مجلة حكمة
هجاء الصحراء والبادية في الخطاب العربي المعاصر

هجاء الصحراء والبادية في الخطاب العربي المعاصر

الكاتبخالد سعد القعيب

    رقيقٌ هو الليل في صحراء نجد… المكان هادئٌ جدًّا؛ حتى إنه بالإمكان الإصغاء إلى طنين الصمت. أما النجوم التي تشع ضوءها الفضي، فتمنح المكان طابعًا ملائكيًّا كما لو أنَّ السماء قد أصبحت معرضًا للمجوهرات.

  إنَّ الصحراء بالنسبة للسعوديين فضاء مكانيّ يسمح لهم بإعادة ترميم الذات، وتشكّل فرصة للاحتماء من نزعات القلق التي يحدثها ضجيج المدينة، خاصة ومع سيطرة النموذج الغربي على كثير من الخصائص العمرانية للمدن المعاصرة التي أفقدت الإنسان شعوره بالارتباط بالمكان.

ولطالما كانت الصحراء مثار إعجاب كثيرٍ من الأدباء والروائيين، ولعل من أبرزهم الروائي الليبي إبراهيم الكوني، والمفكر الإيراني علي شريعتي. وسجلت كتابات الرحّالة الغربيين حالة احتفاء بالصحراء العربية، ومن ذلك ما كتبه الرحالة الإنجليزي ولفريد تيسيجر عند اجتيازه لصحراء الجزيرة العربية:

“لم أشعر قط بالحنين إلى الحقول الخضراء والغابات الناضرة، طيلة وجودي بالصحراء القاحلة، ولكنني شعرت بحنين دائم إلى صحراء العرب أثناء وجودي بإنجلترا” 1

   على أن السؤال الذي ربما أثاره عقل القارئ: وما الحاجة إلى الحديث عن الصحراء في عصر تتسابق فيه الدول إلى التسلح بمنجزات الحضارة؟ ثم أليس الأجدر الحديث عن أهمية النهضة الحضارية؟

   ولئنْ كان يحمل السؤال في ذاته قدرًا كبيرًا من الوجاهة، إلا أنّه يكشف عن رؤية اختزالية للحضارة، أضحت جزءًا من التصورات الشعبية التي تحصر مفهوم الحضارة في الإرث المادي كالعمران والبنيان؛ ووفق هذا المنظور تمّ إحلال الصحراء في طرف مضاد ومناقض للحضارة.

وإذا كان هذا الطرح يعكس رؤية تبسيطية للحضارة من جانب، فإنه من جانب آخر يكشف عن نزعة مادية تُعلي من شأن الحسي على المعنوي، أو بحسب وصف الروائي الليبي إبراهيم الكوني: (تقديم ما يُرى على ما لا يُرى). كما يُغفل أنّ مفهوم الحضارة يتسع لمجالات أشمل وأعمق من مجرد البنيان.

صحيحٌ أن العمران يُعدُّ جزءًا أساسيًّا ولا شك من أي نهضة حضارية، إلا أنه يشكّل جزءا بسيطا من الحضارة التي تقوم على حزمة متكاملة من الإرث المادي والمعنوي والثقافي كاللغة والأدب والقيم الأخلاقية والروحية…إلخ، وبغياب هذه المنظومة المعنوية، تغيب -إن لم نقل تندثر- الحضارة. وليس أدلّ على ذلك، من اندثار لغات وآداب حضارات عريقة مع بقاء مآثرها العمرانية، ولذلك فإن الخلود الحقيقي للحضارة يكون بخلود منظومتها المعنوية وهذا ما حدث لصحراء جزيرة العرب.

   لقد أنجبت الصحراء العربية تراثًا أدبيًّا عُدَّ من روائع الأدب العالمي ألا وهو المعلقات الشعرية، التي ما زالت تقرأ باللغة نفسها التي قيلت بها منذ أكثر من 1400 سنة، وهذا يندر أن يحدث في الحضارات الأخرى.

 ويمكن القول إنّ الشعر العربي وليد الصحراء؛ ففي دراسة أكاديمية بعنوان: (أثر الصحراء في نشأة الشعر العربي وتطوره حتى نهاية العصر العباسي الثاني) ذهب الدكتور حمد بن ناصر الدخيل إلى أنَّ الدارس للشعر العربي ليستطيع القول “إن الشعر العربي وليد الصحراء، نشأ على أدبها، وتدرّج في النشأةحتى استقام في صورته الكاملة التي وصلت إلينا في شعر الجاهليين ودواوينهم ومطولاتهم التي بين أيدينا. ولا نبالغ إذا قلنا إننا نجد في كل قصيدة جاهلية أثرا ظاهرا من آثار الصحراء، بل نجد هذا الأثر في شعر جميع العصور التي اقتفت الشعر الجاهلي في ألفاظه ومعانيه وصوره” 2. كما اتخذ بناؤها الفني شكلا صحراويًّا بحتًا كالوقوف على الأطلال والنسيب ووصف الراحلة. وترتقي الصحراء إلى مستوى يجعلها جزءًا من الهُويَّة، فإذا كانت اللغة تُعدُّ المحدد الأول للهوية؛ فإن معجم اللغة العربية مستعار في معظمه من البيئة الصحراوية أو ما يحيل عليها 3.

ليست مجرد صحراء

    كما ينبئنا التاريخ أنه وفي أزهى العصور الذهبية للحضارة العربية، كانت الصحراء منهلًا للمعارف والآداب، وشكّلت للعلماء جزءا جوهريا من مسيرتهم العلمية، ومخزنًا لغويًّا حيًّا يغترف منه النحويون واللغويون والأدباء، دون أن يجدوا في ارتحالهم للبوادي ما يخدش وقارهم العلمي. فالأدباء “كانوا يرحلون إلى الصحراء العربية ليتوثقوا مما يروونه على نحو ما هو معروف عن الأصمعي نفسه وعن أبي عمرو الشيباني الذي يُقال إنه دخل البادية ومعه دَسْتيجتان من حبر، فما خرج حتى أفناهما بكتْبِ سماعِه عن العرب” 4. أما النحويون واللغويون فقد سعوا للقاء البدو لمشافهتهم وأخذ اللغة عنهم، في سعيهم إلى تدوين اللغة العربية للحفاظ عليها من الاندثار؛ بعد أن فشت العُجمة، وكان اللغويون شديدي الحرص على لقاء الأعراب، ويقضون معهم الأيام والأسابيع يسمعون منهم ويكتبون عنهم كل ما يسمعونه5.

  ومن أبرز هؤلاء إمام العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي عدَّ مؤسس العلوم العربية، فَبِهِ بلغ النحو غايتَه واستوى عودُه، وعليه اعتمد تلميذه النجيب سيبويه في كتابه، وهو أول من وضع علم العروض، وأول من اخترع طريقة تدوين المعاجم ومدّ في الأقيسة والتعليل 6.

 ومع جلالة قدر الخليل وعلوِّ كعبه في العلم، لم يجد حرجًا في نسبة الفضل في علمه إلى ما تلقّاه من أفواه أبناء البادية، وذلك حين سأله الكسائي متعجبًا من غزارة علمه: “من أين أخذت علمك هذا؟ فقال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة” 7. وكان من ثمار ارتحاله إلى البوادي أن اجتمع بين يديه مادة غزيرة كانت الركيزة الأولى في بناء معاجم لغوية ضخمة ومصنفات نحوية وأدبية.

وتحت عنوان: “البادية مؤسسة للدراسات العليا في اللغة” يذكر أ.د. إبراهيم فضل الله أن البادية “كانت مقصدا لمن يريد أن يتعلم اللغة بشكل سليم، كما كان أهلها محل تقدير إذا دخلوا المدن، وذلك بهدف الاستفادة من قدراتهم اللغوية”8.

أما البدوي الذي كان يلتقيه النحويون واللغويون، فلم يكن مجرد آلة لغوية، بل تذكر كتب الطبقات أن له دورًا إيجابيًّا مساهمًا في النهضة العلمية وخصوصا في العلوم اللغوية، حيث يقول د. محمد عيد: “إنَّ الأعراب -مصدر اللغة- كانوا ينقلبون أحيانا رواة وعلماء”9،  وأنَّ حلقة يونس بن حبيب في البصرة  كان يؤمّها الأعراب وهو أحد النحاة الذين تتلمذوا للأعراب ثم تتلمذوا هم عليه0 1، كما كان “بالبصرة سوق خاص بالبدو اسمه (المربد) كان بالإضافة إلى أغراضه التجارية يلتقي فيه الخطباء والشعراء والرواد والنسّابون وأرباب البلاغة من مختلف القبائل. وممن تردد على هذا السوق وهو يحمل ألواحًا للكتابة عليها الشاعر أبو نواس بهدف لقاء الأعراب الفصحاء”11.

    وعقد ابن النديم في مصنّفه بابا سرد فيه قائمة طويلة بأسماء فصحاء الأعراب الذين سمع منهم العلماء وأورد أبرز مصنفاتهم2 1، ومنهم أبو مالك عمرو بن كِركِرة وله من الكتب: كتاب ((خلق الإنسان))، و((كتاب الخيل)) 13 وأبو زياد الكِلابي وله من الكتب: ((النوادر))، وكتاب ((الفرْق)) 14 وعبدالرحمن بن عبد الأعلى السُّلَمي المكّنى بأبي عدنان، ومن مصنفاته: كتاب ((القوس)) و((غريب الحديث)) 15وغيرهم كثير.

وبإزاء الصحراء كانت الحواضر العربية والإسلامية تمثّل شعلة من العطاء المعرفي فقد ازدهرت فيها العلوم الإسلامية بشكل أساسي وغيرها من العلوم، وإذا كانت علوم العربية ابنة الصحراء، فإن العلوم الإسلامية ابنة الحواضر.

 والملاحظ أن التراث العربي لم يكن يواجه إشكالية تجاه ثنائية المدينة/ والصحراء، والبداوة/ الحضارة، إذْ لم ينظر العلماء القدماء إلى طرفي العلاقة كطرفين متضادين لا يمكن أن يلتقيا، كما هو الحال الآن في الخطاب العربي المعاصر الذي تأخذ فيه الثنائيات شكل صراع حتمي.

كما أن ثنائية الذات/ الآخر لم تكن إشكالية أيضا، بل امتدت هذه الرؤية العربية المتسامحة إلى إشراك علماء من غير العرب ساهموا في دفع النهضة الحضارية، وما كان للتراث العلمي الإسلامي أن يصل إلى ما وصل إليه لولا تضافر هذه الأطياف مجتمعة.

ذم الصحراء في العصر الحديث

    لكنَّ الصحراء لم تكن دائمًا موضع احتفاء، فهي مِنْ بين المواقع الجغرافية التي نالت من الهجاء أكثر ممّا نالَ غيرُها منه، إلى الحد الذي بات فيه مجردُ التغني بالصحراء بمثابة الردّة الحضارية التي تستوجب التوبة. فبعد أنْ كانت الصحراء في التاريخ العربي مغترَفًا للمعرفة وطرفًا فاعلا في صناعة النهضة العلمية والحضارية، تحضر الصحراء في الخطاب العربي المعاصر متلبّسة بمفهوم يجعلها مرادفة للتخلف والرجعية. وطغى على وعي الإنتلجنسيا العربية خطاب يقوم على ازدراء الصحراء، حتى أصبح ذلك جزءًا من حالة التأنّق اللغوي لخطاب النخبة.

والملاحظ اليوم أنّ الصحراء قد أُقحمت في الصراعات السياسية، وعادة ما تأتي في سياق التعريض بالدول الخليجية والسعودية بشكل خاص، وتتخذ هذه الصراعات شكل طفرات نفسية تأخذ في الفوران والخمود بحسب طبيعة الصراع الدائر في العالم العربي.

  كما أفرز الخطاب العربي المعاصر في هذا السياق مصطلحات ذات دلالة تبخيسية، كــ (ثقافة الصحراء)، (الفكر الصحراوي)، (الإسلام الصحراوي)، (فقه البادية)..إلخ. وهكذا تحولت الصحراء من كونها فضاءً ماديًّا إلى كونها فضاءً مفاهيميًّا، واستطاع هذا الخطاب أنْ يسلب من الصحراء مقولتها الجغرافية لتصبح مقولة تصنيفية، بل يجنح أحيانًا الخطاب العربي إلى حدوده القصوى، فيتّخذ في بعض تمثّلاته طابعًا هجائيًّا حادًّا أقرب إلى التوبيخ منه إلى الخطاب العلمي العقلاني، ويمتدّ الهجاء ليشمل كل ما تحويه الصحراء من إنسان ونبات وحيوان.

    ولأنّ الإنسان هو المعنيُّ في المقام الأول، فقد كان ابن الصحراء – وما زال- غرضًا يُرمى في كثير من الخطابات بداية من الشعوبية وبعض الكتابات الاستشراقية والسرديات الغربية، وتمّ إفراغه من محتواه الإنساني ليصبح إلى الكائنات الشيطانية أقرب منه إلى الكائن البشري، فالبدوي في بعض الأدبيات الاستشراقية والسرديات الغربية “نموذج للنهب والسرقة وقطع الطريق…” 16، ويذكر الدكتور مكي سعد الله أنه “ومع شيوع هذه الهوية المتوهّمة تم تثبيتها معجميا كتعريف لمفهوم ومصطلح البدوي وساكن الصحراء. وتتكرر مشاهد السلبية والعدوانية كلما استحضر البدوي ليرتبط في السرد الغربي المتحيز بكل المظاهر اللا إنسانية والتي صنعت منه آلة للهمجية والبربرية والوحشية، وحملت النصوص والمختارات الأدبية هذه المشاهد لتكون صورة ثابتة ونمطية تتوارثها الأجيال”17.

 ويتماهى الخطاب العربي المعاصر مع هذه الرؤية، حيث ينظر إلى ابن الصحراء بوصفه كائنًا أدنى أخلاقيًّا، وعمِل على تكييف الفرضيات العلمية والمقولات الفلسفية والدينية في إطار سعيه لرسم جغرافيا للأخلاق.

    وهكذا وُضِع الإنسان البدوي تحت الإدانة المسبقة فهو مجرم قبل أن يكون مجرمًا، وهو من حيث المبدأ سيء ويصعب عليه أن يكون إنسانًا صالحًا ورائعًا، وإذا ما صدر منه ما يوحي بالأخلاق الجيدة فإنه -وفقًا لهذه الرؤية- لا يعدو أن يكون خروجًا عن طبيعته. وإذا كان هذا الطرح قد رأى أنه من المقبول أخلاقيًّا إدانته مسبقًا، فَمَنْ يدري؟ فربما أصبح من المقبول أيضًا معاقبته مسبقًا.

الحتمية البيئية والإدانة المسبقة

  وربما يعود ذلك في مجمله إلى ما وَقَرَ في الأذهان من أن الفراغ الذي يكتنف الصحراء يعادله فراغ أخلاقي وثقافي وحضاري، وأن البيئة الصحراوية القاسية تجلب الأخلاق السيئة كالمكر والفظاظة والتعصب، على نحو ما نجده في كتابات د.علي الوردي، الذي دعا إلى وضع الصحراء في الاعتبار عند تحليل المجتمعات العربية:

"ليس من الجائز لنا إذن أن نهمل أثر هذه الصحراء في تكوين المجتمع العربي. إننا لا نلوم الغربيين إذا أهملوا أثر القيم البدوية في مجتمعاتهم. ذلك أن بلادهم خالية من الصحراء تقريبًا وليس فيها تراث بدوي يتغلغل في أعماق النفوس منها" 18.

 ويقول في موضع آخر: “الواقع أن المد البدوي طالما راود المجتمع العراقي -مرة بعد مرة- خلال عصور التاريخ، فهو يأتيه تارة وينزاح عنه تارة أخرى. ويرجع السبب في ذلك على الأكثر إلى كون الصحراء التي تتاخم العراق هي من أعظم منابع البداوة في العالم -إن لم تكن أعظمها على الإطلاق-“19.

 ويصل الوردي بعد ذلك إلى إصدار حكمه الأخلاقي بأن “البداوة تمجد قيم التعصب والثأر والغزو والنهب…” 20 وأن البداوة قائمة على فكرة الاستحواذ  21.

لكنّ التسليم بهذا الرأي يحتاج إلى تسامح كبير، فإنْ كنّا لا نبرِّئ البداوة من التعصب في بعض مظاهرها، إلا أنّ تخصيص الحديث عن البداوة في سياق الحديث عن التعصّب والاستحواذ، وكأنها المصدر الوحيد للتعصب، مصادمٌ للفكر والواقع والبداهة، إذ لم ينحصر التعصب والاستحواذ والنهب في فئة دون أخرى، وإلا فماذا عسانا أن نقول عن حضارات أوروبية قامت حضارتها على السلب والنهب لمقدرات الشعوب؟، وماذا عن تعصّب حركات أيديولوجية كالنازية، والتي قادها تعصبها إلى ارتكاب أكبر مجزرة بشرية في التاريخ، ولم تكن الصحراء جزءًا من تكوينها البيئي!

ثم يواصل الوردي وصفه للبدوي فيقول:

"ومن أكبر العار على أحدهم أن يُقال عنه أنه صانع أو حائك. فذلك يعني في نظرهم أنه ضعيف يحصل على قوته بعرق جبينه كالنساء ولا يحصل عليه بحد السيف، ومن هنا أطلقوا على العمل اليدوي اسم المهنة والمهنة مشتقة من المهانة كما لا يخفى" 22

ويغفل هذا الطرح أن الترفّع عن المهن لم يكن حصرًا على بادية العرب، بل كان ثقافة عالمية شائعة لم يسلم منها اليونانيون، وهو ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689- 1755م) في “روح الشرائع” وهو يصف كيف أن المهن الصناعية كانت تعد غير لائقة بالرجل الحر في المدن اليونانية:

“إن جميع الأعمال وجميع المهن التي يمكن أن تؤدي إلى كسب المال كانت تعد غير لائقة بالرجل الحر في المدن اليونانية، ولا سيما المدن التي كانت الحرب غرضها الرئيس، قال إكزينوفون: إن معظم الصناعات تفسد أجسام من يزاولونها، فهي تلزم المرء بالجلوس تحت الظل أو بالقرب من النار، فلا يكون لديه وقت لأصدقائه ولا للجمهورية، ولم يرتق الصنّاع إلى مرتبة المواطنين إلا حين فساد بعض الديموقراطيات، وهذا ما يعلمنا أرسطو إياه، وهو الذي يرى أن الجمهورية الصالحة لا تمنحهم حقوق المدينة أبدًا . وكانت الزراعة مهنة خسيسة حينئذ، وكانت تمارس من قبل بعض الشعوب المغلوبة، كان يمارسها الإيلوث لدى الإسپارطيين والپريئسيان لدى الأقريطشيين والپسنت لدى التساليين، وأقوام عبيد آخرون في جمهوريات أخرى”.23

إجمالاً، فإنّ طرح الوردي يتغذى على رؤية بيئية ترى في الإنسان انعكاسا آليًّا للمناخ والتضاريس، وبناء عليه أصدر أحكاما قاسية على كثير من فئات المجتمع، وأوقعته في تعميمات أخلاقية متهورة، ومن ذلك حكمه على أهل الساحل والبحارة أنهم أكثر قابلية للانحراف الجنسي:

“والبحارة بوجه عام ميّالون إلى الانحراف الجنسي، وذلك لطول المدة التي يفارقون بها المرأة وهم على ظهور السفن. والأماكن التي يرتادها البحارة في عصرنا هذا لا تخلو من هذه الظاهرة“24

ومثل هذه الأحكام هي في مجملها انطباعات أكثر منها أحكام موضوعية قائمة على دراسات أنثروبولوجية رصينة، وإحصائيات علمية دقيقة.

 ويحيلنا هذا النوع من الطرح إلى تصورات قديمة شاعت بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع، ترى أن المناخ يقوم بدور المحدِّد للمنظومة الأخلاقية والفكرية، وتُعرف بـ(الحتمية البيئية  Environmental determinism)، فقد اعتقد مونتسكيو أنّ الناس في المناخ الأكثر برودة شجعان وصريحون وأقل ريبة وأقل مكرا من أولئك الذين يعيشون في المناخ الدافئ25، وكتب البروفيسور سيمون دونير Simon donner في مجلة (scientific American) أنّ الفلاسفة اليونانيون قديمًا اعتقدوا أن الحضارة ازدهرت أكثر في المناخات المعتدلة؛ ولهذا ظنّ اليونانيون أنهم أكثر صحة وتحضرًا من جيرانهم في الشمال والجنوب26.

واستثمر الاستعمار الأوروبي هذه الفرضية لإضفاء تبريرات علمية على كثير من عمليات الإبادة ومصادرة ثروات الشعوب الأخرى، فظهر المصطلح الجغرافي (الاستوائية Tropicality) الذي يشير إلى أنّ المناخ الاستوائي في الهند تسبَّب في جعل الهنود أكثر كسلًا وانحطاطًا على عكس “الرجوليين” و”الأقوياء” في المناخ المعتدل27، وتكفي المقارنة بين مصطلح “الاستوائي” ومصطلح “الصحراوي” في الخطاب العربي، ليتضح أن “تبيئة” الأخلاق والفكر والدين تنبع من مرجعية فكرية واحدة، وهو الخطاب نفسه الذي اعتقد سابقًا أن السُّود أردأ الناس خُلُقًا “لأنّ بلادهم سخنَتْ فأحرقتهم الأرحام”28.

والمشكلة مع هذه الفلسفة، أنها تسلب من الإنسان الإرادة الحرة، والأخطر أنها تعفيه من مسؤولية تحمل تبعات أخلاقه؛ فإذا كانت الأخلاق انعكاسا حتميا للمناخ والتضاريس، فعلى الآخرين ألا يلقوا باللائمة على سكّان الصحاري والمناطق الاستوائية في حال صدرت منهم سلوكيات مذمومة بل أن يوجهوا اللوم إلى المناخ. كما أنها فلسفة في مستواها العميق معادية للإنسان والطبيعة، ولا تأخذ في الحسبان تأبّي الإنسان ككائن متجاوز على التأطيرات المسبقة، فالأخلاق في نهاية المطاف اختيار لا إجبار، وهي تشكيلة معقدة تتدخل في تكوينها عوامل متعددة كالمنظومة التربوية والتعليمية وغيرها من المنظومات.

تأثيم البادية.. عُقْدَة أم عقيدة؟

  اجترح د. السيد ولد أباه مصطلح عقدة الصحراء 29 حين لاحظ أن الفكر العربي ينزع منزعا هجائيا في حديثه عنها. وإذا كانت العُقدة تنتمي إلى المجال النفسي، فـإن العقيدة تنتمي إلى المجال الفكري والديني. فالعقيدة ابنة الفكر والإيمان الراسخ، والعقدة ابنة اللحظة والانفعال العابر، العقيدة تتسم بالرسوخ والثبات وهي نتاج الفكر الجمعي، والعُقدة نتاج عوامل ذاتية وهي أكثر قابلية للتقلّب بحسب الظروف المحيطة، ويمكن إدراك الفرق بين هذين المستويين بالنظر إلى مستوى الثبات المفاهيمي في بنية الخطاب.

وبالنظر إلى الخطاب العربي فإنه يتأرجح مراوحًا بين عُقدِه وعقائدِه، ولعل الصحراء تمثل المدخل المناسب لاستظهار هذه الازدواجية. فقد أنتج الخطاب العربي بشقيه الفكري والديني طرحًا متلعثمًا تجاه الصحراء وسكانها؛ فهو يدينهم من جهة ويكيل المديح لهم من جهة أخرى؛ كما لو أن الخطاب كان تحت وطأة شعور مركب يمزج بين الإعجاب والكره، حتى لقد أصبح يقول الشيء ونقيضه في الآن نفسه، إلا أنَّ ما يثير الانتباه تلك القدرة الاستثنائية لهذا الخطاب على إشعار نفسه وغيره بالانسجام.

ولعل أظهر الأمثلة ما أورده الشيخ محمد الغزالي، في كتابه ذائع الصيت (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) حيث يقول في المقدمة:

“إنَّ البدوي الذي خاطب الفرس أيام الفتح الأول قال لهم: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد.. كان هذا البدوي بفطرته الصادقة يعلم ما هي الحقائق الكبرى في المنهاج الإسلامي فيفتح البصائر عليها“30.

وتعكس هذه السطور رؤية إيجابية للغزالي عن ابن البادية، فهو الإنسان الذي يعرف الحقائق الكبرى في الدين الإسلامي، وذو فطرة سليمة صادقة، وهو الذي فتح بلاد الفرس ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

ولا تكاد تمر صفحتان إلا وتنقلب هذه الصورة الإيجابية بطريقة دراماتيكية ويظهر البدوي بصورة قاتمة مناقضة للصورة التي رسمت له من قبل:

"لكن الأزهر من ثلاثين عاما أو تزيد ينحدر من الناحية العلمية والتوجيهية. ولذلك خلا الطريق لكل ناعق، وشرع أنصاف وأعشار المتعلمين يتصدّرون القافلة ويثيرون الفتن بدل إطفائها. وانتشر الفقه البدوي، والتصور الطفولي للعقائد والشرائع"31

والسؤال هنا: هل البدوي هو صاحب الفتوحات الإسلامية والذي عرف العقيدة الإسلامية بفطرته الصادقة؟ أم صاحب التصور الطفولي للعقائد والشرائع الذي أنتج فقهًا تسبَّب في الانحدار العلمي للعالم الإسلامي؟!

وأعتذر إلى روح الغزالي إنْ قلت إنه وقع في ازدواجية صارخة، فنحن هنا لسنا أمام اختلاف تنوع أو استدراك لفكرة فائتة، بل أمام طرح ينقض آخرُه أولَه بل ينفيه وينسفه تماما.

وفي مظهر آخر لهجاء الصحراء والبادية، يخصص الباحث البحريني د.محمد جابر الأنصاري قسمًا في كتابه بعنوان: (الموقف من البداوة في تراث الإسلام وفكر ابن خلدون) ويقول فيه:

“وأبرز ما يلفت النظر.. أن الإسلام حرم على العرب والمسلمين من أهل الحضر العودة إلى البادية للعيش فيها بصفة دائمة مع الأعراب، واعتبر ذلك كبيرة من الكبائر يعاقب مرتكبها كما يعامل المرتد عن الإسلام”32، “ويتابع الأنصاري في موضع آخر على نحوٍ يوحي بأن ابن خلدون كان يذم التعرّب (أي العودة إلى البادية):

“ويقول ابن خلدون في المقدمة: “كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب، وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة”33 ويستشهد الأنصاري بصحيح البخاري قائلا: “وفي صحيح البخاري أن الحجاج لما بلغه أن سلمة بن الأكوع وقد خرج إلى سكنى البادية، قال له مستنكرا: ((ارتدت على عقبيك؟ تعربت؟)) أي صرت في الأعراب، فقال له: ((لا، ولكن رسول الله أذن لي في البدو))”34.

ويرى الأنصاري أنه “لم ينحصر موقف الإسلام من ظاهرة البداوة في الجزيرة العربية في هذا النهي عن العودة إلى البادية وأحوالها وإن كان هذا النهي في سياقه الاجتماعي الحضاري الخاص يمثل في نظرنا صميم الموقف الإسلامي من هذه الظاهرة لكونه نهيا عمليا حاسما. ففي القرآن الكريم آيات واضحة وصريحة تحدد أبعاد هذا الموقف، كالآية: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا}، والآية: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}”35.

ثم يصل الأنصاري بعد ذلك إلى النتيجة الحاسمة التالية: “والخلاصة أن الصراع بين الحضارة والبداوة أو بمعنى آخر بين العروبة المتحضرة والأعرابية البدوية، صراع تاريخي طويل الأمد في المنطقة العربية، وإذا كانت الأمة العربية لم تستوعب حضارة العصر بعد، فذلك لأنها لم تحسم حضارة العصر”36.

لقد ألزم الأنصاري نفسه بعنوان أوحى من خلاله، بأن ما قاله ليس إلا تعبيرا عن موقف ابن خلدون، لكن عند العودة إلى المقدمة، نكتشف أن ما قاله ابن خلدون عن البدو على النقيض تمامًا مما ذكره الأنصاري، حيث أفرد ابن خلدون الفصل الرابع بعنوان: (في أنَّ أهل البدو أقرب إلى الخير من الحضر) ونسب إلى البدو من الفضائل ما يصل أحيانًا إلى حد المبالغة، أما ذم التعرّب الذي كتب فيه الأنصاري: “ويقول ابن خلدون في المقدمة: كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب، وهو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة”، فيظهر أنه قد اُنتزِع من سياقه، وإنما جاء كلام ابن خلدون في سياق منافحته عن مشروعية التعرّب، وهو ما لم ينقله الأنصاري، وفيما يلي نصه كاملا:

"فقد تبيَّنَ أنَّ أهل البدو أقربُ إلى الخير من أهل الحضر، و"الله يحب المتقين"، ولا يُعترض على ذلك بما وَرَدَ في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة بن الأكوع، وقد بلغه أنه خرج إلى سكنى البادية، فقال له: ارتددت على عقبيك؟ تعرَّبتَ!! فقال: لا، ولكن رسول الله أذِنَ لي في البدو. فاعلم أنَّ الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيثُ حلَّ من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على أمره ويحرسونه، ولم تكن واجبة على الأعراب أهل البادية؛ لأنَّ أهل مكة يمسهم من عصبية النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهرة والحراسة ما لا يمسُّ غيرهم من بادية الأعراب. وقد كان المهاجرون يستعيذون بالله من التعرُّب وهو سكنى البادية، حيث لا تجب الهجرة. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة: اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردُّهم على أعقابهم". ومعناه: أن يوفقهم لملازمة المدينة وعدم التحول عنها، فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدؤوا بها، وهو من باب الرجوع على العَقِبِ في السعي إلى وجه من الوجوه. وقيل: إنّ ذلك كان خاصًّا بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعيةً إلى الهجرة لقلة المسلمين. وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفّل الله لنبيه بالعصمة من الناس، فإنّ الهجرة ساقطة حينئذٍ لقوله: "لا هجرة بعد الفتح". وقيل: سقط إنشاؤها عمّن يُسْلِم. وقيل: سقط وجوبها عمّن أسلم  وهاجر قبل الفتح..."38.

ويصل ابن خلدون بعد ذلك إلى نتيجة واضحة جدا لا مواربة فيها:

"وعلى كل تقدير فليس دليلًا على مذمة البدو الذي عبَّر عنه بالتعرُّب؛ لأن مشروعية الهجرة إنّما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم وحراسته لا لمذمة البدو؛ فليس النعي على ترك هذا الواجب دليلٌ على مذمة التعرُّب"39

   وتجنّبًا لسوء الفهم؛ فإنَّ ما تقدّم ليس دفاعًا عن العودة إلى البادية أو دعوة إلى التخلي عن منجزات الحضارة، كما لا ننكر أن ابن خلدون قد أورد في بعض المواضع من مقدمته ما يُشعِر بموقفه المضاد للبادية، وإنما المقصود إظهار أن الخطاب العربي المضاد للبادية والصحراء اتّسم بالازدواجية، وبعدم الالتزام بما تقتضيه الأمانة العلمية من نقل للنصوص كما هي سواء أكان مدحًا أم ذمّا؛ ما يجعله مفارقًا للطرح الأكاديمي الموضوعي ويدخل أحيانا في إطار الطرح الرغبوي.

***

ويبقى أن نقول، إنّ موضوعًا كالصحراء من التشابك والتداخل بحيث يصعب على مقالة استيفاء أبرز جوانبه، إلا أننا هنا سعينا إلى إظهار كيف أن التراث العربي لم يتبنَّ موقفًا إقصائيًّا حادًّا تجاه الصحراء والبادية كما هو الحال في الخطاب العربي المعاصر، ما يجعل من الأهمية إخضاع الخطاب العربي لمراجعة نقدية مستبصرة وهادئة للوقوف على أبرز الأسباب التي أدّت إلى مثل هذا الفكر الهجائي. إذًا دعونا لا نتعجل ونواصل التفكير.


الهوامش

1: فوق الرمال العربية، ولفريد تيسيجر، 139.

2: أثر الصحراء في نشأة الشعر العربي وتطوره حتى نهاية العصر العباسي الثاني، د. حمد الدخيل، مجلة جامعة أم القرى، العدد: (23)، 13.

3: للاستزادة انظر على سبيل المثال لا الحصر: ألفاظ الإبل في تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري: دراسة لغوية موازنة، بشير منذر بندر فرج، رسالة ماجستير، جامعة ديالي، 2012م.

4: تاريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي، شوقي ضيف، 160- 161.

5: انظر: السماع اللغوي عند العرب، عبدالرحمن الحاج صالح، 341.

6: تاريخ النحو، علي النجدي ناصف، 16.

7: إنباه الرواة على أنباه النحاة 1: 224.

8: التراث التعليمي العربي والنظريات الحديثة في تعليم اللغة لغير الناطقين بها، أ.د. إبراهيم فضل الله، أبحاث المؤتمر الدولي الأول: العربية للناطقين بغيرها: الحاضر والمستقبل 1-2 أغسطس 2019، 18

9: الاستشهاد والاحتجاج باللغة، د. محمد عيد، 11.

10: انظر: الاستشهاد والاحتجاج باللغة، د. محمد عيد، 12. وانظر أيضا: الفهرست لابن النديم 2: 112.

11: المؤسسات التعليمية في العصر العباسي الأول، د. مفتاح يونس الرباصي، 115

12: الفهرست، أبو الفرج محمد بن إسحاق النديم، شرحه وعلق عليه: د. أيمن فؤاد سيّد، مج 2، 118

:13 المصدر نفسه، 2: 119-120.

:14 المصدر نفسه، 121.

:15 المصدر نفسه، 123.

:16 البقاع المقدسة في الرحلة الغربية -رحلة في بلد العجائب- (حج مسيحي إلى مكة والمدينة): لألبير لوبوليكو أنموذجا، تفكيك التحيز والهوية المركزية، د, مكي سعد الله، مجلة دراسات استشراقية العدد (16)، 40.

:17 الصفحة نفسها.

:18 الأخلاق: الضائع من الموارد الخلقية، علي الوردي، 10.

:19 لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، علي الوردي، 1: 17.

:20 انظر: الأخلاق، مصدر سابق، 13.

:21 لمحات اجتماعية، مصدر سابق1: 12.

:22 المصدر نفسه، 15.

:23 روح الشرائع، مونتسكيو، ترجمة: عادل زعيتر، 104.

:24 مهزلة العقل البشري، د. علي الوردي، 11.

25:  Fekadu, K. (2014). The paradox in environmental determinism and possibilism: A literature review. Journal of Geography and Regional Planning, 7(7), 132-139.

26: The ugly history of climate determinism is still evident today, simon Donner, scientific American, June 24, 2020

27: Climatic Determinism and the Conceptualization of the Tropics in British India,Rituparna Ray Chowdhury, 2012: https://doi.org/10.1093/acrefore/9780190228620.013.836

:28 عيون الأخبار، ابن قتيبة 2: 81.

29: الفكر العربي وعقدة الصحراء، د. السيد ولد أباه، مقالة، صحيفة الاتحاد، 24 أكتوبر، 2010م.

30: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، محمد الغزالي، 13.

31: المصدر نفسه، ص 15.

32: لقاء التاريخ بالعصر، د. محمد جابر الأنصاري، 97.

33: الصفحة نفسها.

34: المصدر نفسه، 98.

35: المصدر نفسه، 100.

36: المصدر نفسه، 104

37: الصفحة نفسها.

38: المقدمة، ابن خلدون، 1: 249.

39: المصدر نفسه، 250.