مجلة حكمة
المشرحي الشرق

“الشرق” في الخطاب المسرحي الغربي المعاصر: من الاستيهام إلى خلخلة المركزية الثقافية – حسن يوسفي


1 المثقف المسرحي بين أوهام ثقافته وجاذبية الشرق :

ليس من اليسير على كل مثقف أن يحول عشقه لثقافة الآخر وانجذابه نحو سحر جمالياتـها إلى استراتيجية تدميرية أو تفكيكية، على الأقل، لثقافته الخاصة وكيانه الميتافيزيقي الأصلي. ذلك أن عملية بـهذا الحجم تتطلب وعيا عميقا بالأشياء، ومناعة فكرية قوية قادرة على المساءلة وإعادة النظر في كل ما تأسس من يقينيات، وإحساسا عميقا بنظام الأشياء في ثقافة الذات مقارنة مع ثقافة الآخر، وجرأة على قول كل شيء ولو كان الثمن غاليا كالنفي أو الحجز أو النبذ والإقصاء.

إن مثقفين مسرحيين من حجم برتولد بريشت أو أنطونان أرطو أو رولان بارت أو جينيو باربا – على الرغم من تمايز مساراتـهم الفكرية والفنية واختلاف طرق عشقهم للآخر/ الشرق – يشكلون صنفا متميزا داخل الثقافة الغربية، يجمعهم موقف تاريخي وحضاري واحد يتمثل في اعتبار نزعة التمركز الذاتي الغربية وهماً ينبغي خلخلته بكل الوسائل المتاحة، ولا سيما منها ما يتصل بالمسرح باعتباره ظاهرة سيميولوجية وأنثربولوجية.

لقد استطاع كل واحد من هؤلاء أن يحول عشقه لجماليات الشرق (اليابان، الصين والهند) إلى جسر للعبور نحو تخوم الكائن ونحو أشكال التعبير الجسدي واللغوي عن هذه التخوم في إطار يحقق ” المصالحة مع الكون”، هذه المصالحة التي افتقدت داخل ثقافة غربية قائمة على تدمير الإنسان.

لقد أدرك هؤلاء المثقفون جيدا أن الغرب هيأ لنـزعته المركزية عبر التاريخ، ما يكفي من الأوهام الثقافية والتاريخية، ومنها في هذا السياق المسرحي الذي نتحدث عنه ذلك “الوهم المزدوج” الذي تحدث عنه جان دوفينيو قائلا: ” ثمة حكمان مسبقان يؤثران بقوة على معرفتنا بالفن الدرامي. الأول – الذي لم يطرح موضع تساؤل أبدا – يسلم بأن الإبداع الدرامي كوني، وبأن المسرح باعتباره كذلك ينبغي أن يكون هو التعبير الأسمى لكل حضارة. الثاني أكثر خطورة لأنه يدعي تفسير الإبداع المسرحي بـ “تاريخ للمسرح” مزعوم، يتخذ شكل تيار واسع يجد منبعه في بدائية عجائبية” (1).

هذه الأوهام التي انبثقت مع ما يسمى بعصر الأنوار والعصر الثوري سرعان ما بلغت أوجها في إطار الفكر الليبرالي للقرن الماضي، واستنادا عليها أقيم تصور مركزي حول الفكرة المسرحية لدى بعض المثقفين الغربيين المعاصرين ومنهم – على سبيل المثال لا الحصر – جورج ستاينر وذلك من خلال موقفه بخصوص التراجيديا. لقد أكد أن ” كل الناس يعرفون ما هي التراجيديا في الحياة، إلا أن التراجيديا باعتبارها شكلا دراميا ليست مقولة عالمية. لقد عرف الفن الشرقي العنف، المعاناة و الكارثة الطبيعية أو المصطنعة؛ والمسرح الياباني مليء بالحركة العنيفة والموت الاحتفالي. لكن هذا الرسم للمعاناة والبطولة الشخصيين الذي نسميه مسرحا تراجيديا، خاص بالتقليد الغربي”(2).

من داخل مثل هذه الأوهام الثقافية ومن خارجها في آن واحد، انبثقت مواقف تؤمن بالاختلاف كقيمة ثقافية، وتدرك الوجه الخفي للميتافيزيقا الغربية، وتعبر عن الحاجة إلى مرايا الشرق للكشف عن عيوب الغرب. ذلك أن للشرق قوته التي بدأ الاعتراف بـها منذ المراحل المتقدمة في علاقة الشرق والغرب المعروفة بالتبشير الديني، ليصل أوجه مع المرحلة المعاصرة حيث تحول الاعتراف إلى استراتيجية لتفكيك الذات الغربية كما هو الشأن لدى بعض المثقفين المسرحيين.

ثـمة درس تاريخي لا بد من تذكره كلما أردنا الحديث عن علاقة الشرق والغرب، ويتعلق بتغير نظرة الغرب إلى ذاته من جراء هذه العلاقة. هذا الدرس يقدم لنا عبد الله العروي بعض معطياته في فصل بعنوان : “أوروبا وغيرها” من كتابه “ثقافتنا في ضوء التاريخ” حيث يؤكد أن المبشرين في آسيا كانوا يعرضون عقيدتـهم بكيفية مقنعة اعترافا منهم بقوة الغير. وحين تغير شكل السيطرة الأوروبية واتخذ أشكال العنف والتهديد، وبدأت ردود الفعل، تغيرت نظرة أوروبا إلى ذاتـها. يقول العروي عن هذا الجانب: ” دأبت أوروبا تقول لغيرها : افعل مثلي، وغيرها يرد : ومن أنت؟ وبدأ بين الإثنين حوار لم ينقطع بعد : تتغير أوروبا بتغير غيرها، ويرغمها تساؤل غيرها على وضع نفسها موضع التساؤل”(3). لقد لعبت قوة الآخر – الشرق وردود فعله، إذن، دورا كبيرا في زعزعة يقينيات التمركز الثقافي الغربي، لكنها وجدت في تناقضات الأطروحة الغربية نفسها ما يعضد هذا الموقف. لذا، يمكن القول – مع كمال عبد اللطيف – بأنه ” لم تكن المقاومة التي أبدتـها الشعوب غير الأوروبية هي الوسيلة الوحيدة التي كشفت تناقضات المشروع الثقافي الغربي في مستويات متعددة، بل إن تناقضات أطروحة التمركز الغربي ظهرت في صلب المشروع الثقافي الغربي، وهو الأمر الذي سنطلق عليه نعت النقد الداخلي للمركزية المعرفية الغربية”(4).

في سياق هذا الموقف النقدي الأخير يتعين وضع ذلك الانجذاب العميق نحو الشرق وجـمالياته لدى كل من بريشت، أرطو، بارت و باربا. لقد حولوا استيهاماتـهم إلى رؤية نقدية وموقف تاريخي من حضارة بكاملها.

2 – سحر الفرجة الشرقية وطرق اكتشافها :

لقد اكتشف المسرحيون الغربيون جماليات الشرق بطريقتين : طريقة الغزو الغربي للشرق التي سهلت على الكثير منهم الانتقال، إما بشكل فردي أو مؤسسي منظم، إلى الشرق والتعرف عليه عن كثب (رولان بارت، مثلا، قضى فترة طويلة في اليابان بين (1966و 1970)، ثم طريقة الجولات الفنية الشرقية في الغرب حيث كانت تعرض أشكال الفرجة المختلفة من رقص ومسرح وفنون حرب. كانت هذه الجولات تمر عبر طريقين: طريق الشمال – كما يسميها الشرقيون – وهي بالنسبة إليهم الاتحاد السوفياتي (سابقا) وألمانيا، أو طريق الجنوب وهي طريق البحر الأبيض المتوسط. ويبدو أن الفضل في اكتشاف العديد من المسرحيين الغربيين للفرجة الشرقية يعود إلى الطريق الأولى. فبريشت، مثلا، اكتشف المسرح الصيني عند ذهابه إلى الاتحاد السوفياتي سنة 1935 حين كان الممثل الصيني مي لان فانغ Mei Lan Fang يقوم بجولة مسرحية هناك، وقد كانت هذه المصادفة حاسمة في تاريخ النظرية البريشتية.

إلى جانب الاتصال المباشر، كانت هناك قناة أخرى للتعرف على الجماليات الشرقية هي قناة القراءة. لكن هذه الوسيلة لم تقنع بعض المسرحيين كمايرهولد الذي قال بأنه تعرف على مسرح الكابوكي: Kabuki بشكل نظري عن طريق القراءة، لكنه عندما حضر عرضا لهذا النوع من المسرح الياباني بدا له وكأنه لم يقرأ شيئا عنه.

إن إصرار المثقفين المسرحيين الغربيين على الاتصال المباشر بالفرجة الشرقية يفهم منه أن الشرق بالنسبة إليهم – تجاوز كونه ” استيهاما فنيا” أو ” يوتوبيا مسرحية” ليصبح بمثابة دعامة سيكولوجية لمثقفين أفقدتـهم حضارتـهم المتغيرة باستمرار ذلك الإحساس الطفولي المجسد في العودة إلى الطبيعة وتحقيق المصالحة مع الكون؛ أو بالأحرى ليتحول إلى أداة كفيلة بمعالجة أمراض حضارة مادية تقوم على استلاب الإنسان وتغريبه عن ذاته.

إن طبيعة الخطابات التي بلورها المسرحيون الغربيون عن الشرق تسير في هذا الاتجاه، وهي تقوم بموازاة خطابات أخرى بلورها باحثون في العلوم الإنسانية تثير الانتباه إلى أهمية التعرف على جماليات الشرق، ونذكر من بينهم إتيان سوريو الذي خص هذه الجماليات بفصل من كتابه ” الجمالية عبر العصور” تحدث فيه عن الهند والصين واليابان. يقول عن الفن الهندي، مثلا : ” يحسن بنا أن نعير انتباها خاصا للفن الهندي، وليس ذلك بسبب ما يتمتع به هذا الفن من ميزات خاصة فحسب، وإنما بسبب ما جادت به أيدي مبدعيه من اعتبارات ذات منحى جمالي. والواقع أن ثمة جمالية هندية جد متميزة. من صفاتـها الكبرى أنـها أدخلت ممارسة الفن في نطاق اجتماعي وديني مترابط. فليس من شيء – في التفكير الهندي – أغرب من اعتبار الفنان إنسانا يعرض عمله لإشباع الحاجات عند الآخرين، استجابة لداع خارج عن ذاته ؛ وهكذا فإن ممارسة الفن هي نشاط روحي قبل كل شيء. ومن هنا يبدو موقف الفنان، من بعض الوجوه وكأنه أقرب ما يكون إلى المفاهيم البدائية التي تجعل من الفن عملا من أعمال السحر” (5). مثل هذه الخصائص هي التي تصنع قوة الفرجة الشرقية وتجعل العودة إليها ضربا من “العودة إلى الأصول” كما سنرى ذلك مع أنطونان أرطو.

3 – أنطونان أرطو : الشرق درس في الروحانيات

لقد أصاب جاك ديريدا عندما تحدث عن نصوص ” المسرح وقرينه” بقوله : ” هي تحريضات أكثر مما هي مجموعة إرشادات؛ نسق من الانتقادات يرج تاريخ الغرب بأكمله أكثر مما هي رسالة في الممارسة المسرحية” (6).

إن فيلسوف الاختلاف أدرك جيدا عمق هذه النصوص التي لم تخلخل بنية المسرح الغربي وحسب، وإنما زعزعت كيان الميتافيزيقا الغربية بأكملها.

وليس غريبا أن تكون فصول عريضة من كتاب أرطو مخصصة للمسرح الشرقي بشكل عام والمسرح الباليني Balinais، على وجه الخصوص. إن أرطو حاول أن يرسم من خلالـها الوجه الآخر المفقود للمسرح الغربي، أي الوجه الذي ينبني فيه المسرح على “حالة ما قبل اللغة”، وتمحي فيه ملامح ” تعهّر الفكرة المسرحية”، ويضمن للغة المسرح خصوصيتها وصفاءها، وبالتالي ، طابعها “الفيزيقي”.

لقد أكد أرطو أن على المسرح الغربي الذي يجهل خصوصية المسرح أن ” يطلب من المسرح الباليني درسا في الروحانيات Spiritualité“. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الانجذاب نحو الروحانيات الشرقية لم يكن شيئا طارئا على شخصية أرطو، وهو الذي عاش تجربة الجنون المريرة، وعرف عنه اهتمامه بالأديان والفنون الشرقية، واشتهر بانتمائه إلى الاتجاه السريالي.

نذكر، في هذا السياق، أنه كان يشرف، خلال فترة معينة، على مجلة السرياليين المعروفة ب” الثورة السريالية” حيث كتب سنة 1925 معظم مواد العدد الثالث الذي قيل عنه إنه ” تمجيد للشرق وقيمه”، لا سيما وأنه تضمن مقالين لأرطو : خطاب لمدارس بوذا وخطاب للدّلاي لا ما. ولعل من يقرأ مقطعا من هذا الخطاب الأخير، سوف يلاحظ كيف كانت نظرة أرطو إلى ثقافته الغربية، وكيف كان يرى أن الطمأنينة الروحية موجودة في الشرق. يقول مخاطبا الدّلاي لا ما : “نحن خدمك الأوفياء أيها اللاّما العظيم، أعطنا، ابعث لنا من نورك في لغة تستطيع فهمها العقول الأوروبية الملوثة، وإن كان ضروريا، غيّر من أرواحنا واجعل لنا أرواحا تتجه إلى العلي الأسمى حيث تنجو روح الإنسان من العذاب. “(7)

إن أرطو الذي أتيحت له فرصة حضور عرض للرقص الباليني في معرض المستعمرات سنة 1931، عرف كيف يحول عشقه للشرق إلى أداة تدميرية للمسرح الغربي لأنه كان يرى أن هذا المسرح ” مسرح أبله، مجنون ومنقلب”، وبالتالي للثقافة الغربية التي كان يصفها بأوصاف جارحة حيث كان يعتبرها ” قبرا مدهونا بالجير” و “مكانا للكلاب والفكر المتعفن”.

4 – برتولد بريشت : الشرق نظام مجسد من الأشياء والممارسات

لبريشت شرقه الخاص الذي تعد الصين مظهره المتميز. وهذا الاختيار ليس اعتباطيا. لأنه يعكس – حسب جورج بانو – تخطيطا محكما وصورة لبرنامج محدد. لم يبحث بريشت في الشرق عن الروحانيات كما فعل أرطو، لأن اهتمامه انصب، أساسا، على “الشرق المجسد” الذي جعله ينفتح على لغة جديدة، وإمكانية للاختلاف، وثورة على الإنسان الرمزية المعهودة. وهو بهذا يلتقي بشكل كبير مع رولان بارت (لا عجب أن يكون هذا الأخير أحد النقاد الذين دافعوا كثيرا عن الجمالية البريشتية في فترة معينة).

ولتوضيح الخلفية المتحكمة في التعامل البريشتي مع الشرق، يؤكد بانو ” أن اختيار بريشت في مقاربته للشرق يؤكد عشقه للواقع. فالشرق الذي يعشقه ليس آخر Autre وحسب، وإنما مجموع أشياء وممارسات وعلامات كلها مجسدة، يختبرها من أجل ملامسة العالم بشكل أفضل. لقد اعتبر الشرق فضاء ماديا يمكن تجزيئه؛ ليس له لا وحدة كيان مجرد، ولا ثخانة مرجع مؤكد” (8).

لقد حول بريشت الشرق بأشيائه المادية وممارساته وعلاماته إلى أداة إجرائية لإعادة النظر في العديد من اليقينيات الغربية، تمكن من مساءلة مفاهيم أساسية كالـهوية والأصالة والأخلاق. لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح هو : كيف تشكلت المعرفة البريشتية؟ وكيف تحولت هذه المعرفة إلى مكون أساسي داخل النظرية المسرحية البريشتية؟

يشير بانو إلى أن الشرق كان حاضرا بقوة في الحياة اليومية البريشتية. فمكتبه كان مؤثثا بمواد شرقية على رأسها أقنعة من مسرح ” النّو No” الياباني. وطبيعي جدا أن يكون لـهذا الحضور الملموس تأثير على المجال الإدراكي وعلى حركة تفكير بريشت، وبالتالي، على متخيله. هذا التأثير سوف يبلغ مداه عندما سيتوصل بـهدية شرقية سنة 1944 كانت عبارة عن “كتاب الأشعار الصينية”. بوصول هذه الهدية، أصبح اشتغال بريشت على الشرق مزدوجا : اشتغال على الملموس (الأشياء) واشتغال على المكتوب (الشعر الصيني)، مما سيحول الشرق، بالنسبة إليه، إلى دعامة للكتابة ومرجع نظري مهم. ولعل ما عمق التوجيه الشرقي للنظرية البريشتية هو الصدفة التي سنحت له بحضور عروض مي لان فانغ المسرحية في الاتحاد السوفياتي سنة 1935، حيث ستصبح مسألة “التغريب Distanciation“، منذ ذلك التاريخ، قضية مركزية في تفكير بريشت وخطاباته النظرية.

لقد اكتشف بريشت أن قوة الجماليات الشرقية تكمن في الحفاظ على التقليد مع تحقيق الأصالة والفردية. صحيح أن الشرقيين قاموا ببعض التحويلات في مسارحهم، إلا أنهم لم يسقطوا في “أسطورة التغيير” الغربية. وجدير بالذكر أن اللجوء البريشتي للجمالية الشرقية ليس لجوءا جماليا محضا وإنما هو لجوء سياسي أيضا. إنه شكل من التقنع والتستر للتعبير عن أحلام سياسية في سياق عرف صعود الفاشية والنازية.

وإذا كان هذا البعد السياسي يحتاج إلى وقفة خاصة ليس هذا سياقها، فإن ما يمكن تأكيده، من الناحية الجمالية على الأقل، هو أن الجاذبية القوية للوحة التشكيلية الصينية، وما تتميز به من غياب لسلطة المنظور perspective، وبالتالي، لوجهة النظر المميزة بشكل يسمح للمتفرج التحرك بحرية وعدم الخضوع للنظرة الأحادية، قد جعلت بريشت يتخذها مطية لإعلان موقفه من التنظيم الغربي للوحة، هذا التنظيم الذي يقوم – في نظره – على أساس وجود ” مركز” يخضع له المشاهد ويؤدي إلى اندماجه. ومعلوم أن هذه الاندماجية هي الخاصية التي انتقدها بريشت بشدة ليس لارتباطها باللوحة فقط، وإنما لارتباطها، أساسا، بالمسرح الدرامي الأرسطي القائم على ما يسمى بـ “منظور الأمير”، ولكونها تعكس نـزعة مركزية تقوم على استلاب الإنسان واعتبار “المركز هو مكان الحقيقة”. ولعل هذا ما يتنافى مع المنظور البريشتي الذي يؤمن بالنسبية وبالدور التاريخي للإنسان وقدرته على تحويل ” نظام الأشياء Système des objets” داخل ثقافته.

5 – رولان بارت : الشرق إمبراطورية علامات

قد يبدو للبعض أن الحديث عن بارت ضمن المسرحيين الغربيين أمر غير وارد، لكن العارفين بالمسار الفكري والأدبي لـهذا الرجل يدركون أنه كان من أعمدة المسرح الغربي المعاصر، ساهم إلى جانب أقطاب آخرين في تحرير مجلة ” مسرح شعبي” الشهيرة، وكتب دراسات نقدية في المسرح عن راسين وبريشت وغيرهما. وعند ذهابه إلى اليابان كان المسرح الياباني من الأشياء الهامة التي أثارته وكتب عنه مقاطع متميزة في كتابه المثير ” إمبراطورية العلامات ” الذي كرّسه كله للثقافة اليابانية في مختلف تجلياتـها. لذا، فإن من أراد اكتشاف شرق بارت مطالب بالعودة إلى هذا الكتاب.

لقد قضى بارت فترات طويلة في اليابان بين 1966 و 1970 حيث تحولت إقامته في هذا البلد الشرقي إلى عشق لا يقاوم. ولعل المثير في هذا العشق هو أنه تحوّل إلى ” جني للآثار المشرقة لحضارة لم يساهم في صنعها”، وأصبح، بالتالي ، منتجا لفكر ومخصبا لآلياته. ويبدو أن الياباني يوشيكو إيشيكاوا Yoshiko Ishikawa، الذي أنجز أطروحة عن بارت قد أدرك جيدا هذا البعد في عشق بارت لليابان حين قال : ” إن العشق وحده، سواء كان سعيدا أو مؤلما، يؤدي إما إلى استيهام عقيم، أو إلى نوع من العي الأدبي. لكن حينما يلتقي العشق مع التفكير في هدوء والعزلة عن الآخرين ، فإنه يتحول إلى طاقة تشع الأفكار المتفرقة وتمنحها تناسقا وقوة أدبية. ” (9).

في هذا الإطار، لم يكن غريبا على مثقف في حجم بارت تسنده استراتيجية ثقافية واضحة تقوم على البحث في الاختلاف وتحول الأنسقة الرمزية، ويمتلك العدة المعرفية الكفيلة ببلورة هذه الاستراتيجية، أن يحول عشقه إلى معرفة، وبالتالي ، إلى كتابة.

ولعل المثير حقا هنا، هو أن مفهوم الكتابة نفسه يصبح طقسا له نكهة يابانية، فيه من العمق والخلخلة ما يجعله بمثابة ” ساتوري Un Satori؛ والساتوري ( أي الحدث زن (Zen زلزال قوي نوعا ما ( وليس احتفاليا أبدا) يخلخل المعرفة والذات” (10). والكتابة بـهذا المعنى لا تتعامل مع موضوعاتـها بنفس المنظور الغربي التمييزي الذي يقوم على الانتقاء والرفض والذي تكرسه ” السيميوقراطية الغربية Sémiocratie occidentale” حسب تعبير بارت نفسه.

إن الكتابة عن اليابان في “إمبراطورية العلامات” هي كتابة عن مظاهره الثقافية المتعددة بما فيها : شعره (الـهايكو)، لعبه (الباشينكو)، أكله ( التومبورا والسوكيياكي)، مصارعته ( زنككورن) ومسرحه أيضا ( البانراكو).

إن الوقوف على خطاب بارت عن البانراكو – مسرح الدمى الياباني – يكشف الخلخلة التي أحدثها هذا المسرح في منظور بارت إزاء المسرح الغربي. فالبانراكو يفرق بين الفعل والحركة ويحتفظ لكل منهما بكتابته، وهو ما لم يستطع تحقيقه المسرح الغربي الذي ينتج “مسرحا مخجلا”. وفي سياق الحديث عن الكلام في البانراكو، يؤكد بارت أن ميزة هذا المسرح تكمن في تذويبه ” للمواد المـزفتة للمسرح الغربي” ومحوه ” للقوالب الجاهزة” مما يساعد على تحقيق الأثر التغريبي.

إن البانراكو – يقول بارت – ” فرجة شاملة لكنها مقسمة. فهو يقصي الارتجال بطبيعة الحال، لأن العودة إلى التلقائية هي عودة إلى القوالب الجاهزة التي يتشكل منها ” عمقنا” (11). وهذا يتنافى مع طبيعة هذا المسرح الذي يعوض الحديث عن الدواخل بالعمل، ويحول الجسد الفيتيشي Corps Fétiche إلى جسد محبوب. إن الجسد الذي ظل الحديث عنه في الغرب مقترنا باللغة كمكون أساسي، وجده بارت في اليابان وقد خلق لنفسه وجوده الخاص وتحققه الفعلي ونسقه الرمزي المتميز.

وعليه، فإذا كان اكتشافه للجسد والشذرة Fragment في اليابان، قد خلخلا منظوره للمسرح والكتابة، فإن فضاء المدينة اليابانية – مجسدا في طوكيو – قد جعله، بتنظيمها الذي يقوم على كون : ” وسط المدينة وسط فارغ Centre ville centre vide“، يكتشف أن المدينة الغربية – بالمقابل – تجسد بوضوح طبيعة الميتافيزيقا الغربية التي تعتبر ” المركز هو فضاء الحقيقة”، لا سيما وأن كل المرافق الأساسية على المستوى الروحي (الكنيسة) والسلطوي (المكاتب والإدارات) والمالي ( الأبناك) والتجاري (المحلات الكبرى) والكلامي (المقاهي)، توجد كلها وسط المدينة.

إن هذه المواقف تجعلنا نخلص إلى أن بارت جعل من علامات الشرق الثقافية، سواء كانت كلامية أو جسدية أو فضائية، قاعدة للاختلاف تخلخل معرفته وتعيد النظر في كيانه الميتافيزيقي الغربي.

6 -أو جينيوباربا : الشرق مدرسة في الجسد

في إطار تعريفه بمكونات المؤسسة الدولية التي يعد قطبا أساسيا فيها، ألا وهي المعهد الدولي للأنثربولوجيا المسرحية (I.S.T.A)، يتحدث أو جينيو باربا عن ضرورة الاعتماد على الشرقيين لتحقيق معرفة دقيقة بالجسد، حيث يؤكد ” أن الممثلين الشرقيين – حتى عندما ينجزون تدريبا تقنيا وباردا – يمتلكون حضورا يؤثر في المتفرج ويرغمه على مشاهدته. ففي مثل هذه الوضعية لا يعبرون عن شيء، لكن هناك، مع ذلك، شبه مركز طاقة وإشعاع مثير وبارع غير مهيأ سلفا، يسلب حواسنا. إن هذه القوة قبل – تعبيرية. لا يتعلق الأمر – قبليا – ب” تمثيل” ولا بـ “صورة” مسرحية، وإنما بالقوة التي تتفجر من جسد مشكل. لكل هذه الأسباب، فإن مشاركة الأساتذة الشرقيين في معهد (I.S.T.A) أساسية، ليس لكونـهم ينقلون الأساليب و المواضعات الجمالية، الخاصة بثقافتهم المسرحية، وإنما لأنـهم يمتلكون “سر” التقنيات التي تسمح بتشكيل الجسد وإخضاعه، أي تسمح ببناء تقنيته الخاصة الخارج- يومية” (12).

إن بناء “الأنثربولوجيا المسرحية” باعتبارها علما جديدا، لا يستقيم – في نظر باربا – إلا بالاعتماد على ثقافة الشرق،لا سيما وأن الغرب لا يقوم “المادة التجريبية” الأساسية المتصلة بالجسد الذي يشكل موضوع هذا العلم – من ثم، فالاعتماد على الثقافة الغربية وحدها لا يخدم أهداف المعهد، خصوصا وأن “التقليد المسرحي الغربي فضل النظريات واليوتوبيات، ورفض المقاربة الإمبريقية الأصيلة لظاهرة الممثل” (13).

والملاحظ أن منظور باربا تحكمه استراتيجية مزدوجة : تقوم – عمليا – على تداخل التخصصات Interdisciplinarité، وتبنى – ثقافيا – على أساس العبر – ثقافي Transculturel. لذا، فلا عجب أن نجد المعهد الدولي للأنثربولوجيا المسرحية يجمع بين البيولوجيين وعلماء النفس واللسانيين والسيميولوجيين والأنثربولوجيين، ويساهم فيه مثقفون ينتمون لثقافات مختلفة على رأسها الثقافة الشرقية.

إن قاعدة العمل، إذن، هي التعددية والاختلاف ونبذ المركزية الثقافية. لـهذا، لا نستغرب أن يكون “المعجم الأنثربولوجي” الذي أنجزه باربا وسافاريز، والذي يحتوي على المفاهيم الأساسية للأنثربولوجيا المسرحية، معجما شرقيا في تصوراته، في صوره التوضيحية وفي تعريفاته المختلفة لأنساق الجسد. إن الشرق، هنا ، يصبح مدرسة أساسية في ثقافة الجسد وعلمه أيضا؛ لا مناص من العودة إليه للخروج بالمسرح الغربي من نفق ” الكلمة” وتحرير الثقافة الغربية من ” وهم المركز” ·

مجلة الجابري – العدد الرابع 


هوامش

1 – Jean Duvignaud – Le theâtre – Livrairie Larousse 1976, p.

2 – Georges Steiner – La mort de la TragédieEditions Galimard 1993, p. 11.

3 – عبد الله العروي – ثقافتنا في ضوء التاريخ – دار التنوير/ المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 1983 – ص 156.

4 – كمال عبد اللطيف – نقد المركزية الثقافية الغربية : أفق لبناء كونية ثقافية مشتركة – العلم الثقافي، السبت 7 أكتوبر 1995.

5 – إتيان سوريو – الجمالية عبر العصور – ترجمة ميشال عامي – سلسلة زدني علما – منشورات عويدات 1982 – ص 187/188.

6 – جاك ديريدا – الكتابة والاختلاف – ترجمة كاظم جهاد – دار توبقال للنشر 1988 – ص 79.

7 – كابيل برونكو – أنطونين آرتو وحلم جزر بالي – محلة “فصول” خاص عن “المسرح والتجريب” المجلد 13 العدد 4 – شتاء 1995 – ص 184.

8 – Georges Banu ) Berthold Brecht ou le petit contre le grand– Editions aubier Montaigne 1981, p.9

9 – Yoshiko Ishikawa – La passion du Japon – Magazine Littéraire – Spécial “Roland Barthes” – n° 314 , Octobre 1993, p. 72.

10 – Roland Barthes – L’Empire des signes , Editions d’art, Albert Skiera, S.A Genève/Flammarion 1970, p.10.

11 – Ibid., p. 71.000000000000

12 – Eugènie Barba – L’archipel du théâtre , contrastes bouffonneries , Imprimé à Carcassonne 1982, p.83.

13 – Eugènie Barba/ Nicole SavareseAnatomie de l’Acteur : Un dictionnaire d’Anthropologie théâtrale , Bouffonneries contrastes , Zeami Libri 1986, p.1.