مجلة حكمة
الحق الأخلاقي في المعاقبة

لم لا يمكننا أبدًا أن نتمتع بالحق الأخلاقي في المعاقبة؟ – سيث ستانكروف / ترجمة: محمد عنبري

تفتقر معظم الدول والمجتمعات الحديثة إلى الحق الأخلاقي في المعاقبة وهذا الأمر من الحقائق المقلقة والمؤسفة. فالعنصرية والمحسوبية والزبونية، وحتى في الاحتجاجات السلمية نجد استخداما مفرطا للقوة من طرف الشرطة، فالممارسات الفردية والجماعية والمؤسساتية التي تجعل ممارسة العــقاب غير مبررة أخلاقياً في العالم موجودة على نطاق واسع.

وإذا تأملنا المنظور الفلسفي وكيف يعالج هذه القضية، يبدو جليا أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يمتلك الحق الأخلاقي في المعاقبة. وذلك لأن التغييرات والإصلاحات المنهجية التي ستكون مطلوبة لجعل العقوبة مبررة حقًا من المستحيل – حتى من الناحية النظرية – تنفيذها.

إن العقوبة مؤسسة اجتماعية، وترجع أصولها إلى فجر التاريخ، ويعتبر علماء الأنثروبولوجيا أن العقوبة قاسم مشترك في جميع الثقافات، وقد اتخذت العقوبات -وما تزال- أشكالًا متنوعة بما فيها عقوبة الإعدام والنفي والسجن والتعذيب الجسدي والعقوبات المالية. على الرغم من اختلاف ممارساتها أو أشكالها في مختلف الثقافات والفترات الزمنية (على سبيل المثال تفاوت انتشار عقوبة الإعدام بشكل كبير بمرور الوقت وفي بلدان مختلفة)، لهذا فإن أهمية العقوبة بصفتها مؤسسة في المجتمعات لم تتضاءل.

بالنسبة للفلاسفة، يعتبر البعض منهم أن إيجاد مبرر أخلاقي للعقوبات القانونية -خاصة تلك الأشد قسوة- له أهمية كبيرة، فتم صياغة بعض النظريات لدعم الادعاء القائل بأن الدول التي لها الحق في أن تتمتع بالسلطة الأخلاقية للمعاقبة. ويمكن إرجاع أصول وجهة النظر هذه إلى القرن الأول قبل الميلاد، وهي تعتبر أن العقوبة القاسية والمروعة لها ما يبررها لأنها بهذه القسوة تصحح الأخطاء الأخلاقية، وتستعيد التوازن الأخلاقي الذي اختل عندما ارتكب فعل غير أخلاقي.

على نفس المنوال، فإن نظرية الردع -التي اشتهرت من قبل سيزار بيكاريا وجيريمي بينثام في القرن الثامن عشر- تشير إلى أن العقوبة المناسبة هي عندما تكون مصممة خصيصًا لمنع ارتكاب جريمة في المستقبل، في حين أن نظرية إعادة التأهيل بدأت تتشكل كممارسة قانونية في القرن التاسع عشر.

إن العقوبات العادلة الوحيدة هي تلك التي تساعد الجناة على الخضوع للإصلاح الأخلاقي الداخلي. في حين أن الانتقام والردع وإعادة التأهيل ليست سوى ثلاث نظريات من كم هائل من النظريات المطروحة في هذا الباب، لكنها تمثل نقاشا حول مبررات العقوبة التي استمرت لقرون مع طرح آراء جديدة ومراجعة النظريات القديمة.

في التنظير الفلسفي نجد من يدافع عن مفاهيم مختلفة للعقاب العادل، فيضعون افتراضات حول طبيعة العالم والبشرية، وعلى الرغم من أن هذه الافتراضات عادة ما يتم وضعها لتبسيط وتشديد الحجج التي تدعمها، إلا أنها يمكن أن تؤدي الحجج إلى مشكلات.

أحد هذه الافتراضات التي يعتمد عليها الفلاسفة هو أن الأفراد جميعًا محميون على قدم المساواة بالقوانين التي تحكمهم، إنهم يفترضون أن القوانين يتم فرضها على قدم المساواة وبشكل متناسب ونزيه، وأن الناس يتمتعون بحريات مماثلة بموجب هذه القوانين وأنهم سيعاقبون بالتساوي في حالة انتهاكها.

في حين نجد أن هذا الرأي لا يعكس الحالة الحقيقية للأشياء، ففي معظم المجتمعات الحديثة قد تتأثر العقوبات بشدة بعوامل مثل: العرق والحالة الاجتماعية والاقتصادية للجاني. فالرجال السود أكثر عرضة للقتل على يد الشرطة في الولايات المتحدة بمقدار الضعف مقارنة بالرجال البيض، وشباب الهنود الأمريكيين أكثر عرضة بثلاث مرات من الشباب البيض في مراكز احتجاز الأحداث، وأكثر من نصف مليون شخص في الولايات المتحدة يتم حاليًا احتجازهم قبل المحاكمة لمجرد أنهم لا يستطيعون دفع الكفالة.

فالعرق والطبقية تسبب تأثيرا على العدالة الجنائية، لهذا نجد أن ممارسات مثل الكفالة النقدية التي تتطلب دفع الناس مبالغ من المال لتحرير أنفسهم من السجن قبل أن تتم محاكمتهم على جرائمهم تحابي الأثرياء بطبيعتها.

إن الاضطرار إلى دفع الكفالة يفرض أيضًا شكلاً من أشكال العقوبة على الأشخاص الذين لم يدانوا بارتكاب جرائم وربما يكونون أبرياء، وبالطبع فإن حقيقة أن الأفراد الأكثر ثراءً في العديد من المجتمعات الحديثة لديهم خيار توظيف محامين وفرق قانونية باهظة الثمن لمساعدتهم على تجنب العقوبة، وهو امتياز لا يستطيع الوصول إليه إلا القليل من الناس، ويمكن أن يؤدي إلى تخفيضات هائلة في العقوبات.

إن الأنظمة مثل الكفالة النقدية تُظهر كيف يستخدم الأثرياء مواردهم لتجنب العقاب على الجرائم البشعة، وهنا يظهر بالملموس كيف أن المجتمعات الحديثة لا تتوفر على أنظمة عقابية تحمي جميع الناس على قدم المساواة، وإلى أي مدى أصبح من الشائع في العديد من المجتمعات الحديثة أن يتم تطبيق القوانين بشكل غير متكافئ وغير متناسب، على أسس عرقية وطبقية.

غالبًا ما يتصرف المسؤول عن تطبيق القانون بطرق متحيزة، في الولايات المتحدة كمثال دائما ما يتصدر ضباط الشرطة عناوين الأخبار عن الاستخدام المفرط للقوة الذي يؤدي إلى إصابات خطيرة – وحتى الموت – للأفراد الذين لم تتم إدانتهم بارتكاب جرائم وهم عادةً من الأقليات العرقية، فالشرطة كجهاز تشكل شكلاً من أشكال العقاب.

يوجد افتراض آخر تؤيده نظريات العقوبات المختلفة، وهو أن الآثار السلبية للعقوبات الجنائية، ذلك أنه عندما يُعاقب الناس لا يتعرض للأذى إلا أولئك الذين يُفترض أن يعاقبوا. وبالمثل فإن العقوبات لا تدوم إلا بقدر ما هو مقصود، وأنه عندما تنتهي فترة العقوبة يعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل وقوع العقوبة.

لكن في واقع الأمر يمكن للعقوبات في المجتمعات الحديثة أن يكون لها آثار سلبية دائمة ويمكن أن تؤثر أكثر على الجناة الذين تستهدفهم. كما قال الفيلسوف القانوني زاكاري هوسكينز Zachary Hoskins)) في مقال له بعنوان “قيود الجاني السابق” لمجلة الفلسفة التطبيقية: “غالبًا ما يخضع الأفراد المدانون بجرائم لقيود عديدة – كالسكن والتوظيف والتصويت والمساعدة العامة – وبعد فترة طويلة من انتهاء مدة عقوبتهم وفي بعض الحالات نجد هذه العقوبة لا تسقط أبدا “.

بالفعل توجد سياسات عديدة في أجزاء من أمريكا الشمالية وأوروبا تقيد قدرة الجناة السابقين على العثور على وظائف واقتراض الأموال من البنوك وتقلد مناصب عامة. وقد تبنت العديد من الشركات حول العالم سياسات تمنع توظيف المجرمين حتى لو قضوا مدة عقوبتهم بالكامل. علاوة على ذلك فإن هذه السياسات في هذا المسار بالإضافة إلى الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالعقوبة الجنائية، تتسبب بشكل عام في إلحاق الضرر بأسر ومجتمعات المجرمين السابقين، من خلال الحد من الفرص الاقتصادية للأفراد. كما يمكن للعقوبات أن تتبع الأشخاص طوال حياتهم حتى بعد أن “يدفعوا ديونهم للمجتمع”.

من الواضح أن افتراضات الفلاسفة حول العقاب لا تتحدث عن الواقع المعيش، وأن القوانين – والتدابير العقابية المتخذة ضد أولئك الذين يخالفونها – لا تحمي جميع الناس في المجتمع على قدم المساواة. لهذا السبب قد يكون من المفيد التفكير في أنواع جديدة لسياسات إصلاحية والتغلب على بعض الحواجز لإنشاء مجتمع يرضي افتراضات الفلاسفة، ومن المفترض أن تكون هناك أنظمة عقابية عادلة بالفعل.

يتعلق أول هذه الإصلاحات بسن سياسات المساواة الاقتصادية وحصول الأفراد على الموارد والفرص. وإذا تأملنا لماذا بعض العقوبات غير مبررة من الناحية الأخلاقية، لنجد أن الناس يعانون الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. يبدو أنه لكي تكون العقوبة مبررة أخلاقياً حقًا، وجب أن تُصمم المجتمعات بطريقة تجعل الأشخاص الذين يعيشون فيها يتمتعون بفرص متساوية للوصول إلى الموارد والفرص.

يشير الفلاسفة إلى المبدأ الذي يجب استخدامه لتحقيق هذا النوع من المساواة في المجتمع على أنه عدالة توزيعية. يتطلب هذا المبدأ أن يتم توزيع السلع والموارد بين أفراد المجتمع للقضاء على عدم المساواة الجائرة. إلا أنه غالبًا ما يُنظر إلى العدالة التوزيعية على أنها تقييد لحقوق الأفراد في الملكية، ونتيجة لذلك فهي غير مستساغة سياسيًا إلى حد ما. كما أن مبادئ العدالة التوزيعية تخضع للعديد من التحديات الخاصة بها. حتى إذا تقرر أنه يجب أن يكون هناك نوع من إعادة توزيع السلع أو الموارد، فهناك اتفاق ضئيل حول ما يجب توزيعه وكيف يجب أن يتم هذا التوزيع.

يجادل بعض الفلاسفة السياسيين مثل رونالد دوركين ((Ronald Dworkin بأنه يجب أن يوجد توزيع “خالٍ من الحسد” للموارد لتحقيق المساواة. كما يقترح آخرون مثل ريتشارد أرنيسون (Richard Branson) أن التوزيع يجب أن يهدف إلى “تكافؤ الفرص”.

والنتيجة هي أن العدالة التوزيعية يمكن أن تحل المشاكل الاجتماعية التي تجعل العقوبة الجنائية غير مبررة أخلاقياً، إلا أن الواقع يبقي أن أي محاولة للتوزيع المتكافئ ستواجه معارضة اجتماعية وسياسية جادة ناهيك عن تحديات التنفيذ.

كما أن هناك فكرة مهمة ويتعلق الأمر بالشخص الذي ارتكب جريمة وهو غير عاقل أي مضطرب نفسانيا أو يعيش اكتئاب حاد أو فصام …إلخ كيف ستكون عقوبته؟ وكيف ستحدد؟

هناك قضية أكبر من هذا الأمر وهي أنه لا يوجد إجماع في المجتمع الأكاديمي حول ماهية “العقلانية” حقًا. تختلف تفسيرات علماء النفس عن تفسيرات علماء الأعصاب الذين يختلفون عن تفسيرات الفلاسفة. وبالطبع هناك خلاف كبير حول هذه القضية حتى داخل هذه المجالات.

في الحقيقة لو كان هناك “معيار للعقلانية” يمكن الاعتماد عليه ومستنير علميًا والذي يمكن أن يُعاقب مرتكبو الجرائم الجنائية به، فستكون هناك صعوبة هائلة في تحديده. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنه عندما يتعلق الأمر بالحواجز العقلانية والنفسية التي تقف في طريق العقاب المبرر أخلاقيًا، فإن القضايا لا تتعلق فقط بالجناة، فالذين يكتبون ويفرضون القوانين يخضعون لقيود عقلانية تضعف قدرة أي نظام للعدالة الجنائية على معاقبة بطريقة عادلة حقًا.

تأخذ هذه القيود شكل التحيزات وهي عمليات نفسية متجذرة بعمق في البشر، على سبيل المثال نحن نميل إلى تفضيل الآخرين الذين يشبهوننا أو يذكروننا بأنفسنا، ونميل إلى كره الأشخاص في “الجماعات الخارجية” الاجتماعية والسياسية المختلفين عنا، وعادة ما نبحث فقط عن المعلومات التي تؤكد أو تدعم وجهات نظرنا ومعتقداتنا السابقة. التحيز هو آلية نفسية لا يمكن لأي إنسان الهروب منها حقًا، في حين أن بعض هذه التحيزات ليست بالضرورة سيئة في حد ذاتها إلا أنها تجعل من الصعب جدًا تقييم الآخرين “بموضوعية” إذا جاز التعبير.

ولذا فقد توصلت إلى نتيجة مؤسفة مفادها أنه لا يمكن فقط تبرير العقوبة في العالم الحقيقي اليوم، ولكن لن يكون من الممكن أبدًا تبريرها تمامًا أيضًا. وذلك لأن التحديات المحيطة بالمساواة والعدالة التوزيعية، ورغم إمكانية التغلب عليها نظريًا تمثل مشكلة كبيرة يتعين على أي مجتمع أن يناضل من أجلها لتحقيق عقوبة عادلة. من ناحية أخرى، تشكل الحواجز العقلانية والنفسية عقبة يستحيل التغلب عليها بشكل قاطع.

إذا ماذا ينبغي أن نفعل؟ قد يكون أحد الطرق ببساطة هو النظر إلى التبرير الأخلاقي الحقيقي كمعيار لا ينبغي أن نلتزم به، واعتبار العقوبة شرًا ضروريًا يجب أن نتسامح معه من أجل الحفاظ على مجتمعات فاعلة.

ومع ذلك على الرغم من أن مثل هذا الموقف قد يكون واقعيًا كما هو الحال حاليًا، إلا أنني أفضل استراتيجية أكثر تفاؤلاً. أقترح أن نستخدم المبررات الفلسفية الكلاسيكية للعقاب وجميع الافتراضات المصاحبة لها كأنوار إرشادية. وهذا يعني أننا يجب أن نستخدم النظريات ليس في محاولة لتبرير العقوبة أخلاقياً، ولكن بدلاً من ذلك لإبلاغ السياسات التي ننفذها والقرارات التي نتخذها بشأن العقوبات المحيطة في العالم الذي نعيش فيه.

على سبيل المثال، قد نحاول الحد من مدى اتباع العقوبات لمن دفعوا مستحقاتهم، وقد نلغي الممارسات التي تحابي بطبيعتها المذنبين الأثرياء  مثل الكفالة النقدية والدفاع الجنائي المخصخص. والهدف من ذلك هو استخدام آليات سياسية عملية وواقعية للحد من تأثير التفاوتات المجتمعية حتى يستفيد الناس على قدم المساواة من حماية القانون.

سيتطلب هذا النهج أيضًا تطبيقًا غير متحيز ومتناسب للقوانين، وبالطبع سيتعين على أنظمة العقاب إلغاء الآليات التي تمنح مزايا لمن هم في مراكز الامتياز واتخاذ خطوات للحد من التأثير السلبي للعقاب على الجناة الذين دفعوا مستحقاتهم. لأنه حتى لو كان من المستحيل بالنسبة لنا أن نعيش في عالم يكون فيه العقاب مبررًا أخلاقيًا حقًا، فمن المؤكد أنه من غير الممكن ومن الضروري بشكل متزايد الاقتراب كثيرًا من هذه المثالية.


ملحوظة: كاتب هذا المقال سيث ستانكروف  ((Seth Stancroff متخصص في قضايا مختلفة في الفلسفة القانونية والسياسية. ويهتم بشكل خاص بفحص الآثار المادية والتجريبية للنظريات الفلسفية الكلاسيكية  ولاسيما تلك المتعلقة بالعقاب الجنائي.