مجلة حكمة
الطباعة في المغرب

الطباعة في المغرب وبداياتها: قراءة في كتاب (مملكة الكتاب: تاريخ الطباعة في المغرب) لفوزي عبد الرزاق، ترجمة: خالد بن الصغير، تقديم: مبارك الشنتوفي

مملكة الكتاب الطباعة في المغرب (1) (1) (1) (1) (1)
حوار مع خالد الصغير حول كتاب (مملكة الكتاب: تاريخ الطباعة في المغرب) من مجلة (آفاق الثقافة والتراث)

أول ارتسام يتشكل لدى القارئ وهو ينتهي من قراءة “مملكة الكتاب: تاريخ الطباعة في المغرب” من تأليف فوزي عبد الرزاق المقيم بجامعة هارفارد ومن ترجمة خالد بن الصغير، هو أن هذا الكتاب، الغني بشتى المعطيات حول صناعة الكتاب بالمغرب والمتضمن لتفاصيل من النظام الثقافي السائد خلال الفترة المدروسة (1865-1912) يصعب اختزاله في صفحة أو صفحتين. كل ما يمكن القيام به هو تجوال عبر فصوله التسعة. وقبل كل شيء، فالكتاب لا يخلو من فائدة، ويفتح آفاقا أمام المشتغلين في مجالي علم الاجتماع الثقافي والتاريخ الثقافي.

مما لا شك فيه أن تطور شعب من الشعوب يقاس، من ضمن ما يقاس به، بمدى إحرازه على تقدم تقنولوجي في عدة ميادين. ولعل صناعة الكتاب وما يرتبط بها من إنتاج فكري وأدبي وتسويق وأرباح مؤشر دال على نماء بلد أو تخلفه عن المسار الحضاري الكوني. ففي الوقت الذي كانت فيه أوربا قد قطعت أشواطا في ميدان الطباعة والنشر منذ اختراع غوتنبرغ في أربعينات القرن الخامس عشر، وأضحى تداول المطبوعات داخل أوسع فئات المجتمع الأوروبية شيئا مألوفا(*)، نلاحظ أن المغرب لم يعرف آلة الطباعة إلا في غضون سنة 1864، وبالضبط حين أقدم فقيه سوسي، وهو محمد بن الطيب الروداني على جلب آلة للطباعة مرفوقا بخبير مصري عرف باسم القباني.

قد يكون هذا التأخر في اقتناء آلات للطباعة وتشغيلها مرتبطا بموقف علماء المغرب المالكي المذهب من المستجدات التقنية الغربية كما أنه قد يفسر بغياب الحاجة الملحة إلى الخدمات التي تقدمها تقنولوجية الطباعة، هذا مع العلم أن الدعوة إلى تبني هذه الأخيرة وردت، وإن بشكل محتشم، عند بعض رجالات المخزن وخاصة عند الوزير إدريس العمراني في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان وفي رحلة الصفار.

ومن الثابت أنه قبل سنة 1964 كانت النساخة كنمط لإنتاج الكتاب، مهنة محتكرة من طرف أفراد ينتمون إلى المخزن والزوايا وبعض الأسر العريقة، وكانت تشكل وسيلة للارتقاء في السلم الاجتماعي والاستئثار بالوظائف المخزنية. وبعض المخطوطات والمنسوخات التي توافرت قبل إدخال آلة الطباعة تبين أن مجمل المواضيع التي تم تداولها آنذاك همت الحديث والفقه والتصوف وأصنافا من علوم الشريعة كما أن النظام التعليمي القائم لم يكن ليختلف، ولو بشكل ضئيل، عن نمط التمدرس الذي ساد في العصر الوسيط المغربي. ويبدو أن “مختصر” الشيخ خليل وما رافقه من حواشي وشروحات ومنظومات شعرية ونصوص صوفية وأوراد شكل العمود الفقري في ثقافة العلماء والطلبة وبعض الحرفيين والتجار.

يتجلى، إذن، أن المغرب لم يدرك، باكرا، كل المنافع الممكن استخلاصها من تبني تقنولوجية الطباعة. وعلى عكس ذلك، كانت الإمبراطورية العثمانية سباقة، داخل العالم الإسلامي، إلى تبني الطباعة بعد أن تم الحصول على فتاوي العلماء بإجازة إدخالها إلى أرضها. ولقد كان للأفكار الإصلاحية لحاجي خليفة المشهور باسم كتاب جلبي دور في الالتفات إلى أهمية الطباعة. وازدادت الرغبة في جلب هذه الأخيرة من بلاد الغرب في العشرينات من القرن الثامن عشر في أعقاب السفارة التي أرسلها إبراهيم باشا، الصدر الأعظم، إلى لويس الخامس عشر. لكن الطباعة لم تحظ بالقبول التام إلا مع حلول القرن التاسع عشر. ويعتبر العالم العثماني المستعرب محمد حقي من الأوائل الذين أبرزوا فضائل الطباعة ومزاياها. ومن قبله، استطاع إبراهيم متفرقة، وكان يدين سابقا بدين المسيحية، أن يقنع العلماء والسلطان العثماني بأهمية التقنولوجية للطباعة، وألف في هذا الشأن رسالة مشهورة تحت عنوان “وسيلة الطباعة”.

فيما يتصل بالمغرب، ربما تعود بداية الطباعة إلى السنوات الأولى من القرن السادس عشر حينما أقدم يهودي مغربي، وهو صمويل إسحاق، مع والده، على إنشاء دار عبرية للطباعة بفاس. لكن ما هو مؤكد، كما سبق ذكر ذلك، هو أن الفقيه السوسي محمد بن الطيب الروداني، أول من استجلب آلة الطباعة. إلا أن المخزن سيصادر هذه الآلة ويوجهها إلى مكناس قبل أن يستقر بها المطاف بفاس. وبهذه المدينة، سيشرف الخبير المصري -القباني- على تدريب مغاربة وتمرينهم على تقنيات الطباعة. واشتهر من هؤلاء المتدربين الطيب الأزرق ومحمد الهفروكي المراكشي. ولقد تسنى للبعض منهم إتقان هذا الفن. وبرز من ضمنهم عبد القادر الشفشاوني الذي أرسله السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان لمصر لمعاينة مؤسسة الطباعة التابعة للحكومة المصرية.

فيما بين سنة 1865 وسنة 1871 أمكن للمغرب إصدار ستة عناوين بمعدل 300 نسخة من كل عنوان. ويبدو أن المخزن تنبه باكرا إلى أهمية هذه الآلة المجلوبة، فلم يتوان عن الاعتناء بتنظيم تسييرها وضبط منتوجاتها. وقد وظف المخزن الإمكانيات التي تتيحها الطباعة في مجال الدعاية. فالسلطان مولاي الحسن، على سبيل المثال، أمر بطبع كتاب “إتحاف السادة المتقين” وتوزيع نسخ منه بالمجان على علماء المسلمين في كل من القاهرة ومكة والمدينة وإستنبول. وبهدف تقنين وتنظيم الطباعة، أصدر مولاي عبد العزيز ظهيرا لسنة 1897 تضمن، بالأساس، تفعيل الرقابة على المطبوعات الحجرية. ومن جانبه أولى السلطان مولاي عبد الحفيظ عناية فائقة لتقنولوجية الطباعة تماشيا مع طموحاته الإصلاحية، “ويبدو، يلاحظ فوزي عبد الرزاق، أنه حقق مشروعين في ميدان الطباعة الحجرية في زنقة جزاء برقوقة (…) بالإضافة إلى دار للطباعة التيبوغرافية كان مقرها القصر السلطاني”.

وإن كان المخزن لم يتردد في تشجيع حركة الطباعة بالمغرب، مع مراقبتها طبعا، والسعى إلى توظيف مزاياها، فالعلماء أنفسهم -باستثناء واحد منهم وهو محمد السباعي الذي حذر، في رسالة مشهورة، من الكتب المطبوعة- انخرطوا في سيرورة إنتاج الكتاب فخلال الفترة الممتدة ما بين 1865 و 1912، ساهم هؤلاء العلماء في تنشيط إنتاج الكتاب بالتأليف والتصحيح والنشر. وكان من أكثر المؤلفين شهرة وقتئذ علماء أمثال أحمد البلغيثي، وأحمد السكيرج، وعبد الله بن خضرا وأحمد أكنسوس وأحمد الناصري وكنون وماء العينين. وتعتبر حياة هذا الأخير ونشاطاتها المتعددة نموذجا دالا على التحولات التي طرأت على علاقة العلماء بالطباعة، ذلك أن جزءا هاما من الكتب التي طبعت في المغرب ما بين سنة 1891 وسنة 1900 كانت من مؤلفاته. ويبدو أن للوزير أحمد بن موسى دورا كبيرا في ذلك.

ومن الأهمية بمكان الإقرار أن إدخال آلة الطباعة والتوافق حول مزاياها شجع العلماء على الخوض في قضايا كانت غير حاضرة بقوة في انشغالاتهم من قبل. فأمام التحولات السياسية والدولية التي أخذت تهدد الكيان التقليدي للمغرب، برزت أدبيات سياسة تدعو المغاربة إلى مواجهة الزحف الأوروبي. ويعد كتاب محمد جعفر الكتاني “نصيحة أهل الإسلام” من أهم هذه الأدبيات التي حثت رجالات المخزن على استعادة هيبة المغرب ومجابهة التهديدات الخارجية.

ومثلت أدبيات الإصلاح ولا سيما في العشرية الأولى من القرن العشرين منحى جديدا في المنظومة الفكرية-الثقافية عند بعض العلماء المتنورين. وفي هذا السياق ندرك إرهاصات القطيعة مع النمط التقليدي في تدبير أحوال المغاربة. ولنا في نموذج أحمد بن محمد السلاوي الصبيحي أحسن دليل على ذلك. فبإصداره رسالته الموجهة إلى أهل المغرب الأقصى والمعنونة بـ”أصول أسباب الرقي الحقيقي“، سعى الصبيحي إلى إبراز الخطوط العامة لإصلاح قوامه تحديث النظام التعليمي واقتباس النظريات والأساليب الجديدة من الفضاء الحضاري الأوروبي.

إن اعتناء المخزن ورجالاته بآلة الطباعة، وعيا منه بكل ما قد تقدمه من منافع، وإقدام العلماء على نشر منتوجاتهم الفكرية أثّرا بشكل من الأشكال، في قيام سوق للكتاب لتلبية حاجيات الطلبة وبعض التجار الكبار وزعماء الزوايا وبعض الأسر الشريفة. ولعل أبرز تحول عرفته صناعة الكتاب، هو تعاطي بعض الأفراد لهذه المهنة لما تذره من أرباح. وفي هذا الإطار، يذكر فوزي عبد الرزاق أنه كان في المغرب، خلال العقود الممتدة ما بين ستينات القرن التاسع عشر وعشرينات القرن العشرين، حوالي تسعة طابع ما بين مغاربة وأجانب وكذا حوالي عشرين فردا اهتموا بميدان النشر.

ويعتبر الطيب الأزرق من رواد الطباعة بالمغرب بعد رحيل الخبير المصري سنة 1871، وأمكن له ولوج مغامرة الطباعة بعد أن وجد في تاجر فاسي -الحسين الدباغ- شريكا ماليا. ولعل ما شجع الطيب الأزرق في مهنته هو حصوله على تجديد السلطان الحسن الأول لظهير التوقير والاحترام لفائدته. ومما امتاز به هذا الطابع عن معاصريه إدخاله لتقنيات جديدة لصناعة الكتاب وسعيه إلى تخفيض تكاليف الإنتاج بهدف توسيع رقعة القراءة. واستطاع هذا الطابع إصدار سبعة وعشرين عملا. ولأول مرة في تاريخ المغرب، أقدم الطيب الأزرق على طبع القرآن في سنة 1879، دون أن يثير ذلك حفيظة الأوساط الدينية داخل البلاد. ولقد تمكن أخوه، وهو العربي الأزرق، من أن يجعل من نفسه أكبر طابع على الإطلاق في تلك الفترة، حيث أصدر أزيد من مائة عنوان أو أكثر من بين سنة 1876 و 1914.

ومن الأجانب الذين ساهموا بقسط وافر في عملية الطبع والنشر، سورى يدعى أحمد يمني الذي ما زال الغموض يلف شخصه. ومن الاحتمالات التي يوردها فوزي عبد الرزاق في شأنه، هو أن يكون أحمد يمني مبعوثا من العثمانيين إلى فاس قصد الدعاية للجامعة العربية والتأثير على التوجهات السياسية للبلاد، مستعينا في ذلك بالعناصر المغربية المتعاطفة مع الإمبراطورية العثمانية، ومن بينها أفراد الأسرة الكتانية الذين أثروا الثقافة المغربية بالكتابة والتنظير أمثال محمد وعبد الحي وابن عمومتهم محمد بن جعفر.

وقبل الانتهاء من هذا العرض الذي توخى تقديم نتف وشذرات مما يزخر به مؤلف، هو في الأصل موضوع الأطروحة التي أنجزها فوزي عبد الرزاق بجامعة هارفارد، يكون من المناسب التأكيد، حسب ما سجله كملاحظة خالد بن الصغير في مقدمته، أنه لحد الآن لا توجد بالمغرب مؤسسة تضم ” ضمن محتويات مكتباتها المجموعة الكاملة للمطبوعات الحجرية المغربية التي نشرت ما بين 1865 و 1912، بالمطبعة الفاسية (…) هذا مع العلم أن أكبر مجموعة لهذه المطبوعات ليست موجودة في فاس (…) ولا في أي من المدن المغربية العتيقة، بل هي موجودة اليوم بخزانة جامعة هارفارد الأمريكية”.

مجلة الجابري – العدد الخامس


(*) من المؤرخين الذين اشتغلوا على الكتاب في الفضاء الحضاري الأوروبي من حيث إنتاجه وتسويقه ومقروئيته، نذكر المؤرخ الأمريكي روبير دارنتون Robert Darnton ومن أهم مؤلفاته aventure de l’encyclopédie’L . كما اعتنى المؤرخ الفرنسي روجي شارتيي Roger Chartier بالمطبوعات التي صدرت في القرنين السابع والثامن عشر.