مجلة حكمة
أسئلة الوجود و الشعر

الشعر وأسئلة الوجود – عبد العزيز بومسهولي


“العالم كله حي ناطق من جهة الكشف بخرق العادة التي الناس عليها”

(ابن عربي)

“الشعر تجاوز للواقع العيني، فهو ليس حقيقة كاملة، سوى ضمن

عالم مغاير وأخروي”

(بودلير)

“أما اليقين فلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا”

(المعري)

“الوجود سؤال، لكنه ليس من الموجود في شيء”

(هيدغر)

تقـديـم:

الشعر والوجود، يشكلان بؤرة رؤيوية تأويلية تعددية تدرك الكينونة بوصفها انفتاحا للموجود، ولذا فما فتئ هيدغر باعتباره باحثا أصيلا في العلاقة التواشجية بين الشعر والوجود، يؤكد “على أن الإنسان لا يستطيع معرفة ما لا يمكن حسابه، أي أن يصونه في حقيقته، إلا انطلاقا من مساءلة خلاقة وقوية تستمد من فضيلة تأمل أصيل، فهذا الأخير يحمل إنسان المستقبل إلى مكانه بين الإثنين: الوجود والموجود، حيث يكون من طبيعة الوجود، والحالة هذه، أن يظل غريبا في قلب الموجود، وهذا المكان هو الكينونة هنا أو الوجود في العالم (الدازين) باعتباره مجالا لدنيا لانفتاح الوجود ولانسجامه واحتجابه في آن معا”. وهنا يشير هيدغر إلى هولدرلن بوصفه شاعرا يعرف شيئا بخصوص هذا الموضوع.

ونحن هنا تمشيا مع هذا التصور الفلسفي، لا يمكن أن نعتبر الشعر إلا كإشارة للانفتاح الكوني، إشارة للتجوهر الإنساني في العالم، كوجود تأصيلي في الهنا والآن. أن الشعر بقدر ما يبعث التسمية، ويكشف نداءات التكينن بوضع الأشياء منتصبة أمام الرؤية، فتتخذ بعد التمظهر في فضاء التجلي والبينونة، فإنه يخلق ما به يصير الوجود اختفاء باعتباره فعلا للتيه. والتيه “هو مجال فعل ذلك الاضطراب الذي ينسى الإنسان فيه الانفتاح المنغلق”.

إذن فالشعر في جوهره تيه، بقدر ما هو مشروع لا مكتمل لا يتحدد بهدف غائي، تتوقف عنده حركة الشعرية، ومن ثم فهو ضد الحقيقة التي تظهر كموجود يمارس إكراهاته على الكائن الجوهراني الشعري، إن اللاحقيقة في الشعر هي الوجود الأصلاني المنفتح، أو التجلي الأكثر تميزا في تعدديته. فهو دليل الحيوية الناطقة التي تعري إمكانات العالم التخييلية، التي تحدس بالظن، بقدرات الكائن الشعري التنبؤية. والشعر في إحدى إمكاناته واختياراته الكبرى مساءلة حيوية للوجود. فكيف تتحدد هذه المساءلة؟ أو بالأحرى كيف يثير الشعر أسئلة الوجود التي يعيد من خلالها كشف التوتر الحيوي للوجود الناطق؟ وكيف يعبر نحو الاستنارة المبددة للعتمة؟ هذا ما سنحاول ملامسته في هذا البحث النظري الذي ينحو منحى إبستمولوجيا تأويليا تعدديا يفهم الشعر باعتباره ممارسة كاشفة تعيد قراءة الوجود.

1 – الشعر وسؤال العقل:

أ – إذا كانت وظيفة العقل كما حددتها الفلسفات المتعددة تتمثل إلى حد ما في تخليص الإنسان من التشيؤ، وتحريره من قيود التناهي الحسي، ومن البعد الجزئي للظاهرة، الملموسة، وذلك بوضع الوجود الحسي الملموس موضع التساؤل والشك، ومن ثم يحدث التغيير الذي يمليه تفكير العقل، وهو تغيير في الأغوار الأكثر عتامة وولوج الاستضاءة والإنارة، إذا كان الأمر كذلك حسب هذه الفرضية، فأين تتمثل وظيفة الشعر الجوهرية؟ إن الشعر – وهو يلامس الحكمة كالعقل – يخلص الإنسان بدوره من التشيؤ الملموس، لكنه يتجاوز العقل في تحرير الكائن من التناهي المعقول، ومن سيطرة العقل على الوعي الباطن، وعي إنتاج التخييل الكثيف، ويحد من سلطته في قمع نوازع التحرر الذاتي، محفزا إرادة الإبداع على الخلق الذي ينحرف عن المثال والنموذج والنظام. وهو بذلك يكشف في الظاهرة المعقولة عن جانبها الأكثر إعتاما، داعيا في الآن ذاته إلى وجود لا متناه يحمل سيمياء التعددية التخييلية حيث الأشياء تكشف عن ذاتها بالخروج عن دائرة المألوف المعقول، وهو ما يعني تخلص من ما يسميه فلاسفة النظرية النقدية – العقل الأداتي أو العقلانية التقنية – ذات البعد الوحيد حسب تعبير هربرت ماركوز.

وهذا ما دفع أدورنو وهو رائد للمدرسة النقدية لفرنكفورت إلى الالتماس في الشعر منطقة نجاة من التناهي العقلي، ومن تسلط الذات العاقلة على الطبيعة، ليتحقق الوعد بالسعادة والحقيقة الذاتية غير المزيفة، تلك الحقيقة الأصيلة التي تعبر عن جوهر الكينونة، فلابد للشاعر حسب أدورنو من أن يكتب وهو ممتلئ بالواقع التاريخي، وأن يتحسس الصوت الذي يتراوح فيه العذاب والحلم الذي يضعه نصب عينه، ولابد أن يغوص في ذاتيته الفردية ليتمكن من تجاوز هذه الذاتية، ويشارك مشاركة موضوعية في لغة المجموع وفيما هو إنساني ولم يتشوه بعد، ولا يتم ذلك إلا بالتعبير الأصيل عن الواقع الاجتماعي الممزق، وهو واقع متطرف في العقلانية الفاسدة التي لا يتم درؤها إلا بتطرف – بواسطة الفن – في اللاعقلانية والإمعان في التجريد، والبعد عن الطبيعة للاقتراب من الطبيعة(1).

وهذا ما يعني تجاوزا للعقل الذي يقف عند حدود تفسير العالم، وتفعيلا لفاعلية الشعر باعتبارها اختيارا ثوريا – بالمعنى الإبداعي – يهدف إلى تغيير العالم، تغييرا جوهريا يكشف طاقات الوجود الكامنة.

ب – إن القاسم المشترك بين الشعر والعقل هو محبة الحكمة، ولكن الاختلاف بينهما يكمن في منهج القراءة الحكيمة. فالعقل يدرك الحكمة من زاوية السلطة، بسيطرته على الحواس، والوعي الباطن، والطبيعة، واعتباره الواقع انعكاسا للعقل/اللوغوس، فنظام الكون يجري على نسق العقل إلى درجة أن هيجل في مثاليته المطلقة يعتبر أن ” كلّ ما هو واقعي، فهو عقلي، وكل ما هو عقلي فهو واقعي” فنحن إذن إزاء تأويل عقلي للوجود. لكنه تأويل تماثلي يقوم على أساس تقني سيمتري.

أما الشعر فهو ينحو منحى تأويليا فائضا، فحب الحكمة ليس إلا قراءة لا متناهية لوجود لا متناه، ومن ثم يغدو فهم العالم سبيلا لتجريب كينونة المتخيل، هذا التجريب الذي يبدأ من تكسير حدود الواقع الحسي والواقع المعقول أيضا ليلج اختبار الاستحالة. وكما يرى جورج باتاي، فالإمكانية العقلية ليست هي البعد الوحيد لوجودنا، فقد يتاح لنا أن نعيش كل حدث يخصنا في علاقة مزدوجة، مرة نعيشه كشيء نفهمه، ندركه، نتحمله، ونسيطر عليه بربطه في النهاية بقيمة الوحدة، مرة أخرى نعيشه كشيء يخفى عن كل استعمال، وعن كل غاية بل يفلت من قدرتنا على تجربته، لكننا لا نستطيع نحن أن نفلت من تجرته. كما لو أن الاستحالة – تلك التي فيها لا يعود بإمكاننا أن نتمكن منها – كانت تنتظرنا وراء كل ما نعيشه ونفكر فيه ونقوله”(2).

فالشعر حسب هذا المنظور هيرمينوطيقا تتأول العالم باعتباره انكشافا للتجربة/الحد كما يسميها موريس بلانشو حيث تتجاوز هذه التجربة/الحد المتعذر بلوغه، وهي تتاح للإنسان عندما لا تعود القدرة فيه هي البعد الوحيد الأخير(3). إن التجربة هنا انفتاح مشرع على اللامحتمل، على فائض الشيء، وإن شئنا على اللاشيء ذاته، وعلى محاولة جوهرته. وهو ما يعني اقترابا وتماسا بالتجربة الصوفية، تلك التي تحرر الأنا من قيود التناهي الحسي والعقلي، وتدفع بها تجاه مغامرة الوجود ذات الأبعاد اللامتناهية، المفتوحة على احتمالات تختبر طاقات الخلق الكامنة، وهي طاقات الهوس بإزاحة المواضعات، بل نفيها، واستبدالها بالمفارقات التي تكشف التعارضات الجوهرية التي تشكل لعبة التوتر الحيوية، حيث يلعب الكائن في العالم دوره في الخرق الجوهري لأبنية العالم، والكشف عن إضاءات الكينونة.

إذن فالشعر من هذا المنظور تحفيز دائم على المشاكسة المؤزمة لنسق العقل [الأداتي ]، وهي مشاكسة ومكاشفة في آن واحد، فالمكاشفة تجل للمفارقة الحيوية، والمشاكسة تجل آخر للاختراق والخلخلة وتأزيمها للعقل يتم باغتصاب قانون اللغة وتدمير قواعد التواصل اللساني، ومن ثم لا تصبح الكلمات دالة على العالم الوضعي، ولكنها تغدو دالة على الأشياء ذاتها، وهي في كامل عريها ووحشيتها، وهو عري إغراء ولذة، وانكشاف وافتضاض، وهذا ما سبق أن عبر عنه أبو تمام، واصفا إحدى قصائده:

إنسية وحشية كثرت بها

حركات أهل الأرض وهي سكون

ويقول أيضا:

والشعر فرج ليست خصيصته

طول الليالي إلا لمفترعه(4).

وهو افتراع لعذرية الوجود، تحقيقا لانتعاش الكائن في العالم الذي يصبو للإقامة الجوهرية.

2 – الشعر ونزعة الظن والمساءلة:

أ – يقول هير قليطس: “إن على الذين يحبون الحكمة أن يتساءلوا عن أشياء عديدة في الحقيقة”(5)، وهي مساءلة تتوخى إحداث الدهشة التي تغمر الكينونة لحظة كشفها لتعارضات العالم ومفارقاته التي لا نهاية لها، والمساءلة تنزع غطاء الزيف عن هذا العالم الذي يدعى التلاؤم والانسجام، وينخرط في تأكيد الدوغما المبشرة بالحقيقة الوحيدة، النافية للتعدد، والاختلاف.

والشعر حين يخوض غمار المساءلة، فإنه يتوخى توليد الرؤى الاستبصارية والاستشرافية، بدءا من تفجير لغة الكائن الإنساني المهووس بالاستكشاف وبالنزعة التشكيكية التي تتخطى نزعة ديكارت العقلانية التي لا تعترف بالوجود إلا لما يتخطى مرحلة الشك، بمعنى أن الوجود مرتبط بالتفكير، لأن الكائن – في الكوجيطو – هو نتيجة عملية التفكير.

أما النزعة الريبية – في الشعر – فهي لا تبحث تجاوز الشك وصولا إلى يقين، بل على خلاف ذلك فإنها تهشيم لليقين وتكسير لحواجزه المألوفة، بهدف تأسيس مشروع إقامة جوهرية بالظن الشامل، الظن الكلي، حيث تقصى المعرفة الوثوقية، لصالح شكية مخلخلة ومنتجة في الآن ذاته، مخلخلة لنظام المعلوم، ومنتجة لأبجدية شعرية تقرأ المجاهيل اللابثة في الغور، في المسكوت عنه، في اللاوعي الباطني للكينونة، في اللغة البدائية، وفي أبنية الأسطورة وعالم الخيال.

كما أن هذه النزعة الظنية لا تنطلق من الذات كأنا مستقلة مفكرة، لإثبات تمركزها كموجود أنوي محوري في العالم كما يرى ديكارت، ولكنها على عكس ذلك، تتخذ من الأنا مجالا امتداديا، تتقاطع فيه الآنات، أي وجودا تتداخل فيه الذوات بوصفها آخرية، إنها خطابات التعدد الكينوني، وهنا يظهر النزوع الظني في خلقه لبؤرة يتماهى فيها صوت الأنا بالآخر، فتضحى الذات هي ذلك الهو الغائب، أو ذلك الأنت المخاطب/الحاضر. وهنا يكشف الشعر بشكيته هذه، مغامرة اختراق المجهول، الذي يختزن بوصفه فضاء مخزونا تعدد الأصوات، وتداخل أنسجة الخطاب، وهو ما يعني تأصيلا إبداعيا لجوهر التناص باعتباره سمة جوهرية لهذا التداخل ضمن التشكيلة الخطابية. من هذا المنطلق فالشعرية الأصيلة محاولة دائبة لإعادة إنتاج أصوات الوجود، إنها نداء ينشد الخلود، بوصفه بعثا متجددا للخلق المندمج في الصيرورة،صيرورة العود الأبدي.

ب – وبما أن الشعرية هي نداء التجدد، فإنها من جهة أخرى تمارس فعل سلب الواقع، وتتجاوز مما ثلته، بتفعيلها لحركية الانزياح، وهو انزياح لا يتجلى في خرق الشعر لقانون اللغة فحسب، فهو يتعدى المحور الاستبدالي – حيث تتموضع علامات لغوية في مواقع علامات أخرى منحرفة بذلك عن أمكنتها الرئيسية، كما هو الشأن في استعارة المماثلة أو المشابهة – ليصل إلى مرحلة أخرى لا يكتفي فيها بتكسير عمود الشعر القائم على المشابهة/المماثلة، بل يقوم بإنتاج أبنية خطابية تؤسس لشعرية الاختلاف واللامشابهة، لشعرية التعدد الجوهري، حيث الاستعارة لا تغدو علامة نموذجية مثلية لحذلقات الخطاب، بل مشروعا تثويريا تشابكيا مولدا لرمزية عميقة تستمد كثافتها التعبيرية في القطيعة، أي في تلك الهوة الفاصلة بين الدال المستعار له، والدال المجاور له (المستعار منه)، وهو ما يعني إنتاج التوتر الصيروري في الشعر، توتر قائم على لعبة صراع الدوال المشكلة للصورة الشعرية. وهي لعبة تكشف جوهر الصدام بين الرؤية – الوثبة التي تهدف إلى التخطي، وبين الواقع الأرضي واقع الانحجاب، وحسب بول ريكور فإن هذا التوتر الناتج عن ديناميكية رؤيوية، تتمثل خاصة في الخطاب الاستعاري الشعري، يؤدي إلى كشف علاقته بالواقع عبر ثلاث مستويات:

– أولها يتصل بالتوتر الماثل بين عناصر الخطاب ذاتها.

– وثانيها يتعلق بالتوتر بين التأويل الحرفي، والتأويل الاستعاري من قبل المتلقي،

– وثالثها يرتبط بتوتر الإشارة، بين أن يكون المستعار له هو نفس المستعار ولا يكون في الوقت ذاته. وإذا كان من الصحيح أن الدلالة حتى في أبسط صيغها الأولية، إنما تبحث عن نفسها في الاتجاه المزدوج للمعنى والإشارة، أي في العلاقة مع اللغة، حيث يوجد المعنى والعالم الذي تتجه نحوه الإشارة. فإن الخطاب الاستعاري هو الذي يحمل هذه الديناميكية إلى ذروتها(6).

وقد تصل هذه الفاعلية الديناميكية، باعتبارها لعبة توترات حيوية تكشف جوهر الوجود إلى امتصاص التناقضات حسب شيلنج، الذي يرى “بأن القدرة الشعرية كفيلة بالتفكير فيما هو متناقض، والعمل على مزجه وتوحيده، ومن ثم فإن الفن مزج مطلق أو تأويل متبادل للحرية والضرورة. فالضرورة والحرية مرتبطان، كما يرتبط الشعور واللاشعور. فالفن إذن يعتمد على ما يسمى بتماهي الأنشطة”(7).

والتماهي الشعري لا يعني هنا إلغاء لفاعلية الذات، بقدر ما هو تحفير دائب على استكشاف رؤيا الكائن في العالم الباحث عن تحقيق كينونته وإثبات قدرتها على استشراف الوجود، وآفاق المستقبل، والحدس بالنداءات الخفية للإنيّة التي تحتفظ برؤية تدرك الوجود باعتباره صيرورة تتولد من سلسلة من التأويلات عبرها، أي بجينالوجيا لا تؤمن بالماهيات الثابتة بقدر ما تصغي إلى اللغة بوصفها تتعدد وتتشتت، تكتشف الأولويات التي أعطيت لمعنى على آخر، وتقف على الاختلافات والفوارق المولدة للمعاني، وكما يرى نيتشه، فما يهم هو الكيفية التي تسمى بها الأشياء، لا معرفة ماهيتها، ولهذا لا بد من ربط معاني الواقع بالمنظورات والتطلعات التي تعطيها قيمة، على اعتبار هذه التطلعات إرادات قوة متفاضلة لذلك لا يسأل نيتشه عن مدلول قيمة لفظ، إنه يسأل عمن يصنع جمال الأشياء وحقيقتها(8).

إذن فالشعر سيظل ممارسة إنتاجية – قديمة/جديدة وكتشكل خطابي مفتوح على أبعاد الوجود، ولا يمكن أن ينسحب أو أن يتراجع عن وظيفته الأنطولوجية، التي بها تولد الطاقة الكامنة في الوجود الكفاءة المضمرة في الفعل. حيث التعبير الحي هو الذي يقول الوجود الحي حسب ريكور(9) أو الوجود المحدوس المظنون حسب المعري:

أما اليقين فلا يقين وإنما >><< أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

3 – الشعر ومساءلة المعرفة:

أ – هناك من يرى بأن الشعر يمكن أن يكون في حد ذاته وسيلة للمعرفة(10) فهو كشف واستجلاء لما هو منفلت فيما وراء العالم، أو مكبوت في اللاوعي، أو مقيم في الظل منزوٍٍ عن الضوء.

إن الشعر معرفة تبحث داخل الكهف، لتنير الإقامة الجوهرية في غوره. والكهف في النهاية يكتسب دلالة ترميزية فهو في نهاية التأويل مسكن الكائن الحقيقي في العالم. الموجود هنا والآن كما يرى هيدغر(11).

وحالة الكشف هذه تعبير عن إرادة معرفة تصبو نحو رؤيا العالم من أجل إدراك المستور، وتنوير العتمة، وإزالة الحجاب Dé-voilement المعيق للرؤيا.

فالعلاقة بين الشعر والمعرفة إذن – متداخلة إلى حد التماهي. هذا إذا أدركنا أن ما يوحدهما معا هو البحث السري عن المجهول. وهذا لا يعني أن دلالة المعرفة تطابق المعلوم، لأنها ليست معرفة وثوقية باحثة عمّا هو دوغمائي. فكما بينا سلفا فهي معرفة ظنية تهدف إلى خلخلة اليقين. تطرح المعروف لتحدس بالسر، وهو ما عبر عنه الشاعر الألماني “Achimvon Arnim (1781-1831) حيث قال:”الشعر هو معرفة الواقع السري للعالم”(12).

أما رامبو فقد اعتبر الشعر رؤيا استبصارية، تخول للشاعر أن يرتقي درجة العارف الأسمى لكونه يتوخى باستشرافه الوصول إلى المجهول(13).

أما نيرفال فيرى أن الشاعر “وحده” قادر على اجتياز العتبة التي تفصل الحياة الواقعية، عن حياة أخرى ما ورائية(14).

وذهب بودلير إلى اعتبار “الشعر تجاوزا للواقع العيني، فهو ليس حقيقة كاملة سوى ضمن عالم مغاير وأخروي”(15). ويقول جوزيف جوبير “إن الشاعر يعرف ما يجهله”(16). إذن فالشعر هو عملية إنتاجية، من أجل الذات ولأجل الآخر، لكن باتجاه ما لم يعرف بعد. هذا اللامعروف/المجهول، هو بالذات معرفة القصيدة.

فالشعر من هذا المنظور اختراق لبنية العالم المرئي، وللمعرفة الجاهزة، أي تلك التي تصنف في دائرة المعروف، لا المعرفة الاستشرافية أو الإشراقية التي هدفها تحقيق لذة المعرفة التي لا تنتهي فهي لا تكاد تحقق الإشباع اللذوي، حتى تبحث عن متعه أخرى وإشباع آخر، إنها أشبه بحالة الهوس الأيروتيكي الذي لا يقنع بما هو مألوف وعادي.

ومن جهة أخرى فالشعر في إشراقيته يتماس بالتصوف، من حيث كونهما يستهدفان تمزيق الحجاب، هذا العائق الإبستيمي الذي يحول دون رؤية أبعاد الكون الخلفية/الماورائية حيث هناك حيوات أخرى تتعدد ولا تتشابه، فتتجاوز لتكشف عن الجوهر الأصلاني للوجود، جوهر الصيرورة والتجدد الأبدي.

ومن ثم فالشعر هو حلول في الإضمار الكلي. بقصد فهم وإدراك البنى التأويلية للعالم، هذه البنى المنتجة للمعاني اللامتناهية التي يزخر بها الكون السردي هذا الذي يشكل مقصدية الشعر.

إن الشعر هنا هو فعل للوعي، كما يرى هوسرل، وهذا الوعي ليس عارفا ديكارتيا للمعرفة كما بينا سلفا، ولكنه تعامل حقيقي مع العالم الخارجي، أي أن الوعي فعل حيث تكون الذات قاصدة، ويكون الشيء مقصودا، ويكون كلاهما متضمنا بالتبادل، وحيث تكون الذات حقيقية ويكون الشيء حقيقيا أي صادرا حقا من الخارج(17).

ويضيف ميرلوبونتي إلى فعل القصدية فعلا آخر هو فعل الإيماء، فاللغة ليست علامة لأحد المعاني، ولكنها تجسيد وحلول للمعنى، ويكون التجسيد أكثر كثافة وغنى في اللغة الشعرية، لأن العناصر التصورية وغير التصورية فيها (المعنى الانفعالي) تلعب أدوارا تعمل على تقريب أهميتها في الحياة الشاملة للكائن الإنساني(18).

هذا التصور يستنتج من خلاله روبيرت ماجيولا استنتاجين هامين هما:

الأول: أن التجربة المتجسدة في اللغة الشعرية تمثل بشكل ما كل أحوال الوعي. فإذا كانت التجربة المتجسدة سمعية بشكل مبدئي مثلا تكون المشاركات الأخرى الانفعالية والإرادية والمعرفة والأحوال الأخرى في هذه التجربة السمعية مبدئيا متمثلة أيضا.

والثاني: أن التعبيرات الخاصة بالأحوال غير التصورية تتلقى تجسيدها الأساسي في التطابق الصوتي، والإيقاع، والقيم الصوتية الأخرى، في اللغة الرمزية، وكل الملامح الأسلوبية، وكذلك في كل ضروب الدلالة(19).

ب – وهنا نستحضر إذ نستحضر مفهوم القصد كفعل للوعي، فإن منطق التداعي يفرض علينا فحص مفهوم القصيدة، وإذا كنا في دراسة سابقة بينا عوائق هذا المفهوم المتمثل في فهم القصد بمعنى الغرض الشعري كما نحت الشعرية العمومية، وبالتالي حجبت الفهم العميق لمقصدية القصيدة(20)(20).

فإننا هنا نعيد قراءة الدال قصيدة باعتباره محيلا إلى فعل الوعي القصدي عند الشاعر، وبمعنى شامل فإننا نتجه نحو القصيدة بوصفها تجسيدا للاختيار الأساسي الجوهري للإنسان أي المشروع الأساسي للشخص بتعبير سارتر، ما يشفع لنا لغويا في هذه القراءة هو أن لفظ قصيدة ليس مشتقا من الشعر، ولكن من الجذر قصد، الذي يعني في إحدى معانيه الأساسية: التوجه نحو الشيء المقصود، أي عينه وقصده، إذن هناك فعل للوعي يقصد تأسيس وجود قصدي “شيء مقصود” هو الشعر، وقد فهم العرب قديما جوهر المقصدية حينما أطلقوا على شطري القصيدة بيتا (بيت الشعر) تقيم فيه وعبره رؤيا الكائن الشعري، تلك التي تعلن عن وعي كشف وإنارة السراديب السرية للعالم وعناصره المجهولة.

وعودتنا إلى هذا الفهم يتوخى تجديد المفهوم – متوسلين المنهج الظاهراتي/الهوسرلي – وتأصيل بعده الفلسفي في الآن ذاته. وما يهمنا هنا هو التحرر من الفهم العمودي الذي يدرك معنى القصدية (في الشعر) التوجه إلى شيء (غرض) كأنه يلحق به لحاقا من الخارج، كشيء يمكن الاستغناء عنه.

إن ما يهمنا أيضا في مفهوم القصدية هو إبرازه للوحدة العضوية التي تشد الفعل ماهويا إلى شيئه، وذلك من خلال التركيز على تبيت (من البيت) الشيء في فعل عنيه (من المعنى). فكأن شيء الفعل هو من إنتاج الفعل بالذات ومن إبداعه، بحيث يفهم الحفظ مقوما ماهويا من عمل الإنتاج والإبداع فلا يكون الفعل بدون شيئه ولا يكون، أو يبقى الشيء بدون فعل عنيه. من هنا فإن القصد ليس علاقة تربط بين قوامين مستقلين على نحو خارجي، ولا القصدية تبقى من هذا المنطلق علاقة بين ذات مستقلة وموضوع خارجي(21).

ومن ثم فمفهوم القصيدة الذي نتوخى تمثله هو نتاج مقصديه، موضوع وعي قصدي يقصد إظهار مسكن الكائن، إنها الوجه الأصيل لفاعلية الوعي باعتباره فعلا لشيء.

وبما أن القصيدة نتاج كينونة الأنا، فهي في تعددية عنيها تضحى تأويلا للعالم، إنها تؤسس لمعرفة مختلفة تتجاوز فعل البرهنة على الأشياء، واستنباطها من مبادئ وأوليات ممتلكة، من خلال فعل مؤشر يدعو الوجود للمجيء إلينا ” وهي مع ذلك قلما تسمح بهذا الإظهار على حد تعبير هيدغر(22).

وإذا كان الأمر كذلك فالشعر هو معرفة الظهور بوصفها اكتشافا لمناطق من الكينونة ما تزال مجهولة من خلال استدعائها وانبثاقها فينا.

والقصيدة من جهة أخرى استدعاء للحياة، بوصفها لا تعطي شيئا آخر غير ذاتها، فهي معرفة أخرى لمقاومة الملل قصد الانتصار عليه، وإزاحته عن الكائن في العالم، هذا المهووس بالتجدد من خلال تعلقه بلحظات الكشف والغوص في الأعماق بحثا عن أشكال الحيوات الورائية، فالقصيدة تخضع الزمن إلى رؤيتها الإشكالية التي لا يمنطقها سوى الخيال، فالزمن كما يقول الناقد الأمريكي “وك ويمزات” من بين أنماط الوجود خضوعا للخيال”(23).

ومن ثم فالقصيدة ليست قصديتها باتجاه المعلوم، كما أن وعي الشاعر يتجه بقصد المغامرة في دروب التخييل التي تترصد حركة المجهول، حركة كينونة متوارية، فجوهر الكون كينونة ملغزة غير قابلة للنفاذ. لأنها تخفي دوما أكثر مما تظهر، وشرط الكينونة ينبني حركة الإشارة إلى ما هو متوارٍ منسحب، والإنسان، إذ ينجذب في حركة نحو ما يتوارى فإنه يدل على “دليل”، دون أن يستطيع تأويله مباشرة، وبهذا يظل دليلا خاليا من المعنى”(24).

والدليل هو الذاكرة عند هيدغر، لكن لا بمعنى الملكة ذات القدرة على الاحتفاظ بالماضي والإبقاء على صوره، ولكن بمعنى التجميع الذي يخفي ويحتوي على هذا الذي يجب دائما أن يتم التفكير مسبقا بخصوص ما هو كائن. والذاكرة تمثل الأرضية التي منها ينبع الشعر. والفكر هو المكان الذي ترقد فيه ماهية هذا الأخير، وطالما بقي الإنسان يتمثل الفكر تبعا لمعلومات المنطق الذي ينحصر اهتمامه في نمط خاص من أنماط الفكر، فلن يكون بوسعه أن يعرف حق المعرفة: كيف أن الشعر ينبني على الذكرى المفكرة، ولا بأية طريقة يتم له ذلك؟

إن كل إبداع شعري قد ولد من الحماسة المفكرة للذكرى، هذه هي خلاصة استنتاج هيدغر، وهو يتأمل بيتا لهولدرلين يقول فيه:

“دليل فارغ من المعنى نحن”

هيدغر يقترح أن نعيد تناول الفعل الشعري لهولدرلين من أجل إقحامه في مجال الفكر بشرط الاحتراس من حالة التماهي بين ما يقوله الشاعر، وما يعبر عنه المفكر، فما يقوله هذان معا ليس خاضعا لمبدإ التطابق. ولكن يمكن أن يقولا نفس الشيء بكيفيات مختلفة، وهذا لا يتأتى إلا عندما تكون الهوة بين الفكر والشعر جلية واضحة وجد عميقة(25).

ج – إذا كان المفكر ينزع نحو المعرفة البديهية التي بها يستكشف الحقيقة، فإن الشاعر وهو يؤسس القصيدة فإنه ينزع نحو معرفة تمكنه من تلمس تداعيات الحقيقة، فالأفكار عنده تصبح شكلا من أشكال العمل التخييلي، وهنا لا تضحي البداهة دليلا على قوة الأفكار كما هو شأن المفكر، يل استجلاء الصورة المتخيلة التي تنصهر بالأفكار المتداعية هو الدليل على قوة القصيدة، ونجاحها في اقتناص إشعاع المحيط، وهذا ما حدا بميلز إلى اعتبار علاقات القصيدة بما يحيطها تشع إلى الخارج، كدوائر متحدة المركز ولدها حجر ألقي به في الماء، وتتكاثر هذه الدوائر إلى غير حد، إلى أن يتعين على الدارس أن يتخلى قانطا عن محاولة القيام بجرد كامل لها. وإذ يتقدم في بحثه الذي لا يعرف نهاية، تذوب القصيدة تدريجيا في كثرة تداعياتها، وبدلا من أن تكون وحدة مكتفية بذاتها لا تعدو أن تكون عرضا من أعراض الأفكار أو الصور الرائجة في الثقافة التي ولدتها(26).

ولكي نتحدث عن القصيدة بشكل جرئ، فإنه لا بدمن أن نعترف أن الأفكار أو الصور الرائجة في الثقافة التي أنتجت النص، تتحول عن حالة البداهة، والانتظام والنسقية النثرية التي تكون عليها في ميدان الفكر والمعرفة العامة، إلى حالة الخلخلة والتشكيك أحيانا، في نظام آخر، هو نظام نص القصيدة، فتسافر الأفكار في الأخيلة، ومن ثم فالكلمات التي تعبر عنها هي الأشياء ذاتها، إنها كلمات متوحشة انتقلت من فضاء الألفة إلى فضاء غابوي، فالقصيدة شأنها شأن الأسطورة تهرب الكلام، حيث يضحى غير دال على المعاني الأولى المسيسة، أي القابلة لتحكم الواقع، إنها تدمير للاستعمال الواقعي، السياسي للكلام على حد تعبير بارت(27).

والقصيدة هي الشكل الأكثر حدة في تعبيره عن التناقض الذي هو سمة الوجود الحي، إنها تقوم بتعرية مبدإ الانسجام والتلاؤم الذي طالما قدسه الفكر الوثوقي، والمعرفة التيولوجية التي تتغنى أيضا بنظام العالم المحكم الدال على العناية الإلهية. فالقدرة التخييلية والكفاءة الترميزية التي تمتلكها القصيدة كبديل عن السلطة السياسية التي تفتقر إليها، تخول لها إظهار التناقض الحاد سواء على مستوى حركة الوجود، أو على مستوى درجة الواقع المعيش، ولنا في قصيدة المعري مثالا حيا، فقد استطاعت أن تخلخل المعرفة العامة دينية كانت أم سياسية التي كانت سائدة في العصر الذي عاش فيه. أخضعت قصائد المعري الفكر إلى مختبر الرؤيا الشعرية، فمارست النفي والتشكيك وخلخلة الجاهز والموروث الديني والثقافي. وحاولت إظهار الأشياء المعتقدات والأفكار بمنظور الكشف التخييلي، بوسيلة الحدس الاختباري، وطريقة الاستبصار التأملي.

ومن الخطأ اعتبار قصيدة المعري منتجا فلسفيا كما حاول بعض الدارسين في تاريخ الفلسفة، فأصبح المعري في نظرهم فيلسوفا، وأصبحت قصيدته فلسفه تدرس كما هو شأن النصوص الفلسفية النسقية.

إن قصيدة المعري لا تخضع لمنطق الفكر العقلاني، لأنها نتاج تخييلي، نتاج شعرية تختبر المعرفة بإبداع السلب، والتشكيك عند المعري لا يخضع لمبدإ البحث عن اليقين، ولكنه يمارس بالمقابل حرية إنتاج الصور الشعرية التي تصل أقصى حدود تجريبها في تدمير المعرفة العامة، وكشف خداع الإنسان(28).

القصيدة من ناحية أخرى فعل من أفعال التيه القصدي بالمعنى الهوسرلي طبعا، فهي إذا كانت تنفرد بنزوعها نحو توتير الوجود، فتمارس لعبة التوترات الحيوية بدرجة عالية من الكثافة، فإنها تدخل الكائن إلى المتاهة، حيث تنقطع الصلة بما هو مألوف وتغدو السيادة للعبة الظهور والخفاء، وما يحكم علاقتها بالكائن هو المغامرة والسفر الدائم حيث الهدف يبقى مؤجلا إلى ما لانهاية. فالقصيدة لا تفضي إلى نقطة وصول، كل النقط هي بدايات الرحلة المغامرة في سراديب المجهول، في الماوراء حيث المعرفة بلا ضفاف، معرفة إبداعية تحيا في فضاء الحرية المفتوح، وغير القابل للأحكام القبلية التي تعتمد إكراهات الواقع، كسبيل لإقناع الكائن وخداعه باليقين والعقل.

4 – الشعر وأبعاد الوجود:

أ – المكان/ما بعد المكان: نعتبر الشعر تجميعا متطرفا لكثافة الكون، وإيلاجا عمقيا في الأبعاد الوجودية، لأنه تأسيس لجمالية تتوخى تشكيل هندسة ما بعدية، تدرك في قصديتها الفضاء المكاني كمجال حيوي، ومصدر لرؤية الكائن الشعري، بوصفه محررا للغة الشاعرية عن عوائق انطلاقتها، ومدمرا حدود السطح المكاني العيني المحسوس، باحثا خلف كل تشكل هندسي مواضعاتي عن حيواتٍ ثاوية في اللابعد، أي في لا وعي المكان. فالشاعر هنا أقرب إلى المحلل النفساني الذي يغوص في لا وعي الذات/اللاشعور ليكشف خبايا النفس البشرية المعقدة.

والشعر من هذا المنطلق اختبار لميتافيزيقا الخيال، بوصفه تحفيزا ملحا ومتتاليا على ولوج المابعد، لتجاوز الآن-هنا أي للتحرر من ثقل الحضور الآتي للزمن، وكذلك لتدمير الأبعاد المألوفة الآسرة التي تحكم رؤيتنا المباشرة للمكان.

فالمابعد، هو عالم الماوراء، عالم يضحى فيه المكان كائنا ذاتيا وكثافة بالغة لطاقة لاشعورية تختزن الروح الكلي، روح الوجود الناطق، إنه ذلك العالم السري الذي فيما هو يحتفظ بنسيانات العالم، يكشف للرأي الشعري العتبة السرية، الممر الخلفي/الخفي لولوج الحياة الماورائية، التي تخفي فيما تخبئه بمكر، سر الخلود، هذا العالم شبيه بعالم بلد العجائب، حيث نمثل أليس Alice تشخيصا رمزيا يحيل إلى الكائن الشعري، الذي يتحفز دوما إلى كشف المفارقة الأعجوبة التي تفضي بالذات إلى التحرر من عوائق التبعية السلطوية للمكان ذي الأبعاد المادية والمواضعاتية. ولذلك كانت الرؤيا المهووسة بنزعة الحدس النبوئي هي المعبر لاختراق الأشكال الهندسية وعبور الأبعاد المرئية للوجود، كبعد متحيز في ولمكانيته، ليضحي مجالا شفافا ينتقل عبره الجسد المتخيِّل (بكسر الياءالمشددة) بكل حرية وبكل حركة ناقلة.

إذن فالشعر بطاقته التخييلية هو أداة لتكسير المكان، جمود المكان وبعده المتشيء، وجعله ذاتا حوارية ناطقة، تجيب نداءات الكائن الشعري وتحفزه على المساءلة الجوهرية للوجود، وهنا يضحي حين الاكتشاف الشعري نفسا روحانية تتماهى بالذوات الحيوية. وبذلك تتفجر طاقاته وتنبع منه إشراقاته التي حولها بعض المتصوفة والفلاسفة دليل وحدة الوجود. وما يهمنا هنا كما يستنتج باشلار هو الوجود الناطق، الذي يختبره الشعر، فالصورة الشعرية أداة فعالة لوضعنا على باب مصدر الوجود الناطق(29).

وبالتالي فالمكان هو ثروة الوجود المتخيل، فالخيال ينجذب نحوه عندئد لا يمكن أن يبقى لا مباليا، ذا أبعاد هندسية فحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر، ليس بشكل موضوعي بل بكل ما في الخيال من تحيز(30).

يقول امرؤ القيس في بيت أثار خيال الشاعر الألماني غوته، فتأثر به في إحدى قصائده(31).

قفا نبكِ من ذكرى حبيبي ومنزلِ

بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ

هذا البيت في نظري يستجمع أقوى لحظات الانغمار في بوتقة الإحساس بالمكان بوصفه طاقة تختزن الدليل الذي يحيل على الانجذاب، نحو حركة الفعل المتوارية في الزمان، وهو ما يبعث على الذكرى المفكرة التي ينبثق عنها الشعر، كما لاحظنا ذلك سالفا عند هيدغر.

والشعر ينبعث عند امرئ القيس من ذكرى، تتولد نتيجة الإحساس بتداعيات العلاقة الحميمية بالمكان، ومما يثير الدهشة في هذا البيت الشهير هو استصداره بفعل الأمر: قفا مقترنا بالفعل المضارع نبك.

فالأمر موجه إلى مثنى، بمعنى أن هناك ذاتين مصاحبتين للذات الشاعرة/ المتكلمة، وقد دأبت الشروح القديمة على ربط هذا الضمير المخاطب في المثنى بشخصين مستقلين عن ذات الشاعر، أي بفردين مصاحبين للشاعر، وربما يكون الأمر كذلك، لكن حتى ولو كان ذلك حاصلا فعلا، فإننا هنا لا بد لنا من تجاوز هذا المعطى السطحي، وإعادة قراءة البيت قراءة تأويلية تتوخى القبض على فعل الرؤيا الحاد عند الشاعر، والذي نتج عن إحساس متوتر بمكان يثير كوامن الذات ويدفع بها نحو الانجذاب نحو الدليل. ومن ثم فإن قراءة: قفا نبك، تكشف ممارسة الذات للعبة التعدد، والتخفي في مواقع الآخر، فتتخذ تموقعا متعددا ثلاثي الأبعاد على الشكل التالي:

 

 

 

الأنا

الذات

الذكرى

أنت(1) أنت(2)

أنتما

الوقوف بادرة صادرة عن فعل وعي الأنا القصدي، وهو أمر انبعث من الذات باتجاه الذات نفسها – وليس باتجاه ذات مستقلة – وهنا لا يحدث انشطار وإنما تعدد للذات إلى أنا متكلم،وأنتما أي ضمائر الذات نفسها التي تتخفى في الآخر المخاطب، المصاحب لحركة الشعور الواعي مصاحبة حضورية. وهذا ما يحيل إلى المعاني التالية:

الأنا: فعل الوعي، الشعور المحرك للتخاطب، وفعل الكلام.

الأنتما: الآخر، المتلقي الذي يتلقى الأمر، وهو يتعدد بدوره إلى أنت أولى وأنت ثانية، وبما أن الأمر يتعلق بالبكاء، والذكرى وبالحبيب والمنزل، أي بحوافز الانجذاب نحو الدليل، فالأنتما ترميز لضميري الفكر من جهة، واللاوعي من جهة أخرى. الفكر باعتباره مستدعيا للذكرى، وتحيينا للماضي في الحاضر، واللاوعي الباطني بوصفه مفجرا لتداعيات الذكرى لمخزونات المكان الذي حلت به الذات، ومن ثم يحدث فعل البكاء فالدمع الذي ينبع من العين الرائية، العين بوصفها بوثقة لتفجر المخزون النفسي في باطن الذات، والدمع بدلالته المائية التي تحيل إلى الشعر بوصفه انبثاقا عن الذكرى المفكرة.

إن فالمكان في الشعر العربي القديم يمثل مخزونا نفسيا يثير إشكالات فلسفية تتجاوز الرؤية السطحية التي تقصر الدلالة الشعرية على المعنى الضيق، المعنى الوحيد. ولا ينبغي أن نفهم من هذا التحليل الدعوة إلى تقويل الكلام أكثر مما يحتمل كما قد يفهم البعض، ولكنها دعوى للانفتاح على الشعر بوصفه خيالا ناطقا، يحمل في ذاته تداعياته وجانبه المسكوت عنه، الذي يقتضي من الدارس أن يعيد تأمله من وجهة نظر متعددة ليحصل الانكشاف والتجلي.

ب – الخيال: انفتاح الوجود:

إن العلاقة بين الشعر والخيال علاقة وطيدة، فالشعر بما هو لغة هو حركة صوتية يتجسد فيها الخيال، يتشخصن في كينونته، وفي الشعر ينفتح الوجود، فيتخذ حالة الظهور الكاشف للكينونة الأصيلة. “فالخيال ليس حالة فقط، ولكنه الوجود الإنساني ذاته”. والخيال الناطق الأدبي، هو هذا الذي يتخذ من اللغة هيئة للنسيج الزمني للروحانية، ويتخلص بالتالي من الواقع، كما يرى باشلار(32). وهذا يعني تجاوزا لرؤية “برغسون” التي تؤكد أن اللغة ليست قادرة على التعبير عن الحياة الداخلية، فالكلمات هي سجن يخبئ الطاقة الشعورية للذوات.

إن الديناميكية في رأي باشلار هي وليدة اللغة نفسها، وليست وليدة واقع “استحالة التعبير الذي يجعل من وجوده متعاليا. ومن ثم فما يسميه باشلار بـ l’indicible “تعذر التعبير” هو عائق إبستمولوجي يدعونا إلى تكسيره”(33). ولكن كيف يتم ذلك؟

يقترح باشلار أن نتخلى عن الصور الساكنة، الصور المكونة تلك التي أصبحت كلمات ثابتة بشكل تام، ويقترح أيضا ترك الصور التقليدية التي فقدت سلطتها التخييلية بفضل تداولها المتكرر، وعدم قدرتها على الإيحاء الدال على التجدد. ثم يدعونا إلى الالتفات إلى صور أخرى جديدة بالكامل، تحيا بحياة اللغة الحية، ندركها بغنائيتها التي توجد في حالة نشاط فهذه العلاقة الحميمية المجددة للنفس والقلب تعطي – هذه الصور الأدبية – أملا لإحساسنا، قوة خاصة لقرارنا، زخما خاصا لحياتنا النفسية. فالشعر الذي يحمل هذه الصفة أي ذلك الذي يشتمل على هذه الصور الأدبية يصير فجأة رسالة حميمية بالنسبة إلينا، رسالة تلعب دورا أساسيا في حياتنا، فتعيد إليها الحيوية، فعن طريقها يرقى القول، الكلمة، الأدب إلى صف الخيال المبدع، بلجوء الفكر إلى صور جديدة للتعبير، يثري نفسه ويثري اللغة، يصير الكائن قولا. ويظهر القول في قمة نفسية الكائن، فيتضح أن اللغة هي الصيرورة المباشرة للنفس الإنسانية(34).

وهنا تظهر قوة حركية الخيال ودوره في تحويل المتعذر الإفصاح عنه إلى إمكانية مفتوحة الأبعاد على البوح، على قول الجديد، وإنتاج الصور المتوقدة التي تصدمنا، وهنا نتساءل مرة أخرى مع باشلار: ما طبيعة هذا التوقد اللساني الذي تحركه فينا هذه الصور؟ وكيف يمكننا فك حبالها من العمق الثابت لذكرياتنا المألوفة؟ وهذا لا يتأتى إلا بالبحث بأناة في جميع الكلمات عن تحرقات الغيرية، عن تحرقات المعنى الازدواجي، عن تحرقات المجاز بصفة عامة يدعو باشلار إلى إحصاء جميع التحرقات التي تتطلع إلى مغادرة ما نراه، وما نقوله لصالح ما نتخيله، وبهذه الطريقة سنعيد إلى الخيال دوره الإغرائي، وبواسطته سنغادر السير العادي للأشياء، فالتخيل على خلاف الإدراك هو الغياب،هو الوثوب في اتجاه حياة جديدة(35). وهذا الوثوب هو سفر في عوالم المتخيل البعيدة ينقل بشكل جيد نفسية دينامية، بشرط أن يأخذ شكل سفر إلى بلد اللانهائي، ففي مملكة الخيال ينضم التعالي إلى كل مثولية، إنه قانون التعبير(36).

واللانهائي في مملكة الخيال هو الناحية التي يتأكد فيها الخيال كخيال خالص يوجد فيها حرا ووحيدا. مهزوما ومنتصرا متغطرسا ومرتجفا، فتندفع آنذاك الصور وتتلاشى ترتفع وتتحطم، عند ذلك تفرض نفسها واقعية اللاواقع فنفهم الأشكال بتغيرها، القول نبوءة، هذا هو حال الخيال كما وراء نفسي يأخذ شكل نفسية رائدة تلقي ذاتها على الوجود(37).

هذه – إذن – بوادر رؤية جذرية للخيال تتبنى فكرة ممارسة سيكولوجيا الهواء اللانهائي لوضع اليد على الفضاء الذي لا بعد له (العماء بلفظ ابن عربي) فضاء تنمحي فيه الأبعاد، ويتحقق فيه الإحساس الحميمي بالتعالي المطلق، تعال ينفتح فيه الوجود انفتاحا كليا تتراءى فيه الحيوية الخلافة للكينونة.

وعلى سبيل المقارنة فرؤية باشلار الجذرية للخيال تلتقي في كثير من جوانبها النظرية، برؤية المتصوف “الشيخ الأكبر” ابن عربي الذي يحتل الخيال عنده منزلة عظمى، لذلك يعتبره وجودا أعظم، يقول ابن عربي:

“فليس للقدرة الإلهية فيما أوجدته أعظم وجودا من الخيال، وبه ظهرت القدرة الإلهية، والاقتدار الإلهي. فهو أعظم شعائر الله على الله”(38).

وإذا كان باشلار يدعو إلى ترك الصور الرتيبة، والبحث عن صور حيوية تحركها قوة الخيال، اعتمادا على اللغة ذاتها، فابن عربي يرى أيضا أن الخيال يستوحي وجوده من المادة المحسوسة، ثم يعيد تركيبها في صورة جديدة يقول:

“لأنه ما تولد ولا ظهر عينه إلا من الحس، فكل تصرف يتصرفه في المعدومات والموجودات، ومما له عين في أولا عين له، فإنه يصوره في صورة محسوس له عين في الوجود، أو يصوره بصورة ما لها عين في الوجود، ولكن أجزاء هذه الصورة كلها أجزاء وجودية محسوسة، لا يتمكن له أن يصورها إلا على هذا الحد”(39).

ولحصول هذه الرؤية المتجددة ذات الدلالات المتعددة، والأبعاد التأويلية الحية ينتقد ابن عربي الرؤية البصرية الاعتيادية عند أدباء العامة، وعلماء الظاهر، ويدعو إلى رؤيا استبصارية يغدو من خلالها العالم وجودا حركيا ناطقا فيقول:

“العالم كله عاقل حي ناطق من جهة الكشف بخرق العادة التي الناس عليها، أعني حصول العلم بهذا عندنا. غير أنهم قالوا هذا جماد لا يعقل، ووقفوا عندما أعطاهم بصرهم. والأمر عندنا بخلاف ذلك، فإذا جاء عن نبي أن حجرا كلّمه، أو كتف شاة أو جذع نخلة، أو بهيمة، يقولون خلق الله في الحياة والعلم في ذلك الوقت، والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة في جميع العالم”(40).

ومعنى هذا أن الخلق له جانبان أساسيان وهما “الصورة الحسية، والروح المعنوي”، يقول: “فإنه ما يظهر في العالم صورة من أحد من خلق الله، بأي سبب ظهرت من أشكال وغيرها، إلا ولتلك العين الحادثة في الحس روح تصحب تلك الصورة هو الذي نسميه الاعتبار في الباطن، من عبرت الوادي إذا أجزته، وهو قوله تعالى:” إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار” وقال: “فاعتبروا يا أولي الأبصار” أي جوزوا مما رأيتموه من الصور بأبصاركم إلى ما تغطيه تلك الصور من المعاني والأرواح في بواطنكم. فتدركونها ببصائركم”(41).

ويمكن الخيال العارف من الترقي “العروج” فهو ذلك البرزخ أي الجسر الذي يربط العالم بالمتعالي، فالعارف يستمد في العالم الأرضي التأثير في الأشياء ممن يماثلهم من الملائكة في العالم السماوي إن للعارف إذن تأثيرا في العالم العلوي والسفلي بقدر مرتبة الروح الذي يتولاه من هناك “أي من الملأ الأعلى” ومن ثم فهو يستكشف سر الحياة الذي يسري في جميع العالم كما تقدم.

ويكاد يقترب باشلار من هذا الفهم المتقدم للخيال فيميز بدوره بين الحركة المنقولة عن طريق البصر والحركة المنقولة بواسطة الخيال الدينامي، فيقول: “يجب علينا الانتباه إلى أن الحركة المنقولة عن طريق البصر ليست منشطة. الحركية البصرية هي حركة سينماتية خالصة، البصر يتبع مجانا الحركة حتى يمكنه أن يعلمنا كيف نعيشها بشكل تام، داخليا. ألعاب الخيال الشكلي، الحدوس التي تتمم الصور المرئية توجهنا في اتجاه معاكس للمشاركة الضرورية فالمشاركة الوجدانية (العرفانية) لمادة هي وحدها التي يمكنها أن تحدد مشاركة نشيطة فعلا من الممكن تسميتها استقراء.. وحده هذا الاستقراء الدينامي يمكنه أن يرفع كياننا العميق… وللوصول إلى ذلك يجب اختراق هذه المنطقة التي يسميها راول أباك “الفضاء المضاد” حيث تقابل الغائية المعيارية للحواس التي توجبها ضرورة الحاجيات الفورية القهرية غائية شعرية يحتفظ بها الجسم في حالة القوة… يجب أن نقتنع بأن شيئا يمكنه بالتناوب تغيير معناه ومظهره حسب ما إذا لمسه اللهب الشعري أو محقه أو تركه على حاله… نرى إذن أهمية حدس متخصص لوضع يدنا على المادة التي لا أبعاد لها والتي تعطينا الانطباع بتعال حميمي مطلق… فيتأكد لنا آنذاك وجود حركية الصور، فبقدر ما نشارك وجدانيا الظواهر الهوائية عن طريق الخيال الدينامي، بقدر ما نشعر بخفة وحبور ورشاقة. وتصبح الحياة العروجية (من المعراج الذي تحدث عنه ابن عربي) آنذاك حقيقية حميمية… والإنسان كما يقول رامون كوميز كله مسالك، ويجب أن يضاف: كل مسلك من هذه المسالك ينصح بالعروج”(42).

وإذا كان ابن عربي ينتقد بشدة أهل الظاهر ويصفهم بالجمود لأنه “ليس عندهم من الاعتبار إلا التعجب، فلا فرق بين عقولهم، وعقول الصبيان الصغار، فهؤلاء ما عبروا قط من تلك الصورة الظاهرة كما أمرهم الله”(43). فإن غاستون باشلار يوجه نقدا لادعا لأساتذة الأدب والبلاغة الذين يكرسون الصورة الاعتيادية فيقول:”من جهتنا نرى بأن العادة هي نقيض الخيال المبدع، الصورة المعتادة تقتل القوة المخيلة. الصورة المطلع عليها في الكتب، الصورة المحروسة والمنتقدة من قبل الأستاذة تجمد الخيال. الصورة التي صيرت إلى شكلها هي مفهوم شعري يرتبط بصورة أخرى من الخارج كارتباط مفهوم بآخر، هذه الاتصالية للصور التي يعيرها أستاذ البلاغة اهتماما بالغا، ينقصها في غالب الأحيان هذا الاتصال العميق الذي لا يوفره إلا الخيال المادي، والخيال الدينامي وحدهما(44).

لاشك أن هذا التشابه في الرؤيا بين ابن عربي وغاستون باشلار ليؤكد نوعا من الاستفادة والتوظيف الاستثماري لنصوص ابن عربي في الخطاب الغربي المعاصر، لا سيما وأن هذه النصوص التراثية اشتغل عليها عديد من الباحثين نذكر من بينهم المستشرق الفرنسي “هنري كوربان في كتابه الخيال الخالق عند ابن عربي. والذي يؤكد أن باشلار اطلع بوسيلة أو بأخرى على نصوص ابن عربي، هو إشارته في غير ما مرة في كتابه “تكوين العقل العلمي” إلى رؤية العرب الروحانية للأشياء كالذهب وغير ذلك(45)، وما لهذه الرؤية من عمق تخييلي.

إلا أن أهم ما يجب الإشادة به عند باشلار هو كونه جذّر مفهوم الخيال وربطه أساسا بالغائية الشعرية، وحدده كموضوع نسقي يشغل حيزا هاما من انشغالاته الفكرية المتعددة، كما أنه ربطه بالتحليل النفسي والعلوم الإنسانية بشكل عام.

وما يهمنا هنا من هذه المقارنة هو الدعوة إلى إعادة قراءة نصوص ابن عربي، باعتبارها نصوصا مضيئة، ومفيدة للتناول الأدبي – الشعري خاصة – لا سيما وأنها تشكل من حيث العمق نسيجا لرؤية متقدمة خصبة وحداثية في الآن ذاته، للخيال يمكن الاستفادة منها ولقد سبق للباحث العربي “علي البطل” أن أبدى تأسفا واضحا على عدم تجاوب العرب مع نظرية ابن عربي، ومن ثم سقوطهم في الرؤية المعيارية التي تقنن إلى حد الجمود وظيفة الشعر، وتقلص من إبداعية الصورة المتخيلة(46).

وإذا كانت نظرة ابن عربي كما نراها متحررة من سلطة الظاهر الديني، بكونها تدعو إلى قراءة النص قراءة مزدوجة، تتخذ من تشكيلته الخطابية الظاهرة وسيلة عبور إلى القراءة الاستبصارية الكاشفة عن التعدد الدلالي، وفي ذلك اختبار للكفاءة التأويلية التي يمتلكها النشاط الذهني للإنسان الذي تحركه قوة الخيال، فيغدو العالم ناطقا تسري فيه الحيوية، فإننا هنا نجد أنفسنا في حاجة ماسة إلى إعادة توظيف هذه الرؤيا في مجال الشعر خاصة والأدب بأجناسه المتعددة بشكل عام، لا سيما وأن هذه الرؤيا تلمست بصورة ذكية مفهوم العائق الإبستمولوجي المتمثل في – النظرة الاعتيادية والسطحية والرتيبة، ودعت إلى تجاوز العائق باقتراح مفهوم الرؤية الاستبصارية أو الرؤية العبورية، وهي رؤيا تدعو إلى تكسير الجمود في الرؤية ذاتها، وتوظيف الكفاءة التخييلية التي تستكشف أبعاد العالم الحي، بتعبير ديكور، أو الوجود الناطق بتعبير باشلار وابن عربي أيضا.

رؤيا ابن عربي في نظرنا في صورة تحديثية – رغم قدامتها زمنيا – وهي مكسب لا غنى عنه لما نسميه بالشعريات اللاعمودية، التي جاءت ببدائل جديدة تتجاوز بل تضع قطيعة أساسية مع التصور التقعيدي لوظيفة الشعر والذي تمثله نظرية عمود الشعر، التي سادت لقرون، وفرضت نوعا من الحجر على الخيال الشعري العربي، إلى أن جاءت ثورة الحداثة التي أسست لشعريات أخرى، شعريات تنطلق من مفاهيم وتصورات معاصرة لها حمولاتها الفكرية والفلسفية ومن ثم ظهور أشكال شعرية جديدة: شعر التفعيلة، “الشعر الحر”، قصيدة النثر،…الخ. وهي أشكال تتجاوز وتتزامن، لتشكل رافدا من روافد الشعر الخلاق، ولا تطرح نفسها كبدائل نهائية، وهذا يبين قصور البعض ممن يعتبرون أن قصيدة النثر هي الدليل الأقصى والنهائي، ففي هذه الدعوة سقوط ليس في الجمود فحسب بل في النظرة المعيارية ذاتها، وهو العائق الأساسي في نظرية عمود الشعر التقليدية.

وما تقدمه لنا نظرية الخيال عند ابن عربي عظيم الفائدة، إذا تم استثمارها كرصيد تراثي حي يتمثل أساسا في اعتبار النص كنتاج تخييلي، لا يتطلب قراءة معيارية، بل قراءة تعددية تأويلية، فالنص هنا انفتاح على الوجود بأبعاده الحيوية، وبالتالي، فإن إخضاع النص إلى المنطق (المعياري) هو ضرب وإغلاق لانفتاحاته، وإقامة لقوالب تخنق التخييل، وتمارس إعاقة حاجبة لكل تجديد وتثوير إبداعي خلاق.

وعلى هذا الأساس فكثير من النصوص الشعرية تراثية كانت أم معاصرة، عجز الفهم العمودي عن تمثلها، فاعتبرها نشازا في حين أنها تختزن بتخييلها المكثف تعبيرا حيا متجددا، نابضا بالحركية والفعالية، ولنا في نصوص المتنبي وأبي تمام، وأدونيس ورامبو ولامارتين دلائل كافية كانت وسيلة لإعادة الاعتبار للشعر وتقويمه من منظور مختلف بعد أن أظهر الفهم المعياري قصوره التام في استيعاب الرؤى الجديدة في الشعر.

خلاصة:

توخينا من خلال هذا البحث أن نعيد طرح مسألة الشعر، بكونه طاقة للإمكانيات الهائلة التي يمتلكها الكائن الشعري لاختيار الكينونة كتجدد وخلق مستمر، لا بمعنى الخلق من عدم، بل بمعنى أكثر تجذرا “أي الخلق من عدم العدم بتعبير ابن عربي” الذي يتأول بالوجود. لأن الشعر تسيمة، وهو من حيث كذلك يظل منحجبا ما لم يتم استدعاؤه ليتحقق له الظهور والكشف، أي أنه ينتقل من الوجود المخزون إلى وجود المرئي.

إن الكائن الشعري وهو ينخرط في قول الوجود، فهو يستكنه ابعاده، ومعنى هذا أن الاختبار الحدوسي يشكل مغامرة يتمخض عنها عبور الكائن مستويات العالم المرئي ليلج مرحلة الفضاء الذي لا بعد له، ويلامس “العماء الذي يمثل وسيطا وجويا بين حالتي الوجود والعدم، أو الوجود المطلق والوجود المضاف المقيد”(47). ويتمثل الخلاء بما هو ظل الوجود الحق الذي يتضمن كل إمكانيات العالم، وظل الاستحالة التي تختبر بالخيال.

إذن وحتى يبلغ الشعر من جديد حالة الاستحالة وتجريب المفارقة الوجودية، فلا بد له من ممارسة فعل الخرق الذي يمثل لازمة أساسية للشعر الخلاق. الشعر الذي يفضح رتابة العالم ليكشف أصلانية الكينونة وجوهرانية الوجود.

 

مجلة الجابري – العدد السادس


هوامـش

1 – عبد الغفار مكاوي: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، حوليات، كلية الآداب جامعة الكويت ع.13، 1992، ص 38.

2 – موريس بلانشو: التجربة – الحد، ت: جورج أبي صالح مجلة العرب والفكر العالمي، ع10 ربيع 1990، ص 63.

3 – نفس المرجع، ص 64.

4 – أدونيس: الثابت والمتحول، دار العودة بيروت ط. 1977، ص249.

5 – هيرقليطس، جدل الحب والحرب، ت: مجاهد عبد المنعم مجاهد دار التنوير 1983، ص 55.

6 – صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص، عالم المعرفة، ع164، 1992، ص 159.

7 – نفس المرجع، ص 55.

8 -عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر دار توبقال البيضاء، 1991، ص135.

9 – د. صلاح فضل، نفس المرجع، ص 158.

10 – Jean-Louis JoubertLa poésie . Armand colin Paris 1989, p.20.

11 – مطاع صفدي، في كتابة المعرفي – الحداثوي مجلة الفكر العربي، ع78-79، ص 8.

12 – J.L Joubert : La poésiep.20.

13 – Ibid, p.21

14 – Ibid, p.21

15 – Ibid, p.22

16 – Gerard Dessons: introduction à l’analyse du poème Bordas, p.150.

17 – روبيرت ماجيولا: “التناول الظاهري للأدب” ت ع الفتاح الديدي مجلة فصول ع 3 م1 س 1981، ص 183.

18 – نفس المرجع،ص 184

19 – نفس المرجع، ص 187

20 – انظر بخصوص ذلك بحثنا:”قصيدة النثر والشعريات اللاعمودية”

المنشور في العدد الأول من مجلة تافوكت، ص 75.

21 – د أنطون خوري: معنى العني في قصدية هوسرل مجلة الفكر العربي المعاصر ع18/19، ص 57.

22 – مارتي هيدغر: التقنية الحقيقة، الوجود، ت: محمد سبيلا و ع الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي 1995، ص195.

23 – و.ك ويمزات: المدخل الأنطولوجي، ت ماهر شفيق فريد مجلة فصول العدد الثالث، المجلد الأول 1981، ص 195.

24 – هيدغر: المرجع السابق، ص 195.

25 – المرجع السابق، ص 198.

26 – و.ك ويمزات: المرجع السابق 2010.

27 – Roland BarthesMythologies ed Seuil 1957 collection points p.231.

28 – يذهب المعري إلى اتباع أسلوب المجاز تعبيرا عن رؤاه الاستكناهية للعالم فهو يقول:

وليس على الحقائق كل قولي >><< ولكن فيه أصناف المجاز

ويقول أيضا:

لا تقيد علي لفظي فإني >><< مثل غيري تكلمي بالمجاز

فالشعرية لدى المعري هي بحث في المجهول بلغة واعية بالتباساتها وأقنعتها التي تكشف محدودية المعرفة الإنسانية:

إنما نحن في ضلال وتعليل >><< فإن كنت ذا يقين فهاته

وبصير الأقوام مثلي أعمى >><< فهلموا في ظلمة نتصادم

وأشهد أنني غاو جهول >><< وإن بالغت في بحث ودرس

سألتموني فأعيتني إجابتكم>><< من ادعى أنه دار فقد كذبا

فلا وجود في نظر المعربي لحقيقةيقينية ولكن هناك بالمقابل شكل من أشكال حدس الحقيقة الكامنة، أو الظنية:

أما اليقين فلا يقين وإنما >><< أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا.

29 – غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا

30 – نفس المرجع، ص 22.

31 – يقول الشاعر الألماني غوته وهو في غاية التأثر بامرئ القيس:

“دعوني ابك، محاطا بالليل

في الفوات الشاسعة بغير حدود

الجمال راقدة، والحداة كذلك راقدون

والأرمني سهران يحسب في هدوء

وأنا بجواره أحسب الأميال

التي تفصلني عن زليخا، وأستعيد

(صورة) المنعرجات البغيضة التي تطيل الطريق.

وتستنتج الباحثة الألمانية كاترينا مومزن مطابقات عديدة بين معلقة امرئ القيس وعددا من قصائد “غوته” في كتابها: جوته والعالم العربي ت:عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة ع 194، الكويت 1995، ص 55-175 خاصة في الفصل الأول المعنون ب: غوته والشعر الجاهلي.

32 – Jean Louis Backes: “une poétique du mouvement” dans la revue française: critique Tome XXIX, n° 310, Mars 1973, p.239.

33 – Ibid, p. 239.

34 – غاستون باشلار: الخيال والحركية، ترجمة عبد الرحيم الرحوتي من كتاب l’air et les songes – الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي ع448، ص5.

35 – نفس المرجع،ص4

36 – نفس المرجه، ص 4

37 – نفس المرحع، ص 4

38 – محمود قاسم: الخيال في مذهب محيي الدين بن عربي، معهد البحوث والدراسات العربية القاهرة 1969، ص1

39 – نفس المرجع، ص6

40 – محيي الدين بن عربي: الفتوحات المكية، ج،1، ص 120، دار صادر، بيروت.

41 – بن عربي: نفس المرجع، ص550

42 – باشلار، المرجع السابق، ص5

43 – ابن عربي، المرجع السابق، ج1، ص551

44 – باشلار، نفس المرجع، ص5.

45 – يقول باشلار على سبيل الإشادة بالعلم العربي ما يلي:

وبالطبع يستحق العلم العربي نفس الاحترام الذي يستحقه علم القدماء، وإنه لمن الطريف في أيامنا هذه أن العلم العربي حمل إلينا تأملات الصحراء، لا يزال يحظى بتأييد شائع…” انظر كتابه الشهير تكوين العقل العلمي، ت.خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط.3، بيروت 1986، ص109.

وليس من المستبعد أن يكون باشلار أيضا قد اطلع على كتاب هنري كوربان التالي: الخيال الخالق في توصف ابن عربي.

L’imagination créatrice dans le soufisme d’ibn Arabi, Paris, flammarion 1958.

46 – على البطل: الصورة في الشعر العربي، حتى آخر القرن الثاني الهجري، دار الأندلس 1980، ص 20.

47 – نصر حامد أبو زيد: فلسفة التأويل، المركز الثقافي العربي الطبعة الثالثة 1996، ص79.

* إشارة: انظر في هذا الصدد مقالات هيدغر ومحاضراته نشر بعضها في كتاب: التقنية الحقيقة الوجود الذي أشرنا إليه أعلاه.