مجلة حكمة
الجوهر عند أرسطو

الجوهر عند أرسطو: في سياق نظرية المقولات – كريستوفر شيلدز


ما إن انتهى أرسطو من تقديم مخطّطه التفسيري العلّي الرباعي بشكل كامل، حتّى قام بالاعتماد عليه، فعليًا، في كلّ دراساته الفلسفية الأكثر تقدّمًا. ومن يراقب توظيفه لهذا المخطّط في أطر العمل المتنوّعة يجد أرسطو وهو يقوّي المخطّط ويصقله حتّى في أثناء تطبيقه له، ويصل أحيانًا إلى نتائج مفاجئة. ومن الأسئلة المهمّة في هذا المجال: كيف تتقاطع المادّصورية لديه مع نظرية الجوهر عند أرسطو التي وردت في سياق نظريته عن (المقولات).

لقد رأينا في ما سبق تشديدًا لأرسطو على صدارة الجوهر الأوّلي في كتابه (المقولات)، لكنّ هذا الكتاب يبرز أمثلة للجوهر الأوّلي ليست سوى كائنات حيّة مألوفة، كسقراط أو حصان ما (Cat. 2A11014). ومع ذلك، فإنّ تقديم المادّصورية يكشف هذه الجواهر الأوّلية على أنّها معقّدات ميتافيزيقية، أي: سقراط باعتباره مركّبًا من مادّة وصورة. إذن، فنحن الآن أمام ثلاثة مرشحين ممكنين، لا مرشّح واحد، للجوهر الأوّلي، وهم: الصورة، والمادّة، ومركّبهما. وهنا يبرز السؤال: أيّ واحد من بينهم هو الجوهر الأوّلي؟ هل هو المادّة، أم الصورة، أم المركّب؟ إن المركّب يتوافق مع موضوع أساسي في التجربة، ويبدو أنّه ذات أساسية للحمل المنطقي: فنحن نقول بأنّ (سقراط يعيش في أثينا)، وليس (مادّة سقراط تعيش في أثينا). ومع ذلك، فإنّ المادّة تبطّن المركّب، وبهذا النحو تبدو كذات أكثر أساسية من المركّب، وذلك على الأقلّ من ناحية قدرتها على الوجود قبل وبعد وجود المركّب. ومن الجهة الأخرى، فإنّ المادّة لا تكون شيئًا محدّدًا على الإطلاق إلى أن تأخذ صورتها، ولهذا فقد تكون الصورة، باعتبارها من يحدّد ما هو المركّب، هي التي من يحقّ لها أكثر من غيرها الادّعاء بمنزلة الجوهر.

وفي المقالات الوسطى من كتابه (الميتافيزيقا)، والتي تحتوي بعضًا من أكثر تحقيقاته تعقيدًا واشتغالًا في شأن الموجود الأساسي، يحسم أرسطو أمره باختيار (الصورة) (Met. Vii 17). وهنا يبرز سؤال حول كيفية تلبية الصورة لمعايير أرسطو الغائية في ما يخصّ الجوهر. إنّ أرسطو يتوقّع من الجوهر أن يكون، حسب قوله، شيئًا ما بعينه (tode ti)، لكنّه يضيف إلى ذلك: أن يكون أيضًا شيئًا قابلًا لأنّ يُعرَف، بمعنىً ما. ويبدو أنّ هذه المعايير تأخذنا في اتّجاهين مختلفين: الاتّجاه الأوّل يفضّل الجواهر المحدّدة، كما أنّ الجواهر الأوّلية في (المقولات) محدّدة؛ والاتّجاه الثاني يفضّل الكلّيات كجواهر، انطلاقًا من كونها الوحيدة التي تقبل المعرفة. ولقد خلص الكثير من العلماء، في خضمّ الجدال المفعم حول هذه المسائل، إلى أنّ أرسطو يتبنّى اتّجاهًا ثالثًا ينطلق فيه، وهو: إنّ الصورة تتّصف بالأمرين معًا، أي: قابلية المعرفة، والتحديد؛ لكنّ هذه النتيجة لا تزال تلاقي انتقادات حادّة جدًّا.[xxiii]

ويمكن القول، بإيجاز شديد ودون الدخول في الجدال الذي أشرنا إليه، بأنّ أرسطو يفضّل الصورة بسبب دورها في التولّد والاستمرار عبر الزمن؛ فعندما يتمّ توليد تمثال، أو عندما يأتي حيوان جديد إلى الوجود، فإنّ هنالك شيئًا ما يستمرّ، وهو تحديدًا: الجوهر، والذي يأتي لتحقيق الصورة الجوهرية المطلوبة. ويشدّد أرسطو على أنّه حتّى في هذه الحالة لا تقوم المادّة بنفسها بتقديم ظروف الهوية للجوهر الجديد؛ ففي المقام الأوّل: رأينا في ما سبق كيف أنّ المادّة ليست سوى صورة ممكنة ما (ص) إلى أن يحين وقت تتحوّل فيه بالحقيقة إلى (ص) عند حضور الصورة (ص). ويضاف إلى ذلك أنّ المادّة يمكن تغذيتها من جديد، وهذا يجري (بالتأكيد) في حالة كلّ المتعضّيات، ولذلك يبدو أنّها تعتمد على الصورة في ظروف هويتها المستمرّة عبر الزمن. ولهذه الأسباب يعتقد أرسطو بأنّ الصورة سابقة للمادّة، ولذلك فهي أكثر أساسية منها. وهذا النوع من المادّة، أي: المادّة المعتمدة على الصورة، يعتبرها أرسطو (مادّة مقاربة proximate matter) (Met. 1038b6, 1042b10)، ولهذا فهو يوسّع فكرة المادّة إلى ما يتجاوز دورها الأصلي كدعامة ميتافيزيقية.

وبالإضافة لما سبق، يقدّم أرسطو في كتابه (الميتافيزيقا) (Metaphysics vii 17) حجّة تلمّح إلى أنّ المادّة لوحدها لا يمكن أن تكون جوهرًا. ولنفرض هنا أنّ كل أجزاء المادّة المنتمية لسقراط تُسمّى (أ، ب، ج، …، ن)، فيمكن القول بأنّ ممّا ينسجم مع القول بعدم وجود سقراط هو وجود (أ، ب، ج، …، ن)، وذلك لأنّ هذه العناصر موجودة حتّى وإن كانت موزّعة بين الشمس والقمر، لكنّ هذا التوزيع لو حدث لما كان سقراط قادرًا على الاستمرار بالوجود طبعًا. وإذا توجّهنا بالاتّجاه المعاكس، فيمكن لسقراط أن يوجد دون الاقتصار على هذه العناصر، لأنّه قد يستطيع الوجود عندما يجري استبدال أو انعدام أحدها. ولذلك يشدّد أرسطو على أنّ سقراط، بالإضافة لعناصره المادّية، هو شيء غيرها، وهو أكثر منها (heteron ti; Met. 1041B19–20). وهذا الشيء الأكثر هو (الصورة)، وهو ليس «عنصرًا […] بل علّة أوّلية لكون الشيء ما هو عليه» (Met. 1041B28–30). وإنّ علّة كون الشيء الشيء الحقيقي الذي هو عليه، كما رأينا، هي الصورة. ولهذا يخلص أرسطو إلى أنّ الصورة جوهر لأنّها مصدر للوجود والوحدة.

وحتّى إذا سلّمنا بصحّة كلّ ما ورد إلى هذا الحدّ، ولا بد من التكرار: إنّ الكثير ممّا ورد يكتنفه الخلاف قطعًا، فإنّ الكثير من الأسئلة ما تزال تنتظر الأجوبة، ومنها على سبيل المثال:

  • هل الصورة شاملة أم خاصّة وفقًا لفهمها على الوجه الأفضل؟

  • ومهما يكن الجواب، فما هي علاقة الصورة بالمركّب وبالمادّة؟

  • وإذا كانت الصورة جوهرًا فما هو مصير المرشّحين السابقين؟

  • هل هما جوهر أيضًا ولكن بدرجة أدنى؟

ربّما يبدو من الغريب الاستنتاج بأنّهما ليسا أيّ شيء على الإطلاق، أو بأنّ المركّب خصوصًا ليس أيّ شيء في الحقيقة، ومع ذلك يبقى من الصعب المحاججة بأنّهما قد ينتميان إلى مقولة أخرى غير الجوهر.

ولمن يرغب بالاطّلاع على مقاربة لبعض هذه الأسئلة، يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (ميتافيزيقيا أرسطو) في هذه الموسوعة.


[xxiii] لمن يرغب بالاطّلاع على مقدّمة موجزة لبعض القضايا ذات العلاقة، بالإضافة لبيبليوگرافيا لقراءات إضافية، يمكن الاستعانة بالقسم العاشر من المدخل المعنون (ميتافيزيقا أرسطو) في هذه الموسوعة. ولمن يرغب بالاطّلاع على رؤية معاكسة، يمكن الاطّلاع على المقالة المعنونة (سؤال حول ميتافيزيقا النفس)، وهي ملحقة بالمدخل المعنون (علم النفس عند أرسطو) في هذه الموسوعة أيضًا. ولمن يرغب بمناقشة أكثر تفصيلًا، يمكنه أن يجد في (Gill 2005) مراجعة عامّة للتطوّرات الأخيرة في ما يخصّ الميتافيزيقا عند أرسطو بشكل عام، مع التركيز بشكل خاصّ على المسائل المتعلّقة بـ الجوهر.