مجلة حكمة
الوضع الراهن لـ الفلسفة الألمانية ومهمتها المستقبلية - مارتن هايدجر

الوضع الراهن للفلسفة الألمانية ومهمتها المستقبلية

الكاتبمارتن هايدجر
ترجمةيوسف أشلحي

     نحن مدعوون، بشكل مشترك، إلى إيفاء النظر الحصيف في هذا الموضوع، تبعا للخطوات الثلاث التالية:

1ـ إمعان النظر “Besinnung”في موضع تساؤلاتنا- التوطئة.

2ـ طرح بعض التساؤلات الأساسية – العرض.

3ـ تهيئ الاختيار من خلال تراكم الأسئلة الكبرى-الخاتمة.

   1 إمعان النظر  في موضع تساؤلاتنا.

         بما أن القول (die Rede) ينجم عن الفلسفة، فقد عنّ للمرء أن يعيد صياغة الكلمة اليونانية”φιλοσοφια” بوصفها تفيد (محبة الحكمة) “Liebe zur weisheit”. فالحكمة هي ضرب من المعرفة”Wissen”، التي ليست من قبيل أنها تعبّر عن هذا أو ذاك، ولا هي قبل كل شيء تعبّر  عن ضرب من المعرفة- التي  تنطوي على تحديد ماهوي لما هو كائن وغير كائن؛ والمعرفة الماهوية بكينونة الأشياء وظاهرها- التي تنبع منها بشكل غير مباشر كل القرارات الأولى والأخيرة.

          ليست الفلسفة تعبيرا عن الحكمة وفقط، بقدر ما هي تعبّر عن حب مفطور عن الحكمة.  يحيل الحبّ ضمن ما يحيل على : إرادة  (Wollen)غرضها أن يكون ما نحب على ما هو عليه. لهذا تدل محبة الحكمة على: إرادة أن تتعيّن كل معرفة على نحو ماهوي. رب معرفة أخرى لا تلبث على حالها. وهي على حال التحول كلما كان حدوثها يكون تجسيدا لإرادة المعرفة، وليست إرادة المعرفة سوى إبداء التساؤلات. ومن ثمة حقّ أن تصبح الفلسفة تعبيرا عن الإرادة أو العزم الوطيد جهة طرق أبواب التساؤلات الماهوية التي تخصّ الكينونة (Sein) والظهور(Schein) كونا وعدما.

         فهل بذلك نحن نعلم الآن حق العلم ما هي الفلسفة؟ الجواب يكون بالنفي!؛ إنما فضل  ما قيل يكمن في كونه يمثل إشارة أولية بشأن  الوجهة(Richtung) والجهة (wo)التي يستوجب أن نهتدي نحوها بحثا، وذلك إن نحن رمنا اختبار الفلسفة حق الاختيار. فأين أمكن لنا أن نعاينها حق المعاينة؟ أي بوصفها ضرب من  الانكشاف الحقيقي الذي يقع ضمن الواقع الراهن (heutigen Wirklichkeit). وفي ضوء ذلك سيتاح لنا أن نبصر على نحو جيد ما ذا يُوقّع باسم الفلسفة وما هي المهمّة التي تضطلع بها في الوقت الراهن. فحق بذلك أن يعد هذا الأمر الموضع الذي سينصبّ حوله نقاشنا.

         بناء على هذا الأمر، فقد أمكن لنا، ومن الآن، تعيين التوجهات التي اتخذتها الفلسفة في وجودنا الراهن: بإمكاننا تقويم خطوطها الوجيهة، والإشارة إلى أسّ تمثلاتها، والإبانة عن مضامينه الأساسية. وتجدر الإشارة إلى أن التوجهات الفكرية القائمة إما تجدها  أحرص  على استنساخ العمل الفكري الذي خلّفه ثلاث قامات فكرية في القرن 19م أو العمل على تعديله في أحسن الأحوال؛ وهم هيجل (Hegel)، كيركيجارد (Kierkegaard)، ونيتشه (Nietzsche). مع هيجل وصلت الفلسفة الغربية إلى أوج اكتمالها. من بين الأنساق الفلسفية الكائنة، يظل النسق الوحيد للفلسفة الغربية (abendländischen Philosophie) الذي تأتى له دمج حقيقة المسيحية مع حقيقة الفلسفة ضمن معرفة مطلقة . كما ساهم كيركيجارد من جهته في إعادة إحياء الوجود الفردي الذي يخص المسيحية ضمن مجال الإيمان في مقابل المعرفة المطلقة التي تميّز الفلسفة. مع نيتشه سيتحقق الوصل بين الاثنين- الفلسفة والمسيحية المتوراثين-  وذلك لدورهما في توطيد السبيل نحو العدمية الأوربية(Europäschen Nihilismus)-  فالحقيقة الأساسية التي كانت تنبني على القيمة المتسامية (obersten Werte) غدت في حلّ من كل قيمة (Sich entwerten)- إذ سيُفتقد الهدف كما هو الحال بالنسبة للجواب الذي يخص سؤال: لماذا  (Warum).

         إن وضع الفلسفة الراهنة، ولو من دون أن تدرك هذا الأمر ، ليشي على كونها ذا علاقة وطيدة بالقوة الناظمة (einheitliche Macht) لدى هؤلاء المفكرين الثلاث الكبار، وأيضا على أنها تظل تحتفظ بوشاجة عميقة مع هذا أو ذاك- تـأخذ كل مرة  شطرا من هذا الفكر أو ذاك، فتنشغل في حبك هذا ضد هذا. لعله من خلال هذه المساعي كلها، أمكن لنا أن نقدم وصفا في غاية الإسهاب. كيف ذلك؟

قد يتأتى لنا حقا أن نحيط علما، بوصفنا شهودا، بما يُوقّع باسم الفلسفة، ولربّما يتاح لنا أيضا أن نسهم بملء بعض الثغرات التي تعتري ثقافتنا  (lücken unserer Bildung). فهل بذلك، نكون قد شرعنا  في أن نتعاطى للفلسفة على النحو الذي يجب؟ فليس الأمر كذلك البتة، وإنما على النقيض من ذلك!

         كلما تعلق الأمر بالفلسفة، إلا وجدنا نفسنا أمام سوء فهم وخيم. ولئن تساءلنا لأي سبب؟ لنجد  أنه لئن اكتفينا بهذا السبيل سبيلا نحو النظر في واقع الفلسفة رهنا وفيما تعد به، لنجعل أنفسنا عرضة السقوط في حبائل ظاهر الفلسفة بدل النفاذ إلى كينونتها؛ لأنه كلما أقبلنا على البحث عن الفلسفة من حيث هي مجرد عبارة أو مقدرة معينة تخص زمن بعينه، كلما تعذّر تقدير الفلسفة حق قدرها على نحو ما تعيّنت في الزمن الحاضر والفائت والمنشود- وكلما أسيء تقدير التعيّن الأساسي الذي يخص ماهيتها: حيث تظل كل الأسئلة الجوهرية التي تخص الفلسفة في كل وقت كأنها أبعد ما تكون ملائمة لزمنها. ولهذا، فإما ترى الفلسفة أحرص على وضع مسافة مع الواقع الذي يخصها، وإما أنها تكون أحرص على ربط هذا الراهن مع الزمن المبكّر (früher) ومع ما كان في البدء (anfänglich Gewesenes).  إذ ليس هي عبارة دوما عن ضرب من المعرفة التي تكفّ على  أن تكون ملائمة لوقتها، بقدر ما هي أحرص على وضع الزمن وفق مقاسها.

          لا تتقيد الفلسفة من حيث الجوهر بزمن معين (unzeitgemäß)، ما دام أنها تنتمي إلى تلك الفئة القليلة جدا التي لا يمكن البتة أن تجد لمصيرها صدى مباشرا في الراهن الذي لها، بله ليس لها أن تجده بالمطلق. وبالمثل فإن الفلسفة ليست ضربا من المعرفة، يمكن للمرء أن يطبقها على نحو مباشر في برهة من الزمن، شأنها شأن المعرفة التقنية والاقتصادية ويدوية، كما يمكن له أن يقدّر قابليتها للاستخدام على نحو مطلق.

         وكم أمر قد يبدو غير ذي جدوى، يمكن له بل حقّ أن يكون له سلطان. بل إن حتى ما قد لا يعرف له صدى مباشر في الواقع اليومي، يمكن أن يكون على صلة شديدة بالأحداث الفعلية التي تخص تاريخ شعب ما. ومع أنه يبدو في بعض ما خلفته من صدى أنه غير ملائم للزمان، فإنه بإمكانها أن تمتلك الزمن الخاص بها. وإنه بفضل الفلسفة وبفضل القوتين الأساسيتين المتمثلتين في الشعر والفعل الابتكاري الذي تحوزه الدولة، يقع التأسيس للوجود التاريخي لشعب ما. ليس كل من الشعر  والفكر والفعل السياسي بالمعنى الجوهري عبارة عن ضروب من الظواهر والأحداث التي تدخل ضمن خانة الثقافة، والتي يمكن أن تُقوّم عبر الساعة ومن خلال رزنامة ما، أو يمكن أن تعاين ضمن صحيفة ما، بل تعبر جميعها عن الحدث الأساسي الذي يحايث الأزمان والشعوب وميقات العالم التي تخصهم.

         عندما نتساءل عن راهن الفلسفة الألمانية ومستقبلها، فإننا نومئ على وجه التحديد إلى هذه الأزمان، وليس إلى ضرب من الراهن الذي نجم عن سبيل الصدفة. ولكن هل لنا علم بهذا الزمن الفعلي،- ميقات العالم الذي يخص شعبنا؟ لأحد على علم به. (قارن. هولدرلين، من أجل الألمان ـ المقطعين الشعريين الأخيرين).

آه كم هو ضيِّق زمن حياتنا إلى أضيق حد

نرمق عدد سنوننا، ومعها

نعدُّ سنون الشعب عدّا

هل رأيتم ذلك العين الفانية؟

عندما يتردد صدى شوق الروح حول الزمن الذي لك، تراك تمكث بحزن

على شط بارد، وأنت تجهل أنك ضيف على نفسك.

         يظل زمن العالم الذي يخص شعبنا محتجبا عنّا. وطالما لم نعرف من نحن بالذات (wer wir selbst sind)، فإنه سيبقى محتجبا لأمد طويل. ولن نعرف هذا الأمر أبدا، طالما لم نتساءل مثل هكذا تساؤل على نحو فعلي. لكن حينما نقدم على طرح مثل هذا السؤال – من نحن؟- ، حينئذ أمكن لنا أن نقحم نمط وجودنا ضمن مجال الحركة والقوة، وهو الأمر الذي سيسعفنا في أغلب الأحول على الولوج إلى مجال نفوذ الفلسفة، أي إلى تلك الأسئلة الأساسية التي تحوم حول ماهية الكنيونة.

لنتساءل إذن عمن نكون؟

II ـ طرح بعض التساؤلات الأساسية

         تنطوي كل الأسئلة الحقة في ذاتها على نظام شرعية صارمة تخص تسلسل خطواتها الفردية، وكلما كان الأمر كذلك، كلما كان السؤال الهادي (die Leitfrage) سؤالا أساسيا. عندما نتساءل من نكون، فإن مثل هذا السؤال يتوجه جهة الكينونة التي تخصنا. ومن ثمة تقتضي المهمة الأولى توضيح بأي معنى نفهم كينونتنا- وبمعنى الإنسان ونمط الوجود كما عيّننا أمرهما-. أين تكمن بالذات السمة المميزة للوجود البشري في مقابل وجود الحجر والنبات والحيوان؟

         مثلما ما لا يقدر المرء أن يحدد، بله يمكن له فقط أن يسأل على سبيل المثل ما هو (الاهليليج، الشكل البيضاوي)، من دون أن تكون لديه دراية بقوانين المكان  أو الفضاء على نحو ما هي، فكذلك لا  يمكننا أن نسأل سؤالا ذا معنى: من نحن، من دون معرفة مسبقة؛ بأي معنى يتوجّب إدراك وجودنا على حاله وفهمه.

         عندما نقول: الوجود البشري، وأن الكينونة الخاصة بنا تظل في المقام الأول تاريخية، فإن هذا الأمر سيبقى مجرد تخمين فى حاجة إلى تدليل. والظفر بهذا الأمر  يكون من خلال الجواب على هذا السؤال: أين تكمن ماهية التاريخ.

          وفي ضوء ماهية التاريخ التي تم الكشف عنها، فإنه يتوجب الحسم إلى أي حد نحن تاريخيون وكيف ذلك. عندما يقع تسليط الضوء على ماهية الطبيعة، والمكان والحرية والدولة والحق والشعر، فليس في ذلك إشارة إلى ما هي عليها بشكل عام، بقدر في ذلك بيان إلى ما يمكن أتكونه هذه الماهية- والمقصود إمكانياتها الباطنية. ومثل هذا الأمر يستوجب تعقّبه من أساسه. وعندما يتاح لنا أن نمتلك معرفة بالإمكانية الباطنية لمسألة ما وفقط، حينئذ يتوفر لدينا مفهوما فعليا عنها.

         وهذا ما يتوجب أخيرا تعقّبه لا لشيء أخر إلا لعلّته. عندما نعرف وفقط علة الإمكانية الباطنية لمسألة ما (die Sache)، يكون قد توفر لدينا مفهوم فعلي عنها. وعليه، فإن السؤال  الأساسي  الذي يخص ماهية الكينونة البشرية باعتبارها ضربا من الوجود التاريخي (als eines geschichtlichen)، يتمظهر في ثلاث خطوات تتخذ شاكلة سؤال (Frageschritten):

  1. ما هو التاريخ بإطلاق

  2. ما هي الإمكانية الباطنية لشيء من قبيل التاريخ

  3. أين تكمن علة هذه الإمكانية الباطنية للوجود التاريخي

 

  1. ما هو التاريخ باطلاق

         التاريخ هو المكان الذي يقع فيه حدث ما. ولكن هل دوما حيث ما وقع الحدث أو ما فتئ يحدث ثمة تاريخا؟ وهل عمليات التغيرات التي تعتري قشرة الأرض يمكن اعتبارها تاريخا؟ تستكشف الجيولوجيا بدورها “تاريخ الأرض”في مختلف العصور الجيولوجية “Erdzeitaltern” (زحزحة طباقاتها، الجليد، وما شابه ذلك). تتساءل البيولوجيا عن تطور تاريخ الكائنات الحية. وهل للموجودات التي تقع خارج زمرة البشرية – مثل الأرض، النبات، الحيوان- “تاريخ”. وإذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ حرب المزراعين، تاريخ الرأسمالية، تاريخ فرِدرِش العظيم، فهل نعني في كل الأحوال نفس شيء كما الحال بالنسبة لتاريخ الأرض أو تاريخ الكائنات الحية؟ إنها سلسلة زمنية من الأحداث التي تستغرق الماضي. بيد أن هذا مجرد تمثّل للتاريخ، وهو تمثل يتناسب مع تعاقب دوران المروحة، وما هو على هذا الحال فلن يكون باليقين سابقة تاريخية. ومثل هذا التمثل عن التاريخ يبقى بعيدا كل البعد، فقد يعني كل شيء أو لاشيء. إنه لا يلامس ماهية التاريخ قطعا.

         ومع ذلك، فإن الشيء الوحيد الذي يبدو واضحا تمام الوضوح: هو أن التاريخ يرتبط بشكل من الأشكال مع الزمن. لكن ليس كل ما يحدث في الزمن هو تاريخي. لذا يتعيّن أن يكون لكل ما هو تاريخي صلة خاصة بالزمن. يظهر الأمر بشكل واضح عندما نتذكر الاستخدام المتداول للغة، إذ نقول مثل هذا القول: “لهذه المدينة تاريخ مجيد”- ونعني بذلك: لها ماض كبير وحافل. وعليه يعتبر كل ما هو تاريخي جزء من الماضي. ويجب أن يكون هنالك دوما شيء ما يحدث؛ أي أن يكون هنالك شيء مضى حتى يتسنى للمؤرخ أن يجعل من المادة التاريخية موضوعا لمعرفته. فالتأريخ للمستقبل يبقى مجرد عبث ومحض خيال.

         وبخصوص التصور المشار إليه توّا للتاريخ، فإن الحدث لا يرتبط بالزمن فحسب، بل بخاصية الزمن المحدد والمفرد: الماضي. إنه مثل المكان الذي يحرص فيه التاريخ على البقاء. لكن ألا يصبح التاريخ مجرد أثر من الآثار التاريخية (Antiquarischen)؟ أو ليس الحدث الحاصل في الحاضر يصبح بدوره تاريخا – أي التاريخ الفعلي- بحيث يصبح الماضي من خلال صلته مع الحاضر وسيبقي تاريخ أقرب من حبل الوريد إلى الحياة؟ لهذا السبب بالذات نطالب  خاصة بإزالة المنظور التاريخي العتيق والمجرد من المناهج التربوية.

         يرتكز هذا التصور الذي تم إنارته – وقد أثار نيتشه هذا المطلب منذ ما ينيف عن 60 عاما – على الرأي القائل؛ بأن الحاضر يعبر عن ضرب من التاريخ الذي يتمتع بخبرة مباشرة وملموسة- بينما يتوجب أن يكون الماضي أزليا. ليس الإكتفاء بالنظر في الحاضر يكفل لنا أن نلتقي في الحاضر بكل ما هو تاريخي. إذ نجد في كل الأحداث ما من شأنه أن يُحدث الضجيج والضوضاء، والتشغيل وانتفاء التحكم (das Unbeherrschte)، وما تعوزه الصورة (das Formlose) وما هو من باب الصدفة. يعبر كل هذا عن جزء من التاريخ، بما هو تعبير عن أمر ضروري: أي مجرد أحداث معطاة. لكن يبقى السؤال الذي يتعين معرفته هو إذا ما كان الماضي يُشكّل الماهية الحقيقية للحدث، وإذا ما كان بإمكاننا اختبار هذه الماهية بكل يسر وسهولة، حيث نعاين تحول دائم للجديد وللغد نحو الأمس والأمس الأزلي. يبقى السؤال، إذا ما كنا نصادف كل حدث تاريخي على نحو ما هو، طالما نأخذ الحدث فقط كما لو أنه تعاقب للعمليات الزمانية – سواء أكانت في الماضي، أو في الحاضر، أو في كليهما-.

         لكن كيف يتوجب علينا أن نختبر على نحو  مختلف ماهية التاريخ؟ يجب الإقرار بكون الزمن يضطلع بدور بارز في تحديد ماهية التاريخ. وهذا الأمر لا  يسري على الطبيعة، وذلك بالرغم أن مجريات الطبيعة تقع كلها “في الزمن”. إننا لا نصبغ على الطبيعة شيء من الحاضر وبنفس العلامات، كما نفعل ذلك بالتاريخ عندما نقرنه بالماضي. فما هو الأساس الذي يكمن وراء ذلك؟ وبأي معنى يكون للتاريخ علاقة متميزة مع الزمن؟

         نشرع من جديد من خلال الوقوف على التحديد المتداول – التاريخ هو الماضي- وننظر في أمره عن كثب. يعطى لنا الماضي من خلال التذكّر. عندما يكون علينا أن نتذكّر التاريخ – حرب السبع سنوات- فليس مطلوب منا أن نبرر الماضي على هذا النحو؛ أي في وقوعها الذي انقضى ، بل من جهة ظهورها السابق وغدوها اللاحق. بل حتى حيث يتأتى لنا أن نتعقب الانحطاط التاريخي في التاريخ – كما هو الحال بالنسبة للدويلات الإغريقية-، فإننا لا نعاين عملية الانحطاط، بقدر ما نعاين انبثاقها وصيرورتها. إن التاريخ بوصفه حدثا مبكرا، ليس مجرد ماض انقضى، بل هو تصيّر ما فتئ يتصيّر. بيد أن هذا التصيّر ليس مثل التقدم الذي حصل سابقا، وإنما بمثابة الحدث الذي لا يزال كما “هو”. إنه “يوجد” (ist) لطالما ينتسب مثل الماضي إلى الغرب، بالمقارنة بالوجود الذي كان يتمتع به في سابق عهده – وذلك في سياق تجديد الكلمة الألمانية الأصلية-. فالكانية (نسبة إلى ما كان= Gewesenheit) والماضي لا يعبران عن نفس الشيء، فمهما يختلفان من حيث خاصية الزمن. فالماضي هو النطاق الزماني الذي لا يعتريه التغير. أما ما كان (الكانية) فهو في حد ذاته بمثابة السلطة التي نخضع لها، كما أنه بمعنى ما يعتريه التحول.  يعتبر كل ما كان في حقيقة الأمر جزءا لا يتجزأ من الماضي، ولكن ليس كل ما كان ماضيا يمكن أن يكون. لكن ما ذا يقصد بما كان، بوصفه عبارة على ما كان عليه في الماضي؟ وهل  لا زال له من التداعيات الممتدة التي ما فتئت تمارس تأثيرها علينا إلى حدود اليوم؟ ومن المعلوم أن  هنالك ما لا يحصى من هذه التداعيات الفعلية التي تمارس وقعها في عالم اليوم. يتوقف تحديد التأثيرات اللاحقة على ما ندعوه اليوم بالواقعي كأنه عين الواقع. لكن الذي نرى فيه الواقع الحقيقي، لا يمكن أن يدرك في عالم اليوم. إننا لا نعرف  مما كان سابقا- ماهيتنا المحددة – سوى ما سيصبح ضروريا. كيف لنا أن نقرّر ماذا نريد أن نكون ومن نريد أن نكون،  بالنسبة للنحن التي سنكون عليها. إن ما ينكشف لنا في الوجود الذي كان سابقا، هو ما نضعه تحت تصرفنا بوصفه عين مستقبلنا، إنه يكشف عن الطريقة التي نتولى بموجبها حسم الاختيارات التي نخص مستقبلنا علة نحو سابق. فهل ينتمي المستقبل إلى الوجود التاريخي؟ لكن ليس المستقبل عبارة عن تلك المسافة الزمنية التي تقابل نفس المسافة التي تمتد من الماضي نحو الحاضر وفقط، مع أنها تبقى في حكم المغلق (verschlossen bleibt)، بقدر ما أنه يعدّ – مثله في ذلك مثل ما كان في الماضي- قوة (Eine Macht).

         والقول عن المستقبل أنه قوة، لا يفترض أنه يلوح لنا على شاكلة توقع معقول أو يظهر لنا على منوال التنبؤ. فلا يمكن أن نختلقه، إذ يتحدد ما سيكون عليه على نحو سابق. إن الأمر لا يتعلق بمجرد ماض انقضى، والذي يقع أمام بوابة الحاضر، ولن يوجد مرة أخرى، بل هو الذي يفِد إلينا من الماضي الذي كان ليتخطى الحاضر، وهو الذي يأتي إلينا بغرض تحديد أنفسنا بما ستكون (ist) عليه في المستقبل الذي سنضرب لأنفسنا موعدا معه. يتمتع الذي كان بسلطة الإرسال، بينما يضطلع المستقبل بسلطة التفويض. عندما نقتدر على أن نستبق الرسالة التي توضع على كاهلنا، ونكافح من أجل المهمة التي أوكلت إلينا، نقدر حقا أن ندرك الوجود في الحاضر. فمن يكتفي باستخدام ما هو في متناوله في الحاضر، فإنه ينسى ما توافد إليه من الماضي، وهذا يعني أنه يتم تغيير ما تحصل لديه إلى منافع قابلة للحساب، فهو غير قائم في الحاضر، وإنما مفقود في الراهن فحسب. فكلاهما أمر واحد- لكن الاختلاف يكمن في الخاصية الزمانية التي يتمتع بهما كليهما، إذ تكون على قوة معتبرة في البداية  لتصير بعدئذ أكثر قوة. ليس التاريخ ذلك الذي انقضى أمره في الماضي، وليس هو ذلك الذي يوجد في الحاضر، وحتى لو سلّمنا بالأمرين، فإن التاريخ هو كل حدث يكون في المستقبل والماضي والحاضر. إذ يعمل الحدث على تجاوزهما من خلال فعله في ما توافد إليه، وبفعل المهمة التي له. من يكون على هيئة تاريخية ويفكر، فإنه يفكر في قرون خلت. لا يتمتع حدث التاريخ بعلاقة أخرى مع الزمن وفقط – على خلاف ما هو عليه الأمر في علاقته مع الطبيعة-، بل إن هذا الحدث نفسه يعتبر في حد ذاته ضرب من  ضروب الزمن. غير أن هذا الأمر لا يجب أن يفهم أكثر من كونه إطارا نحرص من خلاله على أن نعيّن الموضع الزمني لما كان من وقائع ماضية وأحداث، بقدر ما يعبر الزمن عن تركيبة سلطة ممتدة ذات أبعاد ثلاثة، ويكون وجودنا فيه متصلا، ومن ثمة تاريخيا.

         لكن هذا الحدث، والظروف والمصادفات، والتي تقتضي أن نقوم من خلالها بعملية الحساب تلو الحساب في كل مرة، هو من قبيل ما لا ينتمي إلى الحيّز الماهوي للتاريخ. بيد أن  كل تمظهر غير ماهوي للتاريخ في انتمائه لماهيته كما الوادي في انتمائه للجبل. لذا يتنتمي الزمن إلى الزمن بوصفه مجالا لتعاقب الزمن، كما لو أنه ضرب من القوة الباطنية العميقة للوجود البشري.

وعليه، فإن الوجود التاريخي لا يفعل فعله من تلقاء نفسه. إنه يعبر عن ضرب من المناظرة المستمرة مع كل ما يتمظهر على نحو غير ماهوي للتاريخ ضمن التوجه الثلاثي الأبعاد لسلطة الزمن: إما أنه يكون بمثابة تخلص من عبئ موروث ومن عادة مستلفة.  أو بمثابة ترويض الاندفاعات التي ما فتئت تفعل فعلها إلى حدود الوقت الراهن، أو بمثابة التغلب على الوضع المرتبك الذي نجم عن تخطيط اعتباطي،  أو عن عطاء (Angebotenen)، أو عن تأمل نشأ بمحض الصدفة. إذ هو، ونعني بذلك الوجود التاريخي (Geschichtlichsein) في خضم هذا التدافع الذي لا مفر منه بين الماهية واللاماهية، يظل حريصا كل الحرص على الوجود بشكل راسخ بينما

         وبمعنى أدق ليس للأرض تاريخ، ونفس الأمر بالنسبة للنبات والحياة، وذلك لأنه ليس بإمكانها أن يكون “لها” تاريخ. ولا يمكن لها بالمثل أن يكون لها، وذلك لكونها ليست تاريخية. فليس لهم أن يوجدوا على نحو تاريخي، لكونهم لا يوجدون ضمن سلطة الزمن؛ حيث يحدد الزمان بوصفة تركيبة سلطة ظاهرة الامتداد الداخلي لكينونته من الأساس. فالطبيعة منغلقة على ذاتها، إذ تكون غير قادرة تماما على عرض الزمان بوصفها زمان. فالطبيعة هي الروح التي يعتريها السبات الدائم. لماذا يمكن أن يوجد الإنسان وفقط على نحو تاريخي؟ ما الذي يجعل من الوجود التاريخي على نحو ما هو أمرا ممكنا؟

 

  1. 2. الإمكانية الباطنية للتاريخ

         كيف يقع أن يكون للإنسان لوحده  إمكان الوجود التاريخي،  وذلك لأنه يوجد في الحقيقة؟ ما ذا تعني الحقيقة؟ وهذا هو السؤال الثاني الذي سيأخذ نصيبه من الاهتمام أثناء تحديد ماهية التاريخ. هنالك تصور قديم يقول:  الحقيقة هي مطابقة المعرفة والعبارة مع الموضوع. فأن نقول عن “القطعة النقدية بأنها مستديرة، فإن هذا الأمر صحيح، لأن ذلك يتفق مع محتوى الشيء. من الظاهر أننا لا نتطلع إلى الدخول في المزيد من المتاهات حول الموضوع. لكن ما يبدو باديا للعيان، أنه حيث تنعم الفاهمة بهدوء دائم، حينئذ تشرع أسئلة الفلسفة تنساب. وإذا خطونا بتفكيرنا خطوة بعيدة، فإننا سنعلم أن هذا المفهوم الشائع للحقيقة يعد في حد ذاته غاية في الصعوبة، ومن ثمة يعتبر من حيث الأساس غير كاف لكي نكون على بيّنة من ماهية الحقيقة.

         تكافئ الحقيقة = مطابقة العبارة مع الموضوع. وليست تعني المطابقة (Übereinstimmumg) أكثر من العلاقة التي تجمع بين طرفين يختلفان على الأقل من حيث العدد. قد يحدث تطابق بين قطعتين نقديتين من فئة خمس مارك  (zwei fünfmarkstücke) وبالأخص في مظهرهما. عندما أقدم الآن على صوغ عبارة صائبة: بأن هذه القطعة النقدية من فئة خمس مارك هي دائرية الشكل، فإن هذا يدل أيضا على تطابق العبارة مع الموضوع. لكن كيف ذلك؟ فالقطعة النقدية أصلها معدنية، بينما العبارة (Der Satz) ليست شيئا ماديا. فالقطعة النقدية دائرية الشكل، بينما ليس للعبارة شكل مكاني (räumliche Gestalt). تتيح لي القطعة النقدية شراء شيء ما؛ وباليقين ليست العبارة وسيلة للأداء. العبارة والشيء هما شيئان مختلفان تماما، مع ذلك لا نتردد في القول: أن هذه العبارة تتطابق مع هذا الشيء. والذي يبدو غير مفهوم على نحو مطلق، ما الذي ينبغي أن يتطابق مع من وكيف.

         لكن دعونا نعيد النظر في هذه الصعوبات من جديد، ونعيد الاعتبار لها كما لو أنها شيء يحضا بأهمية كبيرة. عندما أنطق هذه بالعابرة “القطعة النقدية دائرية الشكل” على نحو صحيح، فإذ ذلك يعتمد على قياس أقوالنا على هذه المسألة. فيكون هذا هو المكيال الذي نكيل به أقوالنا. ولكن ما هو معطى للقياس (maß-gebend) هنا، يتعين أن يكون بالفعل في متناولنا. يتوجّب على مظهر الأشياء أن تظهر نحو مسبق، حتى يتسنى لنا قول شيء ما عنه. والطريقة التي تظهر بها رؤية الشيء، يجب أن تكون “صحيحة” في حد ذاتها. وبعبارات أخرى، فإن حقيقة العبارة ليست هي الحقيقة الأصلية، بقدر ما أن هذه العبارة تستند على الأشياء والوقائع – على أي نحو وكيف يتعين أن تكون متطابقة مع الموجودات-، حيث يقتضي أن تكون الموجودات قائمة بالفعل، قبل أن ينطق بقول بخصوصها. وهذا التجلي الذي يكون للموجودات في وجودهم هو عين الحقيقة الأصلية. دعونا نقول بخصوص هذا الأمر أن الإنسان تحول إلى موجود مدرك لوجوده على نحو فعلي. إن لم تتضح لنا الخصائص الحيوية التي تجعل من الطبيعة طبيعة ومن الحيوان حيوانا ومن الأداة أداة ومن المكان مكانا ومن الزمان زمانا، وتظهر الجانب التاريخي للتاريخي وألوهية الله، فلن يكون بمقدورنا على نحو دائم أن نختبر هذه ولا ذاك بوصفها نباتا، ولا هذا وذاك كحيوان، ولا هذا الشيء كالمطرقة والكماشة، ولا هذا كتعبير عن إطار مكاني، ولا ذاك كزمان، وهذا كتاريخ، ولا ذاك بوصفه إله، كما لا يمكننا أيضا أن نستعملها أو نطيقها أو نقدّرها على هذا النحو. فلسنا نتبدى في الوجود المكشوف سوى على هذا النحو. غير أنه في الوجود الظاهر، الذي يكون فيه محتجبا في نفس الوقت، لأن الموجود لا يكون متاحا لنا في كل الأحوال سوى في الأفق ، وعندما نقول في الأفق المنظور فليس نقصد سوى بعض أطوار من أطوراه. فالآخر موصد أبوابه بالنسبة لنا. وحيث يحدث التجلّي، حيث يوجد التحجّب.

         إن الحديث عن الوجود المنكشف لا يعني بالنسبة لنا التحجب بالمعنى الذي يدل على الجانب غير المتفتح – ما هو غير معروف أو غير قابل للانكشاف- من السر، بقدر ما  يفيد التحجب أيضا في معناه الثاني – وبالتحديد من خلال التغطية وإحكام الغطاء- الذي يخص الظاهر، وهذا يعني اللاحقيقة (Unwahrheit). تنتمي ماهية اللاحقيقة إلى ماهية الحقيقة. بدأ الأمر للتو يتضح بخصوص دعوانا: فأن نقول عن أنفسنا أننا نوجد في الحقيقة، فإن هذا يعني ضمن ما يعني على وجه التحديد: إننا نتبدّى في الوجود على هذا النحو، حيث ينحصر تواجدها مابين انكشافها، تحجّبها واختفائها. وكوننا نوجد في الحقيقة، فإننا نتواجد أيضا بالضرورة في اللاحقيقة. فحسب هذا التبدّي الذي ينكشف فيه الموجود ويحتجب، يجري إدراجنا في الوجود، لنرتهن لقدرته وحاكميته (Herrschaft) وعبوديته (Kneschtschaft). وتبعا لهذا التبدّي في الوجود وحده، يمكن لنا توجيه كلماتنا وجملنا نحو الموجودات. وهذا يعني: فكل حقيقة تخص القضية (Satz) يتم اعتبارها على هذا النحو من البداية، تعبّر في حقيقة الأمر عن عين الصواب (Richtigkeit). لقد ظلّت ماهية الحقيقة منذ أمد بعيد، ولازال الأمر كذلك إلى حدّ الآن، منحصرة دائما فيما هو صائب- وهذا يعني ضمن ما يعني إهدار ماهيتها، لأن ما هو صائب (Richtig)، ليس بحاجة لكي يكون صحيحا (Wahr). دعونا نذكّر بالتعريف الذي أوردناه أعلاه للتاريخ بوصفه تعاقب للأحداث في الزمان. تعتبر هذه الجملة حول التاريخ صائبة لكنها غير صحيحة (Unwahr)، إذ تعمل بالضبط على حجب من يكون التاريخ  في ماهيته.

يحيل وجود الإنسان هنا (Da-sein)- وهذا يدل على أن الانكشاف في الوجود المنفتح على نحو ما هو  – على الوجود في الحقيقة واللاحقيقة. وهذا ما من شأنه- كما نؤكد على ذلك- أن يتيح الإمكانية الباطنية لكي يستوي وجود الإنسان على نحو تاريخي. ولأن الإنسان يستودع عنده الظاهر والسر على نحو متماثل، فإنه يمكن له أن يكافح من أجل وجوده، يمكن له أن يتكهّن برسالته، أن يظفر بمهمته، ويفعّل وجوده.  فأن يوجد على نحو تاريخي ليس وفقط أمرا ممكنا، بل بات أمرا واجبا، لأن هذا التبدّي في الوجود بحد ذاته يعبّر عن ضرب من الاستئصال الذي يقع في سلطة الزمن، بعد أن وقع تمدّدها فصارت مستقبلا وماضيا وحاضرا؛ وحيث يبدو أن الشعب أصبح تاريخييا من حيث الظاهر، فإنه  يكون دوما على نحو غير تاريخي (ungeschichtliches)، حيث يسعى إلى التخلص من التاريخ من خلال إظهار عجزه (Unkraft) ، ولم يعد قادرا على التعامل مع السر الذي يخصه. فلم يبلغ بعد مبلغا كبيرا من القوة، فيستوي حقا على نحو تارخي؛ أي أن يكون قبل كل شيء  شعبا.

         عندما نستقصي عن ماهية الحقيقة بوصفها عبارة عن الإمكانية الباطنية للوجود التاريخي، فإنه سيتضح على  نحو أكثر لماذا لا يمكن أن يكون للأرض والنبات والحيوان وجود تاريخي. لأن الوجود على نحو ما هو لا ينفتح أمامهم ولا ينغلق- إنهم يتواجدون تماما خارج إمكانية الحقيقة واللاحقيقة. غالبا ما يجد النبات والحيوان أنفسهما منحصرين ضمن محيط يمارس ضغطه وسحره عليهم، يعيشون تحت وقع الذهول ويظلون قابعين في هذا الوضع. حقا أنه ضمن هذا الارتباك المحير، يكون لكل طرف سبيل الخاص لتدبير حاله، وتلبية حاجيات الحياة التي تخصهم، لكنهم لا يتقاطعون مع الوجود كموجود.

         ولكن على أي أساس ترتكز ماهية الحقيقة بدورها، على نحو يجعل الوجود التاريخي ممكنا؟ أين يكمن الأساس المحمول والمدعوم (tragenden und stützenden Grund) لهذا الحدث الذي ينكشف في الوجود على نحو ما هو؟

3.أساس الإمكان الباطني للتاريخ

         نؤكد من جديد على أن أساس الإمكان الداخلي للتاريخ يكمن في اللغة. ما اللغة؟ هكذا نكون قد تساءلنا سؤال الماهية لثالث وأخر مرة عن اللغة التي يعرفها كل امرئ. وعندما يتعلق السؤال عن ما تكون، نجد إجابة معروفة قائمة منذ فترة طويلة. فاللغة هي التعبير عن خبرتنا الباطنية، عن تمثلاتنا، وآراؤنا، وأمالنا، ومواقفنا في صيغة صوتية أو كتابية. ولكونها تعبّر عن هذا القبيل، فإنها تهدف إلى عرض الخبرة، كما تنشد الإخبار والتفاهم. هذه العلامات التي تخص اللغة، والتي لا زال  ينظر نحوها إلى حدود اليوم، بشكل أقل أو أكثر، على نحو واضح، تجعل كل من شأن التفكير الذي ينصب حول اللغة يكون صائبا مرة أخرى، لكنه في العمق يبقى غير صحيح، لأنه لا يدرك من اللغة سوى النتيجة التي تخص ماهيتها، وليس الماهية في حد ذاتها.

         بل إن ماهية اللغة تكمن بالأحرى في كونها تشكل المغامرة الأولى للإنسان في الوجود- إذ في كنفها يقع الانكشاف الأصيل للوجود وجلائه-، فاللغة ليس وفقط ذلك التعبير المتأخر عن الانكشاف الذي يخص الأشياء، بل هي الكشف عينه. حيث لا وجود لأثر للغة، كما هو الحال بالنسبة للحجر والنبات والحيوان، فلا يوجد أي مظهر من مظهر الجلاء بالنسبة للكينونة، ومن ثمة فلا وجود لعدم الوجود (nicht das Nichtsein)، ولا أيضا عدم ولا فراغ. فحيث تفعل اللغة فعلها، هنالك ينكشف العالم. فليس كل من العبارة التي تفصح عن محبة الواد وخطر الجبل، وعظمة النجوم وصفاء البحر الهائج، وانكماش النبات وتحيّز الحيوان، والآلة التي تجزّ العشب والجهد الجهيد الذي يبذل في سبيل بناء الدولة، والنشوة التي يكبح جماحها ، وتلك التي تتعلق بعمل شكلي  وبالجرأة الباردة التي تخص السؤال المعرفي، ورصانة العمل وكتمان القلب، سو ضرب من التعبير الذي يتم باللغة. فلئن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الظفر بالكينونة وفقدانها يكمن في واقعة اللغة وحده. فاللغة هي ضرب من الكشف عن وسط تشكل العالم والحفاظ عليه وتقويضه الذي يخص الوجود التاريخي لشعب ما.

         ومن ثمة يقع حدوث ماهية اللغة على نحو أصيل ومحض هنالك فقط، حيث يسمى وجود الموجود لأول مرة، ويؤسس عبر التسمية- باسم الشعر الأعظم (Große Dichtung)، نقول عنها اللغة الأصلية (die Ursprache) لشعب ما.  لكن قلّما يقال بأن الكلمة تكشف أيضا عن الأقوال السطحية وعن مجرد سرد. عندما تقع الكلمة (Das Wort) في الانحطاط، وتتحول اللغة إلى مجرد لغو، يتقوى الوضع الغائب للغة (das Unwesen der Sprache)  ويتنفّذ، وتنتشر النسخة العامية (die Umgangssprache) من اللغة. فمن شأن هذه النظرة الضيقة أن تكرس التمثل الشائع القائل بأن اللغة ليست سوى وسيلة للتفاهم، دون أي شيء آخر. وعليه يعتبر القول المعتاد من الحديث الذي يجري يوميا هو القاعدة. غير أن الشعر يشكل استثناء للقاعدة. بينما يعتبر الشعر في الحقيقة بمثابة قانون كل قول أصيل، فليس الباقي سوى تحصيل حاصل وانحطاط. ليس اللغة ضربا من الملكة من بين ملكات الأخرى التي يمتلكها الإنسان إلى جانب العين، والأذن، والفهم، والإرادة، بل إن اللغة هي الماهية الأصيلة لوجوده. ليس الإنسان هو الذي يمتلك اللغة، لكن عكس ذالك، فإن اللغة هي التي “تمتلك” (hat) الإنسان؛ أي أن هذا الأخير “يكون” (ist) على نحو ما هو (وهذا يعني كونه يتجلى في خضم الوجود المنكشف) على أساس اللغة.

         لسنا – كما أفصح عن ذلك هولدرلين- سوى ضربا من الحديث، أي أننا مجرد كلم الآلهة، وبفعل قولهم-المقضي (An-spruch)  يكون ما يكون. تقودنا الآلهة نحو اللغة، إذ ما نحن نوجد وكيف نوجد، وإذا كنا أدلينا بجواب عن الوجود وسلطاته وكيف فعلنا ذالك، وإذا ما كنا على عهد قوانينهم سائرين أو جاحدين.

ولأننا نقع في صلب حدث اللغة، لذلك السبب فقط ينكشف الوجود فينا على نحو ما هو في تجليه وفي تحجّبه وخفائه.

وبما أن  وجودنا يقع ضمن جلاء الوجود- فإنه يـتأثر بكينونته ومهدد بانعدام كينونته- أي في الحقيقة، ولذلك يمكن لنا أن نحسم الاختيار بين الكينونة وعدمها، ودون أن نكون قررنا بعد بشأن أنفسنا – غير أن أي دنو نحو الكينونة وجوبا (Seinsollendes) يكون على شاكلة مهمة وإرسال- على أي قرار سنثابر، وبمعنى أدق الوجود التاريخي- وهذا يعني التموضع وسطا ما بين تهديد الكينونة واللاكينونة، وفي كفاح الكينونة ضد اللاكينونة. فمن خلال هذا التموضع وسطا يتحقّق  الحدث التاريخي- فيكون ما هو عليه يكون.

 

III. تهيئ الاختيار من خلال تضافر الأسئلة الكبرى

         فمن خلال الأسئلة الثلاثة المطروحة: ما هو التاريخ، ما هي الحقيقة، ما هي اللغة- نكون قد أظهرنا أنفسنا في سياقها؛ أي كيف نكون (wie wir sind)، بقدر ما نحن نستوي تاريخيا.  لكن التركيز على كيف نكون، لم يفض بنا إلى أي إجابة على سؤال من نكون (wer wir sind).

         ومع ذلك، يمكن أن نظفر بإجابة بخصوص هذا الأمر. وبالتحديد عندما ندرك أن الأمر لا يرتبط بمسألة ما إذا كنا الآن على دراية ببعض التحديدات المفاهيمية الجديدة بخصوص التاريخ والحقيقة واللغة، بقدر ما يتعلق الأمر بما إذا كنا تمرّسنا على التهيؤ لحسم القرار ضمن الأسئلة التي تخصنا.

         نجد أنفسنا، وذلك بحكم استواءنا على نحو تاريخي،  تائهون في المقام الأول وفي غالب الأمر في الأحداث والأنشطة التي تقع على نحو يومي، وقلما يعتبر التاريخ من جهة الماهية بعد تقديره من حيث هو تكليف ورسالة. نتنازع دوما حول ما هو صائب وما هو غير صائب، بينما نادرا من نتساءل وبشكل عابر عن حقيقة الأشياء. عادة ما نتمسك بتكرار وترديد ما قاله شخص أو خمّن فيه، ولكن نادرا وقلما ندرك الكلمة الأساسية بغرض الحفاظ عليها.

         في معرض وجودنا، يتم باستمرار وضع ما هو غير كائن قبالة ما هو كائن، وما هو صغير وقريب قبالة ما هو كبير وبعيد، والمقيت قبالة من هو متحرر، وما هو في حكم المتوسط والنصف قبالة ما هو فائق وكلي.

         يبقى الاختيار قائما إذا كنا نتصور هذا النزاع الذي يخص ما هو كائن وغير كائن على أنه أمر لا مفر منه، أو إذا كنا لا نتصوره كذلك، وبالنتيجة نسعى دوما نحو التخلص مما هو غير كائن والتبرأ مما هو كائن- ولما لا تحقيق توازن رفيع بين الأمرين.

         إن القانون الذي نقبل به في كل ما يخص معرفتنا وإرادتنا، هو أن هذا  النزاع الذي يتصل بما هو كائن وغير كائن، بات ينتمي، وبجدية ساطعة لا غنى عنها، نحو ماهية التاريخ على نحو ما هو، لينغمس في الوجود الذي يخص شعبنا. ومن خلال القيام بذلك، سنكون قادرين على خلق الشرط الأساسي للمؤسسة بشكل يتيح للغرب أن يعانق يوما جديدا من تاريخه. لأي سبب؟

         يمكن لشعب ما، من خلال المعرفة الصادقة (Das echte Wissen)  التي تخصّ حقيقة الكينونة التاريخية وفقط، كما يمكن لشعوب بعينها أن تنمّي الاستقلالية الحقة (Wahre Selbständigkeit) ضمن مجال الإرادة- وبعبارة أخرى نعني الحرية. غير أن قيمومة الذات في مقابل الآخر، لا يعني التخلص من هذا الآخر أو جعله مجرد عبد؛ فقط لأن هذا هو السبيل من أجل التخلص من كل ذات مستقلة يمكن لها أن تصون نفسها على هذا النحو. وليس من سبيل لقيمومة الذات على نحو حقيقي سوى من خلال الاعتراف المتبادل، وبالطريقة التي تفيد على أن المُعترف بهم (Die Anerkennenden) يعترف بهم على نحو ما تم الاعتراف بهم، وهكذا يحصل الارتقاء بماهيتهم بشكل  متبادل  نحو منزلة أسمى.

         وبما أن هذه الحرية التاريخية الحقة تعبر عن القيمومة الذاتية الناتجة عن الاعتراف الحاصل بين شعب وشعب، فإنها ليست بحاجة إلى جماعة منظمة بشكل ظاهر، مثل “عصبة الأمم” (Liga der Nationen). إن تحرير الشعب لنفسه يحدث عبر الدولة؛ ليس الدولة بوصفها جهاز، وليس يوصفها عمل فني، وليس كمكون مقيد للحرية، بقدر ما هي تعبير عن إزالة للقيد عن الحرية الباطنية لكل السلطات الأساسية التي يمتلكها الشعب تبعا للتدرج الداخلي لقوانيها. لئن كان للدولة أن تكون، فليس بها سوى أن تصبح تعبيرا عن الكيان التاريخي للكائنات، وهذا يعني الشعب. لكن الحرية التاريخية الحقة  لشعوب أوروبا تمثل الشرط المسبق الذي يجعل الغرب يعود مرة أخرى إلى نفسه في هيئة روحية- تاريخية، ليحدد مصيره في شاكلة قرار كبير يهم الأرض في مواجهة الأسيويين. غير أن هذا الضرب من الحرية التاريخية يتطلب  فترة مديدة،  بقدر ما يتيح تحول المعرفة نحو ماهية الكينونة، و تطويع القوة غير الكائنة (Unwesen).

         ليس بمقدور الفلسفة أن تمارس إكراها معينا على هذا التحول الذي يعتري الكينونة، ولكن يمكن لها على نحو غير مباشر خلق معرفة ضمن مستويات مختلفة من الوضوح والوفرة والصرامة، تعتبر بمثابة معرفة أساسية تتيح للشعب الظهور في كنفها على شاكلة نوابت  (Einpflanzt). مثل أن هذا الضرب من المعرفة ينطوي قبل ذلك على الإرادة، فإن الإرادة الحقيقة يقع استعمالها على نحو معرفي. هذه المعرفة كفيلة لوحدها بخلق فضاء عاصف (Gewitterraum)، في هذا المجال –على كل حال- يحصل التقاء وميض برق الآلهة، ويعلن فيه عن حلول موعد ساعة العالم (Die Weltstunde) التي تخص الشعب.

لا أحد يعلم متى يحدث هذا الأمر. لكننا نعلم أمرا واحدا، وهو ما قاله هولدرين في مقطع شذري (Br

Bruchstück) ينتسب إلى شعره المتأخر والأصيل:

} سألت ذات مرة موزا (Die Muse)[2]، فأجابتني

في نهاية المطاف ستجده

وددت لو ألزم الصمت على نحو  عال

ليست الفاكهة المحرمة، مثل نبات الرند، سوى في غالب الأحوال الوطن عينه.

لكنه يأبي إلا أن يؤمّن في نهاية المطاف اللقمة للجميع }[3]


[1] – نشر هذا المقال، الذي تولينا ترجمته إلى اللغة العربية، ضمن المجلد 16 من الأعمال الفلسفية العديدة التي تولـّت دار النشر (فيتوريو كلوزتغمان) إخراجها بعد وفاة الفيلسوف مارتن هايدجر. ويجمع هذا المجلد – المعنون ب”أحاديث وشهادات من  مسار الحياة”- بين دفتيه العديد من المقالات والمراسلات والمقابلات التي توثق للتجربة الفكرية الهايدجرية من بداية حياته الفكرية (1910) إلى نهايتها (1976)  التي ختمها ب”كلمات هولدرينية” (Worte Hölderlins).

-Martin Heidegger. Die gegenwärtige Lage und die künftige Aufgabe der deutschen Philosophie (30. November 1934)SS 316-334. In: Reden und andere Zeugnisse eines Lebesweges. Bd 16. Vittorio Klostermann, Frankfurt  Am Main. 2000.

[2] – وهي لفظة اغريقية تطلق على ربة (أرباب) الإلهام.

[3] – >> Einst hab ich die Muse gefragt, und sie

Antwortet mir,

Am ende wirst du es finden

wom Höchsten Will ich schweigen

Verbotene Frucht, wie der Lorbeer, ist aber

Am meisten das Vaterland. Die Aber kost

Ein jeder zulest >>. Hg. Hölderlin, Bruchstück 17.IV,S. 249.