مجلة حكمة
الحمق

المساءلة الفلسفية للحمق: من دولوز إلى ستيقلر

الكاتبجان باتست فيلليرو
ترجمةعبد الوهاب البراهمي

“الحمق والمعرفة في القرن الواحد والعشرين” هو العنوان الفرعي لكتاب بارنار ستيقلر  Bernard Stiegler  ” حالات الصدمة” états de chocs .إلاّ أنّه علينا أن نلاحظ بوضوح المفارقة التي يحملها مثل هذا العنوان. فبقدر ما تمثّل المعرفة موضوعا تقليديا للفلسفة، يبدو الحمق منفلتا عن المفاهيمية الكلاسيكية. إذ يمكن للفلسفة أن تتعرّف على ذاتها في مقولات الخطأ والوهم والخرافة لا في الحمق. وتكمن المفارقة، بل رهان كتاب “حالات الصدمة” في أن نفكر في الحمق. ولأجل هذا، ناقش ستيقلر من سبقه من الفلاسفة ممّن ارتقى بالحمق إلى مقام المفهوم. ويتعلّق الأمر هنا بجيل دولوز الذي اقترح في كتابه “نيتشه والفلسفة” و” الاختلاف والمعاودة”، أن نجعل من الحمق مفهوما فلسفيا حقيقيا. غير أنّ ستيقلر لم يكتف بأن حذا حذو دولوز فيما فعله، بل أضاف إليه قيمة مفهومية هي ما سيكون موضوع اهتمامنا هنا. ولكن أي مفهوم للحمق صاغه ستيقلر انطلاقا من نقاشه مع دولوز؟

    يتوجّب علينا في البداية، كي نجيب عن هذا السؤال، استخراج دلالة الحمق عند دولوز، ليكون بإمكاننا لا حقا تحليل مواضع التقاطع والتنافر مع ستيقلر. إنّ رهان هذا التساؤل، كما سنرى ليس إلاّ إنتاج مفهوم للحمق، بل لنقل تمثّل الخصائص المحدّدة للرأسمالية الحديثة.

     الحمق عند دولوز

  يعود اهتمام دولوز بالحمق، إلى ضرورة التخلّص في نظره من التقابل التبسيطي بين الحقيقة والخطأ. هذا التقابل الذي استند إليه الفكر الفلسفي طويلا، وجعله رهين “صورة دغمائية أو أرتودكسية” للفكر. ذلك أنّ المسلّمة الأساسية للفلسفة، هي أن الفكر مياّل بطبيعته إلى البحث عن الحقيقة، وأنّه يملك الحقيقة في ذاته وأنّه يكفيه تبعا لذلك، أن يفكّر حقّا كي يكتشفها. هذا ما أقرّه أرسطو في إحدى مصادراته ” للإنسان بطبعه رغبة في المعرفة”. وفي المقابل، نقع في الخطأ، وفق هذا التصوّر، حينما تسيطر قوى خارجية على الفكر وتحيده عن ميله الخاصّ. من هنا لابدّ للفكر من منهج سليم حتّى يتمكّن من التدرّب على البحث عن الحقيقة دون أن يحيد عن مسلكه القويم. إنّ الاشتغال على الزوج حقيقة- خطا وفق هذه الطريقة يطرح إشكالا في نظر دولوز من ناحيتين: أوّلا، أنّ الفلسفة بتسليمها صلة الفكر بالحقيقة وإرادة خيّرة للمفكّر، تقصد تأسيس نفسها على فكرة                                                                                                             مسبقة غير مبرهن عليها يمنعها من القطع نهائيا مع الرأي doxa . والدوكسا هي الرأي الشائع الذي يرتكز على فكرة أنّ ” الجميع يعرف “هذا”، وأنّ الجميع يتعرّف على “هذا” ولا أحد ينكر”هذا”. تقطع الفلسفة بالتأكيد مع مضمون الآراء الشائعة، غير أنها بالتّسليم بصلة الفكر بالحقيقة، لا تقوم إلاّ بتحويل المشكل إلى مستوى صورة الفكر. إنّ إله الفلاسفة، إله ديكارت مثلا، لا يوافق تماما تصوّرات أغلب الناس للإله، ولكنه ُيبقى على الأقلّ ألوهية متعالية تجسّد الحقيقة المطلقة. وتقطع فكرة العدالة التي تنبني عليها المدينة الأفلاطونية مع الديمقراطية الأثينية المعاصرة لها، إلاّ أنها تندرج مع ذلك ضمن مثل أعلى للتناسق والجمال، يمثّل حقيقة نظام العالم لدى إغريق ذلك العصر. غالبا ما تبدو الفلسفة إذن دغمائية بمثل دغمائية الرأي الشائع. وقد نلاحظ فضلا عن ذلك أن هكذا تصوّرا دغمائيا للفكر لا يأخذ بعين الاعتبار أيّ ضرورة لا في نشأة الفكر ولا في محتواه. ذلك أنّه، إذا ما تحرّك الفكر نحو البحث عن الحقيقة، فلا شيء إذن يفسرّ هذه الحركة غير مصادرته، ولا شيء يفسّر لماذا يهتم الفكر بهذا الموضوع دون غيره إلا أن تكون اعتباطية إرادته الخاصّة. لا يمكن للظنّ doxa تفسير أيّ شيء، فالاعتباطية والعرضية هي ما يهيمن على الصورة الدغمائية للفكر. فهي لا تفسّر لماذا نفكر ولا فيم نفكّر.

    وفي مستوى ثان فإنّ أساس هذه الصورة الدغمائية للفكر”صورة أخلاقية ” تصل الخير بالحقّ. وتقرّ هذه الصورة أنه من الخير التوجّه صوب البحث النزيه عن الحقيقة، غير أنّ الأمر يتعلّق قبل كلّ شيء بصرف المفكّر عن مشكلات الراهن حتّى لا ينشغل الفكر بالقيم السائدة، ولا يهتمّ بالعالم الواقعي:” إنّه أمر محيّر:  كون تصوّر الحقّ بما هو كوني مجرّد، وتصوّر الفكر بما هو علم محض، لم يحدث أيّ ضرر لأحد. والواقع أنّ النظام القائم والقيم المتداولة تجد فيه دوما أفضل سند”. تجد الصورة الدغمائية للفكر منبتها في هذه الإرادة التي تطلب صرف الفيلسوف عن المشكلات الواقعية لتوجيهه صوب الحقائق المطلقة وحدها . وهكذا، فإنّ الصورة الدغمائية للفكر التي ترتكز على التقابل بين الحقيقة والخطأ مصيرها الإهمال إمّا بموجب شحنتها العقدية أو بتبريرها الأخلاقي للعالم ، لصالح صورة جديدة للفكر.”

    ولكن أيّ صورة جديدة للفكر يقترحها علينا دولوز؟

    نجد في كتاب ” نيتشه والفلسفة” أنّ ما سيعوّض التقابل الحقيقة والخطأ هو المعنى واللامعنى، اللامعنى بما هو تسمية أخرى للحمق. هناك بالتأكيد حالات يكون فيها اللجوء إلى التصور التقليدي للخطأ ضروريا، غير أنّ الأمر يتعلٌق بحالات صبيانية، مفتعلة أو مضحكة:” من يقول إنّ 3+2 =6 سوى الطفل الصغير؟ ومن يقول “صباح الخير ثيتاتوس” سوى ضعيف البصر أو شارد الذهن ؟”. كان علينا تفضيل مفهوم الحمق على الخطأ، فذاك لأنّ هناك خطابات حقيقية وحمقاء: ” ليس الحمق خطأ ولا نسيجا من الأخطاء. نعلم أنّ هناك أفكار حمقاء وخطابات حمقاء تتكون في مجملها من حقائق حمقاء؛ غير أنّ هذه الحقائق وضيعة، لنفس وضيعة ثقيلة ثقل رصاص.” يعني الحمق إذن خطابا حقيقيا، علينا رفضه مع ذلك لحمقه. هذا بالتحديد ما لا يقدر التقابل السّطحي بين الحقيقة والخطأ أن يحقّقه”. في عام 1962 يقدّم ” نيتشه والفلسفة” الحمق كعارض للوضاعة. وهذه الوضاعة هي” هيمنة قيم حقيرة أو قوّة نظام قائم”، إنّها تشير إلى الخطابات الحمقاء التي، وإن كانت حقيقية، فإنّها تشرّع النظام القائم. إنّ ما يقيمه نيتشه من تقابل بين الأنفس الرفيعة والأنفس الوضيعة هو ما تنبني عليه التصوّرية الدولوزية للحمق وما يحوّل النقاش إلى أرضيّة أخلاقية. يحتفظ كتاب ” المعاودة والاختلاف” (1968) بالبعد الأخلاقي للحمق لكنّه يتناول أيضا الوجه الآخر للحمق، الذي يتنزّل في مستوى ابستيمولوجي خالص. وإذن فلامعنى الحمق ليس الحماقة المحافظة للأنفس الوضيعة فحسب، بل لامعنى ” ملاحظات بلا قيمة ولا أهميّة ، تنزيل تفاهات منزلة أشياء مميّزة ، وخلط بين ” مسائل ” عادية ومسائل خاصّة ، ومشكلات سيئة الطرح”.  ويضرب دولوز لذلك مثلا بتحارير التلميذ حيث توجد حماقات ولكن مع أخطاء قليلة. وفي الواقع حينما يكتب تلميذ بكلّ بساطة أنّه بالنسبة إلى ديكارت ” أنا أفكّر ، إذن أنا موجود” أو ” الله موجود” ، وذلك باقتطاع قضايا من مقدماتها، فإنه يكتب من غير شكّ شيئا حقيقيا، ولكنه ليس إلا حماقة أو لامعنى. ذلك أنّ ما يمنح كوجيتو ديكارت معناه وكذا براهين وجود الإله، هو مشروع “التأمّلات الميتافيزيقية”، والتي ليست إلا أساس العلم الحديث، وانّ هذا البحث عن الأساس يمرّ عبر شكّ جذريّ يمكن لنا مقاومته. فالتلميذ الذي لم يسلك من جديد لذاته هذا المسلك الفكري يمكن أن يقول فعلا أشياء حقيقية عن ديكارت، ولكن دون فهمه مع ذلك، على شاكلة ببغاء يردّد كلمات دون فهم معناها. وعدم الفهم هذا بالذات هو ما يحدّد دلالة الحمق. يعني الحمق هنا الضعف المعرفي للمتكلّم أكثر مما يعني وضاعته الأخلاقية. غير أن الحمق، يظلّ مفهوما أكثر أهمية من الخطأ سواء تعلق الأمر بالأخلاقي أو المعرفي. “كيف للحمق أن يكون ممكنا ؟ يجيبنا دولوز” إنّه ممكن بفضل علاقة الفكر أو التفردية او التفريد individuation “. وينتج هذا التفرد قبل انبثاق الأنا  وأنا الفرد المكوّن، أي قبل تعيين فكر قابل أن ينسب إلى ذات.انه السيرورة التي تمرّر معرفة مجهولة منشورة ومفكر فيها إلى معرفة مكتسبة، أو لنقل بمفردات تقنية يستعملها دولوز انه ما يمرّ من العمق الذي لم يتفرد إلى الشكل المتفرد. فالعمق غير المتفرّد، على الأقل لدى الإنسان، لا يختفي حالما يظهر الفرد ولكن يستمر في الالتصاق به على شاكلة ظلّه.

  يعني التفرد الطريقة التي يتوخاها الفرد ليمنح لهذا العمق شكلا، قصد تملّكه بتفريده. وهكذا بحيازة هذا العمق، يغيّر الفرد ذاته بفعل تفرّده من جديد. يعني التفرّد مسار الإنعاش اللامتناهي للهوية الذي بموجبه تكون العلاقة مع العمق مناسبة لتشكّل وتحوّل الذات. فيكون بهذا شرطا للذكاء، بحكم أن الذكاء يتمثّل في أن نضع دائما ما عرفناه موضع الشكّ. إنّ الحمق هو بالتحديد ما يعيق هذا المسار. ففيه يتحرّك العمق بالتأكيد، ولكنّه غير متفرّد، لا تتملّكه الذات على نحو تغيّر به هوّيتها. بل إنّ العمق غير المتفرّد يفرض بخلاف ذلك كمعطى يجب قبوله بما هو كذلك. يحيل الحمق إلى هذه الحالة حيث لا يكون العمق غير المتفرّد مصدر ثراء للفكر، بل عامل انسداد يمنعه عن التفرّد:” ليس الحمق عمقا و فردا، ولكنّه العلاقة التي يحاول فيها التّفريد الصعود بالعمق دون التمكّن من إعطاءه شكلا(…). يبدو الحمق إذن كتثبيت، كتوطيد عقيم للفكر الذي لا يعرف كيف يندفع من جديد، ولكنّه يرتبط سلبيا بالرأي الذي يسبقه في الوجود. إّنه السّبب الذي يجعل الأنفس الوضيعة تستحوذ عليه لخدمة غاياتها الحقيرة، إذ أنّ الرأي يوظّف دوما في خدمة الغايات الدنيئة. علينا التساؤل في النهاية، كيف يمكن أن نرتبط بهذا العمق حتّى ينتعش الفكر من جديد؟ لا يكمن الحلّ بالنسبة إلى دولوز، كما أسلفنا، في فكرنا، ولا في الإرادة الخيّرة لفكر منقاد بالطبع نحو الحقيقة. إنّه بالعكس، يمكن للفكر، بلقائه بالغيريّة، بمن هو غريبا عنه، أن يعثر على ما به يغيّر ذاته، إذ لو ظلّ الفكر منغلقا على ذاته، لكان مجرّدا من أيّ وسيلة لمواجهة إختلاف سيغيّر هويّته. هذا ما يسمّيه أدرنو، في الديالكتيك السّلبي، “أولوية الموضوع”، وهو ما يصاغ لدى دولوز في مفردة اللقاء والهوى:” علينا أن لا نعوّل على الفكر لإرساء الضّرورة النّسبية لما يفكّر فيه، بل علينا أن نعوّل في المقابل على عرضيّة لقاء يدفع إلى التّفكير، لرفع وتقويم الضّرورة المطلقة لفعل التفكير ولشغف التفكير”. غير أنّ اللقاءات لا تحمل جميعها  الفكر على الحركة. وحده اللّقاء بالمشكلات يجعل هذا ممكن الحدوث، ذلك أن المشكل يجابه الفكر بصعوبة لا يملك لها بعد‘حلاّ، فيُجبره إذن على أن يُعنّف ذاته. يكون المشكل منذ الآن هذا العمق الذي يدمج التفريد في الفكر. لذلك، فإنّ ما يختفي هو الاعتباطي والعرضي الذي  يميّز الصّورة الدّغمائية للفكر. إنّ اللّقاء بالمشكل بما هو عرضي، يمنح الفكر شيئا يحفّزه على  التفكير ويجعل بذلك نشأة الفكر وموضوعه ضروريا في ذات الوقت:” ما من فكر إلاّ بما هو لاإرادي، تيقّظ قسري في الفكر، بالإضافة إلى أنه من الضّروري أن يولد الفكر بتحطيم العرضيّ في العالم”. أمّا الحمق فعليه أن يعرّف من جهة كونه” مَلَكَة أشباه المشاكل”، والعجز عن مواجهة المشكلات الحقيقية التي تجدّد الفكر.

   ستيقلر قارئا دولوز

  ماذا يصنع ستيقلر بالمفهوم الدولوزي للحمق؟ لقد خصّص ستيقلر جزءا من الفصل الثاني لتفسير مفهوم الحمق عند دولوز.  وقد ساهم هذا النقاش، الذي لم يكن بالمرّة محاكاة عقيمة، في تطوير عميق لمفهوم الحمق على نحو يمنحه رهانات جديدة. ولكي نفهمه، علينا أن نرسم حدود الوصل والفصل حينما نعبر من دولوز إلى ستيقلر. في البداية من المؤكّد أن ستيقلر يقبل تماما استعاضة دولوز عن مفهوم الحقيقة – الخطأ بمفهوم المعرفة – الحمق. إنّ ما يميّز الحمق خلافا للخطأ، هو قدرته على أن يكون حقيقيّا:” ليس الحمق غريبا بالمرّة عن المعرفة: فقد تصبح المعرفة، إن جاز التعبير، حمقا بامتياز”.غير أنّ التقابل معرفة وحمق في أفق التفكير عند ستيقلر، يقلّص التقابل بين الفعاليّة والانفعاليّة،. يحضر الحمق حينما تتكرّر معرفة حقيقيّة دون أن تتفرّد، وحينما تصير معرفة ميّتة مثبّتة دون أن يدْعَمها نشاط للفهم أو إعادة التملّك. وبتعبير آخر، بينما يكون الحمق من جهة الانفعالية، تكون المعرفة من جهة الفعالية، ولكن لأنّ هذا الفعاليّة يمكن أن تُستنزف وتُنسى وتُذلّ، يمكن للمعرفة ذاتها إذن أن تصير حمقا. إنّ هذه المقلوبية الارتدادية للمعرفة والحمق هي ما لم يؤكّد عليه حقّا دولوز، ولكنّها أضحت ممكنة بإدماج التعارض بين الفعالية والانفعالية، والتي أصبحت مركزية في خطاب ستيقلر.

   .ضمن هذه المنظوريّة التي يمكن اعتبارها هيجيلية أو جدليّة والتي أعاد داريدا اعتمادها ليفكّر فعلا في السّؤال الخاص عن الحمق، يجد خطاب دولوز ثراءه، مضيفا إلى التقابل الصلب بين المعرفة واللامعرفة تعقيدا أو لنقل ،في عبارات لجاك رونسيار، التقابل بين العارفين والجهلة . وفي مستوى ثان، يستعيد ستيقلر جزئيا وجهة النظر الأخلاقية  لدولوز حول الحمق. يبدو المنظور الأخلاقي، من غير شكّ، أقلّ حضورا في كتاب “حالات الصدمة” منه في ” نيتشه والفلسفة”، غير أن ستيقلر يلحّ مع ذلك على ” تجربة الخجل”  التي نعيشها في علاقة بالحمق والتي تدفعنا إلى التفلسف. بيد أنّ ستيقلر لا يكتفي بهذه المقاربة الأخلاقية للحمق. فهذا البعد الأخلاقي يصلح في جانب كبير منه علّة لتفسير الحمق عند دولوز- وكما تبينّا، فإنّ الأنفس الوضيعة والحقيرة هي مبدأ الحمق في “نيتشه والفلسفة” -، ولكن من البداهة أنّ تفسيرا كهذا غيركاف لأنّ كلّ ما يفعله هو تحويل السؤال: لماذا توجد أنفس وضيعة وحقيرة؟. وتسمح مقاربة ستيقلر في جانب كبير منها بتجنّب هذه الصّعوبة بجعل الخطاب متمركزا من جديد على علم الأسباب التقنية للحمق. وبالفعل، ينتج الحمق بالنسبة إلى ستيقلر من الكتابة، من مسار ” إكداح “prolétarisation يعني رسما خطيّا للفكر في الخارجيّة:” هذا المسار هو مسار تقعيد، حيث  يكون إكداح فعل التفكير والفهم الذي ينفلت عن العقل، أي عن” مملكة الغايات”( وهذا ما يعني بالأساس العقلنة التي يصفها فيبرweber والتي تؤدّي، بفعل تطوير ضربا من الذكاء البراغماتي ومن التهجين ومن المهارة، بحيث يبدو كلّ شخص قد أصبح  أكثر” دهاء “، إلى حمق معمّم(…)”. ولأجل أن الفكر يتجمّد في الخارجية بفعل الكتابة التي يمكن أن تحيا بصورة سلبية تماما دون أن تتفرّد عمليّا، فتصير إذن حمقا. يجب أن يعني مفهوم الكتابة هنا دلالة موسّعة لتوسّط تقني أو تكنولوجي للفكر، بدءا من الأشكال الأولى للأنسنة  humanisation وصولا إلى الأدوات الأكثر تعقيدا للإعلامية والسيبارنيطيقا . ويُعتبر هذا التوسّط التّقني ضروريّا بالنسبة لستيقلر، كي يتمكّن التفكير من التطوّر، غير أنّه يضع الفكر دائما أمام خطر التكلّس، والإماتة داخل هذه الذّاكرة الخارجية. فلن يكون بإمكان ” أي سلسلة من العلل” على طريقة ديكارت أن تتولّد ولا أن تستمرّ دون تسجيلها كتابيّا ، أي دون آثار، مع أنّ هذا التجسيد الخارجيّ أو” التبدّن الخارجي” exosomatisation يصير معرفة مَيتة منذ اللحظة التي لا يقدر فيها الفكر على حيازتها عمليّا. إنّ جعل التقنية مبحثا عند ستيقلر يمنح الحمق مبرّرا حقيقيّا ويفصله عن المنظور الأخلاقيّ أو الإيتيقي الذي أدرجه ضمنه جيل دولوز.

    وفي مستوى ثالث يعتمد ستيقلر (من دولوز) البعد السياسي الذي يضفيه على الحمق. ففي كتاب “حالات الصدمة”، يظلّ الحمق حقيقة ضامنا للقيم المتداولة. غير أنّ هذه التسييس للحمق يبقى عند دولوز غير محدّد . وفي كتاب “نيتشه والفلسفة” كما في كتاب ” الاختلاف والمعاودة”، يبدو الحمق ذي طابع كوني، إمكانيته هي ذاتها في كلّ زمان ومكان. وحينما تناول دولوز بمعيّة “قاتاري” Guattari مسألة الرأسمالية خاصّة- في كتاب “أوديب مضادّا”  و“ألف بلاتو” mille plateaux ، لم يكن مفهوم الحمق حاضرا. إنّ لاتحديدا سياسيّا ما للحمق يكون قد اختفي عند ستيقلر، في الوقت الذي يبدو فيه الحمق مفهوما مركزيا في تحليل الرأسمالية المعاصرة. وفعلا، يتحدّث ستيقلرعن ” حمق سيستيمي” خاصّ بالرأسمالية المعاصرة، يوظّف فيها الحمق لخدمة الاستهلاكية cosumérisme :” ففي عصر سلطة النّفسي والتكنولوجيات النّفسية، توظّف دراسة السّوق هذه الميولات قصد التحكّم في مسارات العبرتفردية transindividuation ، متسبّبة بذلك في مسارات لاتفرديّةdésindividuation  واسعة.” وهذا يعني أنّ الفائدة تقوم في الرأسمالية المعاصرة على بلاهة معمّمة للشعب، بلاهة ليست سوى استحالة إعادة امتلاك الأفراد المعرفة بصورة نشطة، والإرغام المقبول سلبيا للاستهلاك الذي يراد توجيههم إليه. هكذا نتبيّن فيم يحتفظ ستيقلر من دولوز بشأن استبداله الخطأ بالحمق، وكذلك فهمه الأخلاقي والسّياسي للحمق، لكنّه كان في كلّ مرّة يعدّل هذه الاستعادة على نحو يجعل الحمق مفهوما مركزيا في تحليل الرأسمالية اليوم والتي تتميّز قبل كلّ شيء في نظره بالاستهلاكية.cosumérisme

    خاتمة

   يسمح لنا تطوّر مفهوم الحمق من دولوز إلى ستيقلر من إدراك كلّ الدقّة والراهنية لهذا المفهوم الذي لا مستقبل فلسفي له، بالنظر إلى ضعف الاهتمام الذي يوليه له التقليد الفلسفي.من هنا يكتسب الحمق مفهومية تنزّله ضمن المقولات الأكثر كلاسيكية مثل الإغتراب. وباختصار يمكننا تقييم الثراء المفهومي للحمق مقارنة بالاغتراب. وفعلا، لا يفترض الحمق خلافا للاغتراب أي نظرية للطبيعة الإنسانية، بل إنّه يفترض فحسب عند ستيقلر التجسيد التقني الذي يسمح بإمكان انفعالية جذرية إزاء المعرفة. إنّها تسمح إذن بتحليل الرأسمالية المعاصرة التي لا تستجيب لأيّ تقليد ميتافيزيقي قديم. ومع ذلك فليس من المؤكّد أن الحمق يمثّل وحده مفهوما نقديّا كفاية. فلابدّ أن يرتبط بالتأكيد بمقولات أخرى وخاصّة مقولتي الهيمنة والسلطة، حتى يكون فعّالا حقّا وحتى يكون لطموحاته إمكانات. يقيم ستيقلر ذاته الصلة بين الحمق والتكافح  prolitarisation الذي خصّص له فصلا في كتاب ” حالات الصدمة”. وبانفتاحه على هذه الكوكبة  المفهومية الواسعة، يمكن للحمق أن يصير مفهوما حقيقيا للنقد الاجتماعي للعالم المعاصر.

المصدر