مجلة حكمة
الزمن الإيقوني دوغمائية

الزمن الإيقوني ودغمائية المستقبل – عبد الصمد الكباص


الزمن الإيقوني

إن العولمة من حيث هي سيرورة تنميط العالم وفق نموذج اقتصادي محدد، والعمل على ترسيخ سيادته المطلقة عالميا، تعتمد كرهان خاص لها على “بداهة” العالم الذي يتجه بوتيرة واحدة على خط واحد نحو غايات موحدة. عالم هو كل تنعكس كليته في كل جزء من أجزائه. ولم يكن هذا الرهان على عالم بدون حواجز ولا حدود ليدمج كمشروع قابل للتحقيق إلا من خلال إنجازات الثورة الإعلامية [السمعية البصرية خاصة] والتطورات المذهلة لتقنيات الاتصال عن بعد.

فالإعلام الذي يحتكر حق إعطاء الصورة التي يجب أن يظهر عليها العالم، يحتكر أيضا حق توزيع أدوار الضحية والقاتل، وحق خلق آلهة اللحظة واغتيالها كذلك، وحق تحديد عبيد الحاضر وأسياده الشرعيين… وكل ذلك وفق إرادة للهيمنة والقوة مشدودة إلى قطب سلطوي. ليس الاعلام تواصلا. إنه سلطة، احتكار، وإكراه فوقي. إنه إخضاع مستمر، وخضوع سالب ودائم يكون فيه المتلقي محجورا عليه “فقط في موقع التلقي المنسلب والمجرد من كل أدوات دفاعه الطبيعية، محروم من أي رد، إلا ما يبدر عنه من إشارات الإختزال والانصياع المطلق لآلية الضخ والاستيهام..”(1). إن رسملة المعلومة بما تتضمن من إرادة اجتياح أوسع سوق ممكنة، صيرت الإعلام عراب حقائق العالم ومعمدها. وتحول الإنسان إلى شيء يتفرج ويسمع. شيء يعتقد أنه حر، وأنه يفكر بملء إرادته الخاصة والمستقلة ويحكم بناءا على قناعته الذاتية، في حين أنه مجرد تابع، يتمتع بحرية وفق المعايير التي حددها له. إنه لا يرى من العالم إلا ما أريد له أن يراه، ولا يسمع منه إلا ما سمح له أن يسمعه. والتصور الذي يحمله عن العالم، ليس إلا ما قدمه له الإعلام. إن كل هذا يضعنا أمام نمط جديد من العبودية. منذ أزيد من 200 سنة حدد كانط الأنوار -في مقاله ما هي الأنوار؟- بأنها رفع الوصاية على العقل الإنساني وخروجه من قصوره الذاتي. وبالفعل فقد تخلت الكنيسة عن وصايتها. لكننا اليوم نشهد وصاية جديدة. إنها الوصاية التي يفرضها الإعلام، الكنيسة الرسمية للنصف الثاني من القرن العشرين، التي تملك حق التحليل والتحريم، وحق منح الشرعية أو سحبها. هناك فرق واضح بين الوصاية القروسطية القديمة والوصاية الحديثة. ففي عهد الهيمنة التيولوجية لم يكن هناك وجود للفرد الإنساني كذات، وإنما كان موضوعا، عبدا يعترف بعبوديته ويعرفها جيدا. مثلما يعترف بالسيادة الإلهية المطلقة عليه وعلى عالمه. ومن خلال ذلك يعترف بشرعية النفوذ الذي تمارسه عليه المؤسسات المعدة لتصريف هذه السيادة الإلهية المطلقة عليه، مثل الكنيسة، الكهنوت، الإمبراطور… إن الاعتراف بشرعية عبوديته اتجاه الله، كان يكفي لإقراره بشرعية سلسلة أخرى من العبوديات اتجاه السلطة السياسية، اتجاه الكنيسة، اتجاه النص، اتجاه اللغة… إن عالمه المعيش كان محددا بغايات تيولوجية. وإرادته كانت مرهونة بإرادة مفارقة له. ولم يكن هناك من حق للإنسان كذات حرة مستقلة. وإنما الذي كان هو حق الله على الإنسان. أما الوصاية الحديثة فتأخذ موقعها في سياق مختلف، أساسه الأول هو التحول من التيولوجيا إلى الأنثروبولوجيا. من عالم يخضعه الإله، إلى عالم يسيطر عليه الإنسان. لقد انبثق الفرد في سياق تاريخي خاص كمواطن حر ومسؤول، ينخرط في عالمه موجها بغايات محددة تحديدا عقلانيا. لكن بفعل دينامية التطور التقني -خاصة تقنية الاتصال عن بعد- المدمج ضمن آليات النظام الرأسمالي، اصبح الإعلام [خاصة المسموع والمتلفز] يمارس وصاية على الأفراد. هي وصاية خفية وجلية في نفس الآن. مشابهة للتأثير الذي يمارسه اللاشعور الفرويدي على الحياة النفسية للأفراد دون وعيهم به. “فالنظام المتلفز مأخوذا في كليته لا يفعل شيئا غير إخضاع المواطن “لتصوره الخاص عن العالم”. هذا المواطن الذي يعتقد بسذاجة في هيمنته على العالم عن طريق الرؤية. إن التأثير الحقيقي الإيديولوجي للتلفزيون يتمثل في إقناعنا بديانة العصر التي يريد هو أن يشكل معبدها”(2).

إن شعار الشفافية الذي يرفعه الإعلام يعتبر أكبر مسوغ لهذه الوصاية. فهو يعمل على ترسيخ القناعة بأنه ينقل الأحداث كما هي، ويعكس حقيقتها في صفائها. في حين أنه يمرر عبر تقنياته وفنياته كيف يجب أن ترى هذه الأحداث، وأي معنى يجب أن يكون لها، ووفق أي منطق يجب أن نفهمها. لا توجد شفافية، هناك دائما تقديم مغرض، يخضع المتلقي لتصنيفاته، وتفاضلاته، وتراتبياته التي تؤسس المعطيات الأولى [المقدمات] للقناعة والرأي المعتقد أنهما اتخذا بحرية واستقلال. أمام الاكتساح الشبه كلي للإعلام البصري، أصبح الفرد -دون أن يعي ذلك- خاضعا لقطب فوقي، مفارق له، بمثابة قوة وضعية وغيبية في نفس الوقت. إنه غيبي إذا نظر إليه من موقع المتلقي الذي لا يستطيع أن يدركه لأن هناك حجابا يفصله عنه، ويمنعه من ذلك. حجابا مشكلا من ركام الصور والتعليقات، والمؤثرات الضوئية والصوتية المتسارعة التي تشكل سرعة التجاوز مبدأها الأساسي. فعين المتلقي لا ترى إلا ما تسمح به تلك العين الفوقية والمفارقة التي تحتكر حق الانتقاء والتوضيب والتصنيف لما تقدمه من صور عن أحداث العالم. والتي تمرر بشكل خفي معاييرها للتمييز بين المهم وغير المهم في ذلك. إن الإعلام بإمكاناته السمعية-البصرية، بقدرما يفتح أفقا للتلقي أكثر تنوعا وتعددا، بقدر ما ينفذ قرار الحجر على السمع والرؤية يصبح معه ما يعتبر رأيا حرا، مجرد نتيجة استهلاكية للصناعة التي تحدد قبليا القوالب الجاهزة التي تمنح لهذا الرأي صيغته النهائية. كما أن المواطن يصبح مجرد منتوج من منتوجات هذه الصناعة. إن الخبر الذي يعتبر قوام الإعلام ليس إلا صيغة ملطفة لأمر يجب أن ينضبط له المتلقي، أمر يصدره الآمر المطلق بالخبر والمعلومة. يتضمن التأويل الذي لزم المتلقي تبنيه بخصوص حدث ما، والموقف الذي يجب عليه اتخاذه إزاء هذه الجهة أو تلك، مع أو ضد، والمعيار المفروض اعتماده للتمييز بين المواقف الصائبة والمواقف الخاطئة، بين ما هو حق وما هو باطل، بين [وهذا هو الأخطر] الشرعي وغير الشرعي. هناك وصاية تمارس على المتلقي دون أن يشعر بها. وهناك حدود متغيرة يرسمها الإعلام بشكل إكراهي لقناعاته. ومن خلال كل هذا هناك خضوع دائم لقطب فوقي، وآمر أعلى يمنح لذاته صلاحيات مطلقة يحدد بموجبها للمعلومة أفقها الاستراتيجي. من هو إذن هذا القطب والآمر؟ إنه النظام المحايث للمجال الإعلامي، وفي نفس الوقت، الشامل له. والمؤسس على جدلية المركب الثلاثي العناصر المشكل من الرسملة والمعلومة وإرادة الهيمنة. حيث تكون المعلومة مجالا استثماريا خصبا يضع رهن إشارة الرأسمال سوقا هي بمثابة احتياطي خام للربح والمردودية. وتكون، في نفس الآن، حزاما وقائيا لنظام الرسملة، وسنده الدائم الذي يمنحه ما يحتاجه من تبرير ليحافظ على هيمنته كنموذج عالمي، ويمكنه من تجديد شرعيته بشكل مسترسل ومتسارع، باعتبار نفسه النموذج الذي يتضمن الإمكانات “المطلقة” لتلبية الحاجيات والرغبات المتدفقة بدون حدود والأكثر صميمية بالنسبة للإنسان ولعالمه. ولم يكن بالإمكان أن تكون المعلومة الوجه الثاني للرسملة إلا من خلال إرادة الهيمنة التي تحرك النظام الرأسمالي لتجعله مدفوعا بغايات كونية مسكونا بعنف تشميلي: تحويل العالم إلى سوق كونية، تحويل الكائنات البشرية أينما كانت إلى نسخ مطابقة لكائن واحد هو المستهلك، وتحويل الأنشطة الإنسانية كلها كيفما كان نوعها إلى أنشطة استهلاكية. هذا النظام المشكل من جدلية الرسملة وإرادة الهيمنة والمعلومة، هو الذي جعل الإعلام في وضعه الراهن ممكنا. وأكثر من ذلك جعله مفعولا من مفعولاته، ينخرط في عملية دائمة تعمل على تهييء العالم للاجتياح الكلي لنظام الرسملة. لذلك لم يكن بإمكان الإعلام أن يكون مجرد فضاء للإخبار، للشفافية، للتبليغ، أو للتواصل، بقدر ما هو مجال لانتعاش هيمنة، وضمان سيادتها.

إن السؤال الأنطولوجي عن معنى الحاضر، وعن الدلالة التي تكتسيها الإقامة في اللحظة الراهنة، وعن نمط العلاقة التي تربط الكائن هنا [Dasein] بآنيته، وكيف يكون متاخما للحظته؟ وما معنى أن نكون معاصرين لحاضرنا؟ كل هذه الأسئلة، أصبح الإعلام [السمعي-البصري ] يستأثر بحق الإجابة عنها. إنه يحدد ما الذي يجب أن نكون عليه لنكون من الحاضر. ويحول هذا الحاضر إلى نموذج معياري، تقاس عليه درجة الانتماء إلى العصر. ونلاحظ اليوم أن الإجابة عن هذه الأسئلة يضمنها الإعلام المهيمن عالميا تأويلا اقتصاديا متطرفا، يحدد الوصفة الجاهزة للإقامة في الحاضر فيما يلي: اقتصاد السوق، حرية المبادلات(3)؛ التخلص والإلغاء التام لكل النفقات والالتزامات الاجتماعية اتجاه العمال التي تثقل كاهل المقاولات وتعيق تطور الرأسمال، وتقيد دينامية الاستثمار؛ المنافسة الحرة…” هذه عناصر الوصفة الجاهزة التي لا يتوقف الإعلام المهيمن عالميا عن تقديمها كنموذج معياري للعصرنة. وبالمقابل يقدم كل ما من شأنه أن يدافع عن القطاع العام أو عن الحقوق الاجتماعية للعمال بمثابة سلفية اقتصادية متجاوزة، أو تركة رثة لعهد قديم انقضى وزال.

الزمن الإيقوني

إن الوضع الحالي للإعلام، يفرض علينا زمنا جديدا للحقيقة. فمنذ اليونان والفلاسفة يشتغلون على سؤال مركزي متعلق بالحقيقة وبكيفية الوصول إليها. وما هي أنجع الاستدلالات التي بإمكاننا اعتمادها. وكيف يجب أن تكون المقدمات التي تتأسس عليها استدلالاتنا من أجل الحقيقة. كان التساؤل عن: ما الذي يمكن أن يكون حقيقة، وكيفية تولده في العالم، يجد معقله الأصلي في نقطة الالتقاء بين الأنطولوجيا والإبستمولوجيا. حيث يصبح التساؤل الإبستمولوجي تأويلا لوضع أنطولوجي سابق. تفترض الإجابة عليه نسقا يحدد التشكيلات القبلية المكونة من المبادئ والقواعد التي تسمح بتعيين الحقيقي من حيث هو كذلك. وكان كل ذلك نتيجة مجهود نقدي متأن. لكننا اليوم نجد أن الإعلام [السمعي-البصري ] يرسم عتبة زمن جديد للحقيقة. سمته الأساسية الأولى هو التقليص المستمر لحيز السؤال وإبطال مفعوله بشكل تدريجي. ولم تعد شروط الحقيقة هي المبادئ العقلية الخالصة، أو مقولات الفهم، أو شروط صحة الاستدلالات والبراهين والأقيسة والاستقراءات، بل أصبحت هذه الشروط تقنية محضة: الإنارة، قوة تأثير المقاطع المسوقية، فعالية توهيم الصورة، زوايا اللقطات المقدمة في الصور، الأداء الصوتي للمعلق، المكياج، الجنيريك، الميكساج، التقطيع والتركيب [ المونطاج ]… هذه هي الشروط التي تشيد صرح الحقيقة، والتي تقدمها في هيئة تركيب سينوغرافي. وهكذا فمسألة الحقيقة تحولت إلى إدراكات خامة، متسارعة، لسيل نت الصور المعروضة، ولتدفق من التعليقات. إن الحقيقي لم يعد ممكنا إلا من خلال ما تتيحه هذه الصور وما تفرضه فيه مؤثراتها الخاصة من ضرورة نفسية [وليست عقلية]. إن الزمن الجديد للحقيقة الذي يفرضه الإعلام، هو زمن إيقوني. فإذا كان العرف السيميوطيقي يحدد الأيقونة باعتبارها العلامة التي تطابق مرجعها الخارجي أو على الأقل تشابهه، فإن الزمن الإيقوني هو الزمن الذي أصبحت فيه الأيقونة أهم وأخطر من مرجعها، والتعليق على الحدث أهم وأخطر من الحدث نفسه. والتأويل أهم من النص. في هذا الزمن لم يعد هناك من حدث سوى ما يقال عنه من كلام وما يقدم عنه من صور. لم يعد “الواقع” هو المرجع الأصلي الذي يحسم في قيمة الإيقونة [ الصورة] وجودتها. بل بالعكس أصبحت الإيقونة هي المرجع الأسمى الذي يحسم في واقعية الواقع. والحدث لا يستمد فعليته إلا من الصورة [الإعلامية] التي تقدمه. لقد أصبحت الإيقونة معقل الحقيقة. إن هذه السطوة الإعلامية جعلتنا نعيش عودة غريبة لأفلاطونية مشبوهة ومشوهة. فعالم المثل أصبح مجسدا. إلا أن هذه المثل ليست نماذج عقلية مجردة وثابتة بقدر ما هي صور بصرية حسية. إنها النماذج التي تمنح الحقيقي حقيقته. فإيقونات الإعلام لم تعد نسخا للعالم باعتباره مرجعها الخارجي الأصلي، بل أصبحت هي النماذج التي تعزز نسخها في ما تحدده كواقع. إن حدود العالم الذهني للمتلقي لن ترسم من خلال اندماجه في واقعه، بل من خلال تلك السلالة المتدفقة من الإيقونات -الصور- وذلك التراكم من التعليقات التي يقدمها له الإعلام. لقد أصبحت الأشباح والظلال -الإحالة هنا إلى الكهف الأفلاطوني- هي الأصل، هي الحقيقة، هي المعيار، هي المستشار موضع الثقة الذي نلجأ إليه لكي يحدد لنا ما الذي وقع وما الذي لم يقع، الكائن وغير الكائن والواجب كونه. ومن تجليات كل هذا أن العالم أصبح مشهدا للفرجة، والواقع لم يعد هو ما يعاش بل ما يرى على الشاشة. إن الإيقونة الإعلامية ليست إلا تبديدا للعالم بما هو وقائع خامة.

بذلك نلاحظ أن “الزمن الإيقوني” للحقيقة هو الزمن الذي صار فيه العالم مغتربا عن ذاته في الصورة والكلمة. في وضعية تنزاح فيها حقائقه عن أحداثه انزياحا كان من نتائجه الأولى أن الصورة لم تعد أثرا مثبتا للواقع في صيرورة انبنائه وتلاشيه. بل الواقع هو الذي صار أثرا منمحيا للصورة. أثرا ليس بإمكانه أن يعلن عن نفسه في زواله الأكيد خارج اعتراف الصورة به. إذ ليس له خارج هذا الاعتراف إلا الحلول في سديم العدم.

إن الإعلام بعيد جدا عن أن يكون مرآة العالم الصافية. كما أنه ليس تسويقا للخبر والمعلومة -كما يدعى- بل تسوق للرأي. لذلك ليس بإمكانه أن يكون شفافا. فالشفافية الإعلامية ليست إلا تعتيما مضمرا. إذ أنه لا يظهر حدثا إلا ويلغي أحداثا أخرى، ولا يبرز خطابا إلى الواجهة إلا ويخفي خطابات أخرى. إنه لا يخبر وإنما يؤول. لا يصف وإنما يصنع موقفا… إنه يفتح أفقا للقرب. حيث يغدو العالم قرية صغيرة. أي يتحول إلى إمكانية للقرب المطلق بفعل هذا التوسط الشمولي -غير الهيغيلي- الذ تصير معه كل نقطة أقرب إلى أقصى نقطة بعدا عنها، من ذاتها. إن تقنية الاتصال عن بعد لم تكن في خدمة التواصل بقدرما كانت في خدمة التحكم والسيطرة عن بعد. لذلك فإن التخوف ينبع أساسا من أن يتحول هذا القرب إلى تطابق، إلى سيادة مطلقة للتشابه، للنسخ والاستنساخ، أي تلويحا لشبح الواحد الممتد بشكل لا متناهي المنعكس في كل “صغيرة وكبيرة” [النموذج الواحد، الموقف الواحد، الرأي الواحد…].

إذا كان الزمن الفلسفي الحالي هو زمن الاختلاف، فإن سطوة الإعلام تؤشر على مفعول عكسي لكل هذا. تجعل العالم موضوعا للعنف التشميلي للوحدة والتنميط والنمذجة. عالم إيقوني مرجعه الأصلي الذي يسعى للتطابق معه هو الصور التي يعرضها الإعلام وما يحايثها من نموذج. ولا ندري هل لا زال بإمكاننا مع هذه السطوة الإعلامية -السمعية البصرية- أن نقول مع جيل دولوز: “العالم الحديث هو عالم السيمولاكرات”(4)؟ ألن يصير العكس، حيث يجعلنا الإعلام أمام عالم قيد التكون هو عالم المشابهة، عالم الإيقونة والتطابق والوحدة. عالم يسكنه كائن واحد منتشر في نسخ لا متناهية؟ وهل بإمكان الاختلاف أن يصمد، وأن يكون قوة إيجابية تجري مفعولها كمقاومة لفاشية النمط؟.. إن ما يقلق أكثر هو أن يكون الإعلام في أقصى إمكاناته إيدانا بتدمير وشيك لكل اختلاف! إيدانا بعالم بدون اختلاف!…

إن فعالية الإعلام تعتمد التمويهات التالية:

1 – عنف الإيصال يقدم كتواصل تلقائي.

2 – المنظور للحدث يقدم كحقيقة للحدث.

3 – قسرية الرأي تقدم كمعلومة خام وخبر صاف.

4 – انتقائية التأويل تقدم كبراءة للوصف والنقل الشفاف.

أما حقل هذه التوهيمات فهو المتلقي. الفضاء الشاسع للاستقبال والمحروم من حق الإرسال. إن كل ما ورد سالفا يجعلنا نتساءل عن أي كائن مستقبلي يلوح في الأفق؟ وعن هذا الإنسان الذي يتهيأ التاريخ المعاصر لولادته؟ وهل فعلا لا زال وعد الزمن الآتي هو الإنسان الأعلى النتشوي؟.. هل بإمكاننا أن نساير أولئك المستبشرين بالثورة الإعلامية، باعتبارها بوابة عهد الحوار والتواصل والتنوع والتعدد؟ ألا يمكن أن نستشعر أن العالم منفتح -بفعل هذه الثورة الإعلامية ذاتها- على أفق تلوح من خلاله دوغمائية جديدة عليها يقع رهان العولمة؟!

ربما

مجلة الجابري – العدد السادس عشر


الهوامش (الزمن الإيقوني):

1 – مطاع صفدي: “في نقد الشر المحض” مجلة الفكر العربي المعاصر، ع.84-85، 1991.

2 – فرانسوا برون: “إيديولوجيا هذه الأيام” تعريب عبد الكريم شوطا. مجلة فكر ونقد، ع.3 نوفمبر 1997.

3 – نلاحظ الوضع الحالي للحرية والمسخ الذي تعرض له. حيث انقلب الوضع من المطالبة بالزيادة في حرية الفرد إلى المطالبة بالزيادة في حرية المقاولة.

4 – G.DELEUZE: “Différence et répétition” P.U.F, 7ème édition 1993, p.1.