مجلة حكمة
العلوم الإنسانية عند الفارابي

الفارابي الرّائد البعيد لإبستمولوجيا العلوم الإنسانيّة خلال العصر الوسيط: دراسة في منزلة العلم المدنيّ بين العلوم العقليّة – سعيد الجابلي


“لمّا كنّا مدنيّين بالطّبع، وكان يلزمنا لأجل ذلك أن نكون مؤالفين للجمهور، محبّين لهم، مؤثرين لفعل ما نفعهم، وعاد عليهم بصلاح أحوالهم، كما يلزمنا ذاك فينا، وأن نشركهم في الخير الّذي فوّض إلينا القيام به، كما يلزمهم أن يشركونا الخيرات التي فوّض إليهم القيام بها بأن ننصرهم الحقّ في الآراء التي لهم في مثلهم. فإذا شاركونا في الحقّ أمكن أن يشركوا الفلاسفة في سعادة الفلسفة بمقدار طاقتهم، وأن ننقلهم عمّا نراهم لا يصيبون فيه من الأقاويل والآراء والسّنن”.  الفارابي، كتاب الجدل


أولى أبو نصر محمّد بن محمّد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي (260ه /974م – 339ه/950م) إحصاء العلوم والصناعات تصنيفا وتعريفا بأغراضها اهتماما لافتا صُلب نسقه الفلسفيّ والعلميّ برمته في مسعى منه لبلورة معالم إبستمولوجيّا عربيّة ناجزة، الأمر الذي بوّأه في نظرنا مكانة الرّائد البعيد للإبستمولوجيّا في الفكر العربي خلال الفترة الوسيطيّة. ولعلّ تصريحه الوارد في افتتاحيّة مؤلّفه الموسوم بـ: “إحصاء العلوم”، ليجلّي هذا التوجه لديه، حيث ألفيناه يقول: “قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كلّ واحد منها، وأجزاء كلّ ماله منها من أجزاء، وجمل ما في كلّ واحد من أجزائه، ونجعله في خمسة فصول: الأوّل في علم اللّسان وأجزائه، والثّاني في علم المنطق وأجزائه، والثّالث في علوم التعاليم، وهي العدد والهندسة وعلم المناظر وعلم النجوم التعليمي وعلم الموسيقى وعلم الأثقال وعلم الحيّل، والرّابع في العلم الطبيعي وأجزائه، وفي العلم الإلهي وأجزائه، والخامس في العلم المدني وأجزائه، وفي علم الفقه وعلم الكلام”)[1](. نستجلي من هذا القول، ترتيب الفارابي للعلوم التي يفحص عنها وفق خمس فصول تحتوي على ثمانيّة علوم. وبالنظر أيضا إلى أسبقيتها في زمن التّعليم. وفي ذلك خلافا من لّدنه لمعهود التصنيف الأرسطيّ للعلوم الوارد في كتابي: “الجدل” و”كتاب الألف من الميتافيزيقا”، أين ألفينا المعلّم الأوّل يميّز فيهما بين ثلاث مجموعات من العلوم لهي:

* أوّلا: العلوم النظريّة (الحكمة النظريّة)، وغايتها في تقدير أرسطو طلب المعرفة للمعرفة، وهي تتناوّل الوجود من ثلاث جهات: من حيث هو وجود بإطلاق وهو العلم الإلهي أو الفلسفة الأولى. ويعدّ هذا العلم أرقى درجات الحكمة النظريّة. ومن حيث هو مقدار وعدد وهو العلم الرّياضي. ومن حيث هو متحرّك ومحسوس وهو العلم الطّبيعيّ، ومنها علم النبات والحيوان والنّفس.

* ثانيّا: العلوم العمليّة (الحكمة العمليّة)، غايتها في نظر أرسطو تدبير أفعال الإنسان بما هو إنسان وتشمل كلّ من: الأخلاق، بما هي تدبير لأفعال الإنسان بما هو فرد. والسياسة، وموضوعها أفعال الإنسان داخل المدينة. وتدبير المنزل، وموضوعه تدبير أفعال الإنسان في الأسرة.

* ثالثا: العلوم الإنشائيّة، وغايتها تدبير أقوال الإنسان، ومنها الشعر والخطابة والجدل…وغيرها.

والنّتيجة التي انتهى إليها المعلّم الأوّل على نحو ما عبّر عن ذلك في الفصل الثّاني من الكتاب السّادس من الأخلاق النيقوماخيّة، إنّما تتعيّن في رسمه للتمايّز الإبستمولوجيّ المنشود بين ما هو نظريّ وما هو عمليّ، إذ يتحدّد الأوّل بالحقيقة والخطإ، ناهيك أنّ غاية البّحث هو الوصول إلى الحقيقة. ويتحدّد الثّاني بتحقيق الخير. فالفعل على هذا النّحو من النظر، يختزل فيما هو خير، وله بالتّالي دلالة أخلاقيّة، لا مجرّد دلالة تقنيّة. فالعلم إغريقيّا ليحمل على معنى المعرفة الكليّة القائمة على الالتزام بجملة من المقتضيّات من جهة إنتاجها، خاصّة أن يكون العلم معرفة بالماهيّات وأن تكون تلكم المعرفة غاية ذاتها. لهذا الاعتبار، أخضعت العلوم إذن إلى تراتب تفاضلي إبستمولوجيّا، وفقا لمواضيعها وتحقيقها لهذه المقاييس العلميّة الخالصة.

ولقد طالعنا المعلّم الثّاني أيضا بمزايا ومقاصد أثره “إحصاء العلوم”، الذي خصّصه لترتيب العلوم وتعريفاتها ومميّزات كلّ منها، بقوله: “ويُنتفع بما في هذا الكتاب، لأنّ الإنسان إذا أراد أن يتعلّم علما من هذه العلوم وينظر فيه علم على ماذا يقدّم وفي ماذا ينظر وأيّ شيء سيفيد بنظره وما غناء ذلك وأي فضيلة تنال به، ليكون إقدامه على ما يقدم عليه من العلوم على معرفة وبصيرة لا على عمى وغرر. وبهذا الكتاب يقدر الإنسان على أن يقايس بين العلوم، فيعلم أيّها أفضل وأيّها أنفع وأيّها أتقن وأوثق وأقوى، وأيّها أوهن وأوهى وأضعف”([2]).

قمين بالإشارة إلى أنّ المتأمّل في المدوّنة الفارابيّة، ليسترعي اهتمامه جملة الصيّغ المتعدّدة والمختلفة التي استأنس بها المعلّم الثّاني في ترتيبه العلوم والصناعات وتصنيفها، فهي معايير إمّا أنطولوجيّة أو تعليميّة بيداغوجيّة أو إبستمولوجيّة بحسب درجة يقينيّتها. وتبدو تفاضليّة هذه المعايير متداخلة أحيانا. ويتساءل الفارابي عن إمكانيّة التمييز بينها وعن كيفيّة تناسقها. وثمّة كتاب ضمن المدوّنة خصّصه الفارابي للغرض، وهو كتاب: “إحصاء العلوم”، لكنّه لا ينفرد بالمسألة التي نجدها في مصنّفات أخرى مثل كتاب: “تحصيل السّعادة”. وهنا نذكر هذا المصنّف في درجة أولى وإن كان الغرض لا يتجلّى إلّا بمسلّمة ترادف ضمنيّ بين ما ورد في كتاب: “تحصيل السّعادة” وبين ما ورد في كتاب “إحصاء العلوم” باٌعتبارهما يعرضان صيغتين للكمال الإنسانيّ. لكن المسألة ترد في نصوص أخرى عديدة وإن كان ذلك بطريقة أكثر اختصارا. وثمّة أيضا مرجعان في هذا الغرض نفسه لكنّهما يتميّزان بتناولهما له من زاويّة تاريخيّة. وهذان المرجعان هما: كتاب “فلسفة أرسطو طاليس” وكتاب “الحروف”. ولهذين الكتابين أهميّة بالغة إذ يتيحان لنا إمكانيّة المقارنة داخل التصوّر الفارابي بين وضعيّة تاريخيّة للعلوم في مرحلتها اليونانيّة وحسب إحصاء لها ضمن عرض لعناصر المدوّنة الأرسطيّة من جهة وبين الثبت الذي يجريه الفارابي في كتاب: “إحصاء العلوم” أو كتاب “تحصيل السّعادة” من جهة ثانيّة، وهو الذي يبدو عرضا للعلوم المتوفّرة لديه في وقته آنذاك. ولا يتّسع المجال لإجراء المقارنة بالتفصيل، وأكتفي بذكر الفوارق التّاريخيّة: ظهور العلم المدنيّ في المرحلة الثانيّة وغيابه في المرحلة الأرسطيّة. وتستدعي هذه الملاحظة بعض الحذر والانتباه إذ هو غياب نسبيّ لكتابي السياسة والأخلاق النيقوماخيّة يتجلّى في فلسفة أرسطو طاليس، والحال أنّ عرض الفارابي هو عرض للمدوّنة الأرسطيّة. ويتمظهر أيضا في خاتمة العرض في قول الفارابي إنّ أرسطو قد شرع في كتاب سمّاه “ما بعد الطبيعيّات” أن يكمل ما بقي ناقصا في الفلسفة الطبيعيّة والفلسفة الإنسانيّة المدنيّة ويتمّمه([3]). وعلى نفس الصعيد الإشكالي، تجدر بنا الإشارة إلى أنّ الفارابي لم يتبّع دائما نفس المنهج الذي صنّف على أساسه العلوم، وهذا ما يتمظهر من خلال فعل المقارنة بين ما تمّ اعتماده في ” كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة”، وبين كتاب “إحصاء العلوم”، حيث يتقدّم البحث في الإلهيّات البحث في الطبيعيّات. والأمر ذاته، يتعيّن في مؤلفي: “الإحصاء” و”رسالة التّنبيه على سبيل السّعادة”، الّذين اعتمد فيهما الفارابي رؤيّة أرسطيّة في تصنيف العلوم، تعزى في أصولها الحقيقيّة إلى مراس التّقليد الرّواقي القاضيّ بتقسيم الفلسفة إلى منطق وطبيعيّات وأخلاق. بل إنّ أبا نصر طفق يجوس في تصنيفه العلوم والمفاضلة بينها من جهة مرتبة الشرف العلميّ، مستأنسا بمنهج آخر في مستوى كتاب “التّنبيه”، هذا مصداقا لقوله: “أنّ المعارف صنفان: صنف شأنه أن يعلم، وليس شأنه أن يفعله الإنسان، لكن إنّما يعلم فقط، مثل علمنا أنّ العالم محدث، وأنّ الله واحد. وصنف شأنه أن يعلم ويفعل، مثل علمنا أنّ برّ الوالدين حسن (…). وما شأنه أن يعلم ويعمل فكماله أن يعمل. وعلم هذه الأشيّاء متى حصل ولم يردف بالعمل كان علما باطلا لا جدوى منه. وما شأنه أن يعلم ولم يكن شأنه أن يعمله الإنسان فإنّ كماله أن يعلم فقط”. وكلّ واحد من هذين الصنفين له صنائع تدخل تحت طائلته ([4]).

ولاعتبار كهذا، آلينا على أنفسنا مهمّة إرجاع القهقرى شطر إبستمولوجيّا العلوم الإنسانية عند الفارابي، عسانا نتبيّن سبل إنشاء عقلانيّة عربيّة ناجزة خلال العصر الوسيط، يكون مجالها “الشّأن الإنسانيّ”. سيّما وأنّ المدار الإشكاليّ الذي يتنزّل فيه هذا المبحث الإبستمولوجيّ، يتعيّن رأسا في تقصينا منزلة العلم المدنيّ بين العلوم العقليّة ضمن المتن الفلسفيّ الفارابي. وحينئذ، فإنّ هذه المحاولة، لهي مدخل من المداخل الممكنة للتعرّف على بعض ملامح القول العلمي عند المعلّم الثّاني من زاوية أبعاده ومقاصده الإبستمولوجيّة. ناهيك أنّ هذا الأخير (القول العلمي) قد استأثر في تقديرنا باهتمام لافت من لّدّن نخبة من الباحثين المتخصّصين في تاريخ الفلسفة والعلوم العربيّة والإسلاميّة، على نحو ما تجلّيه لنا بعض البحوث والدّراسات القيّمة نعرضها كالآتي: “الفارابي رياضيّا”([5])، و”نظريّة العلم عند أبي نصر الفارابي”([6])، وأيضا “المصطلح المدنيّ عند الفارابي وفي الفلسفة الإسلاميّة”([7]). ينضاف إلى ذلك بعض الكتابات الأخرى التي لا تقلّ أهميّة منها: “الحيّل في إحصاء العلوم عند الفارابي”([8])، و”الفلسفة السياسيّة عند الفارابي: أوضاع العلم المدنيّ”([9])، و”الفارابي مقالة في إحصاء العلوم والصناعات من أجل إبستمولوجيا عربيّة هادفة”([10]). ونحو ذلك من الأعمال والإسهامات البحثيّة التي أفردها أصحابها تدبّرا لموضوع الإبستمولوجيّا الفارابيّة خلال العصر الوسيط.

ولسوف نسعى في رصد تلكم المنزلة التي حظي بها العلم المدنيّ ضمن إبستمولوجيّا العلوم الإنسانية عند الفارابي إلى تتبّع المعالجة الفارابيّة في مواضع مختلفة من أعماله. ومثلما هو مستفاد، فإنّ عمليّة الفحص هذه، لتقتضي منّا الالتزام بالمنهج الّذي اختطه فيلسوفنا، والّذي يعنى بحدّ المفهوم المزمع بيانه، ثمّ تقصيّ تدرّجه الإشكاليّ، وبعد ذلك تنزيله في مدار المعرفة الكليّة، تحصيلا للدّقة والتماسك اللّازمين منهجيّا. وعليه، خليق بنا حصر إشكاليّة بحثنا هذا في طائفة من التساؤلات نسوقها كالآتي: ما المقصود بالعلم المدنيّ فارابيّا؟ أيّة منزلة حظي بها العلم المدنيّ ضمن إبستمولوجيّا العلوم الإنسانية عند الفارابي؟ وهل من سبيل إلى إنشاء عقلانيّة عربيّة ناجزة خلال الإبستميّة الوسيطيّة يكون مجالها الشّأن الإنسانيّ؟ أنّى لنا تمثّل نوعيّة العلاقة القائمة بين العلم المدنيّ والعلم الإنسانيّ وفقا لمراس القول العلميّ والإبستمولوجيّ الفارابي؟

تقوم فرضيّة هذا العمل إذن على تدبّر إبستمولوجيا العلوم الإنسانية عند الفارابي من خلال منزلة العلم المدنيّ في إحصاء العلوم. وهو أمر لتُجليه أقسام البحث الثلاثة، حيث نتناوّل بالدّرس والتّحليل في مستوى القسم الأوّل، مفهوم العلم المدنيّ ومنزلته بين العلوم العقليّة في مرايا إبستمولوجيّا العلوم الإنسانيّة لدى الفارابي. ونطرح في القسم الثّاني، طبيعة العلاقة التي يفترضها المعلّم الثّاني بين العلم المدنيّ والعلم الإنسانيّ، عسانا نتبيّن أوجه التقاطع الإبستمولوجيّ بينهما، واستتباعات ذلك كلّه على إمكانيّة تأصيله لمعالم إبستمولوجيّا عربيّة ناجزة خلال الإبستميّة الوسيطيّة. أمّا في القسم الثّالث والأخير من بحثنا، ارتأينا مقاربة منزلة العلم المدنيّ من جهة علاقته بالعلم الطبيعي وبالميتافيزيقا والعلم الإلهي عموما صلب المدوّنة الفلسفيّة والعلميّة عند الفارابي.

 

  1. العلم المدنيّ: مفهومه وأبعاده النظريّة والعمليّة من منظور الفارابي

إنّ قراءة آثار الفارابي محفوفة بكثير من المزالق، والطريق إلى مقاصده تستلزم اعتماد التأنّي، وتجنّب التسرّع في الحكم، إذ أنّ الباحث بإمكانه الانتباه إلى أنّ الفارابي يعالج الموضوع الواحد في عدّة مواضع مختلفة ممّا يوحي في البداية بالتشتّت، غير أنّ المتفحّص يدرك أخيرا أنّ الفكرة لدى فيلسوفنا لا تتجلّى دفعة واحدة، ولا تتجلّى (كاملة) إلاّ بعد رصدها في مواضيع مختلفة تمليها عليه الضرورة المنهجية أو طبيعة التدرّج الإشكالي وهذا ما أضفى على كتاباته الدقّة والتماسك.

وتبعا لهذه الملاحظة، نحاول تحديد مفهوم العلم المدنيّ كما عرّفه الفارابي في عدّة مواضع من آثاره، ثمّ تبيّن أبعاده النظريّة والعمليّة في المدوّنة الفلسفيّة والعلميّة الفارابيّة. فكيف ذلك؟

أفرد الفارابي الفصل الخامس من كتابه: “إحصاء العلوم” والموسوم “في العلم المدنيّ وعلم الفقه وعلم الكلام ” لاستنطاق موضوع العلم المدنيّ مفهمة، وظيفة، مقاصد، ومنزلة إبستمولوجيّة. هذا مصداقا لقوله: “أمّا العلم المدنيّ فإنّه يفحص عن أصناف الأفعال والسّير الإراديّة، وعن الملكات والأخلاق والسّجايا والشّيم التي تكون عنها تلك الأفعال والسّير، وعن الغايات التي لأجلها تفعل، وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان، وكيف الوجه في ترتيبها فيه على النحو الذي ينبغي أن يكون وجودها فيه، والوجه في حفضها عليه”([11]).

نستجلي من هذا التعريف الفارابوي تحديدا لمائيّة العلم المدنيّ ومجالاته. ولئن كان مضمون العلم المدنيّ هو الأفعال والسّير والملكات الإراديّة، فهو لا ينظر فيها كلّها، إنّما يقتصر على النّظر في الكلّيّات وإعطاء رسومها، وتعريف الرّسوم في تقديرها في الجزئيّات: كيف وبأيّ شيء؟ وبكم شيء ينبغي أن تقدّر؟ ويبدو الفارابي هنا، وكأنّه يذكر ثلاثة أمور ينظر فيها العلم المدنيّ:

  • الكلّيّات.

  • ورسوم هذه الكلّيّات.

  • ورسوم تقديرها في الجزئيّات([12]).

من الأهميّة بمكان استحضار ما ذهب إليه الأستاذ: محمّد محجوب بخصوص العلم المدنيّ، حيث ألفيناه يختزل موضوع العلم المدنيّ أوّلا في وظائف مركّبة، ذلك أنّه: يفحص، يميّز، ويبيّن. عمّ تكون الأفعال؟ وما غايتها؟ وكيف تستدام في الإنسان؟ تلك هي الأسئلة التي يعنى بها العلم المدني ويفحص عنها. وبها يميّز.([13])

لا جناح علينا هاهنا في مسايرة ما أقرّه الأستاذ محجوب، بأنّه ليمكننا أن نجد عدّة نصوص أخرى للفارابي تعنى بعين ما يعنى به هذا النّصّ من إحصاء العلوم. فلنذكر على سبيل المثال كامل النصّ الممتدّ ما بين الفقرات 11 و27 من كتاب الملّة، وهو نصّ يفصّل ما جاء في الفصل الخامس من إحصاء العلوم تفصيلا. ولنذكر كذلك كتاب تحصيل السّعادة ولا سيّما الفقرات 19 – 51 منه. ولأمر كهذا، يكون العلم المدني، في تقدير المعلّم الثاني إذن، جزء من الفلسفة، يقتصر فيما يفحص عنه من الأفعال والسّير والملكات الإرادية وسائر ما يفحص عنه، على الكلّيات وإعطاء رسومها. ويعرّف أيضا الرسوم في تقدريها في الجزئيات، كيف، وبأيّ شيء ينبغي أن تقدّر، وتتركها غير مقدّرة بالفعل، لأنّ التقدير بالفعل لقوّة أخرى غير الفلسفة، وعسى أن تكون الأحوال والعوارض التي بحسبها يكون التقدير بلا نهاية وغير محاط بها. لذلك، فإنّ الفقرة الثالثة من الفصل الخامس من إحصاء العلوم تجمل القول في موضوعات العلم المدنيّ، فتقول وهذا العلم جزءان.  

أوّلا: جزء يشتمل على تعريف السّعادة، وما هي السّعادة في الحقيقة. وما هي المظنون بها أنّها سعادة. وعلى إحصاء الأفعال والسّير والأخلاق والشّيم والملكات الإرادية الكليّة التي شأنها أن تكون في المدن والأمم ويميّز الفاضل منها من غير الفاضل.

ثانيا: جزء يشتمل على تعريف الأفعال التي بها تمكّن من الأفعال والملكات الفاضلة وترتب في أهل المدن والأفعال التي بها يحفظ عليهم ما مكّن فيهم([14]). بيّن مما سبق أنّ الفارابي أبعد ما يكون عن الصّورة التي جازف بتقديمها بعض الباحثين بجعله فيلسوفا تأمّليّا يزهد في البعد العمليّ ويكتفي بالتأمّل النظريّ المحض معتمدين في ذلك على أنّ الفارابي لم يمارس السّياسة التي كان يحفل بها عصره. غير أنّنا نكتشف حرص الفارابي على منح البعد العمليّ المنزلة التي يستحق. “فتمكين” الأفعال في أهل المدن والأفعال التي يحفظ عليهم ما مكّن فيهم، وإحصاء الأفعال والسّير إنّما كلّها من صميم الحياة العمليّة.

وإذا كان العلم المدنيّ جزءا من الفلسفة. فإنّ الفيلسوف الكامل على الاطلاق “هو أن تحصل له العلوم النظريّة، وتكون له قوّة على استعمالها في كل من سواه بالوجه الممكن فيه”([15]). فالرّبط بين ما هو نظريّ وما هو عمليّ خاصيّة الفيلسوف الحقّ “وهو الذي حصلت له الفضائل النظرية أوّلا ثمّ العمليّة ببصيرة يقينيّة، ثمّ أن تكون له قدرة على إيجادها جميعا في الأمّم والمدن بالوجه والمقدار الممكنين في كلّ واحد منهم”([16]).

وعليه، يوكل الفارابي إلى العلم المدنيّ مهمّة مزدوجة فهو “يفحص عن الغرض الذي لأجله كُوّن الإنسان، وهو الكمال الذي يلزم أن يبلغه الإنسان، ماذا وكيف هو. ثمّ يفحص عن جميع الأشيّاء التي بها يبلغ الإنسان ذلك الكمال إذ ينتفع في بلوغها، وهي الخيرات والفضائل والحسنات ويميّزها عن الأشياء التي تعوقه عن بلوغ ذلك الكمال وهي الشّرور والنقائص والسّيئات ويعرّف ماذا وكيف كلّ واحد منها وعن ماذا، ولماذا ولأجل ماذا هو، إلى أن تحصل كلّها معلومة ومعقولة متميّزة بعضها عن بعض، وهذا هو علم الأشياء التي بها أهل المدن بالاجتماع المدني ينال السّعادة كل واحد بمقدار ماله أعدّ بالفطرة”([17]).

إنّ مهمّة العلم المدنيّ إذن، لهي البحث عن كلّ الأفعال الحميدة حتّى أنّه يمكننا القول بأنّ الفارابي لم يميّز بما فيه الكفاية بين الأخلاق والسياسة لأنّ البحث عن الأفعال الحميدة كالخير والفضائل إنّما الغاية منها الوصول إلى الكمال. إذ أنّ العلم المدنيّ “يميّز الأفعال والسّنن. ويبيّن أنّ التي ينال بها ما هو في الحقيقة سعادة من الخيرات الجميلة والفضائل، وأنّ ما سواها هو الشرور والقبائح، وأنّ وجه وجودها في الإنسان أن تكون الأفعال والسّنن الفاضلة موزّعة في المدن والأمم على ترتيب ومستعملة استعمالا مشتركا. ويبيّن أن تلك ليست تتأتّى إلّا برياسة يمكن معها تلك الأفعال والسّنن والشيم والملكات والأخلاق في المدن والأمم… والسّياسة هي فعل هذه المهنة”([18]).

وبما أنّ الفارابي لم يعتبر أخلاق الإنسان إلاّ من حيث أنّه يعيش في مدينة. فإنّ سعادة الإنسان مرتبطة، بل ومشروطة بالحياة الجماعيّة لأبناء المدينة، وأنّ العلم السياسيّ هو علم الأشيّاء التي بوساطتها يتوصّل سكّان المدينة إلى السّعادة بفضل المجتمع المدني. أي إنّ الإنسان لا يتوّصل مطلقا إلى السّعادة بفضل قدراته الفردية المحضة، وبمعزل عن الحياة الجماعيّة. وهذا ما يدعونا إلى التساؤل التّالي: هل ناقض الفارابي نفسه عندما حمل الفرد على المجتمع واعتبر سعادته قائمة في الحياة الجماعيّة من ناحيّة، ومن ناحيّة أخرى حمل الكمال على ظاهرة فرديّة متمثلة في اتّحاد النّفس بالعقل الفعّال؟

للإجابة على هذا السّؤال لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تناول الفارابي للموضوعات التي تتعلّق بسعادة الإنسان كان ضمن فصول عديدة وهو ما اقتضته الضرورة المنهجيّة. فإذا كان الفارابي في الفصل المتعلّق بأجزاء النّفس الإنسانيّة وقواها قد بيّن كيف تتحدّ نفس الإنسان بالعقل الفعّال عن طريق العقل المستفاد، فإنّ هذا الإنسان هو إنسان اجتماعي بالضرورة في فصول أخرى عديدة. لذلك، يمكننا القول أنّ الفصل المنهجيّ والذي تفترضه ضروريّات البحث، لا يعني بالضّرورة عدم ربط هذه الفصول بعضها ببعض.

وحسبنا دليلا عمّا نزعم هاهنا، تفسير الفارابي نفسه الذي أراد به توضيح ما سبق مؤكدّا أنّ معنى السّعادة التي يبلغها الفرد هي نتيجة لتعاون مع الآخرين أو تعليم منهم، حيث يقول الفارابي بصريح العبارة: “وليس في فطرة كل إنسان أن يعلم من تلقاء نفسه السّعادة ولا الأشياء التي ينبغي أن يعلمها بل يحتاج في ذلك الى معلمّ ومرشد فبعضهم يحتاج إلى إرشاد يسير وبعضهم إلى إرشاد كثير”.([19]) ويوحي لنا هذا القول بأنّ الفطر ليست “كلّها” قادرة على معرفة السّعادة ولا على التعلّم من تلقاء نفسها بل بعضها فقط، غير أنّ الفارابي بدقّته المعهودة يبيّن بما فيه الكفاية أنّ الفطرة لا تفسير أحدا على فعل ما، لأنّ الإنسان كائن اجتماعي يرتبط إلى حدّ بعيد بظروف التنشئة الاجتماعية والأحوال التي يتعرّض لها. هذا ما عبّر عنه بقوله: “والفطر التي تكون بالطبع ليست تفسر أحدا ولا تضطره إلى فعل ذلك، ولكن إنّما تكون هذه الفطر على أن يكون فعل ذلك الشيء الذي أعدّوا نحوه بالطبع أسهل عليهم. وعلى أنّ الواحد إذا خلّي على هواه ولم يحرّكه من خارج شيء إلى ضدّه نهض نحو ذلك الشيء الذي يقال إنّه معدّ له. وإذا حرّكه نحو ضد ذلك محرّك من خارج نهض أيضا إلى ضدّه. ولكن بعسر وشدّة وصعوبة إلّا أن يسهّل ذلك عليه اعتياده له. وقد يتفق أن يكون من الذين هم مطبوعين على شيء ما أن يعسر جدّا تغيّرهم عمّا فطروا عليه، بل عسى أن لا يمكن في كثير منهم وذلك بأن يعرض لهم من أوّل مولدهم مرض وزمانة طبيعة في أذهانهم.([20]) بيّن من هذه الفقرة أنّ الفطرة التي تساعد الإنسان على بلوغ السّعادة هي بمثابة الاستعداد فقط، استعداد مشروطا بما يلحقه من رعاية أو تربيّة أو ظروف صعبة أو اجتماعيّة وأنّ “هذه الفطر كلّها تحتاج مع ما طبعت عليه إلى أن تراض بالإرادة فتؤدّب بالأشيّاء التي هي معدّة نحوها إلى أن تصير من تلك الأشياء على استكمالاتها الأخيرة أو القريبة من الأخيرة”.([21])

وإذا كان الفارابي قد حرص على ربط العلم المدنيّ بالأحوال المعيشيّة للنّاس الذين تتفاضل فطرهم، فإنّنا نكتشف أنّ هذا العلم يهتمّ بما هو موجود من إرادة الإنسان: “فما كان كائنا عن إرادة الإنسان نظر فيه العلم المدنيّ وما كان منها لا عن إرادة الإنسان نظر فيه العلم الطبيعيّ”([22]).

وبما أنّ العلم المدنيّ يبحث الموضوعات المرتبطة بإرادة الإنسان، فإنّ الطبيعة أو الفطرة حتّى وإن كانت عظيمة فائقة فلا يمكنها إلاّ أن تتأثر بمعطيات البيئة الاجتماعيّة والعصر الذي تنتمي إليه: “وقد تكون فطر عظيمة فائقة في جنس ما تهمل ولا تراض ولا تؤدّب بالأشيّاء التي هي معدّة لها فيتمادى بها الزّمان على ذلك فتبطل قوّتها. وقد يكون منها ما يؤدّب الأشيّاء الخسيسة التي في ذلك الجنس فتخرج فائقة الأفعال والاستنباط في الخسائس من ذلك الجنس”([23]).

غير أنّ العلم المدنيّ عندما يبحث أصناف الأفعال والشرائع الإراديّة… إنّما يبحثها وهدفه من ذلك وضع المبادئ العامّة والكلّيّات العمليّة. فهو علم عمليّ، وبهذا المعنى هو جزء من الفلسفة. فهو يعرّف الرّسوم في تقديرها في الجزئيّات كيف وبأيّ شيء ينبغي أن تقدّر، ويتركها غير مقدّرة بالفعل. لأنّ تقدير الأمور بالفعل هو مهمّة من أراد وضع ملّة في مجتمع ما وذلك وفق ما تستلزمه جزئيّات الحياة العمليّة: “فالملّة هي آراء وأفعال مقدّرة مقيّدة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأوّل. يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضا له فيهم أو بهم محدودا”([24]).

وبما أنّ التقدير نوعان: تقدير في الآراء، وتقدير في الأفعال وبما أنّ الرّئيس الأوّل قد لا يستوفي تقدير الأفعال كلّها بالبراهين اليقينيّة. أمّا لأنّ المنيّة تدركه أو لأنّ شواغل ضروريّة كالحروب وغيرها تمنعنه من إتمام مهمّته. فإنّ المجال يصبح مفتوحا أمام صناعات أخرى، كصناعة الجدل وصناعة الخطابة التي تشوّش أذهان النّاس بالظنّ والاقناع([25]). فيضطرّ حينئذ إلى صناعة الفقه. “وبما أنّ الفقيه يأخذ الآراء والأفعال التي صرّح بها واضع الملّة مسلّمة. ويجعلها أصولا يستنبط عنها الأشيّاء اللّازمة عنها”([26]). فإنّ الفقيه بهذا المعنى، يكون في منزلة دون واضع الملّة. في حين أنّ المتكلّم هو الذي “ينصر الأشيّاء التي يستعملها الفقيه أصولا من غير أن يستنبط عنها أشياء أخر”([27]). بل أكثر من ذلك يتجه الفارابي إلى إلحاق الفقه والكلام بالعلم المدنيّ أي جعل هذين العلمين بمثابة الخادم للفلسفة([28]). ويدعم هذا الرّأي إدراج الفقه والكلام ضمن العلوم العمليّة وفصلها عن العلوم النظريّة -الرياضيّات والطبيعيّات والإلهيّات. لتستحيل الملّة في الفصل الخامس من إحصاء العلوم موضوع تفكير “إبستمولوجي” يوزعها على علوم متعدّدة تتناولها هي العلم المدنيّ، وعلم الفقه وعلم الكلام، ومن هنا التشابه بين محتوى كتاب الملّة، ومضمون الفصل الخامس من كتاب إحصاء العلوم. ويمكن أن نستنتج بعجالة أنّ الفصل الخامس من إحصاء العلوم يعيد تنظيم قسم من كتاب الملّة في نطاق مشروع إبستمولوجي عامّ هو مشروع التفكير في علوم العصر ومحاولة ضبط مواضيع المعرفة الإنسانيّة وأصنافها، غير أنّ فصل هذه الفقرات عن الملّة له مفاعيل هامّة في تفكيك بنيّة الملّة لجعلها قابلة للمعرفة بل للنقد، ولذلك يبدو أنّ التشابه بين الفصل الخامس من كتاب إحصاء العلوم وبين الفقرات 11-18 من كتاب الملّة لا يمكن تناوله عن منظور إبستمولوجي بحت ولا حتّى من منظور تاريخيّ، بل أنّ المسألة يمكن أن ينظر لها من منظور القصد النظري العمليّ (ولم لا الإيديولوجيّ) للفارابي([29]).

إنّ مسألة الملّة هامّة بقدر ما هي شائكة فهي هامّة، لأنّها نقطة تقاطع الفلسفة والدّين والسياسة عند الفارابي، ولكنّها شائكة لأنّها تظهر عند الفارابي بمظهر محاولة التوفيق بين الفلسفة والدّين، بين الحكمة والشريعة، بين العقل والنقل ولكنّها في واقعها دفاع الفيلسوف عن الفلسفة في زمن الملّة وفي بلادها وهو دفاع بعيد عن كلّ طفوليّة نقدية، يظهر بمظهر البحث عن تحالف بين الدّين والفلسفة البرهانيّة في مواجهة السفسطة والجدل. ولكنّه في عمقه تحزب للفلسفة أكثر من أن يكون بحثا عن تحالف كهذا([30]).

بهذه التحديدات التي عرّف بها الفارابي جملة هذه الصنائع نستنتج، أنّ العلم المدنيّ جزء من الفلسفة وهي بالتّالي أكمل منه. وأنّ العلم المدنيّ أكمل من الملّة. والملّة أكمل من علم الفقه. وعليه، فإنّ العلم المدنيّ وهو جزء من الفلسفة يؤسّس الفقه لأنّه وحده يعرف المقاصد أي الأسباب والغايات في حين يقف الفقجه عند الفروع، هذا زيادة على أنّ السّعادة التي ترومها الملّة مثال للسّعادة التي تُؤثرها الفلسفة([31]).

 وتدلّ أثار الفارابي على أنّ النزعة السياسيّة هي التي تسيطر على أفكاره الفلسفيّة لذلك نجد مؤلّفاته الرّئيسة التي عرض من خلالها أفكاره الفلسفيّة هي مؤلّفات سياسيّة، مثل “كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة” و”كتاب السياسة المدنيّة الملّقب بمبادئ الموجودات” و”رسالة التّنبيه على سبيل السّعادة”. وإذا حدّد الفارابي مهمّة العلم المدنيّ في البحث عن “القوانين الكليّة” والأشيّاء التي بوساطتها يتوّصل سكّان المدن إلى تحصيل السّعادة بفضل المجتمع المدنيّ، فإنّ العلم المدنيّ هو بمثابة المقدّمة النظريّة والضروريّة والتي بدونها لا يستطيع الإنسان “الحاكم” تدبير شؤون المدينة أو الأمّة تدبيرا يوصل سكّان المدينة إلى السّعادة. “وبيّن أنّ تلك” أي السّعادة الحقيقيّة “ليست تتأتى، إلّا برئاسة تمّكن معها تلك الأفعال والسّير والشيّم والملكات والأخلاق في المدن والأمم وتجتهد في أن تحفظها عليهم حتّى لا تزول وأنّ تلك الرّئاسة لا تتأتى إلّا بمهنة وبملكة يكون عنها أفعال التّمكين فيهم وأفعال حفظ ما مكّن فيهم عليهم. وتلك المهنة هي الملكيّة والملك أو ما شاء للإنسان أن يسمّيها، والسياسة هي فعل هذه المهنة”([32]). والمقدّمات النظريّة التي يعتمد عليها العلم المدنيّ تستلزم سعة معرفيّة وهذه المعرفة تفوق بحكم دقتها وتماسكها كلّ المعارف في الصّناعات الأخرى. إنّها الحكمة، تلك التي اعتبرها الفارابي شرط الرئاسة والتي بدونها تهلك المدينة: “إن لم تكن الحكمة جزءا من الرّئاسة وكانت منها سائر الشرائط، بقيت المدينة الفاضلة بلا ملك وكان الرّئيس القائم بأمر هذه المدينة ليس بملك وكانت المدينة تعرض للهلاك([33]).

غير أنّ العلم المدنيّ إذا كان يمثل المقدّمة النظريّة والتي على الحاكم في المدينة حيازتها الضروريّة ويقتصر على الكليّات، وإذا كان هو الشرط الذي تستقيم به سياسة المدينة، فإنّ هذا العلم لا يمثل رصدا للواقع السياسي الاجتماعي أو متابعة موضوعيّة لأحوال النّاس بحيث تكون قوانينه “الكليّات” تجريدا نظرّيا للواقع والأحداث كما هو الأمر لدى الباحثين العلماء في عصرنا، والذين يعتبرون العلم شكلا من أشكال المعرفة التي تتميّز بالتقيّد الموضوعيّ قدر الإمكان بالواقع كما هو. بل إنّ العلم المدنيّ عند الفارابي يتمثل في وضع المبادئ العامّة التي على واضع النّواميس كشفها والالتزام بها مستندا في ذلك إلى الفلسفة. وهكذا، يكون العلم المدنيّ فلسفة سياسيّة. يوجد عند الفارابي اجتهاد فلسفي يقوم به الملك الفيلسوف لمعالجة ما يطرأ من حالات جزئيّة فهو بمثابة المعرفة العامة والمتماسكة منطقيّا إلى درجة اليقين الذي يحميها من تشكيك الجدليين والسّفسطائيين في الآراء. ويحصنها من الفوضى الفكريّة للنابتة. والنوابت كما يعرّفهم الفارابي “أصناف كثيرة منهم صنف متمسكّون بالأفعال التي تُنال بها السّعادة، غير أنّهم ليس يقصدون بما يفعلونه من ذلك السّعادة بل شيئا آخر ممّا يجوز أن يناله الإنسان بالفضيلة من كرامة أو رئاسة أو يسار أو غير ذلك. فهؤلاء يسمّون متقنصين”([34]). أو كما يلّقبون في الفكر السياسيّ المعاصر بالانتهازيين. ويلاحظ أستاذي الجليل فتحي المسكيني هاهنا أنّ الدّاهي الذي يشير إليه الفارابي في رسالة العقل. والدّهاة ليسوا سوى “نوابت” المدينة الفاضلة، كما يفسّر ذلك كتاب السياسة المدنيّة. إنّها نوابت لا تؤمن بأنّ مطلب السّعادة هو “إتيقا” التعقّل المفتوح أمام الجميع، أي قدرة البشر على استنباط وجودهم الجزئي من الممكن الذي بحوزتهم دون أن يتملكوه بعد، وليس ذلك الممكن سوى إنسانيتهم نفسها([35]).

وعلى هذا النّحو من النظر، يتراءى لنا أنّ العلم المدنيّ عند أبي نصر يتجاوز التقدير بالشروط الآنيّة والظرفيّة للمجتمع ويسمو إلى رصد الأسّس الكليّة العمليّة. الأمر الذي يسوّغ لنا التساؤل في هذا السّياق: هل كان الفارابي يقصد بالعلم المدنيّ، المبحث الذي يمكّننا من العلم بالجزئيّات على نحو كلّيّ؟

يمكن الإشارة أوّلا أنه للإجابة على هذا السّؤال الحارق لا بدّ للباحث أن يدرك أوّلا مقوّمات عقلانيّة العلوم الإنسانيّة من خلال تتبّع أوجه التقارب الإبستمولوجيّ بين العلم المدنيّ والعلم الإنسانيّ من منظور الفارابي. الأمر الذي بموجبه نتساءل إذن: هل من وجاهة في اعتبار العلم المدنيّ والعلم الإنسانيّ علما واحدا؟

  1. الفارابي وتقصّي أوجه التّقارب الإبستمولوجي بين العلم المدنيّ والعلم الإنسانيّ

من أجل إبستمولوجيا عربيّة ناجزة. كيف؟

لاشكّ في أنّ التعرّف على ملامح إبستمولوجيا العلوم الإنسانية عند الفارابي يرتهن رأسا بتقصي العلاقة الممكنة بين العلم المدنيّ والعلم الإنسانيّ، رصدا لفعل التناسب والتّمايز بينهما نظريّا وعمليّا في آن. حيث يبحث الأوّل في الإنسان “كطبيعة” والغرض الذي لأجله كُوّن الإنسان وهذا من الناحيّة التطبيقيّة. فالعلم الإنسانيّ يبحث في “الكمال الذي يلزم أن يبلغه الإنسان ماذا وكيف هو”([36]).  أي إنّه يبحث ليس فقط ماهيّة هذا الكمال كمقصد ينحو نحوه الإنسان مستعينا بفطرته أو استعداداته الفطريّة بل أيضا، الكيفيّة التي يكون عليها، أي الطريقة التي يتجاوز بها الإنسان طبيعته الفطريّة فيه وذلك بالكشف عن جميع الأشيّاء التي بها أهل المدن بالاجتماع المدنيّ ينال السّعادة كلّ واحد بمقدار ماله أعدّ بالفطرة”([37]). هكذا، نلاحظ أو نستشف التمييز المتناهي الدّقة بين العلمين في الرّتبة المعرفيّة والترابط والتدرّج العضويّين بينهما عمليّا. كما نلمس في المنهجيّة التي استخدمها الفارابي في كتابه “تحصيل السّعادة” تدرجا في البحث يؤكّد لنا هذا التمييز بين كلّ من العلم الإنسانيّ والعلم المدنيّ. إذ ينطلق الفارابي في بحثه للإنسان “الحيوان الناطق” من الطّبيعة أوّلا حتّى ينتهي إلى العقل فيحدّد مقدّماته الأولى أو المبادئ الأولى التي تحدث فيه والغايات التي من أجلها كوّن الإنسان فيكشف لنا عن حاجته إلى مبادئ نطقيّة”([38]) وأنّه بحاجة إلى أناس يجاورهم ويتبادل معهم ضروريات حياته. وهذه هي المرحلة الأولى التي يبدأ بها الفارابي بحثه في الإنسان. ثم ينتقل إلى مرحلة ثانيّة يبرز فيها كما يقول هو نفسه “أنّ الاجتماع المدنيّ شبيه باجتماع الأجسام في العالم”([39]) ويبحث في العلم المدنيّ الأشياء التي ينال بها أهل المدن متعاونين سعادتهم كل حسب استئهاله. حيث يقول في الربط بين العلمين: “وإنّ فطرة كلّ إنسان أن يكون مرتبطا فيما ينبغي أن يسعى له بأناس أو ناس غيره وكلّ إنسان من النّاس بهذه الحال. وإنّه كذلك يحتاج كلّ إنسان فيما له أن يبلغ من هذا الكمال إلى مجاورة ناس آخرين واجتماعه معهم. وكذلك في الفطرة الطبيعية لهذا الحيوان أن يأوي ويسكن مجاورا لمن هو في نوعه فلذلك يسمّى الحيوان الإنسيّ، والحيوان المدنيّ. فيحصل هنا علم آخر ونظر آخر يفحص عن هذه المبادئ العقلية وعن الأفعال والملكات التي بها يسعى الإنسان نحو هذا الكمال، فيحصل من ذلك العلم الإنساني والعلم المدنيّ”([40]). نستجلي من هذا القول الفارق الإبستمولوجي النوعي بين العلمين ضمن المتن الفلسفي الفارابي، فإذا علمنا فضلا عمّا أسلفنا بالقول، أنّ العلم الإنسانيّ في ماهيته الحقيقيّة، لهو القدرة على معرفة المبادئ النظريّة وهو علم سعادة الإنسان من حيث هو إنسان (النّوع). فإنّ العلم المدنيّ في جوهره، ليحمل على معنى القدرة على معرفة الكلّيّات الإراديّة وموضوعه عمليّ لا بمعنى ممارسة العمل وإنّما النّظر في العمل (الموضوع) والنّظر لأجل العمل(الغاية)([41]).

وإذا تابعنا فيلسوفنا في تقصّيه لتحديد العلم المدنيّ نجده يبيّن بدقّة أنّه يحتوي الكليّات العمليّة ويكون تحت الفلسفة العمليّة. والكليّات العملية التي يتضمّنها «المدنيّ» يحتوي الفقه في الأشيّاء العمليّة من الملّة على جزئياتها. وحتّى الملّة الفاضلة لا تحتوي إلّا على الجزئيّات المتعلّقة بالحالات الجزئيّة في المدينة أو الأمّة حيث يقول الفارابي “فالملّة الفاضلة شبيهة بالفلسفة. وكما إنّ الفلسفة منها نظريّة ومنها عمليّة، فالنظريّة الفكريّة هي التي إذا علمها الإنسان لم يمكنه أن يعملها، والعمليّة هي التي إذا علمها الإنسان أمكنه أن يعملها، كذلك الملّة. والعمليّة في الملّة هي التي كلياتها في الفلسفة العمليّة”([42]). وهكذا، فإنّ الملّة مقيّدة بشرائط رسمتها لها الفلسفة العمليّة عن طريق العلم المدنيّ: “وذلك أنّ التي في الملّة من العمليّة هي تلك الكليّات مقدّرة بشرائط قيّدت بها …. فإذن الشرائع الفاضلة كلّها تحت الكليّات في الفلسفة العمليّة”. وبما أنّ “العلم المدني جزء من الفلسفة”([43]). وهو يقتصر في بحثه على الكليّات العمليّة ويعطي الرسوم في تقديرها في الجزئيّات دون أن يقدرها بالفعل. فإنّ، التقدير بالفعل حسب الوضعيّات الجزئية ليس من مهامه كما إنّه ليس من مهام الفلسفة أصلا بل إنّه يعطي أسباب الجزئيّات وشرائط تقديرها فحسب، ويترك التقدير بالفعل لواضع الملّة.

وبناء عليه، ينتمي العلم المدنيّ في مرايا الإبستمولوجيا الفارابيّة إلى القسم العمليّ من الفلسفة، وذلك بمعنى أنّه نظر في العمل لأجل العمل، فهو عمليّ من جهة الموضوع والقصد. ولكنّه يظلّ مع ذلك نظرا علميّا: أي يظلّ معنيّا لا بالوقائع التجريبيّة وإنّما بالقوانين الكلّيّة المفسّرة لتلك الوقائع. فالوقائع هي من فعل الإنسان إرادة واختيارا، أمّا القوانين الكلّيّة فليست من فعله. وللإنسان القدرة المعرفيّة على اكتشاف هذه القوانين. وهو حرّ بعد ذلك في أن يعمل بمقتضاها أو أن يعمل بغير مقتضاها. أمّا العلم الإنسانيّ علم نظريّ محض. وهو المؤسّس للعلم المدنيّ، وذلك بمعنى أنّه تأمّل محض فيما يبرّر وجود المدينة من حيث هي تنظيم سياسيّ لاجتماعيّة الإنسان. ولمّا كانت الاجتماعيّة التّعاونيّة من طبيعة الإنسان فلها إذن مدخل في الإنسانيّة. غير أنّ مدخل الاجتماعيّة التّعاونيّة في الإنسانيّة لا ينبغي أن يحمل على معنى الشّيء المطلوب لذاته، وإنّما على معنى التوسّط الضّروريّ. ومن شأن كلّ توسّط أن يكون لأجل غاية تتجاوزه. فإذا لم تكن الدّولة اجتماعا تعاونيّا لأجل غاية تتجاوزها صارت دولة فاسدة([44]).

تساوقا مع ما ذهب إليه المعلّم الثانيّ، لا يبدو لنا أنّه قد وقع التّفطّن دائما إلى الفرق الإبستمولوجيّ بين العلم الإنسانيّ، بما هو علم الغاية من وجود الإنسان والعلم المدنيّ، بما هو علم ما به تنال السّعادة وتحقّق الغاية على نحو ما أشار إليه فيلسوفنا في كتاب: “تحصيل السّعادة”([45]) فالعلمين في تقديرنا على درجة عاليّة من التساوّق، بما يفيد استحالة القول بقطيعة إبستمولوجيّة بينهما في ثنايا المتن الفارابي، ناهيك أنّهما يتقاسمان نفس الموضوع، ألا وهو الإنسان، بوصفه حيوانا إنسيّا ومدنيّا في آن. عسى أن يدعم هذا التحالف والتكامل بين العلمين المشروع الإبستمولوجيّ الفارابي الكامن في التّأسيس الفلسفيّ لإبستمولوجيا عربيّة ناجزة، مدار انهمامها الشّأن الإنسانيّ في المقام الأوّل خلال العصر الوسيط.

ولعلّه، بالإمكان الآن وفي هذا المستوى من التّحليل، استشراف خصوصيّة العلاقة بين العلم المدنيّ والعلم الطبيعيّ والميتافيزيقا أو العلم الإلهيّ ضمن مفاعيل إبستمولوجيا العلوم الإنسانيّة لدى الفارابي. وفي الأمر نظر كالآتي.

  1. الفارابي ومفاعيل إبستمولوجيا العلوم الإنسانيّة

 نحو بحث علاقة العلم المدنيّ بالميتافيزيقا

يتبيّن من العنصر السّابق ومن تحديد مفهوم العلم المدنيّ أنّ الفارابي يعتبر العلم المدنيّ، إنّما هو مدبّر شؤون المدينة والذي يعتمد على الكليّات. هذه الكليّات تستمدّ براهينها من الفلسفة النظريّة والتي هي وحدها برهانية يقينيّة. وبهذا المعنى، يكون العلم المدنيّ تابعا للفلسفة النظريّة وفي رتبة أدنى من رتبتها.

 ونلاحظ أنّ هذه التبعيّة، إنّما هي تبعيّة منهجيّة توخاها الفارابي لغاية تعلميّة فحسب. ويتجلّى لنا ذلك في الكثير من كتبه: كـ “تحصيل السّعادة” و”إحصاء العلوم” و”آراء أهل المدينة الفاضلة” و”السياسة المدنيّة”. فالميتافيزيقا، تمثّل الأصل والأرضيّة التي يستمد منها العلم المدني «مبادئه» و «كلّياته» و«رسوم تقديرها»، لأنّ هذه كلّها من مشمولات الفلسفة العمليّة.

كما نلاحظ أن الفارابي يفصل فصلا واضحا في كتاب الحروف بين العلم المدنيّ، بما هو مبحث يهتم فقط بما هو كائن عن إرادة الإنسان من ناحيته. وبين العلم الطبيعيّ كفرع من الفلسفة النظريّة، والذي يهتمّ بما هو يتجاوز إرادة الإنسان([46]). هذا وقد حصر الفارابي في كتاب الملّة مجال بحث العلم المدنيّ في الأفعال والسيّر والملكات الإراديّة([47]) بغاية استنباط كلّياتها العمليّة.

إضافة إلى ما سبق فقد قسّم الفارابي في كتابه «إحصاء العلوم» فلسفة ما بعد الطبيعة-الميتافيزيقا-إلى ثلاثة أجزاء:

الجزء الأوّل: يدرس الموجودات والأشياء التي تعرض لها من حيث هي موجودات.

الجزء الثاني: يبحث عن مبادئ البراهين في العلوم النظرية الجزئية كالمنطق والهندسة وعلم العدد وغيرها من العلوم المشابهة، بحيث إنّ كلّ علم من هذه العلوم يختصّ بموجود جزئي خاصّ. وفي هذا الجزء تتم دراسة مبادئ المنطق والرّياضيات بتحديد جوارها، وبإظهار الأخطاء التي وقع فيها القدماء فيما يتعلّق بموضوع هذه العلوم.

الجزء الثالث: العلم الإلهي ويهتمّ بالموجودات التي ليست بأجسام، ولا هي في أجسام. وتدرس هذه الموجودات وفق التسلسل الآتي:

– إنّ أوّل ما يثبت هو وجود هذا الجنس من الموجودات.

– ويبيّن بالتالي أنّها ليست واحدة وإنّما متعدّدة.

– وفي المرحلة الثالثة يثبت تناهيها.

– ومن ثم يبيّن أنّها لا تقال على معنى واحد أو على مرتبة واحدة بل على مفاهيم مختلفة المراتب والكمال. وبذلك أنّها متسلسلة تسلسلا تصاعديّا، بحيث ننتقل من الموجودات النّاقصة إلى الموجودات التامّة، ومن إلى الأكثر تماما حتى نصل إلى موجودة تامّ لا يوجد أي موجود أخر أكثر كمالا منه([48]). وهذا الموجود ليس له نظير ولا ضدّ وهو الأوّل غير المسبوق بأيّ أوّل آخر. إنّه الموجود الذي لا يستمدّ وجوده من أي موجود آخر، بل على العكس هو الذي يمنح كلّ الموجودات الأخرى وجودها([49]). كما أنّه الواحد الأوّل الذي يمنح الوحدة لكلّ الأشيّاء الأخرى وهو أيضا الحقّ الذي يمنح الحقيقة لكلّ وجود.

وفي المرحلة السّادسة، يبيّن أنّ هذا الموجود الحائز على كلّ هذه الصّفات هو ما نسمّه الله.

وأخيرا، يبحث في أمور أخرى مختلفة متعلّقة بالموجودات الأخرى: وجودها، مراتبها، ارتباطها ببعضها البعض، النظام الذي يسيطر عليها.

نستنتج ممّا سبق أنّ العلم الإلهي-الميتافيزيقا عند الفارابي ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

  • مشكلة الموجود من حيث هو موجود.

  • فلسفة مبادئ العلوم.

  • الموجود الأوّل وخواصّه.

وفي “كتاب الحروف”([50]). قدّم الفارابي تحليلا وافيا وعلى درجة كبيرة من التعمّق لكلمة الموجود ومشتقاتها وكيفية استعمالها، وأحصى معانيها وانتقد الأقدمين كالطبيعيين مثلا لعدم قدرتهم على التميز بين الموجود بالقوّة والموجود بالفعل مثلما فعل أرسطو. وبيّن أنّ كلمة موجود تحمل على المقولات وعلى ما هو مدرك في النّفس، وعلى كلّ ماله ذات مستقلّة خارجا عن النّفس. كما بيّن مفهوم العدم وميّز بين معنيين للعدم: العدم المطلق والموجود بالقوة أو بالأحرى ممكن الوجود. وقد مزج الفارابي بين مفهومي القوّة والإمكان.

وفي انتقاده للفيزيائيين الأوائل، أوضح أنّهم لم يدركوا الفرق بين الموجود بالقوّة والموجود بالفعل، ولهذا السّبب وجدوا من المستحيل اعتبار الشيء الواحد موجودا وغير موجود، لأنّهم كانوا يفهمون بالموجود ماله ذات بالفعل، وبالعدم ما ليس له ذات([51]).

وبعد شرحه الواجب والممكن وإثبات وجود واجب الوجود وصفاته وهو بحث اهتم فيه الفارابي بإظهار وحدة الله وبساطته. وأكدّ أنّ صفاته المتعدّدة لا تخرجه إلى الكثرة بل يبقى واحدا بالذّات والجوهر. وممّا تجدر ملاحظته أنّ الفارابي حافظ إلى حدّ بعيد عن تميّز الفلسفة واستقلالها بطريقة بحثها بالنسبة إلى المتكلمين. ولو نظرنا مليّا إلى هذه الصفات التي أطلقها على واجب الوجود “الله” لتبيّن لنا بوضوح أنّ صياغتها مختلفة عن صياغة علماء الكلام لها. ولقد كان يستخدم تعابير فلسفية محضة مختلفة كليّا عن اللّاهوتية التي استعملها المتكلّمون مثل تعبير “واجب الوجود” أو “المبدأ الأول”. وبما أنّ يقول بعدم معرفة الله للجزئيّات خارجا عن ذاته وأنّه يعلمها ولكن بطريقة غير مباشرة، أي لكونه علّة لها إله الفارابي أقرب في مفهومه إلى إله أرسطو منه إلى إله المتكلّمين. وحول هذا الموضوع يقول الفارابي “وأمّا جلّ المقولات التي يعقلها الإنسان من الأشياء التي هي في مواد فليست تعقلها الأنفس السماوية لأنّها أرفع رتبة لجواهرها عن أن تعقل المعقولات التي دونها. فالأوّل يعقل ذاته وإن كانت ذاته بوجه ما هي الموجودات كلّها، فإنّه إذا عقل ذاته فقد عقل بوجه ما الموجودات كلّها، لأنّ سائر الموجودات إنّما اقتبس كلّ واحد منها الوجود عن وجوده”([52]). هذا التوجه الفلسفيّ الواضح لغة ومنهجا ونتائج لكفيل بأن يبطل الادعاء القائل بأنّ الفارابي قد تأثر في هذا الموضوع بالمعتزلة أو بأيّ مدرسة لاهوتيّة أخرى. بل على العكس من ذلك تماما، فقد كان مستقلاّ، ويتجلّى استقلاله بشكل أوضح في نظريته في الفيض والتي ينطلق فيها من السّؤال التالي:

بما أنّ الموجودات متعدّدة ومختلطة بالمادّة، فكيف يمكن أن تصدر عن الموجود الأوّل الواحد البريء من المادّة؟ خاصّة وأنّ الموجود الأوّل في نظر الفارابي، عقل بعيد عن المادّة، فهو أتمّ المجودات ولا سبب لوجوده، لذلك وجب أن يكون سببا لجميع الموجودات. وأن تكون جميع الموجودات أقلّ منه كمالا.

وتستند نظرية الفيض عنده إلى ثلاثة مبادئ:

المبدأ الأوّل، والمتمثل في تقسيم الموجودات إلى ممكنة وواجبة: الممكن هو الذي يشمل عالم الكون والفساد وسائر الموجودات الأخرى وهو غير واجب الوجود. أمّا الواجب فهو المبدأ الأوّل، أي الله.

المبدأ الثاني، وهو أنّه على الواحد لا يصدر إلّا واحد أي العقل، وهو عقل موجود ومعقول معا.

المبدأ الثالث، هو مبدأ التعقل الذي يجعل الإبداع في الجواهر المفارقة ناشئا عن التعقل والتفكير. وهذا التعقل مزدوج: تعقل المبدأ الأوّل لذاته، وتعقل العقول الأخرى للمبدأ الأوّل. أي إنّ العقل الأوّل ينشأ عن تأمّل المبدأ الأوّل لذاته والعقل الثاني ينشأ عن تعقل العقل الأوّل للمبدأ الأوّل. وهكذا، فإنّ العالم قد خرج عن تعقل الأوّل لذاته. وفي هذا الصدد يقول الفارابي: “والأوّل هو الذي عنه وجد، ومتى وجد للأوّل الوجود الذي هو له، لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات التي وجودها لا بإرادة الإنسان واختياره، على ما هي عليه من الوجود الذي بعضه مشاهد بالحسّ وبعضه معلوم بالبرهان ووجود ما يجود عنه إنّما هو على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر. وعلى أنّ وجود غيره فائض عن وجوده هو”([53]).

 ولقد جعل الفارابي الموجودات على مراتب تتحدّد بحسب قربها من المبدأ الأوّل: وأرجع كلّ نظام في العالم وكلّ ارتباط بين الأشياء إلى الأوّل الذي هو سبب وحدتها وائتلافها. وإذا كان العالم بأكمله يصدر عن المبدأ الأوّل، فإنّ هذا الصدور أو الفيض يجري على ترتيب معيّن وترابط محكم، بحيث إنّ العقول هي أو الموجودات الصادرة عن المبدأ الأول.

ويبيّن في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة”([54]) كيف عن الموجود الأوّل أي الله، يفيض وجود ثان (عقل أوّل) وبما أنّه “عن الواحد لا يصدر إلا واحد” وبما أنّ الأوّل لا يليق به أن يباشر الموجودات المتعددة المختلطة مع المادّة. فقد جعل الفارابي العقل الأوّل جوهرا غير متخذ صورة ولا في مادّة، ثمّ جعله يعقل ذاته ويعقل المبدأ الأوّل الذي لا يعقل إلّا ذاته.

وينتج عن تعقل ذلك العقل للمبدأ الأوّل وجود موجود ثالث، أي (عقل فعّال) وعن تعقله لذاته ينتج وجود السّماء الأولى، أي الفلك المحيط أو الفلك الأعلى بمادّته وصورته: فمن حيث أنّه ممكن بذاته ينتج وجود كرة الفلك الأعلى. ومنه حيث أنّه واجب بالمبدأ الأوّل تنتج نفس هذا الفلك.

وتتتابع هذه التأمّلات الثلاثة دوريا لدى كلّ من العقول الأخرى وتولّد في كلّ مرّة عقلا جديدا ونفسا جديدة وفلكا جديدا. ويتكرّر ذلك حتى العقل العاشر، بحيث تكون المجموعة على النّحو الآتي:

المبدأ الأوّل، أليس الله هو عقل مفارق وجوهر محض.

العقل الثاني، ومعه السّماء الأوّل، أي الفلك الأعلى بمادّته وصورته (جسم الفلك وصورته).

العقل الثالث، ومعه كرة الكواكب الثابتة ونفسها.

العقل الرّابع، ومعه كرة زحل ونفسه.

العقل الخامس، ومعه كرة المشتري ونفسه.

العقل السادس، ومعه كرة المرّيخ ونفسه.

العقل السابع، ومعه كرة الشمس ونفسه.

العقل الثامن، ومعه كرة الزّهرة ونفسها.

العقل التاسع، ومعه كرة عطارد ونفسه.

 العقل العاشر، ومعه كرة القمر ونفسه.

ومع فلك القمر تنتهي الموجودات المطلقة الكاملة التي لا تخضع للكون والفساد([55]).  أمّا الموجودات دون فلك القمر، فليست كاملة ولا يمكن أن تصبح كاملة وأدناها الهيولى التي لا صورة لها، ثم فوقها العناصر الأربعة، ثمّ الجماد ثمّ النبات ثمّ الحيوان ثمّ الإنسان.

إذا تمعنّا الآن بعد هذا العرض الموجز والمختصر لفلسفة ما بعد الطبيعة فإنّنا لا نلاحظ تطبيقا آليا لهذا النظام الموجود عليه العالم بل أنّ الأمر لا يتعدّى الإعجاب الشديد الذي أبداه الفارابي بهذا التناسق في أكثر من موضع دون أن يلجأ إلى التعسف في نقله من السّماء إلى الأرض. غير أنّه لا يستبعد الميتافيزيقا استبعادا كليّا ولا يفصلها فصلا تاّما عن العلم المدنيّ وعن عالم الإنسان الإرادي. بل يجعل منها مقدّمة ضروريّة على الرّئيس الأوّل للمدينة الاطلاع عليها قبل النظر في الأمور العمليّة. وبما أنّ الإلهيّات لا تُدرس إلّا ضمن الفلسفة النظرّية أوّلا ثمّ العمليّة ببصيرة يقينيّة”([56]). فإنّ الميتافيزيقا تمثل المدخل المعرفيّ. ويكون العلم المدنيّ (السياسة) تابعا للميتافيزيقا فقط من حيث المنهج التعليميّ. أي التعليم الذي يتلقاه الإنسان والذي يجب التحري في ترتيب موادّه إذ لا يمكن للسياسي الناجح (الرّئيس الأوّل) أن يسوس المدينة أو الأمّة أو الأمم بدون أن يكون قد ألم بعلم التعاليم فيبتدئ بالمقدّمات الأوّل والتي تمكنه من تحصيل العلوم الأُوّل([57]) وهي مبادئ تحصل في العقل من غير سبب يوجب التصديق بها إلّا ذواتها  هذه المرحلة محصورة فيما هو مجرد و في المرحلة الثانية يتعامل مع هو شبه مادّي ثمّ مع هو مادّي محسوس كالماء و الهواء و المعادن… ثمّ الإنسان (الحيوان الناطق) بالتدرج في البحث من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة إلى العقل ومبادئه والغاية التي كُوّن لأجلها الإنسان وهي السّعادة أو الكمال الذي لا يبلغه إلّا بمبادئ نطقيّة وباجتماعه بالآخرين وبالبحث في هذه المرحلة الأخيرة يحصل العلم المدنيّ. نلاحظ من هذا التسلسل الذي اتّبعه الفارابي في كتابه “تحصيل السّعادة” الطابع التعليميّ الذي تتصف به كتاباته عموما وكتابه “تحصيل السّعادة” رأسا.

كما أّنّ الفارابي قد توخّى هو نفسه الطريقة ذاتها في أغلب كتبه إذ يبدأ بالميتافيزيقا وينتهي إلى غرضه السياسيّ المدنيّ. ويتمظهر ذلك في مؤلّفاته: “إحصاء العلوم” و”تحصيل السعادة” و”السياسة المدنيّة” وبشكل لافت للنظر في مستوى كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة” الذي أفرده للبحث في مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة: فاستغرقت المباحث الميتافيزيقيّة الجزء الأعظم من الكتاب (25 فصلا). في حين أنّ الحدّيث في المدينة والآراء المشتركة لأهل المدن لاحق في الفصول الأخيرة (12 فصلا). وهذه المبادئ الميتافيزيقيّة الموضوعة سياسيّا هي الأساس النّظريّ الذي تبنى عليه الفلسفة العمليّة (العلم المدنيّ). وهي تتعلّق باللاّهوت العقليّ (الله بوصفه العقل الأوّل) والكوسمولوجيا العقليّة (العالم الصّادر على سبيل الفيض العقليّ) والسيكولوجيا العقليّة (النّفس عامّة والنّفس النّاطقة خاصّة)([58]). والنتيجة هاهنا، أنّ في الميتافيزيقا واللاّهوت في تقدير الفارابي مبادئ للسياسة العمليّة. فالعلم المدنيّ هو إذن علم الكلّيّات الإراديّة وقوانين الفعل (المعرفة)([59]).

فالميتافيزيقا تمثّل الأرضيّة التي يستمدّ منها العلم المدنيّ مبادئه أو كلياته أو رسوم تقديرها. فليس العلم المدنيّ في خدمة الميتافيزيقا إذ أنّ هذه الأخيرة ليست هي الهدف من مشروعه الفلسفيّ بقدر ما هي أداة طرائقيّة لا يمكن الاستغناء عنها لتبليغ تعاليمه السياسيّة المنشأ والمقصد. وفي كتاب الملّة يطالب الرّئيس الأوّل بأن يتفحّص مراتب الوجود من أبسط وأغرب جزئياته في الطبيعة إلى الله جلّ ثناؤه. هذا الإلمام الشّامل يمثل حرصا من الفارابي على أن يكون الرّئيس الأوّل للمدينة موسوعيّ الاطلاع يستحقّ بمعرفته الموسوعيّة الشاملة الإمساك بقيادة الأمّة أو الأمم جميعا.

ويتبيّن هذا الترتيب الذي تقتضيه طبيعة هذه المعارف، من حيث الحقيقة التي نحصل عليها منها إن كانت كليّة مطلقة أو جزئية نسبيّة فنبدأ بالأوائل المشهورة لأنّها “تحرّض على معرفة العلّة في رسم كل واحد”. من حيث إنّها فطريّة فينا حتّى ننتهي إلى حصر مبادئ الوجود وهي أربعة وتكون بمثابة المقدّمة الضروريّة التي ندخل بها (علم التعاليم) أو الرياضيات وباعتبار أنّ الرياضيات فرع من الفلسفة النظريّة، فإنّ الحقيقة فيها كليّة مطلقة وغير مرتبطة بإرادة الإنسان. وهي بهذا المعنى، حقيقة مختلفة عن الحقيقة فيما هو مرتبط بإرادة الإنسان وشؤونه الدنيويّة كالسياسة والأخلاق.

لم يعد بإمكاننا إذن القول بأنّ مدينة الفارابي هي مجرّد انتقال من نموذج نظري يتمثل في نظام الكون وتناسقه البديع إلى نموذج عمليّ يتمثّل في تدبير شؤون المدينة وتنظيمها. وذلك لأنّ الفارابي كان واضحا في تمييز مجال الميتافيزيقا بما هو مجال مستقلّ عن إرادة الإنسان وهو بذلك مجال الفلسفة النظرية ومجال الحقيقة الكليّة العمليّة المرتبطة بالواقع السياسيّ الاجتماعيّ لهذه الأمّة أو تلك. وقد تكون كليّة مؤقتة لمدّة قصيرة كما يمكنها أن تكون كليّة مؤقّتة لمدّة طويلة.

وهي في الحالتين فضيلة فكرية و”هذه الفضيلة الفكريّة هي فضيلة فكريّة مدنيّة. وهذه المشتركة ربّما كانت ما سبيلها أن تبقى وتوجد مدّة طويلة ومنها ما يتبدّى في مدد قصار، إلّا أّنّ الفضيلة الفكريّة التي إنّما تستنبط الأنفع الأجمل المشترك لأمم أو لأمّة أو لمدينة إذا كان شأن ما يستنبط أن يبقى عليهم مدّة طويلة، أو تكون متبدّلة في مدّة قصيرة فهي فضيلة فكريّة مدنيّة. فإن كانت إنّما تستنبط أبدا من المشتركات للأمم أو لأمّة أو لمدينة ما، إنّما تتبدّل في أحقاب أو في مدد طويلة محدودة كانت تلك أشبه أن تكون قدرة على وضع النواميس”([60]). ويتابع الفارابي مباشرة “وأمّا الفضيلة الفكريّة التي إنّما يستنبط بها ما يتبدّل في مدد قصار، فهي القوّة على أصناف التدابير الجزئيّة الزمنية عند الأشيّاء الواردة التي تردّ أوّلا فأوّلا على الأمم أو على المدينة وهذه الثانية تتلو الأولى”([61]).

كما يشير في كتابه “تحصيل السّعادة” إلى تقديم الفلسفة النظرية أثناء تحصيل المعارف -لأنّ التحصيل يكون أسلم وأبعد على الاضطراب الفكري فنبدأ بمعرفة المقدّمات الأول والتي تتأسّس عليها المعارف البرهانية اليقينيّة، ثمّ معرفة الطبائع (أو ما يتعلّق بالطبيعة)، فهي التي تضمن للعقل تماسكه، وتوازنه وانسجام نظام تفكيره فيبتدئ وينظر في الموجودات التي هي بعد الطبيعيّات ويسلك فيها الطرق التي سلكها في الطبيعيّات. ويجعل مبادئ لتعليم فيما يتفق أن يوجد من المقّدمات الأوّل التي تصلح لهذا الجنس، ثمّ ما قد برهن في العلم الطبيعي ممّا يليق أن يستعمل مبادئ التعليم في هذا الجنس، وترتب الترتيب الذي سلف ذكره إلى أن يصار إلى شيء ممّا في هذا الجنس من الموجودات فيتبيّن الفاحص عنها أنّه ليس يمكن أن يكون لشيء منها مادّة أصلا وإنّما ينبغي أن يفحص في كلّ واحد منها ماذا و كيف وجوده… إلى أن ينتهي إلى موجود لا يمكن أن يكون له مبدأ أصلا من هذه المبادئ… ثمّ فحص بعد ذلك عمّا يلزم أن يحصل في الموجودات إذ كان ذلك الوجود مبدأها وسبب وجودها، فيبتدئ من أقدمها رتبة في الوجود وهو أبعدها عنه في الوجود: فتحصل معرفة الموجودات فإنّ المبدأ الأوّل هو الإله، وما بعده من المبادئ التي ليست هي أجساما ولا في أجسام هي المبادئ الإلهية. “ثمّ بعد ذلك يشرع في العلم الإنساني، ويفحص عن الغرض الذي لأجله كوّن الإنسان، وهو الكمال الذي يلزم أن يبلغه الإنسان. ماذا وكيف هو”.

لا جرم أنّ مجال الميتافيزيقا ينحصر فيما هو نظري محض أي المبادئ، انطلاقا من المبدأ الأوّل (الله) إلى المبادئ الإلهية. فالمدينة بنظامها السياسي الاجتماعي وسلوكيّات أهلها على اختلاف مراتبهم، ستقتدي فقط، أكثر ما يمكن بالمدينة “الصورة – المثال” دون أن تحقّق في الواقع كمال هذا النموذج “الصوري – المثالي” وقد كان الفارابي دقيقا في توضيحه هذا الأمر على ما أعتقد بدليل الاكتفاء بالتشبيه وهي صيغة يستخدمها كثيرا لغرض تعليمي. أي أنّ الفارابي يعتمد التشبيهات حتّى يقرّب إلى الأذهان الأفكار التي يعسر فهمها على غير الفلاسفة حتى يتمكنوا عن طريق المثالات أو التخييل من الاقتراب من الحقيقة. ويتجلّى ذلك بوضوح في قوله: “ويتبيّن له أنّ الاجتماع المدنيّ، والجملة التي تحصل من اجتماع المدنيين في المدن، شبيه باجتماع الأجسام في جملة العالم، ويتبيّن له أيضا في جملة ما تشتمل عليه المدينة والأمّة نظائر ما تشتمل عليه جملة العالم”([62]). فالأمر لا يتجاوز التشبيه أو التمثيل، فالنموذج إذن موجود لكنّه ميتافيزيقي (ما بعد واقعي) ولا يمكنه أن يتحوّل إلى فيزيقي (واقعي).

نستجلي ممّا سبق، أنّ استعارة النموذج الكونيّ ليست سوى أداة بيداغوجيّة تمكّن من تبليغ ما هو سياسيّ عمليّ (الكليّات العمليّة) إلى الجمهور وهو ما يثبت حنكة الفيلسوف ومقدرته التعليميّة حتّى لا يضيّع الفضائل التي حصلت له وحتّى تنتفع به أمتّه حيث يقول:” وكذلك الفيلسوف الذي اقتنى الفضائل النظريّة فإنّا ما اقتناه من ذلك يكون باطلا إذا لم تكن له قدرة على إيجادها في كل من سواه بالوجه الممكن فيه. وليس يمكن ان يستخرج في المعقولات الإراديّة أحوالها وشرائطها التي بها تكون موجودة بالفعل دون أن تكون له فضيلة فكريّة. والفضيلة التي لا يمكن أن توجد فيه دون الفضيلة العمليّة، ولا يمكن مع ذلك إيجادها في كل ما سواه بالوجه الممكن إلاّ بقوّة على جودة الإقناع وجودة التخييل”([63]).

كما أنّ استعارة النموذج الكون بما عليه من تناسق وتراتب وانسجام يتجاوز الإرادة البشريّة ويعبّر عن قدرة عجيبة تنظم هذا العالم، وتبهر العقل البشريّ المتأمّل والرافض لعجزه تجعل الفلسفة تشبّها بأفعال الله. وتلك هي الفلسفة العمليّة لدى الفارابي. وربّما بهذا المعنى، استعار نموذج الكون (كنموذج إلهي) أو كفعل إلهي للتشبّه به قدر الإمكان ولبلوغ أقصى ما يمكن من الكمال.

وبناء عليه، يكون نظام الكون نموذجنا نطمح إليه ونقلّده، وبذلك نقترب من السّعادة القصوى دون أن نبلغها في هذه الحياة الدنيا. فما على المدينة في الحياة الدنيا إلاّ أن تكون في أقصى نجاحاتها شبيهة بالعالم في الحياة العليا وتكون مهمّة العلم المدنيّ أن يقرن المدينة بالعالم من حيث مراتبها ويبقى الأمر هنا أيضا مجرّد مقارنة للنظامين: نظام العالم ونظام المدينة “وكما أنّ في العالم مبدأ ما أوّلا ثم مبادئ أخر على ترتيب موجودات أخر، تتالى تلك الموجودات على ترتيب، إلى أن تنتهي إلى آخر الموجودات رتبة في الوجود، كذلك في جملة ما تشتمل عليه الأمّة أو المدينة مبدأ أوّل ثم مبادئ أخر تتلوه. ومدّنيون آخرون يتلون تلك المبادئ. وآخرون يتلون هؤلاء، إلى أن ينتهي إلى آخر المدنيين رتبة في المدينة والإنسانية. حتّى يوجد فيما تشتمل عليه المدينة نظائر ما تشتمل عليه جملة العالم “([64]).

فعلاقة الموجود الأوّل بسائر الموجودات الأخرى كعلاقة ملك المدينة الفاضلة بسائر أجزائها. وهكذا، فإنّ الموجودات “البريئة من المادّة تقرب من الأوّل، ودونها الأجسام السّماوية، ودون السّماوية الأجسام الهيولانيّة. وكلّ هذه تحتذي حذو السّبب الأوّل وتؤمّه وتقتفيه ويفعل ذلك كلّ موجود بحسب قوّته”([65]). …”كذلك ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة: فإنّ أجزائها كلّها ينبغي أن تحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأوّل على التّرتيب”([66]).

وهكذا، فإنّ التشابه قائم بين المستويات المتعدّدة، كالكون والمدينة والنّفس والبدن، فهي كلّها على هيئة من النّظام والترتيب والانسجام تتفاوت درجة كماله بمدى قربه أو بعده عن الأوّل. هذا الأوّل الذي يبقى حسب الفارابي النّموذج الأمثل الذي لا يفوقه نموذج أبدا. وتكون علاقته بالعالم كعلاقة الرّئيس بمرؤوسيه في المستويات الأخرى.

الرّئيس

المرؤوسون

–        الموجود الأوّل

–        سائر الموجودات

–        رئيس المدينة الفاضلة

–        سائر أفراد المدينة

–        القوّة النّاطقة

–        سائر قوى النفس

–        القلب

–        سائر أعضاء البدن

 

وبما أنّ الرّئيس الأوّل للمدينة مطالب بأن يتفحص مراتب الوجود من أبسط وأصغر جزئيّاته في الطبيعة إلى الله جلّ ثناؤه وأن يكون “قد عرف الفلسفة النظرية على التمام”([67]). فإنّ هذا الإلمام الشاسع يشير إلى أنّ الرّئاسة مشروطة بالمعرفة و”لا يمكن أن تكون أفعالها عنها على التمام إلاّ بمعرفة كليّات هذه الصناعة بأن تقرن إليها الفلسفة النظريّة وبأن ينضاف إليها التعقّل غير أنّ المعرفة عند الفارابي هي مجال آخر من مجالات الفلسفة عنده والتي يؤكّد بها استقلاليّة العلم المدنيّ على الميتافيزيقا. لأنّ رئيس المدينة حتّى وإن كان ملمّا بالفضائل النظريّة. حاصلا على الكليّات في هذه الصناعة فإنّه لا يمكنه الاستغناء عن شرط آخر على غاية قصوى من الأهميّة ألاّ وهو شرط: شرط التعقّل”([68]).

وإذا تمعّنا تعريف الفارابي لمفهوم التعقّل أدركنا مدى أهميّة الفلسفة وأدركنا أيضا منزلة التجربة ودورها في المعرفة التي يحصل عليها الرّئيس الأوّل للمدينة من ناحية وفي تدبير شؤون أهل المدينة الفاضلة من ناحية أخرى. وهنا حدّد الفارابي التعقّل بأنّه: “القوّة الحاصلة عن التجربة الكائنة بطول مزاولة أفعال الصناعة في آحاد المدن، والأمم وآحاد جمع جمع. وتلك هي القدرة على جودة استنباط الشرائط التي تقدر بها الأفعال والسّير والملكات بحسب جمع أو مدينة أو أمّة. إمّا بحسب وقت ما قصير أو بحسب وقت ما طويل محدود أو بحسب الزّمان إن أمكن. وتقديرها أيضا بحسب حال وحدث وعارض يعرض في المدينة أو في الأمّة أو في المجتمع. وأنّ هذه هي التي تلتئم بها المهنة الملكيّة الفاضلة الأولى”([69]). يتحدّد التعقّل في منطوق المتن الفارابي، بوصفه القدرة على استنباط ما هو عمليّ، وتسديد جهود البشر نحو الفعل الجميل، بما هو كمال ما لنفوسهم، لا مدعاة للثواب والعقاب. فهذا المفهوم يؤسّس لعلاقة تلازميّة بين السّعادة والمدينة([70]). فالتعقّل في تقدير الفارابي، إنّما يتعلّق بالممكن وبالمستقبل، أي بالأشيّاء الواردة على حدّ عبارة فيلسوفنا في كتابه: “تحصيل السّعادة”. وهذا ما جعل فيلسوفنا التونسي والعربي فتحي المسكيني يعدّه “مفهوما مقلقا”([71]). والمقصود هنا هو مفهوم التعقّل الذي هو مجال العقل العمليّ. فالتعقّل بمعنى مفهوم قد انتجه لدى الفارابي اعتناقه شكلا من التفلسف الذي يؤسّس علاقة الإتيقا بالسياسة على إمكانيّة استنباط سعيد لصورة الإنسان الذي هو فاضل ومواطن في نفس الوقت([72]). ومن هذا المنظور، ميّز المعلّم الثاني بين ثلاثة أنواع من التعقّل في مستوى كتاب: “فصول منتزعة”، وهي:

  • التعقّل الإنسيّ: وهو جودة الرّويّة فيما هو أفضل وأصلح في بلوغ جودة المعاش، وفي أن تنال الخيرات الإنسيّة.

  • التعقّل المدنيّ: هو جودة الرّويّة في أبلغ ما تدبّر به المدن.

  • التعقّل المنزلي: هو جودة الرّويّة فيما يدبّر به أمر المنزل([73]).

ويتضّح ممّا سبق أنّ هناك تضايفا وترابطا بين الأخلاق والعقل بغض النظر عن سؤال الأسبقيّة في العلاقة بينهما. وفي هذا السياق يتنزل مفهوم التعقل عند الفارابي بوصفه مستوى تجلي العلاقة بين العقل النظري والعقل العملي بما يظهر البعد العملي والأخلاقي للعقل([74]). إنّ فعل التعقّل يتكشّف إذا في الروح الأخلاقيّة التي تحايث الفعل الفاضل، وتؤسّس جوهره، لأنّ المبدأ الأخلاقي هو عماد “فعل التعقّل”، كما في تعريف الفارابي له في قوله: “فجودة الرويّة في استنباط ما هو في الحقيقة خير ليفعل، وفي استنباط ما هو شر ليتجنب هو التعقّل”([75])، أي إنّ فعل التعقّل هو تلك الفاعليّة التي تصدر عن ملكة الرويّة وإمعان الفكر، من أجل بلوغ الغاية الأخلاقيّة الفاضلة من ذلك الفعل، بحيث إنّ تلك الفضيلة هي السّعادة بما هي الغاية القصوى للفعل.

إنّ المطلب الأسنى للتعقّل هو تحصيل السّعادة، ناهيك أنّه “هو الذي يوقف على ما ينبغي أن يفعل حتّى تحصل السّعادة”([76]) أي إنّ التعقّل هو ما يجعل من الأخلاق والسياسة همّا فرديا وجماعيا، وغاية وسبيلا يتحقّق من خلالهما الحصول على السّعادة. ومن هذه الخلفيّة، فإنّه يطابق بين “الإتيقا بما هي ضرب من الجهد نحو السّعادة، وبين السياسة بما هي أنطولوجيا مفارقة، قائمة على تصور تفاضلي للمدينة (…)، فإنّ ما يحدّ من حاجة الحاكم إلى الوازع والتغلب في حكمه، إنّما هو مدى قدرة المحكومين على التعقّل”([77]).

إنّما “الإتيقا” في تقدير أستاذي الكيس فتحي المسكيني ممكنة لأنّ المدينة غير ممكنة إنسانيا بدونها. فإنّه كما يردّد الفارابي بعد أرسطو، لا يمكن أن تكون حاكما، دون أن تكون متعقلا، ولا يمكن أن تكون متعقلا دون أن تكون فاضلا. أما إذا ضربت عرض الحائط بأنّ سعادة الإنسان جزء من ماهيته، وبأنّ الإتيقا إنّما هي دائما قدرة البشر على أن يصيروا إلى أنفسهم، لا إلى ظلالهم وأوهامهم([78]).

وقبل أن نرصد منزلة التجربة المرتبطة بالواقع المحسوس في المعرفة عند الفارابي نتابع منزلة التجربة ودورها في جعل الرّئيس الأوّل قادرا على ضمان السّعادة الكاملة لأهل مدينته ونبيّن ساعتها أنّ الفلسفة ببعديها النظريّ والعمليّ هي التي “ستنير السبيل القويم لإصلاح الخلافة”([79]).

يشير الفارابي في تحديده للتّعقل إلى أهميّة البعد التّاريخي وذلك أنّ التعقّل يعبّر في نهاية الأمر عن حيويّة الفلسفة وحركيتها ومسايرتها لتبدّل الأحوال. إنّها في نهاية الأمر تستجيب وتتفهّم ما يحدث من متغيّرات ومستجدّات في المجتمع. وإذا كانت الفلسفة بمعناها النظريّ عند الفارابي تتنكّر إلى حركة التاريخ فتجمدّها وتوقفها عند أفلاطون وأرسطو كما تصوّر بعض الباحثين”([80]). فإنّ الفلسفة العمليّة (والعلم المدنيّ جزء منها) لا تركن إلى هذا الجمود لأنّ الفيلسوف مطالب بمراعاة الأحوال وتقدير الأفعال وفق حال أو عارض وحسب المدينة التي يسوسها.

ليس ثمّة إذن أحكام مطلقة أو نواميس ثابتة خالدة تصلح لكلّ زمان ومكان وتطبّق في كلّ المجتمعات بنفس الأسلوب. فالأمم لها خصائصها المختلفة والمتنوّعة. ولكلّ أمّة عوامل بيئيّة وطبيعيّة أو اجتماعية خاصّة تتأثر بها. وبهذا المعنى، لا بدّ للفيلسوف أن يكون على صلة مباشرة بأهل مدينته أو أمّته حتّى يتابع عن كثب أحوالها. وبهذا المعنى أيضا، لا يمكن للفيلسوف الحقّ أن يكون معزولا عن أهل مدينته، لأنّ مهنته الملكيّة الفاضلة تستلزم مزاولة طويلة لأفعال وهو ما يمكّنه من اكتساب الخبرة الضّروريّة التي تساعده على حسن التدبير وجودة تقدير الأمور ضمن إطارها الواقعيّ الاجتماعي وكأنّ السياسة عند فيلسوفنا علم قائم بذاته.

ويتجلّى ذلك في تعريفه لواضع النواميس إذ هو فيلسوف بما يحصل عليه معرفة برهانيّة يقينيّة ولكنّه بقدرته على تبليغ هذه المعارف النظريّة البرهانيّة بالتخييل والإقناع إلى الجمهور هو واضع ملّة. ويذهب الفارابي إلى أبعد من ذلك فيقرّ بتعدّد الملل الفاضلة وبأحقيّة تغيير التشريعات التي شرّعها السلف الصالح وهذا ما يضفي على النواميس حركيتها التّاريخيّة. ويمنع واضعها حقّ تغييرها و”يجوز للواحد منهم أن يغيّر شريعة قد شرّعها هو في وقت، إذ رأى الأصلح تغييرها في وقت آخر، كذلك الغابر الذي يخلف الماضي، لأنّ الماضي نفسه لو كان مشهدا للحال لغُيّر”([81]). إنّ أحقيّة التغيير هذه تثبت أنّ المهنة الملكيّة الفاضلة مهنة مرنة متفتّحة على ما يدور في المجتمع من أحداث وتحوّلات وأنّ أهميّة المعرفة لا تتمثل في أزليتها وحفظها، بل في الدّور الاجتماعي الذي يقوم به الرّئيس الأوّل بالاعتماد عليها.

يتبيّن من ذلك أنّ السياسة يمكنها أن تستند إلى الميتافيزيقا، لأنّ الحقيقة في المجال الميتافيزيقي كليّة مطلقة في حين أنّ الحقيقة في المجال المدنيّ (السياسي) حقيقة نسبيّة تاريخيّة كما رأينا سابقا. وبهذا المعنى، يمكن استعارة النموذج الثابت والمطلق واللّاإرادي لتطبيقه في مجال يقوم على المتغيرات والنسبية ويرتبط ارتباطا وثيقا بإرادة الإنسان واختياراته. وحتّى على مستوى المعرفة، فإنّ الفارابي لا يُقصي التّجربة ودور الحواس في تأسيسها. وبما أنّ المعرفة من الشرائط الهامّة لتمكين الرّئيس الأوّل من حسن القيادة، فإنّ ما يحصّله الرّئيس من معارف لا يرتبط بالضرورة بالميتافيزيقا. فتحصل عنده المعرفة النظريّة والعمليّة ببصيرة يقينيّة.

وبما أنّ الفارابي لم يعترف بوجود النّفس قبل الجسد([82]). فإنّه نفى أن تكون المعرفة تذكرا كما هو الأمر عند أفلاطون. ويبدو أنّه كان أميل إلى أرسطو وبالتّالي إلى المعرفة عن طريق الحواس. أي على طريق تجريد الصور من المحسوس “فحصول المعارف للإنسان يكون من جهة الحواس، وإدراكه للكليّات موجهة إحساسه بالجزئيّات، ونفسه عالمة بالقوّة… والحواس هي الطرق التي تستفيد منها الطرق الإنسانيّة المعارف”([83]). بهذا المعنى، تكون المعرفة وليدة التجربة الاختبار العقلي أحيانا. وذلك لأنّ الحواس لا تمكّننا من إدراك التصوّرات المحضة، وإنّما تدركها مختلطة بعناصر ماديّة.  ويميّز الفارابي هنا بين صورتين الصورة التي تحتاج في إدراكها إلى مادّة و ذلك لأنّ الأنفس عندما ” تحصل فيها الرّسوم بالفعل أعني رسوم المحسوسات في القوّة الحاسّة والمتخيّلات في القوّة المتخيّلة ورسوم المعقولات في القوّة النّاطقة – باينت حينئذ الصوّر وإن كانت هذه الرّسوم الحاصلة في الهيئات المتقدّمة شبيهة في الصوّر رسوم المعقولات الحاصلة في القوّة النّاطقة، فإنّها تكاد تكون مفارقة للمادّة، ويكون وجودها في القوّة النّاطقة بعيد الشبه جدا لوجود الصّورة في المادّة”([84]) فلا ندرك مثلا زيدا من حيث إنّه إنسان أو تصور كلّي محض، وإنّما ندركه مع حالات أخرى كالكميّة والكيفيّة. والمكان، والوضع، ونحو ذلك. وعليه، فإنّ المعرفة الحسيّة لا تمكّننا من معرفة حقائق الأشيّاء وطبائعها (تماما كما لا يمكّننا إدراك السّعادة الحقيقيّة في هذه الحياة الدّنيا).

 ويمكننا أن نلتمس هنا معنيين للحقيقة:

أوّلا: حقيقة مرتبطة بعالم الأرض والحياة الدنيا.

ثانيا: حقيقة مرتبطة بعالم السماء والحياة العليا (الآخرة).

إنّ الحقيقة الأولى تبدأ من تأثير الأشيّاء الخارجيّة (من المواد المحسوسة) وارتسامها في القوى الحاسّة الرّواضع ثمّ تجمعها في القوّة الحاسّة الرّئيسة ثمّ ارتسامها في المخيّلة التي تحفظ المحسوسات. ثمّ تحصل عن هذه المحسوسات معقولات([85]). في حين أنّ الحقيقة الثانية، ناتجة عن إشراق أو فيض من العقل الفعّال الذي يؤثر في العقل بالقوّة (العقل الهيولاني) فينفعل بهذا التأثير (عقل منفعل) ويصبح بتلقيه هذا الفيض عقلا بالفعل وبهذا التسلسل تعقل القوّة الناطقة وتحصل المعرفة وهي المعرفة المجرّدة تماما عن المادّة ولا تحتاج في حصولها إلى مادّة أبدا وهذا النّوع من المعرفة “والوقوف على حقائق الأشيّاء، ليس في قدرة البشر. ونحن لا نعلم من الأشيّاء إلّا الخواص واللوازم والأعراض… فإنّنا لا نعرف حقيقة الأوّل ولا العقل ولا النفس ولا الفلك والنّار والهواء والماء والأرض. ولا نعرف حقائق الأعراض. ومثال ذلك أنّنا لا نعرف حقيقة الجوهر، بل إنّنا نعرف شيئا له هذه الخاصّة وهو أنّه الموجود لا من موضوع وهذا ليس حقيقته، ولا نعرف حقيقة الجسم. بل نعرف شيئا له هذه الخواص وهي الطول والعرض والعمق، ولا نعرف حقيقة الحيوان بل نعرف شيئا له إدراك وفعل”([86]).

إنّ هذه المعرفة المستحيلة على البشر تذّكرنا بالشروط المستحيلة التي اشترطها الفارابي في الرّئيس لأنّه “لا يوجد من فُطر على هذه الفطرة إلّا الواحد بعد الواحد”([87]). وكأنّه بطريقة واضحة يأخذ عن أرسطو رأيه في أنّ كل معرفة إنّما تكون عن طريق الحواس -وتلك هي المعرفة الممكنة بالنسبة للبشر. وحقائق الأشيّاء التي لا يمكن للبشر الوقوف عليها إنّما هي الحقيقة التي تتبدّل، إنّها الحقيقة الكاملة والمطلقة والتي تتجاوز اللّوازم والخصائص والعوارض. غير أنّ الحواس ليست وحدها الأداة التي يستطيع الإنسان عن طريقها إدراك الأشياء بل يقول الفارابي بوجود أربعة قوى أخرى:

أوّلا: القوى المصوّرة، وهي موجودة في الجزء الأمامي من الدماغ وتثبت صور الأشيّاء المحسوسة بعد تجريدها أو فصلها من المحسوس.

ثانيا: القوّة الوهميّة، وهي عبارة عن قوّة حدسيّة تدرك من المحسوس ما لا تدركه الحواس، كالقوّة التي تملكها الشّاة مثلا لإدراك عداوة الذئب عندما تراه، ولكنّ الحواس لا تدرك هذه العداوة.

ثالثا: القوّة الحافظة، وهي تخزّن ما تدركه القوّة الوهميّة. كما تخزّن القوّة المصوّرة ما تدركه الحواس.

رابعا: القوّة المفكّرة، وهي تتسلّط على الدّوافع في خزانتي القوّة المصوّرة والقوّة الحافظة فيخلط بعضها ببعض، وتسمّى هذه القوّة بالمفكّرة إذا استعملها الإنسان، أي العقل البشري. وتسمّى بالمخيّلة إذا استعملتها القوّة الوهميّة. وهكذا فإنّ هذه القوّة تقوم في الحيوان مقام القوّة الناطقة في الإنسان([88]).

كما إنّ حرص الفارابي على نفي إمكانيّة معرفة حقائق الأشياء وطبائعها وحصر الإدراك فيما يرتبط بالمكان والوضع والكميّ والكيفيّ يدّل على أنّ فيلسوفنا كان أقرب إلى الواقعيّة، فتجنّب القول بإمكانيّة تحقيق السّعادة القصوى والكاملة في هذه الحياة الدنيا وكما تجنّب أيضا الاعتراف بوجود رئيس نفسه كاملة متحدّة بالعقل الفعّال، استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلّها ووصل إلى درجة العقل المستفاد، وأصبح على اتّصال مباشر بالعقل الفعّال ويقبل مثله ما يفيض عليه من الله. لأنّ “وجود هذا الإنسان عسر ولأنّه لا يوجد من فُطر على هذه الفطرة”([89]).

يبدو أنّه من الصّعب على فيلسوف بصير بالأمور، ورع ورصين كالفارابي أن يغامر ويعترف بإمكانيّة تحصيل المعرفة الكاملة والرّئاسة الكاملة والسّعادة الكاملة في عصر تنهار فيه المدينة (بغداد). وتضطرب فيه الأحوال وتسهل فيه الاتّهامات بالزّندقة والكفر وتكثر فيه الدّسائس. وتتحكّم فيه العامّة بمصائر الخاصّة. ولا أعتقد أنّ الفارابي قد اعتبر بما حدث لسقراط عندما فشل في مواجهة العامّة من الجمهور ولم ينجح في إقناعهم بأفكاره الفلسفيّة فاغتالته الدّيمقراطيّة وقظت عليه بالموت، لا أعتقد أنّ المعلّم الثاني، كان يخشى هذا المصير، بل إنّ الدافع الأساسيّ الذي جعله يرفض إمكانيّة تحصيل هذه الكمالات (المعرفة الكاملة والرّئاسة الكاملة والسّعادة الكاملة) هو دافع فلسفيّ خالص يتمثل في فكرة: المثال القدوة الذي لا تنتهي جاذبيته طالما أنّ الإنسان مؤمن بوجوده. إنّه المحرّك الدّافع نحو الحقيقة التي نمتلكها. نحو النموذج الذي لن تكوّنه نحو المثال الذي لا يمكن تحقيقه في الواقع. إنّها الفلسفة التي هي السّعي الدائم نحو الحقيقة. ولقد أبان الفارابي أنّ القوّة الناطقة التي تحصل بواسطتها المعرفة “هي القوّة التي بها يحوز الإنسان العلوم والصناعات: النّاطقة منها نظريّة ومنها عمليّة، والعمليّة منها مهنيّة ومنها مرويّة. فالنظريّة هي التي بها يحوز الإنسان علم ما ليس يعلمه إنسان أصلا”([90]). أي إنّ النّاطقة النظريّة تمكّننا من معرفة ما شأنه أن يتجاوز إرادة البشر أو ما لا يستطيع الإنسان الإتيان به كالأنفس والكواكب وكلّ ما ينتمي إلى ما وراء الطبيعة. وهذا العلم الذي نحصل عليه بالنّاطقة النظريّة هو علم الإلهيّات وموضوعه هو ما يتجاوز إرادة الإنسان كما حدّد الفارابي ذلك في كتاب الحروف([91]). في حين أنّ “العمليّة هي التي بها يعرف ما شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته”([92]).

هكذا تكون المعرفة في فلسفة ما بعد الطبيعة معرفة نظريّة تأمليّة محضة لا يمكن تطبيقها أو نقلها إلى مستوى الحياة العمليّة الاجتماعية والسياسيّة للإنسان. وبما أنّ العلم المدنيّ هو جزء من الفلسفة العمليّة فإنّ الحاكم الفيلسوف هو فيلسوف عمليّ يحتاج إلى الفلسفة العمليّة لتدبير شؤون مجتمعه ويحتاج إلى الفلسفة النظريّة لما تقدّمه له من نموذج مثالي يقتدي به أثناء العمل. وعندما أقرّ الفارابي بالتقسيم الذي أضفاه على الكون وأقرّ بوجود مبدأ عاقل غائيّ ينظم هذا الكون تماما كما ينظم الفيلسوف العاقل مدينته فإن ترك مكانا للعقل العمليّ بمعناه التطوريّ والخلّاق عندما يكون الأمر متعلقا بتدبير شؤون المدينة.  إذا كان أفلاطون من قبله قد “هاجم الفلاسفة الأيونيّين (أي الطبيعيين الأوائل) لاعتقادهم أنّ الطبيعة توّجه نفسها بنفسها ولا تحتاج إلى ذهن إلاهي يوجهها ويسوسها”([93]). فإنّ الفارابي يوافق أفلاطون في القول بأنّ لكلّ حركة في الكون نفسا تتحكّم فيها وأنّ العالم منظم. لكنّه لا يعتبر الإنسان مجرّد كائن طبيعيّ يرتبط في تفكيره وسلوكه بقوّة متعالية عليه توجهه أينما وكيفما شاءت. كما إنّه لا يعتبر الحالة الاجتماعية أو السّلوك أو العلاقات مملات عليه من الطبيعة التي تحدّدها له مسبقا. وبمعنى آخر، فإنّ الفارابي لا يرضخ السياسة أو الأخلاق (الأمور العمليّة) إلى الميتافيزيقا ولا يجعل أمور الدنيا موجهة مطلقا بإرادة تتجاوز الإنسان فتسيّره وتستعبده كما يستعبد السيّد العبد، بل اعتمد فكرة الاختيار وميّزها على فكرة الإرادة. وحتّى إن أقرّ بدور الفطرة، فإنّ هذه الفطرة لا تحدّد للإنسان دوره ومكانته الاجتماعيّة، بل هي مجرّد استعدادات فطريّة تنمو بالتدريب والتعليم والاكتساب أو تزول إذا وقع إهماله.

 

خاتمة:

 لم يكن قصدنا في تضاعيف هذا البحث، سوى تصريف القول الممكن في إبستمولوجيا العلوم الإنسانية عند الفارابي، من خلال الاطلاع على منزلة العلم المدنيّ ودلالاته الفلسفيّة الكبرى ضمن فعل المقايسة بين العلوم والصناعات التي أقدم عليها المعلّم الثانيّ إحصاء وتصنيفا، ليبيّن أيّها أنفع وأيّها أتقن وأوثق وأقوى وأيّها أوهن وأضعف. اعتبارا إلى أنّ فضيلة العلوم والصّناعات في مراس الترتيب الفارابي، إنّما تكون بإحدى ثلاث، أمّا بشرف الموضوع، وأمّا باستقصاء البراهين، وأمّا بعظم الجدوى الذي فيه.

ولأمر كهذا، استحالة العلم المدنيّ في ثنايا الإبستمولوجيا الفارابيّة إلى علم رئيس، إذ يتولّى موضوعات هي عين موضوعات العلم الإلهي والعلم الطّبيعي. فرئاسته ناتجة عن كونه أصبح يعيّن لكلّ الأشيّاء مرتبة ومنزلة، وذلك من خلال اقحامها ضمن علاقات التّناسب بحسب وظائف الخدمة والرّئاسة تأويلا جديدا للوجود([94]).

إنّ رئاسة العلم المدنيّ في تقدير المعلّم الثّاني تقتضي اجراء التّناسب. والملفت للانتباه بعد تدبّرنا لمنزلة العلم المدنيّ عند الفارابي، انطلاقه من النظر الميتافيزيقيّ في سبيل تأصيله المدينة الفاضلة التي يعتقد أهلها في فلسفة واجب الوجود. فالمدينة بوصفها موضوع العلم المدنيّ، لكي تكون فاضلة يجب أن تستقي شرعيّة وجودها من النّسق العامّ للوجود. وعليه،”لا وجود للمدينة لدى الفارابي، خارج شرط إمكان التّأسيس التيو – أنطولوجيّ بمعنى أنّ معقوليّة “لوغوس” المدينة مرتبطة تلازميّا بمعقوليّة لوغوس الوجود عينه وبمعقوليّة – لوغوس ما هو الأجدر بالوجود على وجه الحقيقة والاطلاق ضمن المراتبيّة الأنطولوجيّة النموذجيّة القارّة. وعلى مثل هذه الأرضيّة الميتافيزيقيّة ينشأ ويترعرع علم الوجود المدنيّ للفارابي بصفته رافدا محدّدا “للعلم الإنسانيّ” الذي من بين أهمّ أهدافه التعرّف على الغرض الذي من أجله كوّن الإنسان أي العلم بالغاية من وجود الإنسان، وهي تحديدا السّعادة([95]).

لا يكون العلم المدنيّ ممكنا إذن إلاّ بالإقرار بمركزيّة مفهوم التناسب القائم، عند الفارابي، بين كلّ من التدبير الإلاهي للمدينة وللأمم والتدبير الإلاهي للعالم، وبين كلّ من أجزاء العالم وأجزاء المدينة. وبناء على هذه المركزية، يتحوّل العلم المدنيّ إلى علم رئيس، أو علم معماريّ، كما كان شأن السياسة لدى أرسطو، موضوعاته هي نفس موضوعات العلم الإلاهي وعين مباحث العلم الطّبيعيّ…بحكم كون “واضع الملّة” أو رئيس المدينة مطالب، بالإضافة إلى تشبّعه بالحكمة العمليّة التي هي بمثابة خبزه اليوميّ، بأن يكون قد عرف الفلسفة النظرية على التمام، لأنّه لا يمكن أن يقف على شيء ممّا في العالم من تدبير الله تعالى حتّى يتأسّى به إلاّ من هناك. بهذا الاعتبار، هناك تلازم إجرائي بين الملّة والفلسفة، بغضّ النظر عن إشكاليّة الأسبقيّة الزمنيّة فيما بينهما([96]).

وتبعا لكلّ ما سلف، يتبدّى العلم المدنيّ في استعارة من لّدنّا لعبارات آسرة لأستاذي الكيس مصطفى كمال فرحات فقيد الفلسفة والجامعة التونسيّة، في مظهر “ثمار” الشجرة الفلسفيّة لديكارت من جهة كونه هو الذي تؤول إليه ثمار كلّ العلوم الأخرى ومحاصيلها. من هنا “الموسوعيّة” الظاهرة للعلم المدنيّ لدى الفارابي. فهي موسوعيّة إجرائيّة يستتبعها حتميا منطق شيعوعة التشابه التناسبي المذكور، والذي يجعل من العلم المدنيّ، ضمن كتاب “الملّة” أساسا، يشكل صعيدا لوحدة كلّ العلوم من حيث تناظرها وتماثلها وصورة تعالق جملة مواضيعها ببعضها البعض. وبذلك تكون الأنطولوجيا المدنيّة بمثابة علم جامع لكلّ الموجودات من حيث أنّ هذا الكلّ هو نسبة الأشيّاء (في العالم، وفي النفس، وفي البدن، وفي المدينة) إلى بعضها. ومن ثمّ المعنى الحقيقي لمفهوم “رئاسة” العلم المدنيّ حيال العلوم الأخرى، إذ هي رئاسة متأتيّة له من كونه قادرا تناسبيا تماثليا على القيام بوظيفة تعيين مرتبة ومنزلة كلّ الأشيّاء من خلال إقحامها ضمن علاقات التناسب بحسب مراتب الخدمة والرّئاسة في المدينة([97]).

إنّ شرف العلم المدنيّ ضمن مفاعيل إبستمولوجيا العلوم الإنسانيّة فارابيا، يعزى رأسا إلى مركزيّة فعل التدبير الفردي في المجال الأخلاقي والتدبير المدينيّ في المجال السياسي، بوصفه أشرف الصناعات. وهنا يحضر كتاب “نيقوماخيا” بإلحاح عند الفارابي. إذ أنّه وإن كان يشير إلى سياسات أرسطو خاصّة في إحصاء العلوم عندما يحدّد العلم المدنيّ وأقسامه مشيرا إلى أنّ مضمون هذا العلم موجود في كتاب “بولتيقي” وهو كتاب السياسة لأرسطوطاليس وكذلك في “كتاب السياسة لأفلاطون” (…) ويبدو هذا الرّبط الصّميم بين الأخلاق والسياسة بوضوح كذلك في تعريف الفلسفة المدنيّة بأنّها “علم وعمل”([98]). يهدف هذا المزيج الذي يتحدّث عنه الفارابي إلى إعادة تناوّل كامل العلاقة التي تربط العملي داخل حقل من الدّلالات والألفاظ التي تحيل إلى فلسفة تمجّد الفعل ضمن هذا التوجه الهادف إلى إبراز خصوصيّة النّشاط الإنسانيّ في أبعاده النظريّة والعمليّة. وعلى هذا النحو من النظر، يمكن القول أنّ العمل الإنسانيّ في تقدير الفارابي، لهو اختيّار الجميل والنّافع في المقصد المعهود إليه بالحياة العاجلة، على أنّ الجميل في عرف فيلسوفنا هو الشيء الذي يستحسنه العقلاء. فالفلسفة السياسيّة العمليّة، لا تمارس العمل وإنّما تمارس النظر في العمل وذلك لأجل الكشف عن القوانين العامّة لفعل الإنسان من حيث هو “جزء مدينة” ومن حيث هو مدبّر للمدينة. ويسمّي الفارابي هذه الفلسفة العمليّة “العلم المدنيّ”([99]). ولنا اطمئنان أنّنا إذا ما مكثنا في فضاء الفلسفة العربيّة أدركنا من خلال الفارابي، أهميّة العلم المدنيّ / العمليّ بالمعنى الأقصى لمفهوم العمل بوصفه وجود الإنسان ذاته. فالإنسان عند الفارابي ممكن كلّه، وليس فعله سوى وجوده أي قدرته على الاستكمال والاستيلاء على الممكن الذي فيه([100]).

وعلى نفس الصّعيد الإشكاليّ، فإنّ ما استرعى انتباهنا من التّقسيم والتّرتيب الّذي يقدّمه المعلّم الثّاني للعلوم جملة ويكون هذا الشّاهد كافيا للتّدليل على رأيه فموضوعات العلوم إمّا أن تكون “إلاهيّة وإمّا طبيعيّة وإمّا منطقيّة وإمّا رياضيّة أو سياسيّة وصناعة الفلسفة هي المستنبطة لهذه والمخرجة لها حتّى أنّه لا يوجد شيء من موجودات العالم إلاّ وللفلسفة فيه مدخل وعليه غرض ومنه علم بمقدار الطّاقة الإنسيّة”([101]).

هذا القول اختزال لمعنى الفلسفة “أمّ العلوم” وأساسها بها تتقوّم جميع العلوم وبها تتأسّس. هذا ما يجعلها كليّة من حيث هي أصل، جزئيّة من حيث هي تأسيس لأصل جزءا جزءا. هذه الوظيفة التي تحتلها الفلسفة تجعل هذه الصناعة أشمل من كلّ الصناعات والمبدأ المؤسّس لكلّ صناعة. ولئن طفق الفارابي يجوس في ترتيب العلوم وتقسيمها في مؤلفه “إحصاء العلوم” رأسا، فإنّه لم يتعرّض إلى الفلسفة لأنّها العلم الذي نجده في كلّ علم، فهي العلم الكلّي الّذي تحتاج إليه جزئيّات العلوم كي تتشكّل. أمّا عن الآليّة التي تتوسّل بها في منطق البرهان. فطرق البراهين الحقيقيّة منشؤها من عند الفلاسفة، فما يتميّز به الفلاسفة عن غيرهم هو حيازتهم للملكة النظريّة، ملكة البرهنة نظريّا والاقناع عمليّا وجملة هذا القول تجعلنا نستنتج أنّ:

  • الفلسفة أمّ العلوم وأسماها وهي المؤسّسة لأصولها ككلّيّات.

  • البرهنة الأسمى هي برهنة الفلاسفة.

وعن هذين الموقفين تكون الفلسفة أمّا والعلوم الأخرى رواضع، ويكون البرهان الفلسفيّ أصلا والبراهين الأخرى فروعا. ومتى جمعنا نتائج ما سبق، تبيّن لنا أنّ الفلسفة من منظور الفارابي تحوز الرّئاسة بالأقدميّة كما تحوزها بالكليّة. كما أنّ الملاحظة الأخرى التي أثارت انتباهنا، تتعيّن هاهنا في العلوم التي من المفروض وجودها في الفصل الخامس من “إحصاء العلوم”، ونعني الأخلاق والاقتصاد، والسياسة، لم يحتفظ المعلّم الثّاني منها وبصفة واضحة، إلاّ بالسياسة أي بالعلم المدنيّ، باعتبار أنّ المدينة الفاضلة توفّر بمقتضى وجودها حسن تدبير أعمال الأفراد فيما يخصّ الفضائل الشخصيّة (الأخلاق). وكذلك حسن تدبير شؤونهم المنزليّة (الاقتصاد)، بحيث ينجر عن عدم وجود المدينة الفاضلة وجوب معالجة هذه الأوضاع الاجتماعيّة والشخصيّة بعلوم أخرى أقلّ شرفا على غرار ما ذهب إليه أبو بكر بن باجة في كتابه: “تدبير المتوحّد”([102]).

ومهما يكن من أمر، فإنّ التّأسيس الفلسفيّ الفارابوي لإبستمولوجيا عربيّة ناجزة خلال الفترة الوسيطيّة، مدارها الشأن الإنسانيّ على نحو ما تجليه رئاسة العلم المدنيّ بين العلوم الفلسفيّة، لا يكون ممكنا في تقديرنا، إلاّ من جهة تساوقه مع ضرب من “الإتيقا”، بوصفها المبحث الأقدر على جعلنا نفكّر بالفلسفة الإسلاميّة كجزء داخليّ من همّ الذّات اليوم، وكأشد التساؤلات خصوبة، لأنّه يدور حول الإنسان الذي هو نحن. إنّ إنسانيتنا هي حجتنا دائما ضد العالم “الحالي”، ولكن أيضا ضد تاريخنا وضد أنفسنا. فإنّ عديد الأسئلة الأساسيّة لم تطرح بعد. ليس فقط حول الفلسفة الإسلاميّة بل حول الإنسان العربي نفسه([103]).

إنّ التأمّل في كلّ هذه الإمكانات الفكريّة – الإبستمولوجيّة التي فتحها المعلّم الثّاني يجعلنا نعتقد أيّها النّاس أنّ المرحلة الحضارية التي نعيشها، قد تكون هي الإبستيميا التي لتبرز بلا ريب راهنيّة هذه الفلسفة وضرورة استعادتها – ولكنّها استعادة لن تكون لها قيمة، إلاّ إذا فهمت في حدود ضرورة استرداد فيلسوفنا كرمز خاصّة، رغم أنّ فلسفته قادرة على أن تساهم بشكل جدي في إنارة الكثير من قضايانا الرّاهنة. ولسوف نلفي تلقيا فلسفيا بلا هوادة لمباحث ومقاصد وثمرات الإبستمولوجيا الفارابيّة في الفكر الفلسفي العربي الوسيط لدى رهط من الفلاسفة العرب على غرار: (ابن باجة، ابن رشد، ابن سينا، مسكويه، إخوان الصّفاء وخلاّن الوفاء، الغزّالي، نصير الدّين الطوسي، وابن خلدون…وغيرهم). ولكن ذلك يفترض تغيير قبلة التفكير صوب بدايات أخرى ليس هذا مقام تفصيل القول الممكن فيها الآن. فعسى أن نستأنف لها قولا آخر وبدءا جديدا مستقبلا.

 

 


قائمة المصادر والمراجع

باللّسان العربي:

آثار الفارابي (أبو نصر):

  • آراء أهل المدينة الفاضلة، قدّم له وعلّق عليه د. ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت – لبنان، 1985.
  • كتاب الملّة ونصوص أخرى، حقّقها وقدّم لها وعلّق عليها د. محسن مهدي، دار المشرق، بيروت – لبنان، 1968.
  • كتاب السياسة المدنيّة الملّقب بمبادئ الموجودات، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه د. فوزي متري النّجار، المطبعة الكاثوليكيّة، بيروت – لبنان، 1964.
  • كتاب الحروف، تحقيق د. محسن مهدي، دار المشرق، بيروت – لبنان، 1969.
  • عيون المسائل، نشرة ديتريشي، لايدن، 1890.
  • كتاب التعليقات، طبعة حيدر آباد، الهند، 1346هـ.
  • إحصاء العلوم، مركز الإنماء القومي، بيروت – لبنان، 1991.
  • كتاب تحصيل السّعادة، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه د. جعفر آل ياسين، دار الأندلس، بيروت، لبنان، 1981.
  • رسالة التنبيه على سبيل السّعادة، دراسة وتحقيق د. سحبان خليفات، الجامعة الأردنيّة، عمّان، الطبعة الأولى، 1987.
  • رسالة في العقل، حقّقه وقدّم له وعلّق د. فوزي متري النجّار، دار المشرق، بيروت – لبنان، 1983.
  • فصول منتزعة، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه د. فوزي متري نجّار، دار المشرق، بيروت – لبنان، 1971.
  • فلسفة أرسطو طاليس، نشرة محسن مـهدي، دار شعر، بيروت – لبنان، 1962.
  • الجمع بين رأيي الحكيمين، تحقيق وتقديم د. ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، لبنان، الطبعة الرّابعة، 1986.

المصادر العامّة:

  • أفلاطون، الجمهوريّة، ترجمة ودراسة د. فؤاد زكريّا، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، مصر، 1974.
  • أرسطو، كتاب الأخلاق، ترجمة إسحاق بن حنين، وكالة المطبوعات، الكويت، ط 1، 1979.
  • كتاب السياسات، نقله من الأصل اليوناني وعلّق عليه الأب أوغسطينس بربارة البولسي، اللّجنة الدوليّة لترجمة الرّوائع الإنسانيّة، بيروت – لبنان، 1957.

المراجع:

  • آلان (دي ليبيرا)، فلسفة العصر الوسيط، ترجمة: مصطفى ماهر، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 1999.
  • آل ياسين (جعفر)، الفارابي في حدوده ورسومه، عالم الكتب، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1985.
  • بنعبد العالي (عبد السّلام)، الفلسفة السياسيّة عند الفارابي، دار الطليعة، بيروت – لبنان، الطبعة الرّابعة، 1997.
  • الجابلي (سعيد)، الفارابي مُتعدّدا، نحو فلسفة عربيّة مُركّبة، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، الرّباط – المغرب، ط 1، جانفي 2020.
  • الحلواني (محمّد علي) والتريكي (فتحي)، مقاربات حول تاريخ العلوم العربيّة، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة صفاقس، ودار البيروني، ط 1، أفريل 1996.
  • الزّغل (حاتم)، السياسيّ عند الفارابي بين النظريّ والعمليّ، ضمن كتاب في الفلسفة العربيّة الفلسفة السياسيّة وفلسفة التاريخ، إعداد مقداد عرفة منسيّة، دار التنوير، جامعة تونس، ط 1، 2016.
  • العليبي (فريد)، مقاربات نقدية في فلسفة النبوّة، دار الاتّحاد للنشر والتوزيع، تونس، ط 1، 2016.
  • العيادي (سالم)، سياسة الحقيقة في فلسفة الفارابي الميتافيزيقا والموسيقا، مكتبة علاء الدّين، صفاقس – تونس، ط 1، 2016.
  • مدخل إلى الفلسفة السياسيّة عند المعلّم الثّاني أبي نصر الفارابي، كتاب الإصلاح (سلسلة كتب ألكترونيّة)، العدد السّابع، أكتوبر 2015.
  • فرحات (مصطفى كمال)، قول الممكن فلسفيّا: من الضروراويّة الندرويّة إلى الممكنيّة الجوديّة، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، ط 1، 2017.
  • قشيقش (محمّد)، الإنسان في فلسفة الفارابي، دار التنوير، بيروت – لبنان، ط 1، 2011.
  • نظريّة العلم عند أبي نصر الفارابي، دراسة تحليليّة نقديّة، منشورات الضفاف، الرّياض، بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، منشورات دار الأمان، الرّباط، ط 1، 2015.
  • محجوب (محمّد)، المدينة والخيال، دراسات فارابيّة، منشورات أميّة، دار العهد الجديد، تونس، ط1، 1989.
  • الفيلسوف، الشّاعر والسيّاسي (مدخل إلى الفلسفة السيّاسيّة الفارابيّة)، المركز القومي البيداغوجي، تونس، ط 1، 1999.
  • المسكيني (فتحي)، فلسفة النوابت، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، ط 1، تشرين الأوّل (أكتوبر)، 1997.
  • المصباحي (محمّد)، من المعرفة إلى العقل، بحوث في نظريّة العقل عند العرب، دار الطليعة، بيروت – لبنان، 1990.
  • النقاري (حمّو)، نظرية العلم عند أبي نصر الفارابي، رؤية للنشر، المغرب، ط 1، 2011.
  • منسيّة (مقداد عرفة)، الفارابي فلسفة الدّين وعلوم الإسلام، دار المدار الإسلامي، بيروت – لبنان، ط 1، حزيران/ يونيو، 2013.
  • علم الكلام والفلسفة، دار الجنوب للنشر، تونس، 1995.
  • موسى (جلال محمّد)، منهج البحث العلميّ عند العرب، دار الكتاب اللّبناني، بيروت – لبنان، 1972.

المقالات والدوريات:

  • أبو زيد (منى أحمد)، المصطلح المدنيّ عند الفارابي وفي الفلسفة الإسلاميّة، مجلّة التفاهم، عدد 39، وزارة الأوقاف والشؤون الدينيّة، سلطنة عُمّان – مسقط، شتاء 2013، ص 49 – 64.
  • بن ساسي (محمّد)، الفارابي رياضيّا، في دراسات حول الفارابي، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، صفاقس – تونس، 1995، ص 147 – 167.
  • الجابلي (سعيد)، إشكاليّة السّعادة عند الفارابي: بين النظريّ والعمليّ، مجلّة تبيّن، العدد 25، المجلّد السّابع، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدّوحة – قطر، صيف 2018، ص 71 – 101.
  • العقل العملي عند الفارابي، عمل مرقون لنيل شهادة الدّكتوراه في الفلسفة، إشراف د. محمّد علي الكبسي، كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة تونس، 2015.
  • الفارابي مقالة في إحصاء العلوم والصناعات من أجل إبستمولوجيا عربيّة هادفة، (نشر ألكتروني)، منظمة المجتمع العلمي العربي (ARSCO)، 2018، ص 1 – 44.
  • نظرية العقل والتعقل عند الفارابي، نشر مجلّة دراسات في الإنسانيّات، العدد الرّابع، المعهد العالي للدّراسات التطبيقيّة في الإنسانيّات قفصة، تونس، 2018، ص32 -49.
  • رودلف (أولريش)، الفارابي وأصول الدّين: تأمّلات في كتابه: مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة، مجلّة التفاهم، عدد49، السنة الثالثة عشرة، وزارة الأوقاف والشؤون الدّينيّة، سلطنة عمّان – مسقط، صيف2015، ص229 – 246.
  • الطّاهري (العربي)، العقل بين النظر والعمل في الإبستميّة العربيّة الوسيطيّة، ضمن إشكاليّة السّعادة عند الفارابي ومسكويه، بحث في العلاقة بين الأخلاق والسياسة في الفلسفة العربيّة، بحث لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، إشراف، د. فتحي التريكي، جامعة تونس، 2007-2008.
  • العليبي (فريد)، مسألة النبوّة عند الفارابي، مجلّة آداب القيروان، العدد الثامّن، كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، 2010، ص 41-61.
  • فخري (ماجد)، فلسفة الفارابي الخلقيّة وصلتها بالأخلاق النيقوماخيّة، مجلّة الأبحاث، I، المجلّد: XXXVIII، إصدار كليّة الآداب والعلوم، الجامعة الأمريكيّة، بيروت، السنة 38، 1990، ص 41-62.
  • فرانك (ريتشارد)، علم الكلام والفلسفة، ترجمة: د. مقداد عرفة منسيّة، ضمن مجلّة دراسات عربيّة، العدد 9-10، السنة 34، دار الطباعة، بيروت – لبنان، تموز/ آب يوليو/ أغسطس، 1980، ص 41-62.
  • فرحات (مصطفى كمال)، التّأسيس الأنطولوجي للتواجد المدنيّ الاختلافي لدى الفارابي، مجلّة آداب القيروان، العدد 2، كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، مارس 1997، ص 41-70.
  • التريكي (فتحي)، الحيّل في إحصاء العلوم عند الفارابي، دراسات حول الفارابي، المرجع السّابق، ص 21-33.
  • محجوب (محمّد)، الفلسفة السياسيّة عند الفارابي: أوضاع العلم المدنيّ، مجلّة دراسات عربيّة، عدد 6، السنة 21، دار الطليعة، بيروت – لبنان، آيار (ماي)، 1985، ص 25-27.
  • مصباح (صالح)، مسألة الملّة عند الفارابي، في دراسات حول الفارابي، المرجع السابق، ص 185-207.
  • المسكيني (فتحي)، مبحث الإتيقا في فلسفة الفارابي، في دراسات حول الفارابي، المرجع السّابق، ص 169-184.
  • عبد الكريم جعفر (مولاي أحمد مولاي)، أخلاق التّعقّل في فلسفة الفارابي وراهنيتها في الفكر الفلسفيّ العربي المعاصر، مجلّة تبيّن للدراسات الفكريّة والثقافيّة، العدد 22، المجلّد السّادس، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدّوحة – قطر، خريف 2017، ص 41-61.
  • وقيدي (محمّد)، المبادئ المعرفيّة والخلفيّات الإبستمولوجيّة للتصنيفات العربيّة الإسلاميّة للعلوم، مجلّة دراسات عربيّة، عدد5، السنة 21، دار الطليعة، بيروت – لبنان، مارس 1982، ص 71-102.

باللّسان الأجنبي:

Alon, (L). « Farabi’s funny flora. Al-nawabit as’opposition», in journal of the royal asiatic society, N°2, 1989. PP.222-251 = in: Arabica, tome XXXVII, March 1990, Fase 1, PP.56-90.

Galson, (M). Politics and excellence. The Political Philosophy of Al-Farabi. Princeton University Press. Princeton, New Jersy, 1990, PP.55-94.

Jolivet, (J). «Classification des sciences» in «Histoire des sciences arabes». Sous la direction de Roshdi Rashed. Tome III. PP.225-270.

Zghal, (H). «Métaphysique et science politique. Les intelligibles volontaire dans le tahsil al-saâda d’Al-Farabi» in Arabic sciences and philosphy, Volume 8, number 2, Septembre 1998, Cambridge University Press, PP.169-178.

 


*  أستاذ باحث / جامعة تونس.

[1] الفارابي (أبو نصر)، إحصاء العلوم، مركز الإنماء القومي، بيروت – لبنان، 1991، ص 7.

يقول صاعد الأندلسي بخصوص تقريظه الآسر لكتاب “إحصاء العلوم” وريادة الفارابي من خلاله ما يلي: “ثمّ له (الفارابي) كتاب شريف في إحصاء العلوم والتّعريف بأغراضها، لم يسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، ولا يستغني طلاب العلوم كلّها عن الاهتداء به وتقديم النّظر فيه”. طبقات الأمّم، طبعة بيروت، (د. ت)، ص 53، وطبعة النجف، ص 70.

[2] الفارابي، إحصاء العلوم، ص 7. ولا بدّ أن نلاحظ هنا أنّ الرّأي القائل بأنّ الفارابي قد أراد من إحصائه “تعديد أشهر العلوم المعروفة لعهده مع بيان مسائلها إجمالا” غير مجدية لفهم مقاصد الفارابي. فقد أكّد الفارابي في مقدمته لإحصاء العلوم على معرفة الأجزاء والجمل في العلوم قائلا: “قصدنا أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف (…) وجمل ما في كلّ واحد من أجزائه”. وذلك يعني بيان حدود المعارف وعلاقاتها وهي نظرة فلسفيّة عميقة للعلم وإمكاناته. اُنظر في هذا الصدد، جلال محمّد موسى، منهج البحث العلمي عند العرب، دار الكتاب اللبناني، بيروت – لبنان، 1972، ص 56. لمزيد التوسّع في هذا المبحث، راجع:

Jolivet, (J). «Classification des sciences» in «Histoire des sciences arabes». Sous la direction de Roshdi Rashed. Tome III. PP.225-270.

 

[3] الفارابي، فلسفة أرسطو طاليس، نشره محسن مهدي، دار شعر، بيروت – لبنان، 1962، ص 132. راجع أيضا، الزغل (حاتم)، السياسيّ عند الفارابي: بين النظري والعمليّ، ضمن كتاب: في الفلسفة العربيّة والفلسفة السياسيّة وفلسفة التّاريخ، (أعمال ندوة مهداة إلى روح الفيلسوف العربي محسن مهدي)، راجعه وأعدّه للنشر مقداد عرفة منسيّة، دار التنوير، تونس، وجامعة تونس، ط 1، 2016، ص 23 وما بعدها.

[4] الفارابي، رسالة التنبيه على سبيل السّعادة، دراسة وتحقيق: د. سحبان خليفات، الجامعة الأردنيّة – عمّان، الطبعة الأولى، 1987، ص220 – 221.

[5] بن ساسي (محمّد)، الفارابي رياضيّا، في دراسات حول الفارابي، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، صفاقس – تونس، 1995، ص 147-167.

[6] قشيقش (محمّد)، نظرية العلم عند أبي نصر الفارابي، دراسة تحليليّة نقديّة، منشورات الضفاف، الرّياض، بيروت، منشورات الاختلاف، الجزائر، منشورات دار الأمان، الرّباط، ط 1، 2015. واُنظر أيضا، النقاري (حمّو)، نظريّة العلم عند أبي نصر الفارابي، رؤية للنشر، المغرب، ط 1، 2011.

[7] أبو زيد (منى أحمد)، المصطلح المدنيّ عند الفارابي وفي الفلسفة الإسلاميّة، موجود في مجلّة التّفاهم عدد 39، سلطنة عمان، شتاء 2013، ص 49-64.

[8] الحلواني (محمّد علي) والتريكي (فتحي)، مقاربات حول تاريخ العلوم العربيّة، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة صفاقس، ودار البيروني، ط 1، أفريل 1996. ولمزيد التوسّع في المبحث الإبستمولوجي عند الفارابي، راجع: التريكي (فتحي)، الحيّل في إحصاء العلوم عند الفارابي، في دراسات حول الفارابي، المرجع السّابق، ص 21-33.

[9] محجوب (محمّد)، الفلسفة السياسيّة عند الفارابي: أوضاع العلم المدنيّ، مجلّة دراسات عربيّة، عدد 6، السنة 21، دار الطليعة، بيروت – لبنان، آيار (ماي)، 1985، ص 25-27. يجدر بنا أيضا التنويه بالدراسة القيّمة للباحث: وقيدي (محمّد)، المبادئ المعرفيّة والخلفيّات الإبستمولوجيّة للتصنيفات العربيّة الإسلاميّة للعلوم، مجلة دراسات عربيّة، عدد5، المرجع السّابق، 1982، ص71 – 102.

[10]انظر دراسة لنا عنوانها: الفارابي مقالة في إحصاء العلوم والصناعات من أجل إبستمولوجيّا عربيّة هادفة، منظمة المجتمع العلمي العربي (ARSCO)، (نشر ألكتروني)، لبنان – بيروت، 2018، ص 1-44. نحيل القارئ أيضا إلى كتابنا الموسوم: الفارابي مُتعدّدا نحو فلسفة عربيّة مُركّبة، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، الرّباط – المغرب، ط 1، جانفي 2020.

[11][11]  الفارابي، إحصاء العلوم، ص38. نحيل القارئ الكريم إلى الدّراسة الآتيّة:

Galson, (M). Politics and excellence. The Political Philosophy of Al-Farabi. Princeton University Press. Princeton, New Jersy, 1990, PP.55-94.

[12] منسيّة (مقداد عرفة)، فلسفة الدّين وعلوم الإسلام، دار المدار الإسلامي، بيروت – لبنان، الطبعة الأوّل، حزيران/ يونيو 2013، ص 31.

[13] محجوب (محمّد)، الفيلسوف، الشّاعر والسياسي (مدخل إلى الفلسفة السياسيّة عند الفارابي)، المركز القومي البيداغوجي، تونس، 1999، ص28 وما بعدها. يقول الأستاذ محجوب ” يمكّن مفهوم السّعادة هنا من تعيين العلم المدنيّ على أنّه العلم بغاية الغايات أي العلم بالسّعادة القصوى التي تنشد من وراء السّعادات المحدودة للأفراد. وهذه السّعادة القصوى الحاصلة من اجتماع جملة المدنيين شبيهة بالخير الحاصل من اجتماع جملة الأجسام في العالم”.  راجع، المدينة والخيال دراسات فارابيّة، منشورات، دار أميّة، ودار العهد الجديد، تونس، الطبعة الأولى، 1989، ص 17-18.

 

[14] الفارابي، تحصيل السّعادة، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه د. فوزي متري النّجار، دار الأندلس، بيروت – لبنان، 1981، ص 89.

[15] الفارابي، تحصيل السّعادة، ص89.

[16] المصدر نفسه.

[17]  المصدر نفسه، ص 63.

[18] الفارابي، كتاب الملّة، ص 69-70.

[19] الفارابي، السياسة المدنيّة: الملقب بمبادئ الموجودات، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه د. فوزي متري النّجار، المطبعة الكاثوليكية، بيروت – لبنان، 1964، ص78.

[20] المصدر نفسه، ص 76.

[21]  المصدر نفسه.

[22] الفارابي، كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت – لبنان، 1969، ص 67. تتحدّد الإرادة عند الفارابي بما هي: “شوق عن إحساس أوّلا، وهي شوق عن تخيّل ثانيّا، وهي شوق عن نطق ثالثا. والأخير هو المخصوص باسم الاختيّار وهو للإنسان دون الحيوان”. الفارابي، السياسة المدنيّة، ص72.

[23] الفارابي، كتاب السياسة المدنية، ص 76.

[24] الفارابي، كتاب الملّة ونصوص أخرى، ص 43. لمزيد التوسّع في هذا الاشكال، أنظر: منسية (مقداد عرفة)، الفارابي فلسفة الدّين وعلوم الإسلام، ص28 ،55 وما بعدها.

[25] المصدر نفسه، ص47. وإن “كنّا لا نلمس في نصوص الفارابي ممارسة تأويلية تقرأ بها أقوال الشرع، وفق الحقائق اليقينيّة التي تثبت في الفلسفة البرهانيّة، نجد لديه مع ذلك ما يحقق لنا أن نرى فيه الصياغة المثلى لفلسفة الدّين، بمعنى تعليل الدّين بحقائق ميتافيزيقيّة وإنسانيّة ونفسانيّة وأخلاقيّة وسياسية، وبنظريات في الحقيقة وطرائق معرفتها وتاريخ حصولها وكيفيّة تعلمها”. مقداد (عرفة منسيّة)، المرجع السابق، ص21.

[26] المصدر نفسه، ص 75.

[27] المصدر نفسه، ص 76. راجع، العليبي (فريد)، مقاربات نقدية في فلسفة النبوّة، دار الاتحاد للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى، 2016، ص19 – 45.

[28] مصباح (صالح)، مسألة الملّة عند الفارابي، في دراسات حول الفارابي، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، صفاقس – تونس، 1995، ص 195.  لمزيد التعمّق بخصوص طبيعة العلاقة بين الفلسفة وعلم الكلام عند أبي نصر الفارابي، راجع:

فرانك (ريتشارد)، علم الكلام والفلسفة، ترجمة: د. مقداد عرفة منسيّة، ضمن مجلّة دراسات عربيّة، العدد 9-10، السنة 34، دار الطباعة، بيروت – لبنان، تموز/ آب يوليو/ أغسطس، 1980، ص 41-62.

[29] مصباح (صالح)، مسألة الملّة عند الفارابي، ص 194-195.

[30] المرجع نفسه، ص 202. “إنّ الشأن السياسي الذي يهمّ الفكر السياسي العربي الكلاسيكي، إنّما هو في تقديرنا ملّي أي ديني سياسي في ذات الوقت (Politico-religieux) وليس البتة فقهيا-سياسيا-حقوقيا. Politico-juridique)) وأنّ المعلّم الثاني قد بيّن في كتابه “الملّة” أنّ هذه الأخيرة هي بالذات المجال الذي تتشابك فيه عرى السياسة والفلسفة والدّين، وفضاء التفلسف العربي الإسلامي الحقيقي. إنّه الفرق الجوهري بين سياسة الملّة وسياسة الدّولة: فقد تبيّن اليوم إنّ ماهيّة العنصر السياسي الذي يخصّنا ليس بأيّ وجه ضربا من “العقد الاجتماعي” كما تبلور من هوبز إلى روسّو. إنّما هو سياسي-ملّي وليس بسياسي-حقوقي. وإنّ الفارابي قد وضّح بعض السبيل الفلسفي إلى هكذا تأصيل في كتاب الملّة. أنظر، المسكيني (فتحي)، ابن رشد والاستعمال العمومي للعقل، المجلّة التونسية للدراسات الفلسفيّة، عدد 19، السنة الثالثة عشرة، تونس، 1998، الهامش 10، ص69.

[31] المرجع نفسه، ص193.

[32] الفارابي، كتاب الملّة، ص 70. لئن كان الفارابي قد قصد حقيقة الانخراط في نقاش مع علم أصول الفقه، فإنّه كان عليه آنها أن يكون قد تأثر لا فحسب بالمسائل التي أثارها علماء الكلام، وإنّما أيضا بالحلول التي قدّموها إلى هذه المسائل (…). ما نعرفه هو أنّ الفارابي كان على دراية حسنة بعلم زمانه، أو على الأقل بالتصورات التي كان يشهدها علم الكلام ببغداد في أيامه. كما أنّنا نؤكد ونتحمّل مسؤوليّة ذلك أنّه كان على دراية جيّدة بأعمال المعتزلة. رودلف (أولريش)، الفارابي وأصول الدّين تأمّلات في كتابه: “مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة”، مجلّة التفاهم العدد 49، وزارة الأوقاف والشؤون الدينيّة، سلطنة عمّان – مسقط، السنة الثالثة عشرة، صيف 2015، ص 237، 243.

[33] الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، قدّم له وعلّق عليه د. ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت – لبنان، 1985، ص 108.

[34] الفارابي، تحصيل السّعادة، ص 63. راجع عن مفهوم ” النوابت” عند الفارابي ما يلي:

Alon, (L). « Farabi’s funny flora. Al-nawabit as’opposition», in journal of the royal asiatic society, N°2, 1989. PP.222-251 = in: Arabica, tome XXXVII, March 1990, Fase 1, PP.56-90.

[35] المسكيني (فتحي)، فلسفة النوابت، دار الطليعة، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، تشرين الأوّل (أكتوبر)، 1997، ص78.

[36] السياسة المدنية، ص 104.

[37] المصدر نفسه.

[38] المصدر نفسه، ص 61.

[39]المصدر نفسه، ص 63.

[40] المصدر نفسه، ص 62.

[41] العيّادي (سالم)، مدخل إلى الفلسفة السياسية عند المعلّم الثّانيّ أبي نصر الفارابي، كتاب الإصلاح (سلسلة كتب ألكترونيّة)، العدد السابع، أكتوبر، 2015، ص44. أكّد محمّد قشيقش في أكثر من موضع من كتابه: “نظريّة الإنسان في فلسفة الفارابي” على أنّ فلسفة الفارابي في الإنسان ليست معروضة في الفلسفة السّياسيّة فقط، بل هي معروضة أيضا في الفلسفة الأخلاقيّة وفي الفلسفة النّظريّة أي في الإلهيّات والسيكولوجيا والكوسمولوجيا والبيولوجيا. فالعلم النّظريّ هو المؤسّس لنظريّته في الإنسان. وهذا القول سليم ووجيه. غير أنّنا نذهب إلى أبعد من ذلك ونعتبر أنّ العلم الإنسانيّ ليس مجرّد مبحث قائم على الفلسفة النظريّة كأساس، وإنّما هو أيضا جزء من هذه الفلسفة النّظريّة. بل نذهب إلى أنّ العلم الإنسانيّ هو العلم الذي تتشكّل فيه الفكرة النّاظمة للفلسفة النّظريّة والمحدّدة لمراتب النّظر فيها. المرجع نفسه، الهامش (67)، ص42. راجع أيضا، قشيقش (محمّد)، نظريّة الإنسان في فلسفة الفارابي، التنوير، بيروت، لبنان، 2011. 

[42] الفارابي، كتاب الملّة، ص 46-47.

[43] المصدر نفسه، ص 59.

[44] العيّادي (سالم)، سياسة الحقيقة في فلسفة الفارابي الميتافيزيقا والموسيقا، مكتبة علاء الدّين، صفاقس – تونس، الطبعة الأولى، 2016، ص127. إنّ العلم المدنيّ والعلم الإنسانيّ لا يدلان على معنى واحد للفلسفة السياسيّة النّظريّة. والخطأ راجع عند بوملحم وعند بعبد العالي على السّواء إلى استبدال “الواو” التي يستعملها الفارابي (العلم الإنسانيّ والعلم المدنيّ) ب “أو” (العلم الإنسانيّ أو العلم المدنيّ) فارتفع في نظرهما معنى الفصل والتّمييز الذي تفترضه “الواو”. وقد انتبه محمّد محجوب إلى الفرق بين العلمين إذ يقول: ” فكأنّ العلم المدنيّ (كما تمّ تعريفه في الإحصاء) يضطلع اضطلاعا بما يعطيه العلم الإنسانيّ (كما تمّ تعريفه في تحصيل السّعادة: الفقرات 15 – 19) من مفهوم كلّي للسّعادة بما هي الغرض الّذي لأجله كوّن الإنسان، ثمّ يصرّف ذلك بحسب موضوعه المخصوص فلا يكون إلاّ علم الأشيّاء التي بها أهل المدن بالاجتماع المنيّ ينال السّعادة كلّ واحد بمقدار ما أعدّ لع بالفطرة”. راجع، كتابه، الفيلسوف الشاعر والسياسيّ، ص32. فهذه الملاحظة أصابت دلالة الفصل بين العلمين والتّمييز بينهما على أساس الاختلاف في الموضوع وفي جهة النّظر. ويمكن اسقاط عبارة التّحفّظ التي افتتح بها محجوب قوله (فكأنّ) إذ بهذا الاسقاط نكون أكثر وفاء للنّصّ الفارابيّ. انظر، العيّادي (سالم)، مدخل إلى الفلسفة السياسيّة عند المعلّم الثّاني أبي نصر الفارابي، كتاب الإصلاح، العدد الساّبع، (سلسلة كتب ألكترونيّة)، أكتوبر 2015، ص 42.

[45] الفارابي، تحصيل السّعادة، ص 61 – 62. وليس يلزم من أنّه إن لطّفنا الأسلوب أن تغلّط اللّطائف ويتظنّن علينا بأنّا لم نستكمل النّظر. فإنّ العلم الإنسانيّ عند الفارابي من اللّطافة بحيث يدقّ عن التّحديد ويكل النظر عن تعيين الوضع له. بل إن جعل الفارابي له “في الوسط بين علمين” (تحصيل السّعادة، الفقرة 14 والفقرة 15) ليعبّر عن حرج منه أكثر ممّا يعين منزلته: فهذا العلم وسط بين علمين” هو العلم الذي يطلع من أمر النفس والعقل على مبادئها الّتي لأجلها كوّنت، وعلى الغايات والكمال الأقصى الذي لأجله كوّن الإنسان” (المصدر نفسه، المعطيات عينها). أنّ نظر العلم المدنيّ معلّق إلى نظر العلم الإنسانيّ، فليس ذلك إشارة إلى تراتب ما للعلوم، وإنّما هو تذكير بأنّ الوجود المدنيّ للإنسان لا ينفتح إلاّ في أفق تساؤل الإنسان عن منزلته وعن معناه. وإنّ ذلك لدرس أصيل من دروس سقراط لا تتأتّى أصالته من قدامته، وإنّما من كونه قديما إلينا. راجع، محجوب (محمّد)، الفيلسوف، الشّاعر والفيلسوف (مدخل إلى الفلسفة السيّاسيّة الفارابيّة)، المركز القومي البيداغوجي، تونس، 1999، الهامش(43)، ص33.

[46] الفارابي، كتاب الحروف، ص 67.

[47] الفارابي، كتاب الملّة، ص 59.

[48] الفارابي، كتاب الملّة، ص 59-69.

[49] الفارابي، السياسة المدنية، ص34.

[50] الفارابي، الحروف، ص 110-128.

[51] الفارابي، الحروف، ص 123.

[52] الفارابي، السياسة المدنية، ص 34.

[53] الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 38. الرّابط بين الميتافيزيقا والسياسة يجعل السياسة مشروطة بالميتافيزيقا من جهة الأسّس والمبادئ ويجعل الميتافيزيقا مشروطة بالسياسة من جهة الصلاحيّة والجدوى والنّفع. فمعماريّة العقل ونسق المعارف الفلسفيّة ينبغي أن يتشكلا لأجل معماريّة المدينة ونسق الفضائل فيها. راجع، العيّادي (سالم)، المرجع السابق، ص24.

[54] المصدر نفسه، الفصلين السابع والثامن، ص 38.

[55] المصدر نفسه، ص 119.

[56]  تحصيل السّعادة، ص 89.

[57] المصدر نفسه، ص 78. يمكن القول إنّ في الميتافيزيقا واللاهوت مبادئ للسياسة العمليّة، وتلك المبادئ هي المضمون المعرفيّ للسياسة النّظريّة بوصفها العلم الذي يعطينا اليقين بما “ليس لنا فعله” في فعله الأخلاقي وبما “ليس لنا فعله” في وجودنا الاجتماعي السياسي. أنظر، العيّادي (سالم)، المرجع السابق، ص23.

[58] العيّادي (سالم)، سياسة الحقيقة في فلسفة الفارابي الميتافيزيقا والموسيقا، مكتبة علاء الدّين، صفاقس – تونس، الطبعة الأولى، 2016، ص 101-102.

[59] العيّادي (سالم)، سياسة الحقيقة في فلسفة الفارابي الميتافيزيقا والموسيقا، ص122.   خصّصت دراسات عديدة للبحث في العلاقة بين الميتافيزيقا والعلم المدنيّ عند الفارابي وترتيبها من حيث الأوّليّة، نذكر منها:

Zghal, (H). «Métaphysique et science politique. Les intelligibles volontaire dans le tahsil al-saâda d’Al-Farabi» in Arabic sciences and philosphy, Volume 8, number 2, Septembre 1998, Cambridge University Press, PP.169-178.

[60] تحصيل السّعادة، ص 69-70.

[61] المصدر نفسه.

[62] المصدر نفسه، ص 63.

[63] “إنّ التّخييل هو إذن آليّة اختزال العالم في بنية المدينة. وبعبارة أخرى، فإنّ الوجود المدنيّ هو الذي يؤسّس آليّة التخييل لكونه هو الذي يعطيها الأحداثيّات التي يمكن بالرّجوع إليها إعادة بناء العالم”. محجوب(محمّد)، المدينة والخيال دراسات فارابيّة، منشورات دار أميّة – تونس، دار العهد الجديد – تونس، الطبعة الأولى، ص43. ولقد فصّل أستاذنا الجليل محمّد محجوب القول تفصيلا في بنيّة المدينة ووضع الخيال في فلسفة الفارابي السياسيّة. أنظر، المرجع السابق، ص38 – 54.

[64] المصدر نفسه، ص 63.

[65] الفارابي، اراء أهل المدينة، ص 100.

[66] المصدر نفسه.

[67] الفارابي، كتاب الملّة، ص 66. ليست فلسفة الدّين والفلسفة السّياسيّة عند الفارابي إلاّ مبحثا واحدا وذلك من منظور التّدبير السّياسي للمدينة. وأمّا السّياسة النّظريّة التي هي أساس العلم المدنيّ فهي الميتافيزيقا لا بوصفها دالّة فقط على نسق من الموضوعات المفارقة والمتعاليّة وإنّما بوصفها دالّة أيضا على معماريّة العقل التي تستند إليها عمارة المدينة. راجع، العيّادي (سالم)، المرجع السابق، الهامش(2)، ص156.

[68] المصدر نفسه.

[69] كتاب الملّة، ص 60.

[70] المسكيني (فتحي)، فلسفة النوابت، ص76-77.

[71] المرجع نفسه، ص75. لمزيد التوسّع في نظرية التعقل عند الفارابي، راجع دراسة لنا بعنوان: نظرية العقل والتّعقّل عند الفارابي، مجلّة دراسات في الإنسانيّات، العدد الرّابع، المعهد العالي للدراسات التطبيقيّة في الإنسانيّات، قفصة – تونس، 2019، ص 32 -49.

[72] المسكيني (فتحي)، مبحث الإتيقا في فلسفة الفارابي، في دراسات حول الفارابي، مرجع سابق، ص177.

[73] الفارابي، فصول منتزعة، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه د.فوزي متري نجّار، دار المشرق، بيروت –لبنان، 1971، ص57. إنّ مفهوم التعقّل بما هو جودة الرويّة، والفارابي كثيرا ما يرادف بينهما، سواء في رسالة في العقل، ص10. أو في فصول منتزعة، ص55-57.

[74] عبد الكريم جعفر (مولاي أحمد مولاي)، أخلاق التعقّل في فلسفة الفارابي وراهنيتها في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، مجلّة تبيّن، العدد22، المجلد السادس، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة _ قطر، خريف2017، ص47.

[75] الفارابي، رسالة في العقل، حققه وقدّم له وعلّق عليه، فوزي متري النجّار، دار المشرق، بيروت – لبنان، 1983، ص5.

[76] الفارابي، فصول منتزعة، ص62.

[77] المسكيني (فتحي)، فلسفة النوابت، ص67 -77.

[78] المسكيني (فتحي)، مبحث الإتيقا في فلسفة الفارابي، في دراسات حول الفارابي، المرجع السابق، ص177.

[79] بنعبد العالي (عبد السلام)، الفلسفة السياسيّة عند الفارابي، دار الطليعة، بيروت – لبنان، ط 4، 1997 ص 87.

[80] المصدر نفسه، ص 103.

[81] الفارابي، السياسة المدنيّة، ص 80-81.

[82] الفارابي، عيون المسائل، نشرة ديتريشي، لايدن، 1890، ص 30.

[83] الفارابي، كتاب التعليقات، طبعة حيدر اباد، الهند 1346 هـ، ص 43.

[84] الفارابي، السياسة المدنيّة، ص 37.

[85] الفارابي، اراء اهل المدينة الفاضلة ص 84-85

[86] الفارابي، التعليقات، ص 43، السياسة المدنية، ص 85-86.

[87] الفارابي، اراء أهل المدينة الفاضلة، ص 106.

[88] الفارابي، السياسة المدنية، ص 33 -60-62.

[89] المصدر نفسه.

[90] الفارابي، السياسة المدنية، ص 33.

[91] الفارابي، الحروف، ص 67.

[92] المصدر نفسه، ص 67.

[93] أفلاطون، الجمهورية، ترجمة ودراسة: د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1974، مقدّمة المترجم، ص 96.

[94] محجوب (محمّد)، المدينة والخيال دراسات فارابيّة، ص27.

[95] فرحات (مصطفى كمال)، التّأسيس الأنطولوجيّ للتواجد المدنيّ الاختلافي لدى الفارابي، في كتابه: قول الممكن فلسفيّا من الضّروراويّة النّدرويّة إلى الممكنيّة الجوديّة، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، الطبعة الأولى، 2016، ص 124، 135.  الدراسة المذكورة لأستاذي الجليل، صدرت أيضا بمجلّة آداب القيروان، العدد الثّاني، أكتوبر، 1997، ص 41 – 70.

[96] فرحات (مصطفى كمال)، التّأسيس الأنطولوجي للتواجد المدنيّ الاختلافي لدى الفارابي، ص 128.

[97] المرجع نفسه، ص 136. ” إنّ الآليّة المعرفيّة الرئيسيّة التي اعتمدها المعلّم الثّاني في بناء نسقه الفلسفي برمته، ألا وهي آليّة “التناسب” أو “المماثلة” بين الأكوان الثلاثة أو العوالم الثلاثة: الكبير (وهو عالم الطبيعة بأشمل المعانيّ) والمتوسّط (وهو المدينة) والصغير (وهو الإنسان الفرد) (ماكروكوسم، ميزوكوسم، ميكروكوسم)، وبالتّالي بين كلّ العلوم الإلاهيّة وعلوم الوجود العامّ، توظيفا نسقيّا لمفهوم “أنالوجيا الكينونة” المشّائي المدرساني أساسا من هنا المحوريّة البردغميّة لآليّة المماثلة الأنطولوجيّة لدى الفارابي. وبدون الأخذ مأخذ الجدّ بهذه المحوريّة البردغميّة، فإنّ الدستور الإبستمولوجي لعلم الوجود المدنيّ مثلا، سيظل ملتبسا لا محالة، المرجع نفسه، ص126.

[98] مصباح (صالح)، الفيلسوف ومدينة – الملّة حول التلخيص الرشدي لسياسة أفلاطون، المجلّة التونسيّة للدّراسات الفلسفيّة، العدد 19، السنة الثالثة عشرة، تونس، 1998، ص 21. لتبيّن التلقي الفارابي للفلسفة الخلقيّة عند المعلّم الأوّل، أنظر:

فخري (ماجد)، فلسفة الفارابي الخلقيّة وصلتها بالأخلاق النيقوماخيّة، مجلّة الأبحاث، I، المجلّد: XXXVIII، إصدار كليّة الآداب والعلوم، الجامعة الأمريكيّة، بيروت، السنة 38، 1990، ص 41-62.

 تتقدّم الفارابيّة هنا، بما هي توجه داخل تاريخ الفلسفة يستهدف وصل قطاعي النظر والعمل عند الإنسان، باعتبارها “إنسيّة أخلاقيّة”. وهذا صريح عند الفارابي نفسه، فعلى إثر تقسيمه الصنائع صنفين: ما يختص بتحصيل الجميل وما يختص بتحصيل النّافع”. راجع، الطّاهري (العربي)، إشكاليّة السّعادة عند الفارابي ومسكويه، بحث في العلاقة بين الأخلاق والسياسة في الفلسفة العربيّة، بحث لنيل شهادة الدّكتوراه في الفلسفة، إشراف د. فتحي التريكي، جامعة تونس، 2007 – 2008، ص186.

[99] العيّادي (سالم)، مدخل إلى الفلسفة السياسيّة عند المعلّم الثّاني أبي نصر الفارابي، ص 26.

[100] المسكيني (فتحي)، فلسفة النوابت، ص 70 – 72.

[101] الفارابي، كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين، تقديم وتحقيق، د. ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت – لبنان، الطبعة الرّابعة، 1968، ص80.

[102] الحلواني (محمّد علي)، والتريكي (فتحي)، مقاربات حول تاريخ العلوم العربيّة، ص33.

[103] المسكيني (فتحي)، مبحث “الإتيقا” في فلسفة الفارابي، ص180.