مجلة حكمة
العقل بين الأمس واليوم عقل

العقل بين الأمس واليوم – ج.ب. فرنان / ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي


العقل بين الأمس واليوم

عندما نسأل العقل عن أصوله فإننا نقحمه في التاريخ، ونعامله توّا، على أنه ظاهرة بشرية، ومن ثمة، على أنه نسبي خاضع لشروط تاريخية معينة، متقلب بتقلب تلك الشروط.

وبذلك فإننا ننتقل من مفهوم لاهوتي، أو ميتافيزيقي على الأقل، عن العقل ، إلى شيء مخالف تمام الاختلاف: وأعني إلى تاريخ أشكال الفكر العقلاني في تنوعاه وتغييراته وتحولاته التي يزداد عمقها أو يقل. فما يطلق عليه المؤرخ عقلا هو أنماط معينة من التفكير، ودراسات عقلية، وتقنيات ذهنية تختص بها ميادين معينة للتجربة والمعرفة. إنها أشكال مختلفة من الاستدلال والبرهان والتفنيد، وأنماط خاصة لتقصي الوقائع وتدبير الحجج، وأنواع متباينة من التمحيص التجريبي.

من الواضح أن تقنيات التفكير هذه تتغير وتتبدل تبعا لما تنصب عليه من موضوعات. إنها تتباين حسبما إذا كانت تستعمل اللغة العادية، شأن المنطق الأرسطي، أو ما إذا كانت تستعين بمنظومات رمزية كما هو الشأن في الرياضيات. ثم إن هذه الأشكال تتوقف كذلك على المستوى التقني لتطور العلم، وعلى الأجهزة والأدوات العلمية التي، وإن كانت تشكل تجسيدا ماديا للنظريات، إلا أنها ترتبط كذلك بالتاريخ التقني والاقتصادي للمجتمعات البشرية. ليس في وسعنا، والحالة هذه، افتراض عقل خارج التاريخ، عقل يهيمن من خارج على تقدم العلوم ويسيّرها من عل، فيحدد، انطلاقا من مبادئ عقلية وضعت مسبقا وبصفة نهائية، مسار الحركة العلمية في مجموعها. إن العقل محايث للتاريخ البشري في جميع مستوياته. ولا يمكننا البتة، أن نفصله عن المجهودات التي ما ينفك الإنسان يبذلها ويجددها لفهم العالم الطبيعي والبشري. إن العقل يضع ذاته ويحولها عندما يصنع الأدوات التقنية والوسائل العقلية التي يفهم عن طريقها الأشياء. إنه يبني ذاته حينما يشيّد مختلف مجالات المعرفة العملية. لقد بينت الإبيستمولوجيا المعاصرة، بما لا يدع أدنى شك، إنه ليس بإمكاننا، في أي قطاع من قطاعات العلم، أن نفصل أشكال التفكير عن أدواته ولغته والموضوعات التي ينصب عليها. فلكي يصبح ميدان معين من ميادين الواقع موضوع علم، ينبغي أن يجد التعبير عنه في لغة ملائمة، وإن توضع منظومة من الرموز ملائمة له، وقابلة لأن تعدل على الدوام. هذه الرموز تكون موضع عمليات ذهنية، ومجموع هذه العمليات يخضع لمبادئ موجهة وقواعد تشكل منطق المنظومة. وكلما ازداد علم ما تقدما، واتسع ميدانه، واغتنى موضوعه، تحولت لغة هذه الدراسة كي تفسح المجال لعمليات جديدة، فتوضع المبادئ الموجهة موضع سؤال ويعاد النظر في منطق المنظومة بدوره. وهكذا فإن موضوعات الرياضة الحديثة، على سبيل المثال، من أعداد وأمكنة، ناهيك عن المجموعات، لم تعد على ما كانت عليه في الرياضيات الإغريقية. فإزاء تعميم مفهوم العدد، ابتداء من العدد الصحيح إلى الكسور، والأعداد السلبية فالجذرية، هناك تحول في لغة الرياضة، وأشكال جديدة من العمليات الرياضية ومنطق رياضي جديد.

بمقدار ما يزداد العلم تقدما، فإن التوازن بين جميع مستويات صرحه يصبح مهددا ابتداء من موضوع العلم حتى المبادئ الموجهة للدراسة. وعندما يكون التقدم هائلا وينكشف ميدان جديد من الواقع، فإن المنظومة كلها تكون في حاجة إلى صياغة جديدة. فإمكاننا إذن أن نقول إننا ما إن نتخذ منظورا تاريخيا ونتخلى عن توهم عقل مطلق كي نفحص كيف بنى الإنسان عقله، من خلال تقدم مختلف العلوم، حتى ندرك أن قانون تقدم الفكر العقلاني هو النمو عبر الأزمات بله الأزمات الشديدة. فتاريخ العقل يعرف هو كذلك ثورات.

إذا كانت الصعوبات النظرية التي تثيرها الرياضيات والفيزياء المعاصرة تبدو وكأنها فضيحة من الفضائح في نظر بعض العقلانيين المتشبثين بتصور ثابت مطلق عن العقل، فعلى العكس من ذلك أن من يطبق على العقل مسلسل النسبية الذي يميز كل نهج عقلاني، لا بد وأن يرى تمكن بالفعل من إدراك الواقع والإمساك به. وبهذا المعنى يمكن أن نقول إن الجدال الذي يقوم اليوم حول العقل دليل على حيوية الفكر العقلاني وتقدمه واكتساحه، وعلى المكانة التي ما فتئ يتبوؤها لا في القطاعات التقليدية للفكر العلمي وحدها، وإنما حتى في ميدان الممارسة والحياة الاجتماعية.

إن مفهوم الجدال والمحاجة التي تقبل باختلاف الآراء وتضاربها يشكلان شرطا أساسيا للعقلانية. فلا عقلانية إلا إذا قبلنا أن جميع الأسئلة والقضايا يمكن أن تكون موضع جدال مفتوح عمومي ومتناقض. فليس هناك مطلق يمكننا أن نزعم باسمه إيقاف الجدال في لحظة معينة.

كان العقل الإغريقي يعبر عن نفسه أساسا في الخطابات. إنه كان عقلا خطابيا حالا في اللغة. وقد عمل مفكرو اليونان على إبراز مبادئ هذا العقل انطلاقا من تحليل أشكال الحجاج الشفوي والقواعد المتحكمة في استعمال اللغة. وقد بين عالم اللسانيات إميل بينفنيست E.Benvéniste إلى أي حد قدمت مقولات منطق أرسطو على المقولات النحوية التي تميز اللغة الإغريقية، وكيف أنها لا تعبر عن حالة اجتماعية فحسب، وإنما عن واقع اللغة اليونانية في لحظة معينة. والحال أن منطق الخطاب هذا، هذا المنطق التحليلي للكلام، قد فقد اليوم كثيرا من قيمته وأهميته، على الأقل فيما يتعلق المعاصر. وهذا العقل قد ابتعد عن لغة الكلام كي يتجه نحو لغة الرياضيات، ويقيم منطقا للعدد والكم عوض منطق المفهوم والكيف. ثم إنه توجه من ناحية أخرى نحو الملاحظة المنظمة للوقائع، والفحص الدقيق للواقع. هذا التوجه المزدوج هو الذي جعل عقل اليوم ذكاء تجريبيا.

لا يعني هذا أن أشكال المعقولية القديمة لم تعد تحيا في مستويات أخرى من التفكير. ففي الحياة اليومية لكل منا، وفي أكبر جزء من حياتنا الاجتماعية، وعند كثير من الفلاسفة، وعند كل الساسة تقريبا، مازال عقل الخطاب هذا هو الذي يعمل. إن هذا العقل اللفظي عقل تبريري إن لم نقل إنه لاهوتي. فبدل أن يتقصى الواقع لكي يفحص إلى أي حد تكشف عنه نظرياتنا، يأخذ على عاتقه إقامة حجج، على مستوى الخطاب، تبدو جميع بمقتضاها سهلة الحل، وجميع التناقضات محلولة ملغاة. ولو نحن أردنا أن نصوغ في عبارة وجيزة توجه هذه العقلانية الخطابية، لقلنا إن الأمر يتعلق على الدوام بأن نبين أن ليس هناك مشكل فعلي، وأن الحقيقة تسكن الخطاب ذاته وأن الأمور على أحسن وجه. أما العقل التجريبي الذي يعتنقه العلم فهو على العكس من ذلك، عقل إشكالي. وهو لا يتقدم إلا بفضل تساؤل لا ينقطع وإعادة نظر في الوقائع والنظريات بل في مبادئه ذاتها. فسواء أتعلق الأمر بمبدإ الجوهر، أو مبدإ الهوية، فإن كل هذه المبادئ قد وضعت موضع سؤال، وقد أعيد تأويلها بدلالة تقدم البحث العلمي ·

مجلة الجابري – العدد الرابع


J.P. Vernant Religions, histoires, raisons, F.MParis, 1979, pp. 79-103.