكن. ولنصور القولين بهذا المثال :

   وبأي القولين فهم المكان، فإن حكمه من حكم المتمكن : فإن كان بعدًا، فإن الشاغل إياه سيكون البعد الجسماني، وهذا كم، إذًا فالمكان بمعنى البعد هو كم أيضًا. وإن كان السطح المحيط، وهو مطابق لسطح الجسم المتمكن، وهذا كم، إذًا فالمكان بمعنى السطح المحيط هو كم أيضًا.   

5) .. أو آنًا كذا في الترجمة الفرنسية “un instant”. والموجود في المتن اللاتيني “momento” وهو تصريف من اسم “momentum” المستقيم. وقد وجدت أن معناه الزمن القصير أو الذي لا يكاد يدرك. وأما ما ترجم به الناقل الفرنسي فغير صوابٍ، وذلك أنه من المعروف جدا أن أرسطو إنما ينكر وجود الحركة في الآن كما قد بينه في أحد فصول السماع الطبيعي. 

6) .. متصلٍ ومنفصلٍ المتصل هو الكم المنقسم الذي لا ينقسم ألبتة إلى ما لا ينقسم في جنسه. والمنفصل هو الكم المنقسم الذي ينتهي في القسمة ضرورةً إلى ما لا ينقسم.

7) .. بل هو واصل لأحدهما بالآخر كذا كلام المصنف، وهو إن أخذ بظاهره غريب ومخالف للمعروف. إذ المفهوم من كلام أرسطو في كتاب “المقولات” أو في “السماع الطبيعي”، أن المتصل هو الذي نهايتا كل جزئين فيه متلاقيين، نهاية واحدة وحدهما واحد. وأي جزئين في المتصل بهذا المعنى فإنما هما بالقوة لا بالفعل. وأما لو أخذا بالفعل كما لو فرضنا الخط مقسومًا بنقطةٍ إلى نصفين، فكل نصفٍ من الخط إذًا سيكون حده مباينًا بالضرورة لحد النصف الآخر، والنقطة المفروضة إنما هي نقطة فاصلة لا واصلة.      

8) .. خطا أو سطحًا هذه صورة للحدود المشتركة بين أجزاء الخط والسطح والجسم التعليمي، والتي بها كانت هذه المقادير مقادير متصلةً :

9) .. الذي يليه الزمن هو كم لأنه ينقسم. وهو من الكم المتصل لأنه لا ينقسم ألبتة إلى ما لا ينقسم، أي أن كل قسمٍ يؤخذ منه منقسم إلى قسمٍ هو من جنسه، أي إلى قسمٍ هو زمن. وأيضًا لأنه يمكن أن يفرض دائمًا لأجزائه حد مشترك يكون بعينه نهايةً لأحدهما ومبدأً للآخر، وهو الآن. إذ أن الآن في الزمن الواحد لا الزمنين هو أبدًا نهاية للماضي وهو بعينه مبدأ للمستقبل.  

10) .. كالمذكورين آنفًا انظر الإشارة الرابعة.

11) .. مباين لحد ثلاثةٍ العدد هو كم لأنه ذو أقسامٍ. وهو كم منفصل لأن أقسامه تصل إلى قسمٍ لا ينقسم وهو الواحد. فيلزم أن كل جزءٍ يؤخذ للعدد فإنه لا يوجد له حد مشترك بينه وبين الجزء الباقي. فمثلاً سبعة قسم منها هو أربعة : فلو كان للأربعة حد واحد مشترك مع القسم الباقي ثلاثةٍ، فالحد هو الواحد، وهذا الواحد إما أن يكون في الأربعة أو مباينًا لها. فإن كان في الأربعة، فهو مباين للثلاثة، إذ لو كان أيضًا في الثلاثة، فكل العدد هو ستة لا سبعة. وإن كان مباينًا للأربعة وهو حد لها واحد مع الثلاثة، فالقسم المأخوذ إذًا هو خمسة، والباقي اثنان.

12) .. مقطع ممدود المقطع هو أقل ما يمكن أن ينطق به : وهو في العربية مؤلف من حرفٍ وحركةٍ، مثل “ذ”، أو من حرفٍ وحركةٍ وحرفٍ ساكنٍ، مثل “ذا”. فالأول هو المقطع المقصور، والثاني هو المقطع الممدود. وهو من تركيب المقاطع إنما تنشأ الألفاظ، ومن تركيب الألفاظ ينشأ الكلام. إذًا فالكلام منقسم، لذلك فهو كم، وينقسم إلى ما لا ينقسم، وهو المقطع، فالكلام من الكم المنفصل. 

13) .. لأجزائه وضع الكم كان قد قسم قسمةً أولى عظمى إلى متصلٍ ومنفصلٍ. وهاهنا يقسم قسمةً ثانيةً عظمى إلى ما لأجزائه وضع بعضها عند بعضٍ، وما ليس لأجزائه ذلك. 

14) .. أو القرب هذا تصوير للمراد بالوضع الذي لأجزاء كم ما :

15) .. لا مضاد له أصلاً وهذه الخاصة كنا قد رأينا أنها موجودة أيضًا للجوهر.

16) .. والصغير هما ضدان قد يعترض معترض بأن المضادة قد توجد للكم، والدليل أن القليل في الكم المنفصل، أو الصغير في الكم المتصل، لهما ضدان، وهما الكثير، والكبير. لكن أرسطو قد دفع ذلك بحجتين : الأولى تسلم بمضادة الكثير للقليل، لكنها تزيف أن يكون المعنييان من مقولة الكم، مثبتةً إياهما في مقولة المضاف. والحجة الثانية تنكر أصلاً أن يكون بين القليل والكثير نسبة المضادة. 

17) .. جهاتها هي أعلى يريد أن الذي أوهم بوجود المضادة في بعض الكم هو أن الذي ما بين الأرض والسماء هو غاية البعد. وهذا المعنى بعينه هو الذي به يعرف المتضادان أيضًا : إذ يقال المتضادان هما اللذان البعد بينهما غاية البعد.

18) .. دائمًا أسفل فالمصنف يريد أن ينبه على أن التقابل بين عالم السماء وعالم الأرض تقابل حقيقي، و ليس بحسب الوضع والإضافة، وذلك قد يؤكد صحة المضادة بينهما. 

19) .. بالطبع إلى السماء وهذا المثال هو غير المثال المتقدم. فإن المثال الأول يشير إلى مقابلة الأعلى للأسفل بين عالم السماء الأزلي وعالم ما تحت فلك القمر المتكون الفاسد. وأما هذا المثال فإنما يشير إلى أينين طبيعيين متقابلين في عالمٍ واحدٍ عالم ما تحت فلك القمر، وهو أين عنصر النار، وأين عنصر الأرض وعنصر الماء.

20) .. يشاركه فيها غيره وهو الجوهر. فإنه أيضًا لا يقبل الأكثر والأقل.

21) .. والغير مساوي فالكم فقط وليس غير الكم مما يقال فيه هو مساوٍ أو غير مساوٍ بالذات و أولاً.

الفصل الحادي عشر : في الإضافة.    

Text Box: πρός τιText Box: διἀθεσιςText Box: ἔξιςText Box: Ad aliquid   والمقولة الثالثة هي المسماة في اللسان اللاتيني         وفي اللسان اليوناني        وفي اللسان العربي الإضافة. وليس بحسب الأمر في نفسه هي الثالثة في الرتبة، بل بحسب البيان. إذ الذي يلي مقولة الكم إنما هو الكيف(1). لكن لما كان في آخر فصل الكم قد عرض شك في أن بعض الكم هو مضاف أيضًا(2)، فإن أرسطو قد رأى بعد أن بين ما الفصل بين المقولتين، أن يكون بيانه لمقولة المضاف في الرتبة الثالثة تاليًا لمقولة الكم، وإن كان حقها أن تكون في الرتبة الرابعة. أرسطو لم يبدأ بالحد الذي يراه هو، بل بحدود من سبقوه وقالوا قولاً مختلا في ما الإضافة(3). ونحن بالواجب أن ننظر في هذا الاختلال، لأن أرسطو إنما بتهذيبه لهذه الحدود، ونفي ما فيها من اختلالٍ، وإصلاحه إياها إنما هو قد أعطى الحد الذي يراه مطابقًا لهذه المقولة(4). فالإضافة أو المضاف يقال على الأشياء التي هي موجودة بالقياس إلى غيرها(5)، أو التي تقال بالقياس إلى غيرها أو على نحوٍ آخر من أنحاء النسبة إلى غيرها أي نحوٍ كان. مثال ذلك أن الضعف إنما يقال ضعف بالقياس إلى النصف، والأكبر بالقياس إلى الأصغر، والشبيه بالقياس إلى شيءٍ شبيهٍ. لذلك فالمضاف ليس قوامه في نفسه(6)، بل بالنسبة إلى قرينه. وكذلك سائر الأشياء التي هذه حالها فهي من المضاف : مثال ذلك الملكة المسماة في اللسان اليوناني    ، والحال المسماة       ، والعلم Text Box: αἴσθησιςText Box: θέσιςText Box: ἔπιστńμηالمسمى        ، والوضع المسمى     ، والحس المسمى         . فإن جميع هذه الأشياء تقال بالقياس إلى غيرها. كالملكة التي هي ملكة لشيءٍ، والحال التي هي حال في بدنٍ أو نفسٍ لشيءٍ. والعلم والوضع والحس أيضًا تقال كذلك. واتركن الإنكار إن بدا لك أن بعض مما في هذه المقولة يدخل أيضًا تحت مقولة الكيف. إذ بين أن الملكة والحال والعلم وأشياء أخرى ذكرناها إنما هي من الكيف. لكن بين الكيف والإضافة فرق لا بد من مراعاته. إذ متى أخذ العلم بأنه علم بمعلومٍ، أو الحس بأنه حس بمحسوسٍ، كانا من مقولة الإضافة. وأما إذا أخذ العلم ليس بأنه علم بمعلومٍ، بل بأنه علم في عالمٍ، كان إذًا من مقولة الكيف. لذلك فإن أردنا أن نوفي الحد الملائم للمضاف، فلنبين بما ينفصل عن سائر المقولات، لاختلاطه الظاهر بها، حتى نأمن الخطأ فيه. إذًا فالمضاف الحقيقي(7) وبالتحقيق هو ما يكون في نفسه وماهيته مقولاً بالقياس إلى قرينه، مثل العبد والسيد : فالاثنان إنما يوجدان معًا ويرتفعان معًا. لأنه متى وجد السيد وجد العبد ضرورةً، ومتى ارتفع السيد ارتفع العبد ضرورةً(8). وأيضًا متى وجد الضعف وجد النصف، ومتى ارتفع الضعف ارتفع النصف. وبالعكس، إذا ارتفع النصف ارتفع الضعف، وإذا وجد النصف، وجد الضعف ضرورةً. إذًا فلنضع هذا القانون الذي به يعرف المضاف على صوابٍ : إن الإضافة تكون حقيقيةً إذا كان المضاف المخصوص إنما يقال بالقياس إلى قرينه المخصوص. مثال ذلك أنا إذا قلنا ضعف، فإنا نقوله ليس بإطلاقٍ، بل بالخصوص، وحينئذٍ هو يكون ضعفًا مخصوصًا لنصفٍ مخصوصٍ. لذلك فإنه يكون هناك أيضًا إضافة إذا قلنا مثلاً إن وجه سقراط شبيه بوجه كريسبس، إذ ليس يمكن أن تعرف نسبة المشابهة إلا إذا حصل الشبيه على الخصوص، وقرينه الشبيه على الخصوص(9). وقد اعترض بعضهم على هذا الرسم قائلين بأنه قد يتقدم الشيء الذي يقال بالقياس إليه المضاف على المضاف، فلا يكونان معًا بالطبع ولا يرتفعان معًا بالطبع. ويذكرون لهذا مثال المعلوم الذي قد يتقدم وجوده على وجود العلم به(10). مثال ذلك الخط والدائرة في علم الهندسة، فقد كانا أولاً ولا علم بهما، ثم صار للمهندسين علم بهما. بل هناك أمثلة كثيرة من المضافات ليس بينها تكافؤ في الوجود معًا : وذلك كالحس والمحسوس. فإن المحسوس أقدم من الحس، فإن العناصر التي منها قوام الحيوان موجودة من قبل وجود الحيوان الذي فيه فقط إنما يوجد الحس. ولهذا فالرسم المذكور للإضافة رسم رديئ. ذلك إذًا ما هو قول بعض الذين ليس لهم حذق الغوص في طبائع الأشياء. وذلك أن الموجود يقال بنحوين(11) : الموجود بالقوة المسمى في اللسان اليوناني         والموجود بالفعل المسمى         فإن أخذ المضافان بأحد نوعي الموجود فقط، ولم يؤخذا بالمعنيين معًا، صح إذًا أنهما يتكافآن في الوجود(12). وبهذا ينحل الشك ويفهم أن المعلوم كالخط أو الدائرة إنما هو معلوم للعلم منذ أن خلق العالم. على معنى أن كل حادثٍ فبنفس حدوثه يصير معلومًا لعلمٍ. لكنه علم بالقوة لا بالفعل. إذًا فهناك علم بالمعلوم ليس فقط إن كان العلم بالفعل، بل العلم هو متعلق بمعلومه منذ وجود المعلوم، وهو إنما يكون متأخرًا عنه إذا صار علمًا بالفعل. وهو إذا صار العلم بالفعل باجتهاد الحكماء، قيل إذًا العلم والمعلوم يتكافآن في الوجود. وإذ قد حل الشك، فبين أن الرسم الذي قيل للمضافين رسم جيد، وهو أنهما يوجدان معًا ويرتفعان معًا. واعلم أن إضافة المضاف إلى المضاف قد تختلف بحسب حاله في الإعراب : فمنها ما يكون على حال         ، مثل عبد للسيد وسيد للعبد، أو ضعف النصف ونصف الضعف. ومنها ما يكون على حال        مثل مشابه للمشابه، أو مساوٍ للمساوي. ومنها على حال       . وهو الأكثر، مثل محسوس بالحس، أو معلوم بالعلم، أوما أشبهها من الأمثلة. ومن خواص الإضافة أيضًا أن المضافين كل واحدٍ منهما يرجع على صاحبه في النسبة بالتكافئ، مثال ذلك الضعف ضعف للنصف، والنصف نصف للضعف، والعبد عبد للسيد، والسيد سيد للعبد : فهو يرى أن كل واحدٍ من الطرفين يمكن أن يوضع موضع الآخر، لكن ينبغي أن يفعل ذلك بمهارةٍ وحذقٍ. فإنا لو عكسناهما جزافًا فقد يحصل خطأ كبير : كالجاهل الذي يضيف الجناح إلى ذي الريش(13). فهذه  نسبة للجناح ليست على جهة الإضافة : إذ قد يوجد ما ليس بذي ريشٍ وله جناح، كالزيز والذباب وحيواناتٍ أخرى. وأما إذا قلنا الجناح جناح لذي الجناح، كان صوابًا. وهاهنا إنما ينبغي أن نجلو لبسًا سببه اختلاط المقولات. إذ يظن إذا قيل الجناح جناح لذي الجناح، والرأس رأس لذي الرأس، أن جزء الجوهر قد وضع في العرض(14) : وذلك أن الجناح، والرأس أيضًا أو اليد، هي كلها أجزاء للجوهر قطعًا(15). وقد قلنا إنها من المضاف : إذًا فالجوهر والإضافة هما شيء واحد. لذلك فمن أجل أن نأمن كل لبسٍ، فقد وجب أن نوفي الحد الحقيقي والمخصوص للمضاف(16)، وهو هذا : المضاف هو ما وجوده متعلق بغيره(17)، ويرجع على قرينه بالتكافئ(18). فإن تؤمل هذا الحد جيدًا تبينا أنه لا يمكن أن نعد جناح ذي الجناح، أو رأس ذي الرأس(19) من المضاف. إذ ليس يصدق القول : الجناح جناح لذي الريش، كما يصدق القول ذو الريش له جناح، ولا قول الحيوان له رأس، كما يصدق القول الرأس رأس للحيوان. ومن قال خلاف ذلك هزأ به لا محالة. فإنه ليس نسبة الجناح إلى ذي الريش من طريق ما ذو الريش هو ذو ريشٍ، بل من طريق ما هو ذو جناحٍ. إذ الجناح هو جناح لحيوانٍ ذي جناحٍ. والحيوان ذو الجناح ذو جناحٍ بالجناح. وكذا الوصف في المثال الآخر. وأما الإضافة بالتحقيق فكما ذكرنا آنفًا، المضافان فيها يرجع كل واحدٍ منهما على صاحبه في النسبة بالتكافئ، مثل السيد سيد للعبد، والعبد عبد للسيد. ثم إن السيد يرتفع بارتفاع العبد، والعبد يرتفع بارتفاع السيد(20). أما ذو الريش فليس يرتفع بارتفاع الجناح(21)، ولا الجناح يرتفع بارتفاع ذي الريش. فعسى أن يكون هذا التفصيل في حد المضاف قد حل الشك المتعلق بالتباس هذه المقولة بغيرها من المقولات.

   وهناك شك آخر في أمر هذه المقولة متعلق بالتباسها بالمتقابلات لا بد من بيانه. وأرسطو يسميها في اللسان اليوناني           ، ولها بعض الالتباس بمقولة المضاف. مثال ذلك الحار والبارد إنما يتقابلان، ولا يقال الحار حار بالبارد، بل الحار مضاد للبارد. وأيضًا لا يقال الخير خير بالشر، بل الخير مضاد للشر. واعلم أن أرسطو، كما كنا نبهنا في صدر هذا الفصل، قد يسوق أمثلةً لا تبدو متينةً، وذلك لأنه إنما يسوقها على جهة كونها لوازم تلزم حدود أولائك الذين حدوا مقولة الإضافة بغير ما حدها به هو. لذلك فهو قد ادعى بأن الخير والشر مضافان، والجهل والعلم مضافان، وأن كلتا الإضافتين مما تقبل المضادة، ولكن ليس لأنه يعتقد بأن الأمر في نفسه لكذلك، بل على جهة التوبيخ وإظهار ضلال من تكلم بغير معرفةٍ، إذ نحن قد بينا آنفًا أن هذه المعاني إنما هي من الأمور المضادة لا من الأمور المضافة(22). وعندي كما هو عند أرسطو أيضًا، فإن هذه المقولة مما لا تقبل الأكثر والأقل، لا على أنه أخص خواصها، ولا على أنه خاصة تشاركها فيها غيرها(23). إذ قد نقول لشبيهٍ إنه أشد شبهًا بشبيهٍ من شبه شبيهٍ بشبيهٍ، ولا يمكننا ذلك في المضاف : فإنا لا نقول أب أكثر أو أب أقل، أو ابن أكثر أو ابن أقل، أو ضعف أقل أو ضعف أكثر. وأيضًا لا ينبغي أن نعد هذا الفرس المشار إليه لهذا المشار إليه بأنه مضاف، ولا هذا الخشب المشار إليه لهذا المشار إليه، ولا هذه الأرض المشار إليها لهذا المشار إليه. أعني الأسماء الدالة على المالك، فإنها ليست من المضاف.          

   وهنا انقضى بياننا لهذه المقولة التي بذلنا فيها الوسع، وهي مقولة شديدة الاختلاط بالمقولات الأخرى حتى أن أرسطو نفسه لم يقدر على أن يميزها بيسرٍ من غيرها بعد طول انتقالٍ وحيرةٍ.         

إشارات على الفصل الحادي عشر

1) .. إنما هو الكيف لقد رأينا في الفصل الثامن أن الكيف هو مع الكم، في جملة الأعراض الموجودة في الجوهر، والإضافة هي من الأعراض الموجودة خارج الجوهر وفيه. لذلك كان الكيف أحق من الإضافة بالرتبة الثالثة بعد الكم.

2) .. مضاف أيضًا وهو القليل والكثير، والصغير والكبير.

3) “.. قولاً مختلا في ما الإضافة” ذلك ما تأويل المصنف لكلام أرسطو الأول في رسم الإضافة، على أنه قول فيها مختل منسوب لمن سبقوه : وهذا إما إسراف أو سوء فهمٍ. بل المفهوم من كلام أرسطو بلا تعنتٍ، وعليه جمهور المفسرين، لا سيما ابن رشدٍ، أنه رسم للمضاف بحسب المشهور وبادي الرأي.

4) .. لهذه المقولة والمسلمون قد أطلقوا عليه الحد الحقيقي، أما الأول فسموه بالحد المشهوري. 

5) .. موجودة بالقياس إلى غيرها كذا في الترجمة الفرنسية، أي “nous appelons donc relations ou relatifs les choses dont l’existence se confond avec leur rapport à une autre chose.” وهذا إنما هو الحد الحقيقي للمضاف، ولن يذكره أرسطو إلا بعد كلامٍ آخر طويلٍ. ويبدو أن كلام المتن بريء من هذه الزلة، إذ المكتوب : “qua id quod est dicitur ex altero aliquid ergo categoriam vocamus eam,  ad”، الذي يشبه أن يكون معناه “يقال على الشيء إنه من المضاف، إذا كانت ماهيته تقال بالقياس إلى غيره.” وهو ما سيذكر الآن بعد الكلام الأول المستنكر.

6) .. ليس قوامه في نفسه ليس قوامه في نفسه من حيث هو مضاف لا من حيث هو ذات. إذ ليس كل ما قوامه من حيث ما الإضافة، بغيره، ليس هو  قوامه بنفسه : فمثلاً زيد جوهر قائم بنفسه. وهو أب، وكل أبٍ أب لابنٍ، وابنه عمرو. إذًا فزيد من حيث هو أب إنما قوامه بإضافته إلى زيدٍ من حيث هو ابن. وأيضًا فليس كل ما قوامه بغيره، فهو مضاف إلى ذلك الغير، وإلا لكانت كل الأعراض التي قوامها بالجوهر هي بالذات مضافات. 

7) .. فالمضاف الحقيقي هذا ليس هو بعد المضاف الحقيقي المذكور آنفًا. بل المصنف ما زال كلامه في المضاف المشهوري.

8) .. ارتفع العبد ضرورةً  أي متى ارتفعت صفة العبد من الموصوف بالعبد كزيدٍ ارتفعت صفة السيد من الموصوف بالسيد كعمرٍو، ومتى وجدت وجدت. والعكس هو هو. وليس ذلك ما قد يفهم أنه إذا وجدت ذات زيدٍ الموصوفة بالعبد وجدت ذات عمرٍو الموصوفة بالسيد إلى نهاية الكلام.

9) .. الشبيه على الخصوص نسبة المشابهة هي إضافة، لأن كل شبيهٍ هو شبيه بشبيهٍ. والدليل أنه إذا قيل وجه فلانٍ بعينه شبيه، طلب هذا الوصف بالذات وجهًا آخر بعينه تصح نسبة الوجه الأول إليه بالمشابهة. 

10) .. وجود العلم به العلم من المضاف، لأن العلم ليس صفةً قاصرةً على نفسه بل ذو تعلقٍ بمعلومٍ. وتعلقه به ليس من خارجٍ، أو برابطٍ علي، بل نفس كون العلم علمًا هو كونه علمًا بشيءٍ. وقد ذكر أن من خواص المضاف أن المضافين يوجدان معًا ويرتفعان معًا. والاعتراض هاهنا أن هذه الخاصة قد لا توجد في المضاف، مثل العلم : إذ قد يوجد المعلوم ولا يوجد العلم به، كتربيع الدائرة، فهو في نفسه ثابت، وما كان العلم به موجودًا حتى أرخميدس.

11) .. يقال بنحوين المصنف سيحل شبهة أنه من المضاف ما لا يقترن وجودًا وعدمًا بقرينه. وهو حل كان قد أتى به مفسروا “المقولات”، بل أرسطو ما كان قد ذكر لهذا الشك حلا أصلاً.

12) .. يتكافآن في الوجود يريد أن الإضافة هي موجود، والموجود منه بالقوة ومنه بالفعل. فإن كان المعلوم مثلاً موجودًا، والعلم به غير موجودٍ، فالمعلوم إذًا هو معلوم بالقوة لا بالفعل، والعلم علم بالقوة أيضًا. وإن كان العلم بالمعلوم موجودًا، فالمعلوم حينئذٍ هو بالفعل، والعلم بالفعل. إذًا فقد صح أنه إذا كان العلم موجودًا بالفعل، فإن المعلوم موجود بالفعل معلومًا، وأنه إذا كان العلم معدومًا بالفعل موجودًا بالقوة، فإن المعلوم معدوم بالفعل من حيث هو معلوم، معلوم بالقوة. وإن كان العلم معدومًا بالفعل ممتنعًا، فإن المعلوم أيضًا ممتنعًا، أي ليس بمعلومٍ لا بالقوة ولا بالفعل. وكذا الأمر إذا أخذ من جهة المعلوم. والشبهة بأن أحد المتضايفين قد يوجد ولا يوجد مضايفه، إنما تلزم لمن أخذ أحدهما بالقوة والآخر بالفعل، كالمعلوم معلوم بالفعل، والعلم به هو بعد غير حاصلٍ، بل بالقوة فقط.

13) .. إلى ذي الريش بقوله الجناح جناح لذي الريش.

14) .. وضع في العرض يريد أن الأعضاء المذكورة هي جواهر، لأن أجزاء الجوهر جوهر. فإن أثبتناها مضافاتٍ في هذه الإضافات : مثل الجناح في “جناح لذي جناحٍ”، والمضاف هو عرض، بل من أوهى الأعراض، إذًا فقد جعلنا شيئًا واحدًا جوهرًا وعرضًا.

15) .. أجزاء للجوهر قطعًا إذًا فهي جواهر أيضًا.

16) .. والمخصوص للمضاف إن حل الشك الآنف سيكون بإيراد الحد الحقيقي للمضاف، وفيما مضى إنما كان الكلام في الحد بحسب المشهور.

17) .. هو ما وجوده متعلق بغيره كذلك هو صياغة المصنف لحد المضاف الحقيقي، وفيما أرى هي سقيمة مجانبة للمعنى. بل الموجود في الترجمة العربية القديمة للمقولات هذا “..لكن كانت الأشياء التي من المضاف الوجود لها هو أنها مضافة” وهو الأصح. ومعناه أن المضاف ليس فقط ما يقال بالقياس إلى غيره، لأنه كذلك فيمكن أن تكون له ذات من غير مقولة الإضافة، ثم تعرض له الإضافة من طريق القول : مثل رأسٍ الذي هو جوهر، ثم عرضت له الإضافة بقولنا رأس لذي رأسٍ. فنفس قولك “رأس” لا يدل على معنى حقيقته أنه مضاف إلى غيره. بل المضاف إنما هو الذي نفس وجود ماهيته أن تكون مضافةً : مثل الأكبر والأقل، إذ نفس قولك الأكبر إنما يدل على معنى إنما حقيقته أن يكون مضافًا إلى أصغر.

18) .. ويرجع على قرينه بالتكافئ هذه زيادة ليست واردةً في الحد الحقيقي مما ذكره أرسطو، وقد كان ذكر هذه الخاصة قد فات موضعه.

19) .. أو رأس ذي الرأس إذا أضيف جناح ذي الجناح ليس إلى ذي الجناح، بل إلى ذي الريش، أو أضيف رأس ذي الرأس ليس إلى ذي الرأس، بل إلى الحيوان لم تكن إضافة. لأن الجناح هو جناح إلى ذي الريش ليس من حيث هو ذو ريشٍ، بل من حيث ذو الريش هو ذو جناحٍ، وإلا لما كان ذا جناحٍ إلا ما كان ذا ريشٍ. والأمر هو هو في الرأس. إذًا فالمضافان لا بد أن يؤخذا بالصفة التي هما بها مضافان. وإذا كانا كذلك صحت الإضافة ورجع كل واحدٍ منهما على الآخر بالتكافئ. مثال ذلك ذو الريش هو مضاف للجناح، لأن كل ذي ريشٍ له جناح. لكن قرين الجناح لم يؤخذ بالصفة التي بها الجناح هو مضاف إليه، فلم يرجعا بالتكافئ، فليس صحيحًا أن الجناح جناح لذي الريش، إذ مما له جناح ليس بذي ريشٍ.

20) .. يرتفع بارتفاع السيد يريد أن القانون الذي به تعرف الصفة التي من طريقها إنما تثبت إضافة المضاف إلى قرينه أنه إذا ارتفعت الصفة وبقيت سائر الصفات العارضة، لم تبق الإضافة : مثلاً لو رفعت من زيدٍ العبد صفة العبد وأبقيت على سائر صفاته، فإن صفة السيد التي هي لعمرٍو بالإضافة إلى زيدٍ مرتفعة أيضًا. والمصنف قد أغفل القسم الثاني من القانون وهو : وإن كانت الصفة موجودةً وفرضنا ارتفاع سائر الصفات، بقيت الإضافة.

21) .. أما ذو الريش فليس يرتفع بارتفاع الجناح يشبه أن هذا غير صوابٍ، إذ كل ذي ريشٍ هو ذو جناحٍ، فارتفاع الجناح يوجب ارتفاع ذي الريش على جهة الدلالة لا على جهة السببية. ومع ذلك فليست النسبة بينهما نسبة المضاف، لأنهما لا يرجعان بالتكافئ، إذ، كما سيقول المصنف، الجناح ليس يرتفع بارتفاع ذي الريش، فالذباب، مثلاً، خالٍ من الريش، ومضاف إليه الجناح. والقانون يقول إن الصفة التي بها الإضافة ينبغي أن ترتفع الإضافة بارتفاعها. 

22) .. لا من الأمور المضافة استدراك المصنف صحيح، إذ المضاف من حيث هو مضاف إنما قوامه بإضافته إلى قرينه. أما الضد فليس فقط قوامه ليس بضده، بل إن حقيقته هي مبطلة لحقيقته، فكيف إذًا، ليت شعري يجعل بعض المضاف مما يقبل المضادة.   

23) .. تشاركها فيها غيرها لو كانت خاصةً لها، و غيرها هو الكيفية.  

الفصل الثاني عشر : في الكيفية.

Text Box: ὑπἀλληλα،   وأما الكيفية فهي التي بها يقال في الأشياء كيف هي. وهو غير واحدٍ من يريد معرفة ما الكيفية وما الشيء ذو الكيفية. فالكيفيات هي مثل : الملوسة والخشونة، والبياض والسواد. والشيء ذو الكيفية فمثل : الأبيض أو الأملس أو الخشن أو الأسود. ولكن أرسطو قد لا يميز بينهما مستعملاً ذا الكيفية في معنى الكيفية، والكيفية في معنى ذي الكيفية. كذلك نحن في هذا البيان سوف لن نرى غضاضةً في الخلط بينهما. اعلم أن المشهور من هذه المقولة أنها أشد إغماضًا من سائر المقولات لأنها أبين مداخلةً لها من كل مقولةٍ مقولةٍ أخرى. إذ هي قد تعرض للجوهر مثل إنسان ما هو نحوي، وللكم مثل سطح ما هو أبيض أو أسود، وللمضاف مثل أب حازم أو ابن بار، وللفعل مثل هو يرقص قبيحًا، وللانفعال مثل هو يحتمل الألم بجلادةٍ، وللأين مثل مكان ما هو مظلم، وللمتى مثل شهر ما هو حار أو بارد، وللوضع مثل هو استلقى على ظهره أو على بطنه، ولـله مثل هو متسلح جيدًا. فلسنا نحتاج لفطنةٍ كبيرةٍ حتى ندرك بأن هذه المقولة مقولة الكيفية تكاد تلتبس بكل المقولات الأخرى. هناك أربعة أنواعٍ من الكيفية(1). ولا ريب أن أرسطو قد جعلها أجناسًا لأنه قد يكون لكل جنسٍ منها أنواع تحتها أيضًا(2). وهي أنواع بما هي أنواع جزئية(3)، ويدل عليها في اللسان اليوناني          فجنس أول وهو الملكة والحال، وجنس ثانٍ وهو القوة الطبيعية(4)، وجنس ثالث وهو الكيفيات الانفعالية والانفعالات، وجنس رابع وهو الشكل والخلقة. فأما الملكة فهي هيئة للنفس(5) طويلة البقاء متمكنة بالطبع يعسر زوالها مثل الفضيلة و العلم، ما لم يطرأ على الإنسان تغير فادح من مرضٍ أو وهنٍ. وأما الحال فهي هيئة عارضة للنفس أو شهوة غير راسخةٍ وشيكة الزوال. إذًا فالملكة يمكن أن تكون أولاً حالاً، فإذا ما استحكمت صارت ملكةً، أما الحال فهي مباينة للملكة، لأنها إذا تحققت في معناها سلبت اسم الحال(6). ويعرض هاهنا سؤال يسأل دائمًا نريد أن نبينه بكلماتٍ يسيراتٍ وهو بما ينفصل العلم والفضيلة أحدهما من الآخر(7). قلنا: العلم يوجد في جزءٍ واحدٍ فقط من النفس وهو المسمى بالقوة الناطقة، وأما الفضيلة فإنها منتشرة في جميع الأجزاء، مدخلةً النفس بأسرها تحت سلطانها، قامعةً للغضب، نافيةً للشهوات، وهو ما لا يقوى عليه العلم.

   وأما القوة الطبيعية(8) فهي القوة قوةً طبيعيةً على فعل شيءٍ أو عدم القوة قوةً طبيعيةً على فعل شيءٍ. مثال ذلك أنا كثيرًا ما قد نخبر عن بعض الأحداث بعد فحصٍ عن أبدانهم وأعضائهم بأنهم في المستقبل منهم من هو أهل لأن يصير مصارعًا، ومنهم من هو أهل لأن يصير عداءً : وذلك ليس من قبل أن هذه الصناعة أو هذه الملكة هي موجودة لهم بالفعل(9)، بل من قبل أن الاستعداد الموجود لأبدانهم إنما يعدهم لأن يكونوا بالصفات المذكورة. وأيضًا يقال مصحاح لمن ينفعل بعسرٍ عن الأمراض، وممراض لمن ينفعل بسهولةٍ عن الأمراض(10). وذلك من قبل أن للثاني قوةً طبيعيةً لا تمنعه(11) من أن يمرض دائمًا، وللأول قوةً طبيعيةً تحفظ له الصحة دائمًا. والصلب واللين إنما يقالان كذلك فمن قبل قوةٍ طبيعيةٍ فيهما : فإنه يقال صلب من جهة أن له صلابةً طبيعيةً على أن لا ينفعل بسهولةٍ، ويقال لين من جهة ضعفٍ طبيعي ولا قوةٍ على المقاومة.

   وجنس ثالث أو نوع ثالث من الكيفية وهي الكيفيات الانفعالية والانفعالات، مثل المرارة والحرارة والبرودة والبياض والسواد. وهذه لا تسمى “كيفيات انفعالية” لأنها حدثت فيها أشياء عن انفعالٍ، بل لأنها تحدث في حواسنا إحساسًا ما. مثال ذلك أن العسل هو حلو لا لأن انفعالاً حدث في العسل عن الحلاوة، بل لأنه يحدث فيمن ذاقه إحساس الحلاوة. والأحق باسم الكيفيات الانفعالية البياض والسواد، وما بينهما من الحمرة والصفرة : إذ هذه إنما تحدث إما بانفعال النفس أو بانفعال البدن(12). فمثال على انفعال البدن تسوده. ومثال على انفعال النفس الصفرة والحمرة(13)، أعني أن النفس حينما يعتريها خجل شديد ويركبها شعور عظيم بالعار تحاول أن تتوارى، فتنشر على ظاهر البدن دمًا، وذلك هو سبب الحمرة التي تعلو كل وجهٍ صاحبه به شعور بعارٍ كبيرٍ. والصفرة أيضًا إنما تحدث من انفعالٍ نال النفس من وجلٍ شديدٍ جدا، فتهرب إلى القلب، فيتبعها الدم، فتخلو الأجزاء الظاهرة من البدن من الدم، وذلك ما هو شحوبها. وتقول الفلاسفة إن هذه الصفرة أو الحمرة إن دامت طويلاً بالبدن، فإن الانفعال أيضًا هو دائم(14). إذًا فهذه الكيفيات إذا استحكمت في البدن وصار بها إنما يقال فينا “كيف نحن” سميت أيضًا بالكيفيات الانفعالية، وما كان من هذه سريع الزوال قليل الدوام خص باسم الانفعال فقط. مثال ذلك أنه لا يقال فيمن غضب لبعض الوقت و سخن ثم ما لبث أن عاد إلى سكون طبعه بأنه أحمر اللون أو غضوب أوساخن أو بارد، أعني أن تلكم الأعراض ما لم تبق لم توجب هذه الصفات(15). إذًا فالكيفيات الانفعالية إنما تفارق الانفعالات من جهة أن الانفعالات هي وشيكة الذهاب زائلة بسهولةٍ، وأما الكيفيات الانفعالية التي بها إنما يقال فينا “كيف نحن”، فهي تبقى طويلاً.

   ونوع رابع من الكيفية وهو الخلقة والشكل الموجودان في الأشياء. فالشكل توصف به الأشياء الغير متنفسة، والخلقة توصف بها الأشياء المتنفسة(16). والشكل مثل المثلث والمربع والمخروط والاسطوانة والكرة. والخلقة مثل وصفي الحسن والقبح. وكذلك الاستقامة والانحناء في الخط، فهما من هذا الجنس الكيفي، لأنه إذا قلنا في الشيء إنه منحنٍ أو مستقيم سميناه بواسطة الانحناء والاستقامة. وأما الملوسة والخشونة والتخلخل والتكاثف التي بها يوصف المتخلخل والكثيف والأملس والخشن، فيظن بأنها داخلة تحت الكيفية، لكنه في أمرها شك : فإنه إنما يقال كثيف لما أجزاؤه متقاربة بعضها من بعضٍ. ويقال متخلخل(17) لما أجزاؤه متباعدة بعضها من بعضٍ، والأبعاد التي بينها كثيرة. وكذلك الأملس فإنما يقال فيما أجزاؤه من الجسم مستوية في سطحه ليس يفضل بعضها على بعضٍ. والخشونة إنما تحدث من اختلاف أجزاء الجسم على سطحه فيوجد بعضها أطول وبعضها أقصر(18). لذلك فإن بعض الفلاسفة كالعلامة أنقوريوس Text Box: κεἴσθαιالذي هو عندي من أكابر العلماء، قد مالوا إلى عد هذه المعاني من مقولة Text Box: Jacereالوضع المسماة في اللسان اليوناني       ، وفي اللسان اللاتيني       إذ هو بين أن لكل جزءٍ جزءٍ من الجسم وضعًا ما. ومع ذلك فنحن نرى أن هذه المعاني الأملس والخشن والكثيف والمتخلخل إنما هي من الكيفية، فإن ما قد بيناه في أمر الكيفية إنما هو متعلق بطبائع الأشياء لا بمدلول الألفاظ. إذًا فهذه الأشياء أيضًا هي من مقولة الكيفية ضرورةً(19). واعلم أن ذوات الكيفية هي مدلول عليها بأسماءٍ مشتقةٍ من أسماء الكيفيات المذكورة(20)، مثل أملس من الملوسة، أو كثيف من الكثافة، أو ما أشبههما. وربما اتفق وهو  في الشاذ أن ذوات الكيفية ليس يدل عليها باسمٍ مشتق من الكيفية Text Box: ἄρέτηالموجودة لها : مثل الفضيلة، فالموصوف بها لا يقال له فاضل، بل مقتصد أو مجتهد. كذلك في اللسان اليوناني لا يقال لمن له       أعني الفضيلة إنه            Text Box: ἄρέτόςText Box: σπουδαιος.       بطريق الاشتقاق، بل إنه          . إذًا فذوات الكيفية قد تقال عليها الكيفية بغير طريق الاشتقاق أيضًا. 

   ولننظر الآن في خواص الكيفية ولواحقها بعد أن كنا قد تكلمنا في أنواعها المختلفة(21). فأولاً الكيفيات إنما تقبل الأضداد قطعًا. فإنه بين أن المرض ضد الصحة، والجور ضد العدل، والحرارة ضد البرودة، والخير ضد الشر، والعلم ضد الجهل. لكن ليس يوجد التضاد في كل الكيفيات : فإنه ليس للأصفر ضد و لا للأغبر، أو المربع أو المثلث. إذًا فمن المفيد أن يوضع قانون به يعرف أي الكيفيات التي لا تقبل الأضداد. وهو أن العلماء يدركون أن الكيفيات التي في وسط الأضداد وأيضًا الشكل والخلقة ليس لها أضداد أصلاً : ومثال على الكيفيات المتوسطة الأغبر والأصفر. فكلاهما موجود بين السواد والبياض ومتولد من اختلاطهما، والأبيض والأسود متضادان، ولا ضد للأغبر ولا للأصفر. فبان إذًا أن الكيفيات المتوسطة لا تقبل الأضداد. ولا كذلك أنواع الكيفية التي هي الخلقة والشكل هي لها أضداد : فإنه بين أنه ليس للمربع ضد ولا للمثلث و لا للدائرة و لا للمخروط ولا للاسطوانة. إذ من المعلوم أن الكيفية التي لها ضد ليس موضوعها مما لا يقبل سواها. وينبغي أن نقول أيضًا : إنه متى كان أحد الضدين في المقولة، فإن الضد الثاني يكون في تلك المقولة بعينها. مثال ذلك إن العدل لما كان ضد الجور، وكان العدل في  الكيفية، كان الجور في الكيفية أيضًا. كذلك لما كان البياض في الكيفية، كان السواد في الكيفية ضرورةً. فيعرف مما قيل أن الأضداد أبدًا هي من مقولةٍ واحدةٍ. وقد بان لنا أيضًا أن هذه الخاصة خاصة قبول الأضداد(22) ليست هي موجودةً لكل أنواع الكيفية، وليست هي لا توجد إلا للكيفية فقط. وقد تقبل أيضًا الكيفية الأكثر والأقل : فإنه يقال هو أبيض أشد، أو هو أسود أشد، أو هو موسيقي أشد، أو هو موسيقي أقل. لكن ليس كل الكيفية يقبل الأكثر والأقل، ولا الكيفية فقط(23) إنما تقبل الأكثر والأقل. إذ لا شك هو لا يقال هناك حكمة أكثر حكميةٍ من حكمةٍ، ولا بياض أكثر بياضيةٍ من بياضٍ، ولا علم أكثر علميةٍ من علمٍ، ولا مثلث أكثر مثلثيةٍ من مثلثٍ، ولا مربع أكثر مربعيةٍ من مربعٍ. فإن مثلثًا ما لو كان فيه شيء أزيد أو أنقص بطل كونه مثلثًا أصلاً. إذًا فحري بنا أن نضع ضابطًا به نميز الكيفيات التي تقبل الأكثر والأقل من التي لا تقبل المقايسة بهما. وهذا الضابط هو أن الكيفيات المجردة لاتقبل الأكثر والأقل(24)، وأما ذوات الكيفية(25) فإنها تقبل المقايسة بالأكثر والأقل، على معنى أنه هو لا يجوز أن نقول فصاحة هي أكثر فصاحةٍ من فصاحةٍ أو أقل منها فصاحةٍ، ولكن هو جائز أن نقول فصيح ما، هو أكثر فصاحةٍ أو أقل فصاحةٍ من سائر الفصحاء. فبان إذًا أن الكيفيات لا تقبل إطلاقًا الأكثر والأقل، وأن الذي قد يقبلهما إنما هو ذوات الكيفية. وقد قلنا آنفًا إن الأشكال أيضًا لا تقبل الأكثر والأقل، وهذا بين : إذ إن زيد شيء في الدائرة أو نقص منها(26)، بطل أن تكون دائرةً، وصار لها اسم شكلٍ غيرها.                                          

Text Box: ἴδιον   وإذ استوفينا الكلام في الكيفيات التي تقبل الاختلاف بالأكثر والأقل، وفي التي لا تقبلهما، فلنقل الآن في ما هي الخاصة التي للكيفية(27)، واسم الخاصة في اللسان اليوناني     . لقد قلنا إن خاصة الجوهر الأول الواحد أنه يقبل الأضداد، وهو غير أن يكون له ضد. إذ كنا بينا في فصل الجوهر أن الجوهر لا ضد له. إذًا فكما أن خاصة الجوهر أن يقبل الأضداد مثل إما المرض أو الصحة، وأن خاصة الكم أن يكون مساويًا أو لا مساويًا، وأن خاصة الإضافة أن كل واحدٍ من المضافين يرجع على صاحبه في النسبة بالتكافؤ، وأن تكون طبيعتهما واحدةً، كذلك فإن خاصة الكيفية هي أنه يقال فيها الشبيه وغير الشبيه : فإنه قد يقال حلو ما شبيه أو غير شبيهٍ في الحلاوة بحلوٍ غيره، وأبيض ما شبيه أو غير شبيهٍ في البياض بأبيض غيره، ومجنون ما شبيه أو غير شبيهٍ في الجنون بمجنونٍ غيره، وأملس ما شبيه أو غير شبيهٍ في الملوسة بأملس غيره، وحار ما شبيه أو غير شبيهٍ في الحرارة بحار غيره. فهذه الكيفيات إنما خاصتها هذه الخاصة المذكورة ليس غير. وليس لأحدٍ أن يتشكك فيقول إن هذه المعاني : الانفعال والملكة والعلم كانت قد وضعت في المضاف، والآن هاهي موضوعة في الكيفية. إذ الجواب أن هذه المعاني إنما تلحقها الإضافة بأجناسها، وأما بأنواعها فهي من الكيفية(28). مثال ذلك إن قلت علم، وأردت به الجنس الذي تحته أنواعه، فهو من المضاف قطعًا، فإن العلم علم بمعلومٍ. وإن قلت موسيقى، فهي نوع من العلم وليست بجنسٍ، إذًا فهي من الكيفية، لأنا لا نقول موسيقى الموسيقي بل علم الموسيقي. وأيضًا الحال أو الملكة، فهي بماهي أجناس من المضاف، وبما هي أنواع من الكيفية. إذ الحال أو الملكة بما هي جنس مثل العلم، فهي من المضاف، وبما هي نوع مثل الموسيقى أو النحو، فهي من الكيفية. فيظهر بذلك أن أرسطو ذا الفطنة الفائقة لم تكن هذه المداخلة عنده أيضًا بمنكرةٍ : بل قال إنه يمكن للشيء الواحد بعينه إذ هو في مقولة الكيفية أن يكون أيضًا من المضاف، وأنه ليس من المحال أن يعد في المقولتين جميعًا(29).         

إشارات على الفصل الثاني عشر

1) .. أنواعٍ من الكيفية وهي أنواع الكيفية بالقسمة الأولى والذاتية.

2) .. أنواع تحتها أيضًا إذ هي معانٍ مقولة على كثيرين مختلفين بالنوع.

3) .. أنواع جزئية وهذه الأجناس إنما سميت أنواعًا من جهة دخولها تحت جنسٍ أعم. وذلك معنى كونها جزئيةً.

4) .. القوة الطبيعية وحقه أن يزيد “ولا قوة طبيعية”.

5) .. فهي هيئة للنفس الملكة والحال هي هيئة موجودة في النفس، وفي المتنفس من جهة ما هو متنفس.

6) .. اسم الحال كل ملكةٍ حال، والحال ليست بملكةٍ. وكلاهما في جنسٍ واحدٍ من أجناس الكيفية الأربعة.

7) .. أحدهما من الآخر هذا الاستطراد في ما الفصل بين العلم والفضيلة هو من خارج “المقولات”.

8) .. القوة الطبيعية ابتداء القول في الجنس الثاني من الكيفية وهو الذي به يقال في الشيء إن له قوةً طبيعيةً، أو لا قوة طبيعية له.

9) .. موجودة لهم بالفعل إنما يريد المصنف أن يفرق بين جنس الكيفية المذكور آنفًا، وهو الملكة، وبين هذا الجنس الذي هو قوة طبيعية ولا قوة طبيعية.

10) .. بسهولةٍ عن الأمراض فمصحاح غير الصحة، وممراض غير المرض. فالصحة والمرض كلاهما حال، وتابعان للجنس الأول من الكيفية. وأما مصحاح فهو وصف لقوةٍ طبيعيةٍ في البدن بها ينفعل بعسرٍ عن المرض. والممراض وصف للاقوةٍ طبيعيةٍ في البدن هو بها ينفعل بسهولةٍ عن المرض.

11) .. لا تمنعه” كان الأصح أن يقول وذلك من قبل أن الثاني لا قوة طبيعية له تمنعه من أن يمرض دائمًا.

12) .. أو بانفعال البدن وحينئذٍ فهي كيفية نفسية بحتة إن كان الانفعال في النفس بلا مشاركة البدن، أو كيفية بدنية بحتة إن كان الانفعال في البدن بلا مشاركة النفس، أو كيفية نفسية أو بدنية بمشاركة أحدهما الآخر إن كان انفعاله مع انفعال قرينه. 

13) .. الصفرة والحمرة هو انفعال في البدن تابع لانفعال النفس.

14) .. أيضًا هو دائم يريد أن الحمرة أوالصفرة الحادثتين بسبب انفعال النفس من خجلٍ أو وجلٍ، لو دامتا بسبب انفعالٍ دائمٍ في البدن، لكانتا له كيفيةً انفعاليةً، أي يجاب بهما عن كيف هو البدن. وإذ هما غير دائمين، فإنما يسميان بالانفعالات لا بالكيفيات الانفعالية.

15) .. لم توجب هذه الصفات أي لم تقل فيمن عرضت له بأنها كيفياته، بل إنها انفعالات له.

16) .. الأشياء المتنفسة وهي ذوات النفس.

17) .. والكثيف … ويقال متخلخل يذكر شارح “المواقف” علي بن محمد الجرجاني المتوفي سنة 816 من الهجرة، أن التخلخل إنما يقال باشتراك اللفظ على معانٍ ثلاثةٍ كل معنًى هو من مقولةٍ : الأول، من مقولة الكم والمقول عليه التخلخل بإطلاقٍ، وهو “ازدياد حجم الجسم من غير أن ينضم إليه جسم آخر”، وضده التكاثف “الذي هو انتقاص حجم الجسم من غير أن ينفصل عنه جزء.” والثاني، من مقولة الوضع، ويسمى حينئذٍ الانفشاش وهو “أن تتباعد الأجزاء بعضها عن بعضٍ ويدخلها الهواء أو جسم آخر غريب، كالقطن المنفوش.” وضده الاندماج وهو “أن تتقارب الأجزاء الوحدانية الطبع بحيث يخرج عنها ما بينها من الجسم الغريب كالقطن الملفوف بعد نفشه.” والثالث، من مقولة الكيف، وهو الرقة وضدها الغلظة.

18) .. وبعضها أقصر هذا تصوير للملوسة بأنها عبارة عن وضعٍ مخصوصٍ لأجزاء سطح الأملس، وهو كونها مستويةً، وللخشونة بأنها عبارة عن وضعٍ مخصوصٍ لأجزاء سطح الخشن، وهو كونها مختلفة الوضع  :

انظر المثال :     

19) .. مقولة الكيفية ضرورةً وهو رأي خالف به المصنف أيضًا ترجيح أرسطو “في المقولات” بأن المعاني المذكورة الأشبه أنها من مقولة الوضع. 

20) .. من أسماء الكيفيات المذكورة أي أن الكيفيات لها أسماء من حيث هي مجردة عن الموضوعات الموجودة فيها، فإن وصفت بها الموضوعات، اشتقت منها أسماء تصير بها محمولةً عليها. مثال ذلك البياض، فإنه إذا حمل على جسمٍ، اشتق منه أبيض، فقيل جسم أبيض.

21) .. أنواعها المختلفة أي أجناسها الأربعة وهي : الملكة والحال، والقوة الطبيعية ولاقوة طبيعية، والكيفية الانفعالية والانفعال، والشكل والخلقة.

22) .. خاصة قبول الأضداد لا تفهم من ذلك خاصة أن تتعاقب عليها الأضداد، فذلك ليس يوجد إلا للجوهر. بل افهم خاصة أن يكون لها ضد، وهذا يشارك فيه الكيفية الإضافة أيضًا.

23) .. ولا الكيفية فقط فالإضافة أيضًا تقبل ذلك.

24) .. لاتقبل الأكثر والأقل لأنه حينئذٍ إنما تكون الكيفيات صورًا مأخوذةً مجردةً عن الهيولى التي هي سبب الاختلاف، والفساد والنقصان.

25) .. ذوات الكيفية إذ هي صور ملابسة للهيولى.

26) .. في الدائرة أو نقص منها أي زيد أو نقص في حدها، إذ حد الدائرة هو المعطي لحقيقتها الصورية. وأما الدائرة المحسوسة، فأيا كانت، فهي أبدًا ناقصة عن الدائرة الحدية، و يمكن العمل فيها أبدًا بالتهذيب حتى تصير قريبة الحقيقة ما أمكن من الدائرة الحدية.

27) .. الخاصة التي للكيفية الخاصة التي تخص الكيفية و لا تشاركها فيها غيرها.

28) .. الإضافة بأجناسها، وأما بأنواعها فهي من الكيفية لا تفهم أن المعاني المذكورة أجناسها من مقولة الإضافة، وهي بذاتها من مقولة الكيفية، فهذا بين البطلان : إذ معلوم أن النوع وكل أجناسه التي فوقه إنما هي كلها تحت جنسٍ أعلى واحدٍ. بل افهم أن الملكة مثلاً، بذاتها هي من مقولة الكيفية، وأما جنسها فقد دل عليه باسمٍ يدل عليه دلالة الإضافة، وهو بواسطة ذلك الاسم إنما لحق الملكة الإضافة إذ هي كيفية. 

29) .. في المقولتين جميعًا لكن من جهتين لا من جهةٍ واحدةٍ.

الفصل الثالث عشر : في أن يفعل وفي أن ينفعل.

   لقد استوفينا الكلام في المقولات الأربعة التي هي أكبرها وأعوصها. والمقولتان اللتان تليان الكيفية في ترتيب النظر هما أن يفعل وأن ينفعل(1). ويشبه أن تكون هاتان المقولتان كالنابعتين من الكيفية. فإن المسخن هو حار بالضرورة، والحار إنما هو ذو كيفيةٍ. كذلك فالذي يتسخن هو يقبل الكيفية بأن ينفعل. وأيضًا الذي يعلم هو معلم بأن يعلم، فيكون منه متعلم. والمعلم والمتعلم كلاهما ذوا كيفيةٍ. وكذا الأمر في سائر المعاني حيث يبين جدا بأن المقولتين إنما يستدعي دائمًا النظر فيهما أن ينظر في الكيفية. ويرى ناس كثير أن أن يفعل وأن ينفعل(2) لا يمكن أن يحدثا إلا من أضدادهما(3). مثال ذلك أن الحلو إنما يحدث حلاوةً في شيءٍ هو عادم لها. إذ لو كان الذي ينفعل عن الحلو هو أيضًا حلوًا بالطبع، لامتنع إذًا أن يقبل حلاوةً أصلاً. فلزم اضطرارًا أن يكون المنفعل خاليًا من الحلاوة حتى يمكنه أن يقبل حلاوةً من خارجٍ. لذلك قالوا إنه لما كان موضوع أن يفعل هو حلوًا، وموضوع أن ينفعل هو عادمًا للحلاوة، إذًا فالاثنان متضادان ضرورةً(4). وأما غير هؤلاء(5) فيرون أن تينك المقولتين لا يمكن أن توجدا إلا في الأشياء المتشابهة المشتركة في الجنس، إذ أن الفاعل إنما يفعل شبيهه، والمنفعل إنما ينفعل عن شبيهه. مثال ذلك أن الحلو والمر، أو الحار والبارد وإن بدوا متضادين، فإنهما متشابهان من قبل أن المدرك لهما إنما هو حس واحد بعينه. وأيضًا هم يقولون إن أن يفعل وأن ينفعل لا ينبغي أن يدخل في حدهما معانٍ غريبة ومباينة، كالعدد في حد المر، أو مما عسى أن ينفعل بياض العدد(6). ولكن لنترك هذه المباحث لغيرنا(7)، وليكن تعويلنا على هذا الأصل : وهو أن أن يفعل وأن ينفعل واحد بالجنس، يختلفان بالنوع. مثال ذلك الحار الذي يفيد البارد من حرارته هو مشارك للبارد في الجنس، لكنه يخالفه بالكيفية لأنه يسخن. وأيضًا العالم والجاهل المتعلم منه، كلاهما واحد بالجنس، ويختلفان بالكيفية. إذًا فأن يفعل وأن ينفعل متشابهان بالجنس، متضادان بالكيفية(8). وبأية حالٍ، فإنه يظن بأن هاتين المقولتين، كما قد أسلفنا، هما مداخلتان جدا للكيفية ليس فقط بالرتبة، بل بالحد أيضًا، لذلك كانت الخواص الملحقة بهما هي بعينها الخواص الملحقة بالكيفية. على معنى أن المقولتين إنما تقبلان المضادة كالكيفية، وتقبلان أيضًا الأكثر والأقل كالكيفية، بلا خلافٍ. وأما في ما هي الخاصة التي لهما ولا يشركهما فيها غيرهما فلا ترجونها، إذ ولا أرسطو أيضًا كان قد بينها.

إشارات على الفصل الثالث عشر

1) .. أن يفعل وأن ينفعل أن يفعل هي مقولة برأسها، وأن ينفعل مقولة برأسها.

2) .. أن يفعل وأن ينفعل أن يفعل وأن ينفعل متلازمان ضرورةً : أي إن كان أن يفعل من شيءٍ فهو أن يفعل في شيءٍ، ذلك الشيء يكون متلقيًا للفعل، فيكون من جهته في حال أن ينفعل. والعكس كذلك.

3) .. إلا من أضدادهما يشبه أن يكون المصنف، ومن يحيل عليهم في هذا الكلام لم يخلصوا جيدًا المقولتين، ويفرزوهما من معانٍ أخرى شديدة الاختلاط بها. فأن يفعل هو بالضرورة أن يفعل لشيءٍ ما في شيءٍ ما. كأن يسخن، إذ الحرارة هي التي لها هذا أن يسخن. لكن أن يسخن الذي هو تحت مقولة أن يفعل ليس هو بعينه الحرارة التي تفعل أو الحرارة التي في المنفعل، والتي هي أثر أن يسخن، والتي حصولها في المنفعل تابع لأن يتسخن هو. لكن أن يسخن إنما هو نفس فعل التسخين، وصيرورته وحدوثه، بلا اعتبارٍ للشيء الذي هو محل هذا الفعل والصيرورة. إذًا فذلك ما هو مقصود أرسطو بمقولة أن يفعل، وقس عليها فيما قيل أيضًا مقولة أن ينفعل.

4) .. إذًا فالاثنان متضادان ضرورةً يريد أن قومًا يرون أن أن يفعل لا يمكن أن يفعل إلا في منفعلٍ هو خالٍ مما لأن يفعل. وذلك تضادهما. فمثلاً الفعل بالحلاوة هو لذي حلاوةٍ لا محالة، والمنفعل بالحلاوة لا يمكن أن يكون ذا حلاوةٍ، لأنه لو كان ذا حلاوةٍ لما استفاد حلاوةً، وإن لم يستفدها،  لم يكن للفاعل بالحلاوة فاعلاً، ولما كان أن يحلي.

5) .. وأما غير هؤلاء يريد أن الفريق الأول يرى أن فعل الفاعل في المنفعل إنما هو من جهة ما هما متضادان. أما الفريق الثاني المخالف فإنما يراه من جهة ما لذينك من مشابهةٍ، وهو اتفاقهما في الجنس، وإن تضادا في النوع.

6) .. بياض العدد والذي كان قد نزع إلى تأويل الأشياء بالأعداد هما خاصةً أشياع فيثاغوراس، وبعض أتباع أفلاطون.

7) .. المباحث لغيرنا لأنها مباحث أدخل في الفلسفة الأولى، وكالغريبة عن علم المنطق.

8) .. أن يفعل وأن ينفعل واحد بالجنس ما أعجب هذا الكلام. وهذا لعمري من مواضع الخلط الذي قد نبهنا عليه في الإشارة(3) أي أن المصنف قد أحال على مقولتي أن يفعل وأن ينفعل عين الحكم الذي هو لموضوعيهما : على معنى أن الذي هو واحد بالجنس، وإن اختلف بالنوع، إنما هو موضوع أن يفعل، وموضوع أن ينفعل، كالحلاوة التي تفعل في المر حلاوةً أخرى، فكلاهما من نوعٍ مختلفٍ، وجنسهما واحد، وهو الطعم. ولا يمكن مع ذلك أن يقال إن أن يفعل وأن ينفعل مختلفان أيضًا بالنوع متفقان بالجنس، لأن ذلك بين المخالفة للقول الأرسطي : إذ لو كانا كذلك لكانا أولاً تحت مقولةٍ أعلى، لأنهما نوعان، ولكانا تحت مقولةٍ واحدةٍ، لأن ما هو مرتب تحت جنسٍ واحدٍ، فهو مرتب تحت الجنس الأعلى لذلك الجنس. لكن أرسطو إنما يعد كل واحدٍ منهما جنسًا أعلى بحاله، لذلك كانت المقولات عنده عشرًا.   

الفصل الرابع عشر : في الوضع. 

   وأما “الوضع” فقد تبينا بما يكفي أمر هذه المقولة حين كلامنا في الإضافة(1). فإن كل ما هو في المكان فله وضع، والوضع هو نسبة ما إلى المتمكن(2). لذلك فلنتبع أرسطو، ولنمر إلى شيءٍ آخر.

الفصل الخامس عشر : في الأين وفي متى.     

   اعلم أن الأين وإن أشبه المكان، ومتى وإن أشبه الزمان، فالاثنان إنما يخالفان الاثنين. بل الأين هو الكون في المكان، مثل في روما، وفي مجلس الشيوخ، ومتى هو الكون في الزمان، مثل قبل ثلاث ساعاتٍ، وبعد شهر مارس. فإن الكون في المكان هو غير المكان، والكون في الزمان هو غير الزمان(3). و لم يستفض أرسطو في شرح هاتين المقولتين أيضًا لوضوحهما عنده، فلنحذو حذوه. ثم إني أقول إنه كان قد نشأ بين أفاضل الفلاسفة نزاع قديم وكبير في شأن الزمان والمكان(4)، حيث إن بعضهم يرى أنهما من الأمور الجسمانية، وبعضهم يرى أنهما من الأمور الغير جسمانية. 

الفصل السادس عشر : في لـه.

   وله تقال على أنحاءٍ كثيرةٍ(5). فإنه بعد البحث في هذه المقولة(6)، فقد وجد أن أنواعها تكاد تكون ثمانيةً. نوع أول وهو ما يكون للنفس، مثل العدل والعفة والجور واللذة. ونوع ثانٍ وهو ما يكون للبدن مثل البياض والسواد أو لونٍ آخر، أو كيفيةٍ ما أخرى. ونوع ثالث متعلق بالكم، مثل أن تكون لقامة أحدنا أربعة أقدامٍ أو خمسة أقدامٍ من الارتفاع. ونوع رابع(7) وهو إذا كان الشيء الملتبس بالبدن إنما يلتبس بجزءٍ منه فقط لا بكله، مثل الخاتم بالإصبع، والحذاء بالقدم. ونوع خامس(7) وهو إذا كان الشيء محيطًا بالبدن،  لا في البدن، مثل الثياب، أو كل ما قد يلبس. ونوع سادس وهو أعضاء البدن، فإنها تقال هي لنا، كاليدين والرجلين والرأس، أو كل جملةٍ أخرى من الأعضاء. ونوع سابع ذو نسبةٍ بالمكان، كالإناء الذي فيه حنطة أو خمرة. ونوع ثامن يدل على ما نملكه من خيراتٍ أو أراضٍ : كقولنا هذا له بناء أو ضيعة أو قبور لأجدادٍ له. تلك إذًا هي معاني له الثمانية، فإن أصاب غيرنا ما قد يزيد عليها فلا يرميننا بالغفلة، إذ أن أرسطو لم يمنع من أن يكون في هذه المقولة تدقيق أكثر مما بينه هو نفسه. لكن كثيرًا من العلماء كانوا يأبون هذه العبارة قائلين إنما هي مجازية لا حقيقية، قولنا امرأة ما لها بعل، أو رجل ما له زوجة، أو أب ما له ابن، أو ابن ما له أب. وذلك لأن المالك لا يمكن أن يكون مملوكًا(8) : لذلك فالأخلق أن يقال: الزوج للزوجة، والزوجة للزوج، أو الأب للابن، أو السيد للعبيد. إذ هم يزعمون أن اللفظة الواحدة لا يمكن أن تدل معًا على الذي يملك وعلى المملوك.  

إشارات على الفصل الرابع عشر والخامس عشر  والسادس عشر

1) .. كلامنا في الإضافة في صدر كلامه في الإضافة.

2) .. المتمكن الذي في المكان. والوضع هو نفس نسبة المتمكن إلى ما يطيف به من المكان. فمثلاً نسبة ما لجسد زيدٍ إلى مكانه تعطيه وضع الاضطجاع، ونسبة أخرى تعطيه هيئة الجلوس، إلى غيره. وهذا المعنى للوضع غير الذي ذكره في فصل الكم بأنه منه ما لأجزائه وضع بعضها عند بعضٍ، ومنه ما ليس له وضع. إذ هذه النسبة إنما هي بين أجزاء الشيء بعينه، أما تلك فهي حال للشيء نفسه ولأجزائه بالإضافة إلى ما يحيط به. لذلك ما قال أرسطو إن الوضع بهذا المعنى هو داخل تحت الإضافة بواسطة تسمية الجنس.  

3) .. هو غير الزمان لأن المكان بلا اعتبارٍ لكونه مكانًا لشيءٍ، كان غير ذي خصوصيةٍ، لذلك فهو مكان فقط. لكنه إذا أخذ باعتبار أن شيئًا ما متمكن فيه، صار ذا خصوصيةٍ، وبذلك إنما يسمى أينًا. وكذا الأمر في الزمان وفي متى.   

4) .. شأن الزمان والمكان أعظم الخلاف في شأن الزمان والمكان قديمًا إنما كان خاصةً بين أرسطو وأشياعه، وأفلاطون وأشياعه. والموضعان البينان اللذان يرى فيهما رأي كل واحدٍ من الحكيمين في الأمرين هما : كتاب “طيماووس” لأفلاطون، و”السماع الطبيعي” لأرسطو.

5) .. على أنحاءٍ كثيرةٍ كل هذا التفصيل في مقولة لـه إنما ورد في متن “المقولات” في آخر الجزء الثالث، أي في آخر الكتاب. وأرسطو حين كلامه عنها في الجزء الثاني المتعلق بإحصاء المقولات كلها إنما اقتصر على ذكر بعض الأمثلة فقط. كذلك فإن كلامه في “لـه” في الموضع المذكور لم يكن على سبيل الكلام في المقولة، بل على سبيل بيان معاني “لـه”، حتى أن ابن رشدٍ والمفسرين من قبله كانوا يرون أن المعنى المخصوص بالمقولة من المعاني التي ذكرها أرسطو إنما هو المعنى الثالث فقط كما هي مرتبة في المتن، وهو المعنى الرابع و الخامس في ترتيب المصنف هاهنا. 

6) .. في هذه المقولة لقد نبهنا على أن أرسطو لا يريد بإيراده للمعاني الثمانية التي سيذكرها المصنف أنواع “لـه” المقولة، بل إنما يريد المعاني التي بها تفهم لفظة “له” في اللسان اليوناني. لذلك فالمصنف هاهنا إما قد أخطأ، وإما أنه أساء العبارة.

7) .. ونوع رابع … ونوع خامس إذًا فهذا المعنى الرابع والمعنى الخامس، فقط ما يدخلان في مقولة “لـه”، عند المفسرين.

8) .. أن يكون مملوكًا ويبدو أن جهة الاعتراض هي أن نسبة المالك إلى المملوك، والمملوك إلى المالك هي نسبة إضافةٍ شبيهةٍ بنسبة العبد إلى السيد: فإن كان سيد ما سيدًا بالإضافة إلى عبدٍ ما، فإنه لا يمكن أن يكون ذلك العبد بعينه هو أيضًا سيدًا بالإضافة إلى السيد، والسيد عبدًا بالإضافة إلى العبد، كما في الأخوة، مثلاً. كذلك فما هو مملوك لمالكٍ، لا يمكن أن يكون أيضًا مالكًا لذلك المالك بعينه.  

الفصل السابع عشر : في لواحق المقولات.

   فها نحن أولاء قد استوفينا المقولات كلها، وجاوزنا هذا البحر الخضم، فعسى ألا نكون قد أسخطنا العلماء لطلبنا حتى يكون كلامنا مفهومًا أيضًا للمبتدئين. وقد بقيت بعض المعاني ملحقة بالكتاب ينبغي التحقيق فيها. إذ حين كلامنا في كل مقولةٍ مقولةٍ، كنا قد ذكرنا المضادة، وبينا لأي مقولةٍ هي تعرض، ولأي مقولةٍ لا تعرض. لكنا لم نفصل في موضعٍ، ما معنى الأضداد. وهناك أيضًا ألفاظ أخرى إنما تحتاج لأن تبين ويحقق مدلولها وخواصها. إذًا فلنبدأ ببعض الكلام في أمر الأضداد، وهو مما لا غنية لنا عنه.   

الفصل الثامن عشر : في المتقابلات. – في أنواع الأضداد الثلاثة.

Text Box: HabereText Box: Habitus   والمتقابلات أربعة أصنافٍ : فإن الشيء يقال يقابل غيره إما على طريق المضاف، مثل الضعف للنصف، والأب للابن. وإما على طريق المضادة، مثل الشر للخير. وإما على طريق الملكة والعدم : واعلم أن المقصود بلفظة  الملكة         المشتقة من مصدر         ليس ما عرفناك إياه فيما سلف بأنه حال ما بالنفس راسخة(1)، بل القنية، مثل العمى والبصر. والصنف الرابع هو ما كان على طريق الإيجاب والسلب(2)، مثل “هو يجري”، “ليس هو يجري”. والفرق بين المتضادين والمضافين بين لأدنى نظرٍ(3). فإن المضافين إنما تقال ماهية كل واحدٍ منهما بالقياس إلى الآخر، مثل النصف الذي هو نصف للضعف المقابل، بالطبع، والضعف الذي هو ضعف النصف المقابل. وأما المتضادان فليس تقال ماهية أحدهما بالقياس إلى الآخر(4). فإنه ليس يقال إن الشر شر للخير، أو الخير خير للشر. إذًا فالفرق بين هذين الصنفين من التقابل بين ومعلوم. والمتضادات أصنافها ثلاثة : صنف أول وهو المتضادات التي بينها متوسط، وذلك في المضادة التي بين طرفيها شيء أوسط. وصنف ثانٍ وهو المتضادات التي ليس بينها متوسط. وصنف ثالث وهو المتضادات التي بينها متوسط، لكن ليس لأوساطها اسم، كما في بعض الأمور، فيعبر عنها بسلب الطرفين. مثال ذلك الأبيض والأسود هو يوجد بينهما الأصفر والأدكن، وذانك اللونان هما متقابلان. فإنه ليس واجبًا أن يكون لون الجسم أحد المتقابلين، بل قد يخلو من كليهما، على معنى أنه إن كان مسلوب السواد، فيمكن أن يكون أدكن، أو كان مسلوب البياض، فيمكن أن يكون أصفر(5). وأما في المتقابلين اللذين ليس بينهما متوسط، فإن وجود أحدهما يمنع وجود الآخر إطلاقًا(6) : مثل الصحة والمرض اللذين لا يخلو بدن الإنسان ضرورةً من أحدهما، وليس يوجد بينهما متوسط. والمثال على المتقابلين اللذين بينهما متوسط و ليس له اسم، بل يدل عليه بسلب الطرفين: عادل وجائر. فإنه بينهما معنًى لا نلفى له اسم، فنعبر عنه بسلبهما معًا : لا عادل ولا جائر.  

Text Box: στέρησις   ولنحقق الآن في المتقابلات التي على طريق الملكة والعدم. فهذان لا يوجدان إلا إذا كانا في شيءٍ واحدٍ بعينه، وفي الوقت الذي من شأن المعنى أن يوجد له. في شيءٍ واحدٍ، كالعمى والبصر، أي الإبصار أو عدم الإبصار، وهو العينان. وخاصةً في الوقت الذي من شأن المعنى أن يوجد له : إذ لا يقال أصلع لمن ليس له شعر إلا في الوقت الذي من شأنه أن يكون له ذلك(7). ولا يقال للطفل الرضيع إنه أدرد. فالعدم المسمى في اللسان اليوناني         إنما يدل على أن الشيء هو من شأن المعنى أن يوجد له، لكنه هو خالٍ منه. ولك أن تعلم أن البصر ليس هو ذا البصر، والعمى ليس هو ذا العمى. فإنه لو قيل خلاف ذلك، تبلبلت أذهاننا، ولزم أن شيئًا واحدًا يقال عليه أعمى وعمًى. وهذا ممتنع : فإن إنسانًا ما هو أعمى، ولا يقال هو عمًى. فبين إذًا أن ذا العمى والعمى، ليسا شيئًا واحدًا. وكذلك ليس الشيء الذي يوجب هو الموجبة، والذي يسلب هو السالبة. فإن الموجبة قول موجب لشيءٍ، والسالبة قول سالب لشيءٍ. وأما الموجب والمسلوب، فليسا هما كذلك. مثل قولنا : سقراط يحاور. سقراط ليس يحاور(8). ولكن الموجب والمسلوب يتقابلان كتقابل الموجبة والسالبة. وربما ضاد الشر شر، إذا كانت الخيرات أوساطًا بين طرفين، مثل العوز، والترف، فإن الخير موجود بين هذين الشرين المتضادين: وهو الكفاف. واعلم أن المشائين يرون أن الفضيلة إنما هي وسط بين طرفين : مثال ذلك أنهم يسمون ما زاد على العدل           وما قصر عنه           ، جاعلين العدل وسطًا بينهما. وأيضًا فالحكمة عندهم هي وسط بين المكر والغباوة، والعفة وسط بين الفجور والخمود، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور. لذلك فقد نلفى بشيءٍ من التحقيق، بعض الأمور المتضادة يكون فيها الشر مضادا للشر. واعلم أن أرسطو كان قد أسهب في بيانه خواص كل نوعٍ نوعٍ من أنواع التقابل الأربعة، والفروق التي بينها، بطرقٍ مختلفةٍ. لكنا لنقتصر على ما قلناه في جنس التقابل وأنواعه الأربعة، ولا نوغلن في التفصيل تفصيلاً قد يجعل ما هو ضروري للمبتدئ، مملا مسئمًا.

إشارات على الفصل السابع عشر والثامن عشر

1) .. بالنفس راسخة يريد أن الملكة المقابلة للعدم هاهنا هي غير المذكورة في أول فصل الكيفية مع الحال بأنها أحد أنواعها، أي أنواع الكيفية.

2) .. طريق الإيجاب والسلب  الإيجاب هو قول مؤلف اللفظ والمعنى يفيد إيجاب شيءٍ لشيءٍ. والسلب هو أيضًا قول مؤلف اللفظ والمعنى يفيد رفع شيءٍ من شيءٍ.

3) .. لأدنى نظرٍ يريد أن الفرق بين التقابل بطريق المضادة والتقابل بطريق المضاف يمكن معرفته بسهولةٍ.

4) .. فليس تقال ماهية أحدهما بالقياس إلى الآخر  والفرق أن المضاف إنما قوام ماهيته في نسبته إلى مقابله المضاف الآخر. أما المضاد فليس قوامه من حيث هو ماهية في نسبته إلى مقابله المضاد الآخر. 

5) .. فيمكن أن يكون أصفر هذا مثال على صنف المتضادات التي بينها متوسط، ولأوساطها أسماء.

6) .. يمنع وجود الآخر إطلاقًا اعلم أن ترتيب هذا الصنف من المتضادات إنما هو الأول في متن مقولات أرسطو. والمصنف قد عرفه بأنه ما وجود أحد الضدين يمنع وجود الضد الآخر. أما في متن المقولات فقد قيل “..إن الأشياء التي تنعت بها يجب ضرورةً أن يكون أحد المتضادين موجودًا فيها..” فتعريف المصنف غير مفيدٍ، والمفيد ما ذكره أرسطو. إذ معنى التضاد إطلاقًا، هو امتناع وجود معنيين معًا في محل واحدٍ في زمنٍ واحدٍ. وكل معنيين معنيين كانا بهذه الصفة إطلاقًا سميا بالمتضادين. ثم إن هذين المتضادين مع تضادهما، قد تختلف أحوال التضاد فيهما. فقد يكونان بحال أنه مع امتناع أن يجتمعا معًا فإنهما قد يرتفعان معًا. وإذ جاز ارتفاعهما معًا، فقد وجد من يخلفهما، وهذا هو الصنف ذو الوسط الذي ذكره أولاً المصنف. وقد يكونان بحال أنه مع امتناع أن يجتمعا معًا فإنهما لا يمكن أن يرتفعا معًا، على معنى كما قال أرسطو، إن المحل ليس له أحد الضدين بالضرورة، لكنه هو له أحد الضدين بالضرورة، إن خلا من الضد الآخر. وهذا هو الصنف الثاني من المتضادات. أما كلام المصنف فيه بأنه “.. فإن وجود أحدهما يمنع وجود الآخر” غير مفيدٍ، لأن ذلك إنما هو تعريف للتضاد المطلق ليس غير.

7) .. من شأنه أن يكون له ذلك ظني أن مثال الصلع على العدم غير سديدٍ أو صعب. أما المثال الموافق للعمى والبصر، فهو حال الكلب والجرو: فالجرو لا يقال أعمى مع أنه عادم للبصر، وذلك لأن فقدانه إياه ليس حين ما هو من شأنه أن يكون مبصرًا، كالكلب لو كان فاقدًا أيضًا للبصر، والموصوف حينئذٍ بالأعمى.

8) .. سقراط ليس يحاور “سقراط يحاور” قضية موجبة “سقراط ليس يحاور” قضية سالبة. والموجبة والسالبة متقابلتان. أما الموجب والمسلوب المتقابلان تقابل الموجبة والسالبة فهما :  محاورة المقابلة لغير المحاورة.   

الفصل التاسع عشر : في المتقدم.       

   وشيء قد يتقدم شيئًا على خمسة أنحاءٍ : أولها، فالمثال عليه قولنا فلان أسن من فلانٍ أو أحدث منه(1). والثاني، إذا كان شيء لازم وجوده من وجود شيءٍ آخر، ومن شأنه إن ارتفع هو أن يرتفع الشيء الآخر، وليس من شأنه أن يرتفع هو إن ارتفع الشيء الآخر، مثل تقدم الواحد على الاثنين بالطبع : فإن الاثنين موجود بالواحد، ولولا الواحد لما وجد الاثنان(2). وأما الواحد فهو على حاله وإن ارتفع الاثنان، على معنى أنه متى وجد الاثنان وجد الواحد، وإذا كان الواحد موجودًا فليس يجب وجود الاثنين(3). والثالث، التقدم بالمرتبة كما يقال في العلوم والصنائع. مثال ذلك في صناعة النحو، معرفة حروف المعجم وأشكالها متقدمة في مرتبة التعليم لتأليف المقاطع، وهذه متقدمة لمعرفة الألفاظ، وهذه متقدمة لاستعمال اللغة : إذًا فكل مرتبةٍ فكأنها أعضاء مركبة من التي قبلها. وكذلك في صناعة الخطابة هناك تقدم : فإن الصدر في الخطبة قبل الاقتصاص، والاقتصاص قبل الإبطال، والإبطال قبل الإثبات، ثم تتم الخطبة بالخاتمة. فعسى أن تكون هذه الأمثلة الثلاثة كافيةً في بيان النوع الثالث من التقدم. والنوع الرابع ليس بمشهورٍ، لذلك أرسطو قد أومأ إليه إيماءً خفيفًا. مثال ذلك ما جرت به عادة الناس من أن يقولوا لمن يعظمون ويحبون إنه متقدم الناس. أما عندي، فإن هذا الضرب من التقدم ينبغي ألا يقبل.

   هذه هي الوجوه الأربعة التي يقال عليها التقدم(4). لكن هاهنا نحو آخر من أنحاء التقدم أخفى و أغمض : وذلك إذا كان شيء سببًا لوجود شيءٍ آخر يكافئه في لزوم الوجود، قيل إنه متقدم بحق(5). مثال ذلك : متى وجد الإنسان، صدق القول بأنه حيوان ناطق مائت ضاحك. ومتى صدق هذا القول، وجد الإنسان. إذًا فهاهنا تكافؤ في لزوم الوجود بين الحد الصادق للإنسان والإنسان المحدود. لكن السبب في كون الحد صادقًا إنما هو وجود الإنسان أولاً. لذلك وجب أن يكون الإنسان الموجود متقدمًا على حده الصادق، إذ هما يتكافآن في لزوم الوجود. وصدق الحد إنما هو دليل على ثبوت المحدود في الأعيان.

الفصل العشرون : في معًا.   

   وهذه معاني اللفظة التي ندل بها على أن أشياءً ما هي معًا. فالعقل يقضي بأن البحث في معًا إنما يلي في الترتيب البحث في التقدم. إذًا تقال معًا على وجوهٍ ثلاثةٍ : أولها إذا كان الشيئان تكونهما في زمنٍ واحدٍ، وليس لأحدهما تقدم في النشأة عن الآخر، مثل حرارة الشمس وضوئها. والثاني ما كان وجودهما معًا بالطبع، وليس لأحدهما تقدم ما على الآخر، مثل النصف والضعف، فالاثنان موجودان معًا، وليس الضعف سببًا للنصف، ولا النصف سببًا للضعف(6). وليحذر القارئ من أن يرى أن ما قلناه هاهنا ينافي ما ذكرناه في أن المضاف هو ما يقال بالقياس إلى غيره. إذ أن يقال الشيء بالقياس إلى غيره هو غير أن يكون وجوده بسبب ذلك الغير(7). إذًا فبهذا التحقيق في الكلامين إنما ينجلي كل كذبٍ موهومٍ. والثالث : الأشياء المرتبة تحت جنسٍ واحدٍ مقسمٍ إلى أقسامٍ متباينةٍ تقال أيضًا هي معًا بالطبع(8). إذ هي أنواع قسيمة لجنسٍ واحدٍ، وليس واحد منها متقدمًا على صاحبه. مثال ذلك الحيوان ينقسم إلى طائرٍ، وسابحٍ وبري، وليس واحد من هذه متقدمًا على الآخر ولا متأخرًا، بل هي موجودة، وكلها متولدة من الحيوان(9)، أعني من الجنس الواحد بعينه، معًا معيةً بالطبع.

إشارات على الفصل التاسع عشر والعشرين

1) .. أو أحدث منه فلان أحدث من فلانٍ، فهو متأخر عنه بالزمن. وإذا كان أسن، فهو متقدم عليه بالزمن.

2) .. فإن الاثنين موجود بالواحد، ولولا الواحد لما وجد الاثنان هذا كلام لا أصل له في متن المقولات، ودخيل على المعنى الثاني المراد بيانه من أنواع التقدم، بل إنه مخل به ومشوش عليه.

3) .. يجب وجود الاثنين واجب أن نوضح هذا النوع الثاني من التقدم، لاضطراب كلام المصنف فيه الاضطراب الكبير : إذا كان شيئان يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، والمراد بذلك، خلاف ما فهمه المصنف فيما يبدو، ليس أن وجود الآخر هو معلولاً لوجود الأول، بل إن وجود الأول هو دليل على وجود الثاني : كالاثنين، فإن وجوده إنما هو دليل على وجود الواحد، على معنى أنه لا يمكن أن يوجد هو إلا وقد وجد الواحد. وإذا كان الآخر اللازم، لا يلزم من وجوده وجود الأول، ولكن يلزم من ارتفاعه ارتفاع الآخر : كالواحد لو وجد، لم يلزم منه الاثنان، وأما لو ارتفع هو ارتفع الاثنان قطعًا. إذًا فمن الشيئين بهذه الشروط، فالشيء اللازم، ولا ينعكس لزومه يقال إنه المتقدم على الآخر، كالواحد المتقدم على الاثنين.

4) .. الوجوه الأربعة التي يقال عليها التقدم وهي الوجوه المعروفة والمشهورة، والتي لا يحتاج إدراكها إلى تحقيقٍ كبيرٍ.

5) .. قيل إنه متقدم بحق أي إذا كان شيئان يتكافآن في لزوم الوجود، على معنى أن وجود الثاني لازم من وجود الأول، وينعكس بأن وجود الأول أيضًا لازم من وجود الثاني، فأي الاثنين كان سببًا للآخر قيل إنه متقدم عليه، وكان هذا التقدم نوعًا خامسًا من أنواعه. وأرسطو قد ذكر له هذا المثال :  الإنسان الموجود في الأعيان، والقول “الإنسان موجود”. فإن صدق القول يلزمه أن الإنسان موجود قطعًا، ووجود الإنسان يتبعه أن القول هو صادق قطعًا. إذًا فالإنسان الموجود والقول إنما يتكافآن في لزوم الوجود. لكن من البين أن الذي جعل القول صادقًا إنما هو وجود الإنسان، لا أن صدق القول هو سبب لوجود الإنسان. إذًا فالإنسان الموجود هو متقدم على القول الصادق. وتلخيص المعنى في هذا أن الشيء الذي هو معلول لعلةٍ واحدةٍ، فإن علته متقدمة عليه بالنوع الخامس : إذ من جهة ما هو معلول للعلة فوجوده لازم من وجود العلة. ومن جهة ما أن علته تلك العلة بعينها لا غيرها، فوجوده دليل على وجود العلة بعينها، إذًا فالمعلول والعلة يتكافآن في لزوم الوجود. لكن العلة الواحدة هي سبب لوجود المعلول. إذًا فالعلة متقدمة التقدم الخامس المذكور.

6) .. ولا النصف سببًا للضعف الوجه الثاني مما يقال به معًا أن يقال في شيئين إنهما معًا بالطبع إذا كانا يتكافآن في لزوم الوجود، أي إذا وجد أحدهما وجد الثاني من غير أن يكون أحدهما سببًا لوجود الثاني، كالنصف والضعف إذ يقالان إنهما معًا بالطبع.

7) .. وجوده بسبب ذلك الغير المصنف يورد هاهنا اعتراضًا جائزًا وهو : إنكم قد جعلتم المضافين من الأشياء التي هي معًا بالطبع، وكنتم قد شرطتم في ذلك، مع كون الشيئين متكافئين في لزوم الوجود، أن لا يكون أحدهما سببًا للآخر. ولكن حد المضاف أنه ما يقال بالقياس إلى غيره. أفليس ذلك الغير، ليت شعري، إنما هو سبب للمضاف بوجهٍ ما. فأنى لكم أن تجعلوا المضافين معًا بالطبع إذًا. وجواب المصنف أن تعلق ماهية الشيء من حيث الماهية بنسبتها إلى الغير، وهو الإضافة، هو غير تعلقها به من حيث السببية، لأن السببية إنما تفيد الوجود، ولا تفيده إلا لماهيةٍ قد تقررت من ذي قبلٍ. فبان الفرق. 

8) .. أيضًا هي معًا بالطبع وتسمى “الأنواع القسيمة” التي ينقسم بها الجنس الواحد قسمةً أولى : فإن أنواع الجنس قد تنقسم أيضًا إلى أنواعها، وهذه الأنواع تكون أنواعًا أيضًا للجنس الأول بالقسمة الثانية، فحينئذٍ يكون الجنس الأول متقدمًا عليها بالطبع.

9) .. متولدة من الحيوان أي حادثة من قسمة الحيوان بالقسمة الأولى.

الفصل الحادي والعشرون : في الحركة.           

هناك ثلاثة أنحاءٍ للتغير المسمى في اللسان اليوناني          : الأول، تغير من اللاموضوع إلى الموضوع، وهو الكون، ويسمى في اللسان اليوناني   ..     والثاني، تغير من الموضوع إلى اللاموضوع، وهو الفساد المسمى في اللسان اليوناني      والثالث، تغير من الموضوع إلى الموضوع، وهو الحركة، المسماة في اللسان اليوناني      لكن الحركة تنقسم أيضًا إلى أنواعٍ ثلاثةٍ : الأول، النمو المسمى في اللسان اليوناني      ، والنقص المسمى      ، والثاني، التغير في الكيف المسمى           والثالث، التغير في المكان المسمى(1)      . أما نحن، فنؤثر أن نسمي ذلك بالقطع، موافقةً لما ذهب إليه علماؤنا. واعلم أن هذا الترتيب الذي اخترناه في هذا الفصل، وانحرفنا به عن الموجود في المقولات(2)، إنما آثرناه بعد رويةٍ، وأرسطو بعينه كان قد نحاه في كتبه الطبيعية(3). لكنه لما كان غرضه في المقولات أن يكون تعليمه موجزًا، لم يتحاش عن أن يأخذ للجنس اسم النوع، فسمى التغير باسم الحركة، جاعلاً الحركة جنسًا لأنواعٍ ستةٍ، وهي : الكون، والفساد، والنمو، والنقص، والاستحالة، والنقلة في المكان. وجميع هذه الأنواع الستة يخالف بعضها البعض ألبتة، إلا أن يظن ظان قليل الفهم أن التغير في الكيف هو وكل واحدٍ من سائر الحركات شيء واحد. على معنى أن كل كونٍ أو فسادٍ أو نمو أو نقصٍ، فهو أيضًا استحالة(4). ولكن العقل يقضي ببطلان ذلك: فإن ما ينمو أو ينقص إنما يتغير في الكم ليس في الكيف. وأما الاستحالة فهي بالتحقيق تغير في الكيف. وحري بنا أن نذكر هاهنا بأن التغير هو غير الاستحالة : فإن التغير هو جنس، أما الاستحالة فهي نوع تحت الحركة التي هي أيضًا نوع تحت التغير(5). وفي الجملة هذا مثال من صناعة الهندسة يبين الفرق(6) : ذو أربعة أضلاعٍ مفروض تخرج فيه خطوط تقسمه إلى سطوحٍ ذوات أربعة أضلاعٍ أصغر. فإن نقص منه أحد هذه السطوح، صار ذو الأربعة أضلاع أصغر من ذي قبلٍ. وإن أضيف مكان ذي الأربعة أضلاع المنقوص علمًا، فإنه ينضاف له سطح أعظم من المنقوص. إذًا فهاهنا تغير في الكم، وليس في الكيفية(7). فهذا الأمر إنما هو موصوف بالتغير لا بالاستحالة، إذ بين المعنيين فرق كبير. و إذ أن الأشياء قد تختلف أيضًا على وجوهٍ ثلاثةٍ : الأول، أن تختلف بالمادة، مثل اختلاف خاتمين متشابهين أحدهما من ذهبٍ والثاني من فضةٍ، والثاني بالعمل، مثل أن يصنع من ذهبٍ خاتمين مختلفين، والثالث، بالمادة وبالعمل معًا، مثل أن يكون الخاتم من ذهبٍ والقلم من فضةٍ، فبين إذًا أن أصناف التغير المذكورة ليس لها شركة في المادة ولا في العمل ولا فيهما معًا. بل إنها متباينة مباينةً قد توهم بالمضادة في بعضها. فإنه معلوم أن الكون إنما يضاده الفساد، والنمو يضاده النقص. وأما التغير في الكيفية، والتغير في المكان، وإن اختلفا بالنوع، فكلاهما ذو مضادةٍ. مثل التغير في الكيفية من الأبيض إلى الأسود، أو من الأسود إلى الأبيض، فالتغيران متضادان لا محالة. وأيضًا التغير في المكان الذي وسمناه بالنقلة، ففيه مضادة الفوقية والسفلية، لذلك قيل في هذا النوع من الحركة إنه ذو مضادةٍ.

الفصل الثاني والعشرون : خاتمة الكتاب.      

   تلك هي، أيها الولد العزيز، المعاني التي كنا جمعناها بمثابرةٍ من طيب الذكر مرفوعه، من الفيلسوف ثامسطيوس حين استفادتنا عنه. ونحن إنما نقلناها من اليونانية إلى اللاتينية، لأجل أن تدركك فائدتها. فمناي بأن لا تغيب عنك هذه الفائدة وفائدة ما بينته لك منها، وعسى أن يكون لك بها جبر من الأضرار التي كانت نالتك وإياي قديمًا بسبب الشراهة للمال، إذ المال كله هو موبقات وغرور. واعلم أنا في هذا الكتاب لم  نغفل كل ما فيه مسرة للعارف بمعناه، ولا أسقطنا منه كل ما فيه علم مستوفٍ للجاهل بفحواه.

إشارات على الفصل الحادي والعشرين والثاني والعشرين

  1. .. التغير في المكان المسمى هذه صورة أقسام التغير كما ذكرها المصنف :

2) .. الموجود في المقولات فالموجود في “المقولات” هذه صورته :    

3) .. كتبه الطبيعية انظر “السماع الطبيعي”، المقالة الثالثة، الفصل الأول، صفحة 200ب، سطر 32.

4) .. فهو أيضًا استحالة فالدعوى أن كل واحدٍ من أنواع الحركة تلك هي والاستحالة شيء واحد، أو أيضًا أن كل واحدٍ منها إنما تتبعها الاستحالة ضرورةً.

5) .. أيضًا نوع تحت التغير انظر الصورة في الإشارة الأولى.

6) .. يبين الفرق أي يبين أن الأنواع الأخرى من الحركة ليس تتبعها استحالة.

7) .. وليس في الكيفية فقد بان من هذا المثال الهندسي أن سطحًا ما قد يزيد أو ينقص، و لايتبع ذلك منه اختلاف في كيفه، أي لا تتبعه استحالة أصلاً. 

   ثم لتعلم أن هذا المثال مما ذكره أرسطو في المقولات ولم يفصله، والمصنف إنما أورده مضطربًا مختلا حتى الغلط : فأولاً ما كان حقة أن يقول إن السطح المفروض هو ذو أربعة أضلاعٍ، فذلك غير نافعٍ للمثال، بل الصواب أن يكون السطح متوازي الأضلاع. وثانيًا، ليس المنقوص منه أحد ذي الأربعة أضلاعٍ، أو أحدًا من متوازيي الأضلاع، فهو حينئذٍ سيختلف بالكيف قطعًا. بل المنقوص إنما العلم، مثلما أن المزيد أيضًا هو العلم. وأنا هاهنا إنما أعطي التصوير الصواب لهذا المثال مع شرحه:    

   ليكن متوازي الأضلاع [ز ن د هـ]. ولننقص منه علم (γβα)، وهو مجموع المتممين [أ ب ط هـ]، [س ب ج ن]، ومتوازي الأضلاع [ز س ب ط]. فالباقي هو متوازي الأضلاع [أ  ب ج  د] شبيه بالكل [ز ن د هـ]. إذًا فالسطح الأول قد نقص في الكم ولم يتغير في الكيف، لأن الباقي بقي شبيهًا بالكل. واعلم أن السطوح المتشابهة كما عرفها إقليدس في صدر المقالة السادسة من الأصول هي ” التي زواياها متساوية وأضلاعها المحيطة بالزوايا المتساوية متناسبة”. أما مشابهة الباقي للكل فبما بان في الشكل الثالث والعشرين من المقالة السادسة من أصول إقليدس. وقس على هذا بيان أن المتوازي الأضلاع إذا زيد عليه أيضًا علمًا، نما في سطحه، وبقي كيفه هو هو.