مجلة حكمة
في تشخيص أزمة الحداثة الاستطيقية

في تشخيص أزمة الحداثة الاستطيقية

الكاتبالاخضر بلعيد بنجدو

         على مشارف القرن الماضي كان هناك من تدبّر امر الجماليات  او علم الجمال او الفن في عمومه كمبحث ايطيقي- جمالي, معتبرا الذوق وموهبة الحكم محل نقد ونظر وتأمّل, حتى اضحى من عيوب التدبر الراهن العودة  الى جماليات المطابقة او جماليات الدوْر, وهو مفكر التفكيكية بلا منازع جاك دريدا, ولا يراهن احد على جواد فاشل الا اذا تمكنت منه الرداءة الفكرية والغباء الممنهج, لذلك فان ادورنو كان هومدشّن الجماليات المغايرة او جماليات القبح او الرداءة ذات البعد الجمالي –ان امكن القول,,فقد عمل كلا المفكريْن على ذات المنحى وهو انتقاد وتفكيك ومغايرة الفكر التطابقي الممنهج او “النظامي” التطابقي.

فهل توجد جماليات للقبح

 فصل أول: “لابداهة الفن”

إن ّ نقطة انطلاق نظريّة استطيقيّة، لـ أدرنو، هو اعتبارها الأساسي:”لا بداهة الفن” . وهي من هذا المنطلق- وإذ تسلّم بتاريخيّة  الفن- لتدرك عميقا الفضائل العديدة لفعل السّلب. فالاستطيقا الأدرنيّة تذهب في اتّجاه الكشف عن مواطن التوتّر، المحايثة لمفهوم الفن، وللحالة التي آل إليها الفن. فأزمة الفن ليست أزمة الإبداع الفنّي، بل هي أزمة تمثّل للفن، إن لم نقل أزمة التمثّل ذاته. لقد قدّم أدرنو تحليلا لوضعية الانحلال التي شهدها الفنّ، في بداية القرن العشرين-رغم تعدّد التوجّهات الفنيّة الواشية بتحرّره- بات، فيها، الفن في حالة فراغ ،ووجب ملئه. كما أنّ الحداثة الاستطيقية برمّتها، تأخذ مكانها ضمن هذا المضمار، الذي يكشف عن ضرب من الغموض والضبابية. ففيلسوفنا يخلخل المسلّمات ، ويعرّي التطور المزعوم، الذي شهده الفن في العقود الأخيرة، ليبيّن أنّه يبقى دائما، مشروعا لنا،الحديث عن غياب اليقين فيما يتعلق ب “قوام الفن ذاته وبذاته” وب “قوام كل نظرية استطيقية”.

يذهب أدرنو،  منذ الجملة الأولى، من كتابه” نظرية استطيقية” ،إلى الحديث عن المصير الملتبس والمضنون فيه للفن، سواء فيم يتعلق بمفهومه أو فيم يرتبط بوجوده،لأنّه”.. صار من البيّن بذاته أنّه لم يعد شيء في ما يتعلق بالفنّ بيّنا بنفسه وبديهيّا، لا الفن في حدّ ذاته ولا علاقة بالكل ولا حتى حقه في الوجود..”[1]. فالفن لم يعد واعيا بقوامه وبمفهومه ، ولا بالذي يقوّمه كفن،  مهما كان ذلك الفن (فن دون تصور للفن أو فن دون مفهوم للفن). ويرى أدرنو أنّ الطّابع الملتبس /الضّبابي للفن ، عدم وضوحه، وفقدانه لحرّيته هو ما يجعله، بالضرورة، فاقدا لليقين، فقد “..بات حيز الفن غير موثوق به..”[2] كما يؤكّد أدرنو أنّ مجمل التوجّهات الحديثة للفنّ التي رامت تحريره، قد باءت بالفشل، بحكم انضوائها تحت سلطة النظام الكلي القائم، لتنتهي لاحقا إلى موقف متذبذب من الفن، يظل يراوح بين التأكيد على مشروعيته وعدمها وبذلك’ يواصل الفن الحديث تحققه في اللاّقيمومة الذاتية ‘أي داخل كل ما هو تابع، وكلّماتحققت الاستطيقا بقيمومتها الذاتية، كلّما عجز الفن عن التخلص من كافة أشكال الخضوع والاندماج ،وهذا ما يجعل ثمة تنافر بين الاستطيقا والفن.

وهكذا نلمس عند أدرنو وعيا حادا بالأزمة الحديثة للفن، فهو يرى فيه ”أسطورة انقلبت على ذاتها”[3]

« L’art est un mythe tourné contre lui-même » وعليه، فإنه لا مجال عنده للحديث عن استقلالية أو عن قيام ذاتي للفن، بل كل ما هنالك لا يعدو أن يكون سوى أشكالا مختلفة من التبعية للدائرة السياسية أو الفلسفية، التي تكشف عن ارتباطه” الوثيق  بنظام أشّد وهنا منه”[4].

 فتبعية الفن ومصيره، المشحون بأغراض جمالية أو لا جمالية (Extra esthétique ) أو سياسية، هو نتيجة حتمية لذلك المسار المشروط بالقيم الرأسمالية السلعية، التي أفقدته قيمته التحريرية ،والتي كانت وراء تراجعه عن تأديته لوظيفته الحقيقية في النقد والتحليل. إذ يتعلّق الأمر مثلما يشخّص ذلك نص “المقدمة الأولى” نظرية استطيقية من هذا الكتاب ”…بتلازم جدلي وإشكالي متين ما بين تحوّل الفنّ إلى بضاعة أي إستيلاء العقل الأداتي عليه وتنشئته بوصفه مجرّد مجال من مجالات الصناعة الثّقافية من جهة، وبين فشل مقولات الاستطيقا التقليديّة في إدراك مضمون الحقيقة الخاصّ بالآثار الفنيّة من جهة أخرى..”[فالعصر المتأزّم للفنّ الحديث قد نتج عن وقوعه تحت ضغط صنوف عديدة من الهيمنة والتذويب والتشيّؤ المسلعن، ليضحى بذلك نشاطا عطوبا، غير قادر على الإنتاج،  لأنّه ينصاع كليّا إلى محدّدات الاستهلاك والتّبادل.

بات واضحا أنّ الفن، من حيث صيرورته، قد صار مضنونا فيه، لأنّه ما انفكّ ينقلب ضدّ مفهومه، وانقلابه هذا على مفهومه قد جاء نتيجة حالة العمى النظري، التي بات عليها. فقيامه الذاتي قد شرع في إظهار طور العمى .[6]

فالأمر يتعلّق إذن ب “جرح الفن”( Blessure de l’art) النّاتج عن عجزه عن مغادرة حيّز الظهور الاستطيقي، ليصبح حبيس شروط النظام القائم الذي يدفعه إلى الاستجابة لمنطقه ألإثباتي، وبالتالي تحفيزه على القبول بإملاءات العقلانية الأداتية المهيمنة ،والتسليم بالنظم الإيديولوجية التي تكرّسها الأوهام الكليانيّة. يصبح الفنّ تحت تأثير ” صناعة الثقافة * سلعة، بحيث هو لا يقدر أن يكون سوى موضوعا من موضوعات الإيديولوجيا المهيمنة. ومن ثمّة “..هو يتطابق مع الحضور الشامل للاحتكار..”[7] وهذا ما يرفع عنه كل جدوى اجتماعيّة. ليصبح، تبعا لذلك، جزءا لا يتجزّأ من النظام القائم على التبادل والاستهلاك، شأنه  شأن باقي المنتجات الثقافية الأخرى، التي لا تفلت جميعها  عن هذا التنميط والتدجين و التّشريط ، الذي ينتهي بإدراجها ضمن المنطق المتحكّم بالسوق، والذي يتمعّش منه النّظام الرأسمالي القائم. وقد نبّه أدرنو إلى ذلك في كتابه جدل العقل[8]. فقد أدّى تأثرا لعلاقات الاجتماعية بمنظومة الإنتاج والاستهلاك (أحكام السوق/معطى العرض والطلب) إلى نحت ملامح تجربة إستطيقية مخصوصة، عدّت بمثابة قاعدة كلّية ،تحوّل على إثرها الفن إلى بضاعة خاضعة لمعايير إيديولوجية تجارية، كتلك التي تتعلق بالتوزيع و بالإنتاج وبالاستهلاك، لينتج عن ذلك، أن تحوّلت “القيمومة الذاتية للفن” إلى تبعية لهيمنة صناعة الثقافة[9]. وقد صاغ أدرنو صورة قاتمة (Réquisition sombre  ) للحداثة الفنية( التي امتدّت إلى حدود السنوات الستين من القرن العشرين)، شهد خلالها الفن ضروبا شتّى من العقلنة المفرطة[10] . فالأمر يتعلق حينئذ بهيمنة صناعة الثقافة، التي بسطت نفوذها على كل شيء[11].

ينبّه أدرنو الى أنّ الفن الحديث يشهد، حينئذ، عمليّة تصفية  ذاتيّة، انتهت إلى إفراغه من مضمونه وفقدانه لقيمومته الذاتية، وإلى خطورة تعويض القيم الثقافية بقيم بضائعية، وإلى مساوئ التعبية السياسية للآثار الفنية، التي من شأنها أن تفقد الفن كل قوّته النقدية ليصبح متماهيا مع الكل. حينها لا يعود ثمة حديث عن فن مستقل، ينبعث بحرية من الفرد، بل كل ما هنالك لا يعدو أن يكون سوى تجربة فنية فردانية زائفة يتحدّد قوامها في ائتلاف تام مع الكل [12]..

من آثار مقولة” صناعة الثقافة” تحويل الفن إلى مجرد ترف أو لهو وتسلية، و المستهلك إلى عبد خاضع لمخططات المؤسّسات القائمة، لا يملك أيّة قدرة على التذوّق والفهم والنقد والتحليل[13]. وهذا ما يفسّر بحقّ، حالة الغباء المبرمج، الذي أفرزته العقلانية المادية الأداتية، التي انتهت بتكيّف الآثار الفنية وتحوّلها إلى ملكية يخشى الإنسان الحديث زوالها و فقدانها[14].

وهكذا، بات الإبداع الفنّي خاضعا كلّيا للنمط الاقتصادي، الذي فرضه النظام القائم وكلّ المنتجات الثقافية، التي ينتجها الأفراد، ليست سوى نتاجا حتميا له. وبذلك شهد الفن أعمق لحظات تأزّمه، بحيث أصبح من الصعب الحديث عن فنّ حقيقيّ في ظلّ هاته الأنساق الكليانية، التي جعلت منه وسيلة للهيمنة بمعنى ”إيديولوجيا رسمية” تستخدمه السلطة السياسية للتعبير عن أفكارها،ثم ليغرق في السطحية والنشاز[15]. لقد فقد الفن كلّ بداهته و أصبحت مكانته غير يقينيّة باعتباره قد أضحى سجينا لوظيفة العرض، وعلى ذلك ،وأمام هذه الانقسامات الاجتماعية ،التي فرضها العقل ألأداتي، في عصر صناعة الثقافة، وما نتج عن ذلك من تأثيرات على حياة الإنسان الحديث، عمل أدرنو على تشخيص  أسباب انحلال الفن وتفككه، فلم يخف خوفه من اضمحلال الفن وفقدانه لمشروعية وجوده، لا من جهة علاقته بذاته ، ولا من جهة الدور الذي يضطلع به في المجتمع، بل وأيضا من جهة ارتباطه بتلك التشكّلات الرمزية السائدة في عصره ، والتي كانت نتيجة حتمية لذلك الواقع المغترب الذي ظل يتخبط داخل نظام مقيت محكوم بظاهرة تقسيم العقل. ولهذا السبب تبدو حاجة الحداثة الفنّية إلى فكر مغاير ملحّة أي ضرورة تأسيس منظور استطيقي جديد يمنح الفن فرصة للتطور والتغير. ثمّ يحقّق من خلالها قيمومته الذاتية  ويخرج بمقتضاها عن طور التبعية والخضوع. إنّ أزمة الفن الحديث، كما شخّصها أدرنو هي “أزمة ذوق”/” أزمة استطيقا” تقليدية، باتت عاجزة عن فهم الظواهر الاستطيقية، المرتبطة بالتقنية، تلك التي تبحث عن إمكانية تشكيل مسار التحديث داخل ما هو استطيقي، وعلى ذلك هو يضع موضع نقد كلّ المتواضعات المتعلّقة بالحكم الاستطيقي التقليدي.

ليصبح المشكل، حينئذ، متعلّقا بضرب من التحرّر من العقلانيّة  الأداتيّة المهيمنة التي آلت إلى سلعنة الفن واستيعاب مختلف الممارسات الثقافيّة ، واحتواءها وتخليص الفنّ من حالة التبعية والضبابيّة وانعدام الوضوح.

وقد وجد أدرنو ضالّته في فكرة “موت الفن” لهيقل كي يوضّح حالة الغموض، التي انتابت الفن الحديث،  معتبرا أنّ المنظور الهيقلي حول موت الفن،  والقول بنهايته، يتطابق مع ما صار إليه الفن. (فهيقل يعدّ من أوّل الفلاسفة الطلائعيين الذين وضعوا موضع مساءلة مشكل تبعية الفن حين قال بموت ممكن للفن)[16] .

فما الذي دعا أدرنو إلى مراجعة فكرة موت الفن التي نادى بها هيقل ؟ هل يتعلق الأمر حقّا بفوات الفن الحديث و انقضائه أم أنّ في موته هذا ضمان لبقائه و استرجاعه لحقّه في الوجود؟,,,,,,,,,,,يتبع في الفضول اللاحقة

فصل من كتاب” جماليات القبح او ادورنو المغاير”


الهوامش

[1] أدرنو ،نظرية استطيقية ،مخطوطة ،ترجمة للدكتور ناجي العونلي الصفحة 1.

[2] المصدر نفسه الصفحة 3

[3] المصدر نفسه الصفحة 3

[4]Adorno dialectique négative, p 

[7]) مخطوطة ترجمة، الصفحة 38.

[8] Adorno T.W. et Horkheimer,[1983] la dialectique de la raison, fragment philosophique trad., E Kaufholz

Gallimard, collection  « Tel, paris« le film et la radio n’ont plus besoin de se passer pour de l’art, ils ne sont plus que des business. C’est là leur vérité et leur idéologie qu’ils utilisent pour légitimer la camelote qu’ils produisent délibérément, p 130 »

[9]صناعة الثقافة: صاغ أدرنو مفهوم صناعة الثقافة في كتابه الذي أنجزه بالاشتراك مع هوركهايمر “جدل العقل” سنة 1947 وتحديدا في الصفحات 129-176.من الترجمة العربية Kaufholz – Gallimard, 1974][Edition Eliane في سنة 1944 أسس أدرنو أطروحة صناعة الثقافة التي تطرح مسألة إنتاج الإبداع الثقافي والفكري الذي يرزح تحت نير الرأسمالية، في بداية القرن 20.

[10]أدرنو، نظرية استطيقية، مخطوطة ترجمة،:”…فطالما أنّ الفن يتطابق مع الحاجة القائمة اجتماعيّا فإنّه يكون قد صار بقدر معتبر إلى مجال يوجّهه الربح ما كانت هذه التجارة مربحة فتستعين بالتجويد والتحسين على تجاهل أنّها قد كسدت واندثرت حقا …”،الصفحة 22

[11] ) “..ويمكن أن نعاين هذا بوضوح في الفنون الدنيا أو في أشكال التسلية القديمة التي تسيّرها صناعة الثقافة وتشوّهها نوعيّا..” المصدر نفسه ،الصفحة 22.

[12]  Adorno« Est moderne l’art qui, d’après son mode d’expérience/ celle du monde [administré] et en tant qu’expression de la crise d’expérience, aboutie ce que l’industrialisation produit sous les rapports de production dominantes » Théorie esthétique, 1995, p 56

[13]) أدرنو ،.. كوّن مفهوم الاستمتاع تسوية فاسدة بين الماهية الاجتماعية للأثر الفني وماهيته المضادة  للمجتمع ….فمن يعجز عن التمييز الحسي فلا يستطيع أن يميز بين نغم جميل ونغم ثقيل و بين ألوان بشعة وألوان باهتة يصعب عليه أن يخوض تجربة فنية فهذا هو تحديدا ما يؤقنم ..”،نظرية استطيقية مخطوطة ترجمة ،الصفحة 18.

[14]) “..يتمزّق الفن في مجتمع لم يعد يجد له موقعا فيه، ويذهل عن كل ردّة فعل إزاءه ، فينقسم إلى ملكية ثقافية تشييء تشييئا، ومتعة يجنيها الزبون، قلّما تكون لها في غالب الأحيان علاقة بالموضوع..”،  المصدر نفسه ، صفحة 19.

دعم : تحدّث والمر welmar عن وضعية متأزمة للفن فرضتها عقلانية الحداثة، حين عملت على تدجين أدواته ووسائله . فقد تحطّم كل شيء الفن المشاهد الذوق الفني وباتت الحرية هيمنة وتحكما وتحوّل الأثر الفني إلى شيء وغاب كلّ أمل وكلّ قدرة على الاحتجاج وصار الحديث عن الممجوج وعن الفن الهابط أمرا قائما، خاصة عندما فوّت الذوق الفني مكانه للابتذال الذي تروّج له صناعة الثقافة التي تتجاهل الثقافة ذاتها.

[15]) “..فالحيز الهائل الذي يحتلّه النشاز في الفن الحديث، منذ بودلير وتريستان ، وهو ثابتة حقيقية من ثوابت الحداثة ، يعود إلى أنّ لعبة القوى المحايثة للأثر الفني تتلاقى مع الواقع الخارجي، الذي تتزايد سطوته على الذات، بالتوازي مع القيمومة الذاتية للأثر الفني..”، المصدر نفسه، صفحة 19.

[16])  .. المصدر نفسه ، الصفحة 5.

  • [6]) مخطوطة ، ترجمة،« Hétéronomie de l’art àCécité théorique aveuglement théorique » الصفحة 3.
  •   بيبلوغرافيا
  • – Adorno T.W. et Horkheimer,[1983] la dialectique de la raison, fragment philosophique trad., E Kaufholz Gallimard, collection1
  •  أدرنو ،نظرية استطيقية ،ترجمة  ناجي العونلي